خالد بن الوليد.. عبقري العسكرية الإسلامية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 516 - عددالزوار : 24622 )           »          كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 26 - عددالزوار : 1895 )           »          الوابل الصيب من الكلم الطيب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 6 - عددالزوار : 1247 )           »          الصوم في الشرع الإسلامي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          المرأة وبيت الزوجية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 40 )           »          "المَقامة الكروية": (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 37 )           »          حِكَمُ الطنطاوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          دعِ العوائقَ .. وانطلقْ ..!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »          في رمضان ماذا لو حصل...؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام > ملتقى أعلام وشخصيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-03-2020, 04:02 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,729
الدولة : Egypt
افتراضي خالد بن الوليد.. عبقري العسكرية الإسلامية

خالد بن الوليد.. عبقري العسكرية الإسلامية
أحمد الجوهري عبد الجواد







أمجاد الإسلام في سير أعلامه الكبار










(5) خالد بن الوليدعبقري العسكرية الإسلامية







التاريخ الإسلامي سجل حافلٌ بمآثرِ مجدِنا التَّليد، وقد قصدتُ التعرض لهذه المآثر من خلال أمثلة من عظمائنا الخالدين؛ لأنهم النماذج الحية التي طبقت هذا الدين في الحياة، وذلك لا ريب يجعل هذه المآثر أقوى أثرًا في أجيالنا الحاضرة، فتتيقَّظ الضمائر، وتنتعش النفوس، وتندفع الجوارح إلى ساحة العمل والتطبيق؛ اقتداءً بهؤلاء الأماجد الأولين.







ومِن صفحات المجد في تاريخنا العظيم صفحةُ العبقرية العسكرية الإسلامية، صفحة الجهاد المشرقة، ذروة سَنام الإسلام، الذي به عِز الأمة وشرفها وفخارها، وبه رفعتها وقوَّتها، وعن طريقه عودتها إلى كرامتها وريادتها، وما أحوجَنا - والأمة تعيش ظرفًا من أحلك ظروفها، وأحرج أوقاتها - أن نستعرض شيئًا من صفحة العزِّ تلك!







وإذا ذُكر الجهاد ذُكر خالد بن الوليد، ذلكم البطل الذي سطَّر على صفحات الزمن بحروف من نور قصصًا للبطولة النادرة، والقيادة الحكيمة، والعبقرية الفذَّة، لا يمكن نسيانها، وكيف يُنسى خالدٌ وذكرُه يبث في النفس الثقةَ، ويربِّي في القلب الشجاعةَ، ويحث الجوارحَ على الإقدام؟







إن خالدًا ألمع الشخصيات التي سطعت في سماء العبقرية العسكرية، إنه القائد الذي استطاع في سنواتٍ قليلةٍ - بفضل ما رزقه الله من الحنكة العسكرية، والخبرة التكتيكية، والتخطيط الحربي - أن يمهد الطريقَ لنشر الإسلام وحياته عزيزًا مهابًا على أرض الجزيرة العربية، وفي بلاد العراق والشام، حين استطاع أن يَدُكَّ حصونَ الكفر من حول الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة، والسيطرة على الفرس والروم أعظم دولتَين في ذلك الوقت.







إنه أحد قادة الجيوش القلائل في التاريخ الذين لم يُهزموا في معركة طوال حياتهم، ففي أكثر من مائة معركة خاضها خالد بن الوليد لم يُهزم في مرة، وهو في كل واحدة منها أمام قوات كثيرة تفوقه عدديًّا بعشرات المرات.







إنه "صاحب التجارب الناجحة في خوض حروب عديدة داخلَ وخارجَ الجزيرة العربية، وبراعته في قيادة جيوش المسلمين في حروب الردة وفتح العراق والشام - تدل على خبرته الكبيرة بأساليب الدول الكبرى في المعارك، وأنه يَمتلِك القدرة على التصرف السليم في المواقف الحرجة، والذي يؤدي دائمًا إلى تحقيق النصر"[1].







خالد في الجاهلية:



خالد بن الوليد بن المغيرة، لعل تمام الاسم يذكِّرنا بأبيه الوليد بن المغيرة ألدِّ أعداء النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وصاحب المقولة الأشهر كفرًا في القرآن الكريم: ﴿ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 24، 25]، مِن ظهرِ ذلكم الكافر العنيد والطاغية الصنديد، جاء خالد الذي حمل راية الإسلام في ربوع الأرض ورفعها عالية خفاقة فوق ربع أرض المعمورة، وكان في شخصه وعمله العظيمين تحقيق رجاء المصطفى صلى الله عليه وسلم حين أرسل إليه ربُّه تبارك وتعالى ملكَ الجبال يستأمره أن يُطبِق الجبالَ على أهل مكة بسبب كفرهم وعنادهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا، بل أستأني بهم؛ لعل الله يُخرِج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا))[2].







وقد كان، فجاء من أصلاب هؤلاء المشركين العتاة من وحَّد الله، بل دعا إلى الله، وجاهد في سبيل الله، وحمل راية الإسلام مبشرًا بدينه في كل مكانٍ يصل إليه إمكانُ بشر، وجاء خالدٌ البطلُ الذي دون اسمه في سجلات التاريخ البشري بمآثره في معركة اليرموك وغيرها، وذكراه تتصدر في قدرته على التخطيط والتنفيذ لمعركة غيَّرت وجهَ التاريخ، وحطمتْ أسطورة الدولة الكبرى التي لا تُقهَر، وارتفعت بالمقابل الدولة الإسلامية الشابة، واتسعت فأصبحت إمبراطورية أضاءت الحضارة بنور علومها طوال عشرة قرون متتالية[3].







قضى خالدٌ شطرًا عظيمًا من حياته في الجاهلية، وقف خلالَه ضد دَعوة الإسلام، بل مثَّل أثناء ذلك دورًا حيويًّا في انتصار جيش قريش على جيش المسلمين في غزوة أُحُد أثناء السنة الثالثة للهجرة؛ إذ تولى فيها قيادة مَيْمَنة القرشيين، واستطاع تحويل دفَّة المعركة بعدما استغل خطأ رماة المسلمين عندما ترَكوا جبل الرماة لجمع الغنائم بعد تفوُّق المسلمين في بداية المعركة، انتهز خالد ذلك الخطأ ليلتفَّ حول جبل الرماة ويهاجم بفرسانه مؤخرة جيش المسلمين؛ مما جعل الدائرة تدور على المسلمين، وتحول هزيمة القرشيين إلى نصر[4].







كما شارك ضمن صفوف الأحزاب في غزوة الخندق في السنة الخامسة[5]، وأيضًا كان على رأس فرسان قريش الذين أرادوا أن يَحُولوا بين المسلمين ومكة في غزوة الحديبية[6].







إسلام خالد:



دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ القضية مكة، فتغيَّب خالد، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه الوليد، فقال: أين خالد؟ قال: فقلت: يأتي الله به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مثل خالد مَن جهِل الإسلامَ، ولو كان جعَل نكايته وجِدَّهُ مع المسلمين على المشركين، لكان خيرًا له، ولقدَّمناه على غيره))[7]، فأرسل الوليد إلى خالد يدعوه للإسلام وإدراك ما فاته فيه، وقد وافق ذلك الأمرُ هوى خالد، وزاده رغبةً في الإسلام بعدما استقام أمامه المَنسِمُ، وانتفى لديه الشك، ووضح له السبيل، فخرج هو وعثمان بن طلحة العبدري مهاجرَينِ، والتقيا في طريقهم إلى المدينة عمرَو بن العاص، فدخل ثلاثتهم المدينة معلنينَ إسلامهم، وحينها قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها))[8]، وقال لخالد: ((الحمد لله الذي هداك، لقد كنت أرى لك عقلًا رجوت ألَّا يُسلِمَك إلا إلى خير))[9].







وهكذا شاء الله أن يخرج خالدًا من ضيق الشرك وجدبه، إلى سَعَة الإسلام وباحته الخضراء؛ ليكون فارس الإسلام، وليثَ المَشاهدِ، وقائدَ الجُنْد المجاهدين، وسيف الله المسلول.







وقد كانت خطى خالد في الإسلام ثابتةً قوية، وتسجيله المآثر سريعًا، لقد شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مؤتة والفتح وحُنَيْنًا، وحارب أهل الردة، وغزا العراق، وشهِد حروب الشام، وقاتَل أعداء الله من كل الأجناس، وصارع الأبطال، وبارز الشجعان، ولم يبقَ في جسده قِيدَ شِبرٍ إلا وعليه طابع الشهداء، وفيه للبطولة عنوان[10].







ويؤسفني أن المقام لا يتسع للحديث عن حياة خالد بشيء من التفصيل؛ إذ كل كلمة في حياة هذا المحارب العظيم تستحق أن يُفرد لها كتاب يشرح فلسفتها لدى تلك النفس السامية، وبواعثها، ومناسباتها، مع مقارنتها بغيرها عند غيره، فضلًا عن آثارها ونتائجها وما ترتَّب عليها.







قلِّب ناظرَيْك في كتاب إسلام خالد، تجد السطر الأول منه يحكي عن انضمامه إلى جيش مؤتة جنديًّا، لكن لم تلبث الأحداث أن ألقت إليه بزمام القيادة، فنجح في أن يحفظ الجيشَ الإسلامي - وقوامُه ثلاثة آلاف - من إبادة شاملة يريدها به جيشُ الروم الذي يبلغ عددُه مائتي ألف مقاتل، عبر خطة تكتيكية لها صدًى قوي في تاريخ العسكرية إلى اليوم، وببسالة منقطعة النظير، حتى إنه كُسرت في يده يومئذٍ تسعة أسياف[11]، وهذا غاية في العجب، ولولا صحة السند فيذلك، ما كنا لنصدِّقَ، فلله دره من مقاتل، في عزيمته وشكيمته وهمته، ومن يومها لقَّبه الرسول صلى الله عليه وسلم بسيف الله المسلول[12].







هذا أول سطر في كتاب إسلام خالد، وحياته بعد ذلك فيها ألوف السطور!



فماذا عن سطور كتابه في الفتح وحُنين ويوم هدم صنم العزَّى؟



وماذا عن صفحات جهاده المضيئة في حروب الردة: مفرزة، واليمامة، وأُلَّيْس، والفِرَاض، وغيرها؟



وماذا عن أوراقه المشرقة بالضياء في غزو فارس: كاظمة، والأبلة، والمذار، وقتله هرمز وجماعة من القادة والأبطال، وفي غزو الروم، وما أدراك ما أيامها؟



ماذا عن تكتيكاته التي استخدمها في معارك الولجة واليرموك وكاظمة، وما أدراك ما كاظمة؟



وماذا عن انتصاره الأكبر في معركة النفس، حين عزله أمير المؤمنين عمر من قيادة الجيوش - وهو في أوج انتصاراته العسكرية - فعاد خالد جنديًّا في جيش أبي عبيدة، ثم انتقل إلى حمص حيث عاش لأقل من أربع سنوات حتى وفاته ودفنه بها؟



على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من أشد الناس إعجابًا بأعمال خالد، ولم يعزله - معاذَ الله - عن ريبة، وإنما الأمر ما قال عمر: إني لم أعزل خالدًا عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فخِفْتُ أن يوكلوا إليه ويُبتلوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة.







ولما قدم خالد على عمر، قال عمر متمثلًا:



صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعٌ ♦♦♦ وَمَا يَصْنَعُ الأَقْوَامُ فَاللهُ يَصْنَعُ[13]



وأما ما يقال في ذلك بعد هذا الكلام، فهو حديث خرافة.







أين هذه السطور التي لم يبقَ بسببها في جسده الطاهر قيد شبر إلا وعليه طابعُ الشهداء؟



لقد أُشرب قلبُ خالد رضي الله عنه حبَّ الجهاد، كان في القيادة أو في الجندية، فلم يتخلَّ عنه، وملأ عليه حياته حتى صرفه عن كل شيء، فهو عنده أشهى من مولودٍ، وأحلى من عروس، اسمع إليه وهو يقول: "ما ليلة يهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها محبٌّ، أو أبشَّرُ فيها بغلامٍ - بأحبَّ إليَّ من ليلة شديدة الجليد في سريةٍ من المهاجرين أصبِّحُ بها العدو"[14].







تالله إنها لكلمات ذكرُها يغرس الهمةَ والعزيمة في القلوب، وينشئ العزةَ والشهامة في النفوس، ويجدِّد الاتصال بحبل التضحيات وطريق الفداء.







ومما لا يعرفه الكثيرون أن خالدًا كان يحارب بالقلم والبيان، كما يحارب بالسيف والسنان، فخطبتُه في تحفيز جيوشه، أو رسالته في تخذيل عدوه - أعظمُ من جيش فيه مائة ألف مقاتل، واقرأ شيئًا من ذلك في رسالته إلى الفرس قبل بَدْء المعركة:



"بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد الى مرازبة فارس، سلام على مَن اتبع الهدى، أما بعد: فالحمد لله الذي فضَّ خدمكم، وسلب مُلككم، ووهن كيدكم، مَن صلَّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا، إذا جاءكم كتابي فابعثوا إليَّ بالرهن، واعتقدوا مني الذمة، وإلا فوَالَّذِي لا إله غيره، لأبعثنَّ إليكم قومًا يُحبون الموت كما تحبون الحياة"!







عبقرية خالد العسكرية:



ولا شك أن خالدًا من أفضل القادة العسكريين عبر التاريخ؛ لأسباب موضوعية، نسوق منها ما يلي:



أولًا: كان لإنجازاته العسكرية أخطرُ الأبعاد سياسيًّا وعسكريًّا على المستوى الدولي، فقد غيَّرت نمط العَلاقات الدولية السائد، ووضعت الدولة الإسلامية كلاعب حاسم وبارزٍ في العلاقات الدولية، بعد نجاحه في إخضاع شبه الجزيرة العربية للسلطة الإسلامية بعد حروب الردة، وتلا ذلك تقويض أواصر إمبراطورية فارس في العراق، وهزيمة الدولة البيزنطية، ليأخذ حكم الشام من الروم للأبد.







ثانيًا: كان خالد ثاني قائد عسكري يطبق نظرية التطويق أو الالتفاف المزدوج، وذلك في معركة (الولجة)، ولم يسبقه في ذلك إلا هانيبال في معركة (كيناي)، ضمن الحروب البونيقية الثانية، كذلك فإن فكره العسكريَّ تجلى في معركة (اليرموك)، التي يجب أن تكون محل دراسة في كل الكليات العسكرية لكيفية إدارة معركة بالندرة البشرية، وبث اليأس في نفس الخصم، وكسر ثقته في الانتصار؛ ليحوِّل ضعفه إلى قوة على مدار أربعة أيام، مع عدوٍّ يفوق عدده قرابة خمسة أضعاف.







ثالثًا: إن أبعاده التكتيكية لا تقل عبقرية، فقد كان دقيقًا في أوامره للقيادات، عليمًا بشؤون تعبئة الرجال وتحريكهم، كذلك فقد كان للرجل روحُ المغامرة المحسوبة، والقدرة على تنظيم الإمدادات والصفوف، ومما يُذكَر له أيضًا أنه كان ضمن القادة العسكريين القلائل الذين لم يلقوا هزيمة عسكرية في حياتهم[15].







ومع ذلك، فإن كتب العلوم الإستراتيجية الغربية تعمَّدت إغفال ذكر سيف الله، فيظل البطل عالقًا في أذهاننا كعرب، منسيًّا في كتب التاريخ الغربي، باستثناء قلة قليلة تشير إليه في سطور قليلة[16].







آن الأوان لجهد علمي جديد لإعادة كتابة التراث العسكري العربي الإسلامي، من خلال تكوين لجنة تضم مؤرخين عسكريين، وعلماء التاريخ والآثار، لمزيد من التدقيق والبحث والتوثيق والتمحيص بأحدث الوسائل؛ لنؤصل ونوثق بالطرق العلمية الحديثة المعارك العربية الإسلامية، ثم نترجم نتائج هذه اللجنة إلى كتب وأبحاث بعدة لغات، ونعمِّمها على مراكز العلم والدراسات الإستراتيجية؛ لنتواصل مع العالم بلغته وفكره، بعيدًا عن الأهواء التي غلَبت على نسبة كبيرة من الكتب المنتشرة في هذا المجال، ولتكن البداية بمسيرة خالد بن الوليد؛ لنضيء مكانة هذا الفارس المغوار الذي تميَّز بقيادة فذَّة، وفكر عسكري نادر، وشجاعة تبعث الرعب في قلوب الأعداء[17].







وبعد:



فخالدٌ واحدٌ من ألوف في مدرسة العبقرية العسكرية الإسلامية العظيمة، وليست سيرةُ أولئك الأبطال العظماء إلا فصولًا متشابهة، أو نسخًا مكررة من سيرة المعجزة الكبرى في تاريخ البشر، سيرة الانبعاث الأعظم لقوى الخير في الإنسان، سيرة الفتح الذي حيَّر نوابغ القُواد، وأعلامَ المؤرخين، سيرة الجندي الذي كان منزويًا وراء الرمال، نائمًا في وهج الشمس، لا يعرف المجد إلا في الحب والحرب، في كأس خمر أو قصيدة شعر، أو غزوة سَلْبٍ ونَهْب، فلما هذبته مدرسةُ الإيمان، صيَّرته الجندي الأكملَ في تاريخ الحروب!







هذا الجندي المسلم لم يعرف التاريخ جنديًّا أخلص منه لدينه، ولا أقدم منه إلى غايته، ولا يعرف نفسًا أطهرَ من نفسه، ولا سيفًا أمضى من سيفه، الجندي الذي مشى في كل وادٍ، وصعِد كل جبلٍ، خاض البحار، وعبر الأنهار، وجاب الأرض كلها حتى نصب للإسلام على كل رابيةٍ رايةً، وأبقى للإسلام في كل أرضٍ وطنًا لا تقوى على استلابه من أهله مردةُ الشياطين[18].







وفي نهاية هذه الرحلة المباركة ترجَّل السيد المجاهد عن ظهر جواده، واستلقى يستقبل الموت على فراشه، وقد كان الإمام الأمير الكبير في ذلك الحين قد جاوز سنُّه الستين، وتوفي بحمص سنة إحدى وعشرين، وكان يقول على فراش الموت:



"لقد طلبتُ القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتُّها وأنا متترس بترسي والسماء تهلبني، ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار"، ثم قال: "إذا أنا مت، فانظروا سلاحي وفرسي، فاجعلوها عدة في سبيل الله عز وجل"[19].







وقال: "لقد شهِدتُ كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربة سيفٍ، أو طعنة رُمح، أو رمية سهمٍ، ثم هأنذا أموت على فراشي حتفَ أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعينُ الجبناء"[20].







حتى وهو يجود بأنفاسه أراد أن يلقننا درسًا في جلب العزة والرفعة، ونبذ الذلة والوضاعة، إنها تربية الأفعال لا تربية الأقوال، إنه خالد الرجل الذي لا ينام، ولا يترك أحدًا ينام!







وقد رأيت العجب يتملَّك كتابَ سيرته رضي الله عنه بشأن مسألة وفاته على سريره، وهو المجاهد الذي خاض أهوال الحروب في شام وعراق وما بينهما!







وإني لأتعجب من هؤلاء الكتاب، كيف لم ينتبهوا إلى أن خالدًا سيف الله، وما دام سيفَ الله، فبدهي أنه لن ينكسر في ساحة المعركة، وما دام الأمر كذلك، فنهايته حتمًا ستكون على الفراش لا في ساحات القتال، رحم الله سيفه خالدَ بن الوليد، الذي قدم أحداثًا يفخر التاريخ بذكرها، وجزاه عن الإسلام وأهله خيرَ الجزاء، وجعل مقامه في أعلى عليين، وارزقنا اللهم بخالد جديد.







إن سيرة خالد رسالة للذين يخذلون الأمة عن الذود عن ديار المسلمين، ورسالة لمن يختبئون عن نصرة إخوانهم في ساحات الوغى وميادين الكرامة، ورسالة لمن طال أمله في هذه الحياة الدنيا الفانية.







إن ضعف المسلمين اليوم واستكانتهم ووقوفهم خلف الأمم - سببه طلب العزة عند غير الله تعالى، وعدم الإخلاص في عبوديته، والشح ببذل الدماء والمهج في سبيله، والمأمول تربية النفس وتهذيبها وتربيتها على ملاقاة أعداء الله، وعدم الركون إلى الملذَّات والشهوات الحسية والمعنوية، والتواصي بالعزة والشهامة والبسالة، وعدم الإعراض عن الحق قولًا وفعلًا[21]؛ ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ﴾ [النساء: 84].







[1] العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد، مقال للعميد عبدالعزيز بن عبدالله القصير، منشور بشبكة الألوكة.



[2] انظر: صحيح مسلم (1795).



[3] العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد، مرجع سابق.



[4] الرحيق المختوم (ص237).



[5] سيف الله خالد بن الوليد، دراسة عسكرية تاريخية عن معاركه وحياته (ص75)، اللواء آغا إبراهيم أكرم، مؤسسة الرسالة.



[6] خالد بن الوليد في كتابة شخصيتين عسكريتين عربية وغربية، مجلة التراث العربي.



[7] سيف الله خالد بن الوليد، مرجع سابق.



[8] الروض الأنف (5/ 94)، وانظر: فقه السيرة (ص222)، بتحقيق الألباني.



[9] رواه الواقدي في مغازيه (2 /749).



[10] سير أعلام النبلاء (1/ 366).



[11] رواه البخاري (4265).



[12] رواه البخاري (3757).



[13] انظر: تاريخ الرسل والملوك؛ للطبري (4 /68).



[14] الجهاد؛ لابن المبارك (ص91).



[15] ابن الوليد، المستثنى من الذاكرة؛ د. محمد عبدالستار البدري، مقال بالشرق الأوسط، ع (11840).



[16] المصدر السابق.




[17] ابن الوليد، المستثنى من الذاكرة، مرجع سابق.



[18] رجال من التاريخ (45)؛ الشيخ علي الطنطاوي، بتصرف يسير.



[19] مكارم الأخلاق؛ لابن أبي الدنيا (62)، ومعنى تهلبني: تبلني وتمطرني.



[20] الاستيعاب؛ لابن عبدالبر (1/ 409)، سير أعلام النبلاء؛ للذهبي (1/ 382).



[21] كيف يموت البعير؟! مقالٌ للدكتور أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 81.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 79.58 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.06%)]