رياضة محببة وجهاد أكبر :
رياضة محببة وجهاد أكبر :
هذا كله إذا قُبِلَ هذا الإنسان في الإمتحان ، فإذا قُبِلَ فهو في بدايـة النعيم ، فليكثر من حمـد الله سبحانـه ومن الإستغفـار ، بلى ، الشـروط حساسة ودقيقة ، فإيانا ثم إيانا أن ننظر إلى الأمر بقلة اكتراث : نحـن هنـا
أمام التوبة ، التوبة إلى الله العزيز المتعال ، ذي الكبرياء والجبـروت ، الغنـي عنّـا وعن توبتنا وعن العالمين . ومن شروط التوبة أن تكون مقترنة بنيّة الامتناع عن الرجـوع إلى معصية ، امتناعاً قطعياً مطلقاً ، وملازمة الشعور بالندم الشديد ، ولمجرد تذكّر ما فات من ذنوب . وبطريقة أنه لو خـيّر التائب بين رجوع إلى معصية ، وبين أن يحرق بالنار ، فليصمّم على اختيار الحريق بالنار على أن يعود إلى معصية ، وليبك إذا استطاع ، خوفاً وامتناناً ، أما المواظبة على العبادة ، وأما الإكثار من ذكر الله عزّ وجلّ ، فحدث ولا حرج ، إضافة إلى قضاء ما فات .
قد يقول القارىء هذا كثير ، وهذا متعب . لا ليس كثيراً ولا متعباً ، إذا كان بِحُبٍ وشوقٍ ، ومعرفة أمورٍ عن عظمـة الخالـق ، أمـا كـل عظمتـه سبحانه ، لا يحيط بها عقـل مخلوق لا في الأرض ولا في السموات . وفي المواقف الصعبة ، ليتذكر قول الرسـول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) :
" ربي إن لم يكن بك عليّ غضب ، فلست أبالي ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك . يا حبيباه ، يا الله ، يا ربّاه ، يا رب العالمين " .
لا كل ذلك ليس كثيراً ، بل هو قليل قطعاً ، إلى جانب عظمة الله ، ونعم الله ، وكرم الله ، ورحمة الله ، . ذلك كله قليل وقليل جداً ، إذا عرف التائبُ ـ مع اكتمال شروط توبته ـ أن الله عزّ وجلّ يبدِّل سيئاته حسنات ، ويضاعف له أجره ، ويزيدُهُ من فضله ، وهو ذو الفضل العظيم ، ويصلح بالـه ، ويصلح حاله ، وذلك كله بوعد منه سبحانه في كتابه العزيز .
{ .. أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ .. }(1) .
{ .. وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ .. }(2) .
وهاتيك النتائج والحبوات والعطاءات ، معروفة بالتجربة المحسوسة ، يعرفها العارفون :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة يونس ، الآية 55 . (2) سورة التوبة ، الآية 111 .
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا }(1) .
* * *
ومـمّا هو اختصاص العقل في الصميم ، وجدير بالعقلاء أن يُلموا به ويعقلوه ، لكي لا يكونوا مـمّن قال الله تعالى فيهم :
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }(2).
قلت مـمَّا هو من اختصاص العقل في الصميم هو وجوب إدراك معنى الآيتين الكريمتين ، قوله تبارك وتعالى :
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً..}(3) .
وقوله عزَّ شأنه :
{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمـًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ..}(4) .
ولنكون في ضوئهما بنسبة عالية ، لا بدَّ من إيضاحات :
فواقع الحال ، هو أن كل مؤمن متعرض لابتلاءات ، وممتحن بامتحانات لا بدّ منها ، قوله تعالى :
{الـم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيـنَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }(5) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الكهف ، الآية 29 . (2) سورة الجاثية ، الآية 23 . (3) سورة الأنفال ، الآية 25.
(4) سورة التوبة ، الآية 115 . (5) سورة العنكبوت ، الآيات 1 ـ 3 .
وهذه الامتحانات قد تكون فردية ، كامتحان أيوب عليه السلام في نفسه وبدنه ، وقد تكون في بعض متعلقات الإنسان ، من أهل ومال ، كإمتحان إبراهيم في ذبح إبنه عليهما السلام ، الإبن الذي كان ما زال وحيداً ، وهو أغلى على أبيه من كل أهل الأرض آنذاك فاستجابا لربهما طائعين راضيين ، وكان الفداء العظيم للبلاء العظيـم . وامتحان سليمان عليه السلام في ماله الذي ضحىَّ به وهو من خير المال وأجمله ( الصافنات الجياد ) ، إذ أوقعه هذا المال في معصية الانشغال عن الصلاة ، فأعدمه وثاب إلى ربِّه خائفاً خاشعاً . وقد تكون في مواجهة جمهور من الناس ، على صعيد قرية أو أكثر ، أو مدينة أو أكثر ، أو شعب أو أمة أو العالم بأسره ، مواجهتهم بما لا يحبون . مـمَّا يعتبرون أنه حدّ من حرياتهم المزعومة ، من دعوة للحشمة بدل التسيّب الأخلاقي والانتحار الجماعي بالفواحش ، أو دعوة إلى النظام بدل الشتات والفوضى ، أو إلى العدل والرحمة ، في أزمنة الظلم والطغيان والتشوّه وسفك الدماء ، إلى آخر ما تتعرض له المجتمعات البشرية في مراحل بعدها الزمني عن عهودها مع الله ومنـزلاته :
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }(1) .
وإنما تكون هذه المواجهات بالنسبة للمكلفين على درجتين : الأولى : درجة النبوة وورثة الكتاب ، والثانية : درجة الفقهاء والعاديين .
فالدرجة الأولى هي التي تكون بأمر من الله بيّن لا لبس فيه ، عموماً هو الوحي والإلهام ، فيختلف فيه التكليف وفق أزمنة المكلفين ومجتمعاتهم ، فتارة يكون بمجـرد توجيـه النـداءات وعرض التعـاليم المنـزلة ، مع تحمّل صنوف الأذى والائتمـار بالصـبر عـلى ردود الفعـل مهما كان شـرّها ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحديد ، الآية 16 .
وذلك كما حصل لرسول الله عيسى عليه السلام ، وتارة يكون التكليف مُلْزِماَ بالدفاع عن الرسالة ، وهنا يضاف إلى ما ذكرناه عن تكليف المسيح عليه السلام ، أمر الله عزّ وجلّ بالدفاع عن الدعـوة إليه سبحانه وعن الرسـالة ، بأسباب القوة ، كالتكليف الذي كان لمحمد صلى الله عليه وآله ( بتبليغ الرسالة والقتال دونها ) . وفيه تكليف بتوجيه النداءات وعرض التعاليم المنزلة ، وفوق ذلك كله ، تكليفه بالتصدّي لقتال من يقف في وجه الدعوة إلى الله وحده لا شريك له ، وقتال كل من يقف موقفاً عدوانياً من الله ورسوله ، والدين الذي أنزل على رسوله ، دين التوحيد أو الحنيفية ، وهي الاستقامة والعدالة والرحمة ، قال تعالى :
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }(1) .
على أن ابتلاءات الأنبياء والرسل كثيرة ومتعددة ، بتعدّد الغايات منها ، سواء ما كان شخصياً متعلقاً بكل فرد من الأنبياء على حدّه ، أو ما كان منها ذا وجهين خاص وعام ، فوجه يخصّ النبيّ والآخر عامة الناس ، كأَنْ يكون درساً أو قدوة أو عبرة لأولي الألباب . وما دام موضـوعنا ليس سـرد أنـواع الإبتلاء ، وإنما معنى آيتي الجاثية والتوبة الآنفتي الذكـر ، فسنكتفـي بهـذا المقدار عن الإبتلاء الذي توخينا بـه أن يكـون مدخـلاً للكلام عن الآيتين الكريمتين .
ومن هذا الفريق ( الأنبياء والرسل ) ورثة الكتاب ، وهـم كذلك اصطفاهم الله سبحانه قبل ولادتهم ، لأدوار ، مثلما اصطفى الذين من قبلهم من النبيين والمرسلين ، واجتباهم ، وأورثهم الكتاب ، وذكر ذلك في كتابه الكريم مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وآله :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الحديد ، الآية 25 .
{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ . ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }(1) .
والمقصود من ظلم النفس في الآية الثانية ، لا هو من الكفر ولا من الشرك ولا من ظلم الآخرين ، وإنما من الظلم السلوكي الشخصي : من السيئات التي هي مع التوبة والإنابة ، يبدّلها الله سبحانه لمصلحة صاحبها بحسنـات . ويوضح ذلك سياق الآيات ، وصـولاً إلى قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ..} فهو سبحانه لم يستثن من المصطفين حتى الظالم لنفسه من دخول الجنة .
كما يوضح ذلك كثير من الآيات المتعلقة بتصريحات لبعض الأنبياء ، مثل قول إبراهيم عليه السلام :
{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ . وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }(2) .
وكلمة خطيئة قد تعني الجمع في اللغة ، ومثلها كلمة نعمة وغيرها ، قال تعالى :
{ وَآتَاكُـم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا }(3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة فاطر ، الآيات 31 ـ 35 . (2) سورة الشعراء ، الآيات 81 ـ 82 .
(3) سورة إبراهيم ، الآية 34 .
وقال سبحانه :
{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُـمُ الضُّرُّ فَإِلَيْـهِ تَجْأَرُونَ }(1) .
وواضح أن المقصود بكلمة ( نعمة ) في الآيتين الكريمتين هو الجمع أي النعم . ومثل هذا في اللغة كثير .
ومثله قول موسى عليه السلام عندما قتل رجلاً :
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ..}(2).
إلى آخر ما هنالك من تصريحات الأنبياء ، وصريح النصوص عنهم في القرآن المجيد .
فإذا كان أفراد هذا الفريق ( الأنبياء والرسل وورثة الكتاب ) مبتلين ممتحنين وهم عند الله المصطفون الأخيار ، والمجاهدون الأبرار ، فكيف بأفراد الفريق الثاني ، عنيت الفقهاء وبقية الناس .
يعني ما أريد أن أوضحه ، هو أنه إذا كان الأقرب الأحب إلى الله معرضـاً ـ وهو بشر ـ للوقوع في المعصية [ كآدم عليه السلام ] ، والخطيئة
[ كإبراهيم عليه السلام ] ، والفتنة [ كداود عليه السلام ] ، مؤاخذاً عليها أشد المؤاخذة أحياناً [ كحبس يونس عليه السلام في بطن الحوت ] ، وما خطاياهم ومعاصيهم بذات بال إذا قورنت بخطايا البشر العاديين وجرائمهم . إذا كان كل هذا الرصيد لا يشكل عليهم حصانة تقيهم العثرات ـ خارج نطاق الوحي ـ فتراهم دائماً أحوج ما يكونون لرعاية الله ، وعنايته وإرشاده وتسديده لهم ، فما هو رصيد غير المصطفين من الناس ، خاصتهم وعامتهم ، حتى يتصدوا لمواقف مصيرية ، بكثير من التحكم والمزاجية والغرور ، والزج بالناس من أتباعهم ومنافسيهم في أتون فتن ، فيها الدمار والحرائق وسفك الدماء ، أم لهم ضمان عند الله ، أم اتخذوا عنده بذلك عهداً ؟! ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النحل ، الآية 53 . (2) سورة القصص ، الآية 16 .
وإذا كان من حق الأنبياء والرسل وورثة الكتاب أن يتبعوا وأن يطاعوا ، ومن واجب الناس أن يؤمنوا لهم ويتبعوهم ويطيعوهم ويجاهدوا في سبيل الله بين أيديهم ، ذلك لأن هؤلاء المصطفيـن ، يوصلهم سبحانه عبر مراحـل من التربية إلى درجة السداد والرشـاد ، وندرة الوقوع في الخطأ ولو صغيرة ، وكذلك في المرحلة الأخيرة من تربيتهم ، عدم الوقوع في معصية أو خطيئة أو فتنة حتى خارج نطاق الوحي .
ولأخذ فكرة عن عظمة وأهمية هذه التربية ، التي يربيها سبحانه للمصطفين من عباده ، نلخصها في سبع مراحل :
الأولى : الحياة العادية .
الثانية : الإشعار بالمسؤولية بشكل غير عادي .
الثالثة : التَبَتُّلُ ، وإخلاص القلب لله ، وإخلاص كلية الإنسان لله ، ثم الفناء
في فناء الله ، ثم الصحو بعد المحو ، ثم العطاءات من كرم الله ورحمته .
وهذه المراحل الثلاث قد يتوصل إليها أي إنسان يصدق في توجّهه إلى
الله سبحانه ، وقد شرحناها في مكان آخر من هذا الكتاب في مبحث :
" لا إسلام بدون توحيد " .
أما المراحل الأربع الباقية ، فالله سبحانه اختصّ بـها أصفياءَه مـن عباده :
أُولاها : مرحلة : { إنِّي ذَاهِبٌ إلىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }(1) ( لاحظ سين الإستقبال ) .
الثانية : مرحلة : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }(2).
( وفيها رعاية مباشرة منه سبحانه ولكن فقط في الصلاة والمواقف ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الصافات ، الآية 99 . (2) سورة الشعراء ، الآيات 217 ـ 218 ـ219 .
الثالثة : مرحلة : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ..}(1) .
( وفيها رعاية دائمة منه سبحانه في جميع حالات ذي العلاقة ) .
الرابعة : مرحلة : {..وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } (2) .
والمعنى المتعارف في " وإن تظاهرا عليه " ( زوجتان للنبي صلى الله عليه وآله ) ، إلاَّ أن التأويل أعمّ وأعظم ، وهو الأصل ، إذ المقصود فيه ، الثقلان : الإنس والجن ، فهي عناية ربانية مباشرة ، في الأمور العظمى ، ثم حسب أهمية الأمور ، يأمر جبريل عليه السلام ، وصالح المؤمنين والملائكة ، بنصرة من يصطفيه من عباده ، له الحمد حمداً خالداً بخلوده .
ومع ذلك لماذا لا يتولى سبحانه كل ذلك مباشرة ، دون توسيط أحد من خلقه ، وهو الغني عن العالمين ؟ صحيح ، وإنما ذلك :
لأن { وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَـاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(3) .
* * * *
بعد أن أخذنا فكرة عن تلك التربية الحكيمة الفذّة ، والحليمة الكريمة ، والتي منطلقاتها جملةً وتفصيلاً ، من قوله تعالى ، لمن يصطفيه أو يجتبيه أو يختاره :
{ ..وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }(4) .
لِيُصْبحَ بعد ذلك أهلاً للنبوة أو الرسالة أو وراثة الكتاب .
ليصير بعد ذلك قائداً ملهماً من الله بالحقيقة ، مسدّداً من الله بالحقيقة ، داعياً إلى الله وحده لا شريك له ، لا إلى نفسه ، ولا إلى طائفة من الناس ولا إلى
مخلوق مـمّا خلق الله ، ولا إلى قضية فيها إثم أو معصيـة ، ولا إلى قضية فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الطور ، الآية 48 . (2) سورة التحريم ، الآية 4 .
(3) سورة الجاثية ، الآية 37 . (4) سورة طـه ، الآية 39 .
شبهة إثم أو معصية ، ولا مفرقاً بين المؤمنين ولا بين المسلمين ، ولا متجبراً ولا متحكماً ، ولا منفراً من دين الله بحزب يتقوقع فيه ، أو تنظيم يتسـلط من خلاله . بل يكون سمحاً بعيد المرمى ، واسع الأفق ، رفيقاً بقومه على علآّتهم ، متسامحاً مع جميع الناس على اختلاف مللهم وتوجّهاتهم ، ما لم يعتدوا ويفسدوا ويحاولوا إلغاء دين الله وطمس رسالاته ، داعياً المؤمنين لأن يسلكوا مسالكه ، عملاً بتعاليم الله سبحانه وتعالى ، ومنها هذا العجب العجاب من حيث أمر الله بالتسامح :
ومنها : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ }(1) .
ومنها : { ..وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }(2) .
ومنها : { ..وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ..}(3).
ومنها : { ..مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا .. }(4) .
ومنها : {.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }(5).
ومنها : {.. وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمّ رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ }(6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الجاثية ، الآية 14 . (2) سورة الحجر ، الآية 85 .
(3) سورة آل عمران ، الآية 159 . (4) سورة المائدة ، الآية 32 .
(5) سورة فصلت ، الآيات 34 ـ 35 . (6) سورة الرعد ، الآية 22 .
ومنها : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ . يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء . أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ }(1) .
ومنها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }(2).
ومنها : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }(3) .
ومنها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ }(4).
ومنها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ }(5) .
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة إبراهيم ، الآيات 24 ـ 29 . (2) سورة الحجرات ، الآية 6 .
(3) سورة الحجرات ، الآية 10 . (4) سورة الحجرات ، الآية 11 .
(5) سورة الحجرات ، الآية 12 .
إلى آخر ما هنالك من تعاليم ، تطهر القلوب من رواسـب الشـرك ،والنفوس من الحيـرة والشبهات ، والظن بأن النفع والضرّ بأيدي المخلوقين ، والواقع أنه حتى محمّد صلى الله عليه وآله أمره ربه سبحانه أن يقول للناس :
{ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } (1) .
فكيف بمن هم دون محمّد صلى اله عليه وآله منـزلة عند الله ، أو بمنـزلة محمّد صلى الله عليه وآله ، فإنهم قطعاً كما قال الله سبحانه لا يملكون للناس ضرّاً ولا رشداً .
بلى إن هذه التعاليم القرآنية ، تغسل القلوب من الرين ، وتزيل العتمة من النفوس المظلمة التي تعشعش فيها شياطين الحقد والعصبية والغـرور والأنانية ، والقناعة بوجوب إلغاء الآخر المنافس ، والحسد ، وبقية فروع الشجرة الشيطانية ، ولعل أبرزها أن يعتقد شخص أو مجموعة ، أو حزب أو تنظيم أنهم هم وحدهم يسندون أعمدة السماء ، ولولاهـم لوقعت على الأرض ، وأنهم هم وحدهم يدبّرون أمر الأمة ولولاهم لذهبت الأمة إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم . ويقرأون كتاب الله العزيز ، ويتلون فيه الآية الكريمة :
{ اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }(2) .
ولا يفهمون ...
وخاصة قوله فيها سبحانه : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ } ، وكذلك قوله تعالى في مكان آخر :
{.. وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }(3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الجن ، الآية 21 . (2) سورة الرعد ، الآية 2 .
(3) سورة الطلاق ، الآية 3 .
ولا يفهمون ... أن الأمر في جوهره هو أمر الله من قبل ومن بعد ، وأن الله بالغه عاجلاً أو آجلاً ، وهو الأعلم به ، وقد قدّر الأمور تقديراً أدق مـمّا قد يظنون أو يحلمون ، وهو أسرع الحاسبين ، ولا يفهمون قبل كل ذلك ، في هذه الآية وفي كثير غيرها ، أن من معاني التوكّل ، الثقة بالله وحده ، وليس الإعتماد على شخص بعينه أو دولة بعينها ، ، أو شعب بعينه ، أو أية قوة من مراكز القوى الظنّية في الأرض أو في السماء من دون الله العزيز الحكيم ذي القوة والجبروت ، فإن القوة لله جميعاً وإن العزة لله جميعاً .
فمن أعزه الله ، فهو العزيز ، ومن أذلّه الله ، فهو الذليل ، وقد ينخدع بذلك ذو ضلالة ، إذا ظهر ظهـوراً مؤقتاً ، بقوة سياسية ، أو مالية ، أو عسكرية ، فيحسب أنه هو العزيز الكريم ، في وقت قد يكون فيه ، مـمّن مدّ لهم الله عزّ وجلّ في الضلالة ، أو مـمّن قال سبحانه فيهم :
{ وَمَاكَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ .. }(1).
فيكون في جملة من أخبر عنهم سبحانه في سورة الدخان :
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ . طَعَامُ الْأَثِيمِ . كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ . كَغَلْيِ الْحَمِيمِ . خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ . ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ . ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }(2).
تقولها الملائكة تهكماً واحتقاراً للمتجبرين المتكبرين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة ، الآية 115 .
(2) سورة الدخان ، الآيات 43 ـ 49 .
{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } . (39/ الأحزاب ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النمل ، الآية 59 .
__________________
سماحة العلامة الشيخ عبد الكريم آل شمس الدين
لبنان - جبل عامل - عربصاليم
|