الخطاب الدعوي في ألمانيا بين الحس الأمني والحفاظ على الثوابت: خطبة عن فلسطين كأنموذج - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         سألت زوجَها طلاقًا في غيرِ ما بأسٍ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          النبأ العظيم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          هل قول الصحابي حجة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          من صلاة الفجر نبدأ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          بك نستعين يا الله.. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          الجهاد في سبيل الله وعوامل النصر على الأعداء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أحب الناس إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          شرح النووي لحديث: لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          حديث من دلائل النبوة:يوشك رجل شبعان متكئا علي أريكته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          أهمية الدعاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-05-2024, 07:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,272
الدولة : Egypt
افتراضي الخطاب الدعوي في ألمانيا بين الحس الأمني والحفاظ على الثوابت: خطبة عن فلسطين كأنموذج

الخطاب الدعوي في ألمانيا بين الحس الأمني والحفاظ على الثوابت:

خطبة عن فلسطينكأنموذج

إبراهيم الراوي
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى (7 أكتوبر) والحكومة الألمانية تُشدِّد رقابتها على خطب الجمعة، والعيدين، والدروس والمحاضرات في المساجد والمراكز الإسلامية هنا؛ بحُجَّةِ الحفاظ على أمن المجتمع الألماني، وتجنُّب المشاكل بين الجالية اليهودية والجاليتين الفلسطينية والعربية، اللتين تعيشان في ألمانيا منذ عقود.

لذلك أصبح مطلوبًا من الدُّعاة والخطباء والمشتغلين في العمل الدعوي اليوم إيجادُ صيغة مبتكرة، أو لغة حوار يستطيع المسلم بها أن يحافظ على ثوابته دون تمييع أو تلاعب بالثوابت، وفي الوقت نفسه يتجنب المشاكل والانتقادات التي قد تؤدي إلى إغلاق المساجد والمراكز الإسلامية، عندما يكون الخطاب غيرَ منضبط.

هنا أكتب مثالًا لخطبة عيد الفطر لهذا العام، وكانت قد لاقت بفضل الله تعالى قبولًا لدى الإخوة المشتغلين في مجال الدعوة، رغم طولها نوعًا ما؛ لأنها حديث الساعة، ولالتزامها بالثوابت، والتركيز على النصوص الشرعية، وفي الوقت نفسه تُرجمت إلى اللغة الألمانية بفضل الله تعالى، وانتشرت لابتعادها عن أسلوب السبِّ والشتم واللعن لجهة أو أخرى، لعدم تحريضها على الكراهية كما تُردِّد الدوائر الأمنية ووسائل الإعلام هنا في ألمانيا، والخطبة بعنوان: (مكانة فلسطين في الكتاب والسُّنَّة).

نبين فيها أقل ما يجب على المسلم أن يعرفه عن فلسطين، وخاصة أبناء الجيل الأول الذين وُلِدوا في ألمانيا، وفي الوقت نفسه ركَّزنا فيها على مكانة فلسطين في الكتاب والسنة، وعلى معاناة إخواننا هناك، مع شرح بسيط للنصوص، وإسقاطها بدقة على واقعنا الإسلامي المعاصر، كمثال لخطبة ملائمة عمليًّا لأوضاع الوجود الإسلامي في ألمانيا ومتطلباته المعاصرة:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر، كلما نزح إنسان في غزة ولم يجد من يُؤويه.
الله أكبر، كلما جاع إنسان في غزةَ ولم يجد من يُطعمه.
الله أكبر كلما جُرِح إنسان في غزة ولم يجد من يعالجه.
الله أكبر، كلما نام إنسان في غزة وأصبح شهيدًا تحت رُكام داره.
الله أكبر، كلما استُشهد إنسان في غزة ولم يجد من يدفنه.
الله أكبر، كلما مات طفل في غزة من الجوع ولم يُطعمه ملياران من المسلمين الذين يعيشون على الأرض.

أدعوك يا رب من روحي ووجداني، أدعوك من قلب آلامي وأشجاني، أدعوك أدعوك يا ذا الْمَنِّ والشان، مستعجلًا كشفَ ضرٍّ مسَّ إخواني في غزة، آمين اللهم آمين.

نتحدث اليوم عن مكانة فلسطين في الدين، نتحدث عن فضل المكان، وفضل المكين.

ماذا يقول القرآن عن فلسطين؟ القرآن الكريم لا يتحدث عن فلسطين إلا بالتكريم والتفخيم والتعظيم؛ نذكر هنا بعض الأمثلة:
فلسطين هي الأرض المقدسة؛ يقول الله سبحانه على لسان سيدنا موسى عليه السلام: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 21].

والأرض المقدسة هنا هي بيت المقدس، ومعنى الأرض المقدسة: الأرض المطهَّرة التي أبى الله أن يعمر فيها ظالم.

فلسطين هي الأرض المباركة، ذُكِرَ ذلك في خمسة مواضع من القرآن؛ يقول تعالى: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [الأعراف: 137]، فمشارق فلسطين ومغاربها كلها أرض مباركة.

فلسطين هي الأرض التي أمر الله الأنبياء أن يهاجروا إليها؛ يقول سبحانه عن هجرة سيدنا إبراهيم إلى فلسطين: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]، ومعنى: ﴿ بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71] أن البركة من فلسطين وسِعَتِ الأرض كلها؛ أي خرج الأنبياء والرسل قبل سيدنا رسول الله من بلاد الشام، وانتشروا في الأرض، وخرجت الشرائع السماوية وانتشرت في الأرض من هناك، ونزلت الكتب والصحف قبل القرآن هناك، وانتشرت في الأرض، فبركة الوحي والنبوة انتشرت من هناك في الأرض كلها.

فلسطين هي مهد السيد المسيح، وفيها ظهرت كل معجزاته، وفوقها رُفِعَ إلى السماء، وفي آخر الزمان ينزل حاكمًا في القدس؛ يقول سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50]، الربوة هي الرملة؛ كما قال سيدنا أبو هريرة في تفسيرها، والرملة: مدينة معروفة وضع أساسها سليمان بن عبدالملك في زمنه.

فلسطين هي القرية المباركة التي أمر الله بني إسرائيل بالأكل منها، وغفر الله ذنوبهم بدخولها، وهي المذكورة في سورة البقرة: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ﴾ [البقرة: 58]، فالقرية هي بيت المقدس، ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾ [البقرة: 58]، هذا الباب المذكور هو باب حطة، أحد أبواب بيت المقدس، موجود إلى اليوم، دخلوا منه وطلبوا من الله أن يحطَّ خطاياهم.

أقسم الله بفلسطين، بأرضها: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 1 - 3]؛ أي: أقسم بأرض التين والزيتون مهد المسيحية، وأقسم بطور سينين بالأرض التي كلم فيها موسى عليه السلام مهد اليهودية، وأقسم بأرض مكة المشرفة التي وُلِدَ فيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مهد الإسلام.

وعندما تدرس سيرة الأنبياء والمرسلين، تجد فلسطين هي مسرح الأحداث؛ فهنا كان داود، وهنا سليمان، وهنا زكريا، وهنا يحيى، وهنا لوط، وهنا إبراهيم، وهنا قبر يوسف، وهنا إسحاق وقبر موسى، وهنا مريم العذراء، وهنا يوشع بن نون؛ يقول سيدنا عبدالله بن عباس: "بيت المقدس بناه الأنبياء، وسكنه الأنبياء، ليس فيه موضع شبر إلا وصلى فوقه نبيٌّ أو مَلَكٌ أو رسول".

ولذلك أبى الله أن يحرِّر هذه الأرض الطاهرة إلا الأطهار والأبرار، وعبر التاريخ لم يحرر فلسطين إلا الاتقياء؛ يقول سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 105، 106]؛ أي: كَتَبَ الله في كل الكتب السماوية أن الأرض - وهي بيت المقدس - لا يحررها إلا عباد الله الصالحون العابدون، لا يحررها الفاسق والفاجر والعاصي.

وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله اختار أناسًا يبقون في فلسطين، لا يتركونها، يعيشون ويموتون فيها، مهما كانت الظروف، وهؤلاء هم خيار الناس؛ لأن الله اختارهم لحماية الأرض المقدسة؛ روى أبو داود والإمام أحمد بسند صحيح، عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ستكون هجرة بعد هجرة، فخِيارُ أهل الأرض ألزمهم مُهاجَرَ إبراهيم...))، هذا الحديث علامة من علامات النبوة، يخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس في آخر الزمان سيُضطرون لتَرْكِ أرض الشام وأرض فلسطين عدة مرات، وأنه سوف يبقى أناس هناك لا يتركونها مهما حصل، يعيشون ويموتون هناك، اختارهم الله على ثغر من ثغور الإسلام عظيم، هم خيار أهل الأرض.

وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهم الملاحم الكبرى، وأهم أشراط الساعة، وأهم الفتن قبل قيامها تحصل في الشام وفي فلسطين، فيأجوج ومأجوج عندما يخرجون، أول شيء يفعلونه هو أنهم يشربون بحيرة طبرية كاملة، وهي شمال شرق فلسطين، ثم يتجهون إلى بيت المقدس؛ حيث يُهلكهم الله جميعًا على بكرة أبيهم هناك، وعندما يخرج المسيح الدجال يذهب مباشرة إلى بيت المقدس، ويهلكه الله في قرية باب لُدٍّ، وهي العاصمة القديمة لفلسطين، عندما افتتحها سيدنا عمرو بن العاص، أيام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وعندما ينزل سيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام آخر الزمان، يذهب إلى القدس؛ حيث ينتظره المصلون هناك في المسجد الأقصى، وهناك سوف يكون حاكمًا في آخر الزمان.

وفلسطين هي أرض المحشر والمنشر؛ بمعنى أن الأموات يوم القيامة يُنشَرون من قبورهم، ويُحشَرون في بلاد الشام للحساب، وخاصة في بيت المقدس؛ يقول الله سبحانه: ﴿ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ [ق: 41].

يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "يُنادَى على البشرية من صخرة بيت المقدس؛ لأنها أقرب الأرض إلى السماء".

وروى البيهقي والطبراني عن أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الشام أرض المحشر والمنشر))، وهناك رواية تحدِّد بيت المقدس؛ حيث روي عن السيدة ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله، أفْتِنا في بيت المقدس؟ قال: ((هي أرض المحشر والمنشر))، وأمر بالحرص على الصلاة فيها، أو إرسال زيت إليه؛ حرصًا على الحفاظ على هُوِيَّتِه الإسلامية.

فلسطين أرض الرباط، وهذا معناه أن الذي يعيش هناك له أجرُ المرابط، وهو الذي يحمي ثغور المسلمين، فالناس هناك يؤدون فريضة حماية أرض الأنبياء، يؤدون واجبًا نيابة عن كل المسلمين؛ روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول هذا الأمر نبوَّة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكًا ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادُمَ الحُمُرِ، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرِّباط، وإن أفضل رِباطكم عسقلانُ))، هذا الحديث علامة من علامات النبوة، وهو فتوى العصر يصِف واقعنا الإسلامي بدقة، يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن نظام الحكم في بلاد المسلمين مرَّ بثلاث مراحل مرتبطة بالرحمة، ثم جاء نظام سياسي مجرد من الرحمة، يتقاتل الحكام فيما بينهم بدون رحمة، ثم نصح بالرباط، وذكر بالاسم أن أفضل الرباط في أرض عسقلان، وهذا عجيب، فعسقلان مدينة ساحلية في فلسطين معروفة في التاريخ باسم (عسقلان غزة)؛ لارتباطهما تاريخيًّا، وكأن النبي يشير إلى إحداث غزة اليوم، وغزة وعسقلان كانتا منذ الفتح إلى يومنا أرض رباط، منذ أن افتتحها سيدنا معاوية بن أبي سفيان، مرورًا بالقائد صلاح الدين الأيوبي إلى يومنا هذا.

أما أجر الرباط فهو عظيم جدًّا بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: ((رباط يوم وليلة خيرٌ من صيام شهر وقيامه، وإن مات جَرَى عليه عمله الذي كان يعمله في الدنيا، وأُجرِيَ عليه رزقه، وأمِنَ الفَتَّان))؛ يعني: صيام شهر مني ومنك في ألمانيا يعادل أجر يوم من أيام هؤلاء المرابطين، أما أجر الليل هناك، فكل ليلة هناك تعادل أجر ليلة القدر، هل سمعت بليلة أفضل من ليلة القدر؟ روى النسائي والحاكم بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألَا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر؟ حارس يحرس في أرض خوفٍ، يخاف ألَّا يعود إلى أهله))، إذًا كل ليلة من لياليهم أفضل من ليلة القدر، وهذا الأجر ليس فقط للمجاهدين، بل لكل إنسان مرابط في فلسطين؛ يقول سيدنا أبو الدرداء، وهو صحابي عاش ومات في بلاد الشام رضي الله تعالى عنه: "أهل الشام وأزواجهم وذرياتهم، وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة، كلهم مرابطون في سبيل الله، إن نزلوا مدينة من المدن فهم في رباط، وإن نزلوا ثغرًا من الثغور فهم في جهاد".

هذا أجر حياتهم، أما موتهم فهم شهداء كلهم، سواء ماتوا بالقصف أو ماتوا بشكل آخر، كلهم شهداء اجتمع فيهم أنواع الشهادة العشرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم: ((من جاهد في سبيل الله فهو شهيد، من مات في سبيل الله فهو شهيد، المطعون شهيد، المبطون شهيد، الغريق شهيد، الحريق شهيد، المرأة تموت بطَلْقِها شهيدة، من مات تحت الهدم فهو شهيد، من قُتِلَ دون مظلمته فهو شهيد، من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد))، هؤلاء أناس اختارهم الله واصطفاهم لمرتبة الشهادة؛ يقول سبحانه: ﴿ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران: 140]، وصدق من قال في وصف أهل غزة: "إن سألوك عن غزة فقل: بها شهيد، يُسعفه شهيد، يصوِّره شهيد، يودِّعه شهيد، ويصلي عليه شهيد".

أما صلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفلسطين، فهي ثلاثة محاور: أنها القِبلة الأولى للمسلمين، أنها أرض الإسراء، أنها أرض المعراج، وهذه الثلاث يجب أن نفهم اليوم معانيها ودلالاتها في واقعنا المعاصر.

الرعيل الأول كان يصلي في البداية صلاة إبراهيمية في مكة، وبعد الهجرة إلى المدينة سبعة عشر شهرًا يتجه إلى بيت المقدس في كل صلاة، وهذا معناه ربط الجيل الأول الذي حمل الإسلام روحيًّا بالمسجد الأقصى، وعندما حصلت حادثة الإسراء نزلت سورة كاملة باسمها؛ لأهميتها البالغة؛ مطلعها: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].

أُسرِيَ بالرسول ليلًا على دابة البُراق مع سيدنا جبريل عليه السلام من القبلة الثانية إلى القبلة الأولى، من مكة إلى فلسطين، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، من أشرف بقعة إلى أشرف بقعة في الأرض، سُمِّيَ بالحرام لحرمة الدماء والقتال فيه إلى يوم الدين، وسُمِّيَ بالأقصى لأنه أبعد عن المسجد الحرام، ولأن فيه أقصى الخير والبركة والنور إلى يوم الدين، وكلاهما بناه أنبياء: بَنَى الحرام سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، وبنى المسجد الأقصى: وضع أساسه سيدنا آدم عليه السلام، وبناه أو جدد بناءه كل نبيٍّ كان في بيت المقدس.

ما دلالة الإسراء؟ لماذا ذهب النبي إلى القدس؟ لماذا لم يرتقِ مباشرة إلى السماء من المسجد الحرام؟ معنى هذا أن هذه البقعة من الأرض، هذه المنطقة هي أرض ملك للمسلمين، ولا يجوز أن يحكمها سوى المسلمين، معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم سار في ملكه، في أرضه وأرض أتباعه إلى يوم الدين، ثم بعد ذلك صلَّى في بيت المقدس بجميع الأنبياء والمرسلين إمامًا؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "120 ألف نبي، و313 رسول، وأقام جبريل الصلاة، وصلى بهم رسول الله"، لماذا لم يصلِّ بهم نبي آخر؟ لماذا رسول الله؟ ولماذا لم يصلِّ بهم في المسجد الحرام؟ لماذا في المسجد الأقصى؟ ما معنى هذا؟ معناه أن كل الأنبياء والرسل سلَّموا مفاتيح القدس لرسول الله، سلَّموا أمانة بيت المقدس لرسول الله وأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يحُثُّ المسلمين على الاهتمام البالغ ببيت المقدس، وبيَّن أن أشرف وأحبَّ البِقاع إلى الله: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وأن أفضل الاعتكاف في هذه الثلاثة، وأن هذه الثلاثة تضع الملائكة أجنحتها عليها إلى يوم الدين تحرسها، وأن المسيح الدَّجَّال لا يدخلها أبدًا، وأن صلاة العيد داخل هذه الثلاثة أفضل من الصلاة في العراء؛ لشرف المكان، ولكن بيَّن أن للمسجد الأقصى فضائلَ خاصة، من بينهما أنَّ من سافر إلى القدس، وصلى مرة في المسجد الأقصى، غُفِرت ذنوبه كلها؛ كما روى ابن ماجه والنسائي وأحمد بسند صحيح، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن سليمان بن داود عليهما السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس، دعا الله ألَّا يأتي المسجد الأقصى أحد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه))، وأمَّن الرسول على هذا الدعاء؛ ولذلك كان أجدادنا كلما حجُّوا إلى مكة المكرمة، مرُّوا ببيت المقدس بعدها، وصلُّوا هناك لِنَيلِ هذا الثواب والأجر العظيم، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن النظر إلى بيت المقدس عبادة، وأن هذا النظر سوف يصبح حسرة على المسلمين في آخر الزمان؛ فقد روى الطبراني بسند صحيح عن لأبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات في المسجد الأقصى، ولَنعمَ الْمُصلَّى، وليأتينَّ على الناس زمان، لَقِيدُ سَوطِ الرجل حيث يرى بيت المقدس خير له - أو أحب إليه - من الدنيا وما فيها))، وهذا معناه في آخر الزمان سوف يصبح النظر إلى بيت المقدس والوصول إليه صعب على المسلمين، ولو رأوا منه شيئًا بسيطًا، فرِحوا بذلك فرحًا عظيمًا، وهذه إشارة إلى وجود سياج أو جدار حول بيت المقدس، أو بناء مستوطنات حوله، تصعِّب رؤيته والوصول اليه.

بقِيَ أمر أخير؛ وهو فضل أهلها؛ بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك ما يسمى بالطائفة المنصورة على الحق في أمته، وأن هذه الطائفة سوف تُخذَل وتُخالَف من قِبلِ الآخرين، وبيَّن أنهم في فلسطين؛ روى الطبراني والإمام أحمد في مسنده عن عبدالله بن الإمام أحمد قال: "قرأت بخط والدي يروي بسنده عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق، ظاهرين على الدين، قاهرين لعدوِّهم، لا يضرهم من خالفهم، إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمرُ الله وهم كذلك، قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: هم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس))"، وهذا معناه أن كل القرى والأرياف المحيطة ببيت المقدس تدخل في هذا الحديث، معناه تدخل غزة فيه وعسقلان، وحيفا والخليل، ورام الله، وكل ما يحيط بالقدس الشريف.

(خلاصة الخطبة):
إذًا تبيَّن لنا من هذا أن فلسطين هي الأرض المقدسة، هي الأرض المباركة، هي مُهاجَرُ الأنبياء، هي مهد الرسالات، هي مهد السيد المسيح، هي أرض الفتن والملاحم قبل قيام الساعة، هي أرض المحشر والمنشر، هي أرض الرباط، هي أرض القبلة الأولى، هي أرض الإسراء، هي أرض المعراج، هي أرض الطائفة المنصورة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

أسأل الله أن يفرِّج عن إخواننا هناك، وأن يرزقنا ثواب الصلاة في المسجد الأقصى، ويكحِّل أعيننا برؤيته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 59.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 58.36 كيلو بايت... تم توفير 1.53 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]