|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#621
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (469) صـــــ(1) إلى صــ(24) شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [3] شرع الله سبحانه وتعالى لمن توفي زوجها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا، وهذه العدة فيها من الحكم والأسرار الشيء الكثير، وتختلف أحكام المعتدة هذه العدة بحسب حالها من حيث الحيض وعدمه، والحمل وعدمه، وكذلك من حيث تعلق عدة أخرى بها من عدمه. عدة المتوفى عنها زوجها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: الثانية: المتوفى عنها زوجها بلا حمل منه] . شرع المصنف رحمه الله في النوع الثاني من النساء المعتدات وهي المرأة التي توفي عنها زوجها، وقد شرع الله عز وجل لها العدة أربعة أشهر وعشرا، كما قال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة:234] ، فبين سبحانه وتعالى لزوم العدة -التي هي الحداد- على المرأة التي توفي عنها زوجها، ودلت السنة على ذلك، كما في حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها، وفيه: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) ، وقد كانت في الجاهلية تمكث المرأة سنة كاملة بعد وفاة زوجها، وتجلس في مكان ضيق، وتمتنع من الطيبات والمباحات، وتكون بأبشع حال وأسوأ صورة حتى تتم سنة كاملة، فخفف الله تبارك وتعالى ويسر، ودفع عن عباده ما كان من أمور الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان، فشرع هذا الحداد أربعة أشهر وعشرا، وهذا النوع من العدة سواء كان الزوج دخل بها أو لم يدخل بها، فكل امرأة عقد عليها زوجها وتوفي عنها وهي في عصمته سواء وقع الدخول أو لم يقع الدخول فإنها زوجته ترثه ويرثها إذا ماتت، فيلزمها الحداد وعدة الوفاة. (المتوفى عنها زوجها بلا حمل منه قبل الدخول أو بعده). (قبل الدخول أو بعده)، سواء دخل بها أو بعده، ثم تنقسم هذه التي توفي عنها زوجها إلى قسمين: إما أن تكون حاملا، وإما أن تكون حائلا، فالمرأة الحائل التي هي غير حامل هي التي تكون عدتها بما ذكرنا، ولكن إذا كانت حاملا فإنها تعتد بوضع حملها، لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} [الطلاق:4] ، فجعل الله عز وجل عدة المرأة الحامل أن تضع ما في بطنها، وقد دل على ذلك الحديث الصحيح في قصة أبي السنابل بن بعكك رضي الله عنه وأرضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في هذا الحديث الصحيح أن المرأة الحامل تعتد بوضعها لحملها ولو كان الوضع بعد الوفاة أو بعد الطلاق بساعة. فلو أنه توفي عنها الساعة الثانية ظهرا، وبعد وفاته ولو بدقيقة خرج حملها وجنينها فقد خرجت من عدتها، وهذا حكم الله، والله يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى، وهذا شرعه وهذا حكمه، فهو أمر تعبدي، فإذا وضعت الحامل حملها خرجت من عدتها. فهنا بين المصنف رحمه الله أنها تعتد أربعة أشهر وعشرا بشرط: أن لا تكون حاملا، فإن كانت حاملا فإنها تعتد بوضع الحمل، وجماهير السلف والخلف -رحمهم الله ورضي الله عن أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أجمعين-على هذا. وهناك من الصحابة من أثر عنه القول، بأنها تعتد أبعد الأجلين، فإن كانت حاملا ووضعت بعد الوفاة بأسبوع أو بشهر أو بشهرين أو بثلاثة فإنها تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا؛ لأن عدة الوفاة أطول، وإن كان حملها يستمر فوق الأربعة الأشهر وعشرا فتعتد لوضع الحمل، فيرون أنها تعتد أبعد الأجلين، وهذا قول ضعيف. والصحيح: ما دل عليه ظاهر الكتاب، وظاهر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانعقدت عليه كلمة جماهير السلف رحمهم الله أجمعين. عدة الأمة المتوفى عنها زوجها قال رحمه الله: [للحرة أربعة أشهر وعشرا وللأمة نصفها] . هذه العدة للحرة. أي: للمرأة الحرة أربعة أشهر وعشرا كما في نص الآية التي سبقت، وكذلك حديث أم حبيبة رضي الله عنها في الصحيحين، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن عدة المرأة أربعة أشهر وعشرا، وفرق المصنف رحمه الله بين الحرة والأمة، فالأمة في مذهب الجمهور تكون على التشطير في عدة الوفاة، وهذه المسألة خالف فيها بعض أئمة السلف رحمهم الله وقالوا: عدة الوفاة تستوي فيها الحرة والأمة كما هو مذهب الظاهرية، والذي يظهر من ناحية الدليل أن أصح القولين مذهب الظاهرية؛ فإنهم لا يقولون بالتشطير، وفي مذهب مالك أيضا ما يدل على ذلك، وهذا القول ألزم للأصل، وأقعد للسنة بالدليل، فالكتاب والسنة على أن المرأة حرة كانت أو أمة تعتد بهذه العدة وهي أربعة أشهر وعشرا؛ لأن ظاهر القرآن لم يفرق، وكذلك ظاهر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبقى على هذا الظاهر، والحنابلة ومن وافقهم رحمة الله عليهم ألحقوا هذه المسألة بعدة الطلاق فقالوا: لما كانت الأمة تعتد في طلاقها على النصف فكذلك في عدة الوفاة، وفي الحقيقة أن عدة الوفاة جانب التعبد والقياس فيها أضيق، ثم إن مسألة تشطير عدة الطلاق سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليها وفيها ما فيها، وبناء على ذلك يكون هذا من باب رد المختلف فيه إلى غير المختلف فيه، وظواهر النصوص على أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بالنسبة للمرأة حرة كانت أو أمة. إذا اعتدت لطلاق رجعي فمات الزوج أثناء عدتها رجعت لعدة الوفاة قال رحمه الله: [فإن مات زوج رجعية في عدة طلاق سقطت] . هذه مسألة تتعلق بالمرأة المطلقة، فالمرأة إذا كانت في عصمة الرجل. أي: عقد عليها وتوفي عنها فلا إشكال، وحينئذ تعتد، وقلنا: سواء توفي وقد دخل بها أو لم يدخل، حتى لو توفي بعد العقد بثانية واحدة فإنها زوجته ترثه ويسري عليها ما يسري على الزوجة من وجوب عدة الوفاة. أما بالنسبة للمسألة التي معنا فهي مسألة الطلاق: إذا طلق الرجل امرأته واعتدت في طلاقه لها عدة الطلاق وتوفي أثناء العدة، فإن كانت المرأة في عدة طلاق رجعي كأن يكون طلقها الطلقة الأولى أو طلقها الطلقة الثانية ثم توفي أثناء عدة الطلاق؛ فإنها في حكم الزوجة وتعتد بعدة الوفاة، وبناء على ذلك: فإنه يحكم بوجوب الحداد عليها أربعة أشهر وعشرا، وتنتقل إلى عدة الوفاة، ومن العلماء من اختار أنها تعتد أبعد العدتين، والذي اختاره المصنف رحمه الله: أنها تنتقل إلى عدة الوفاة وأنها زوجته، وبناء على ذلك: تأخذ حكم الزوجية، وقد تقدم معنا أن الطلاق الرجعي تبقى فيه المرأة في حكم الزوجة. قال رحمه الله: [سقطت وابتدأت عدة وفاة منذ مات] . سقطت عدة الطلاق ورجعت إلى عدة الوفاة، حتى ولو كان ما بقي لها من عدة الطلاق إلا اليسير، فما دام أنه قد توفي قبل انتهاء عدة الطلاق، فلا عبرة بعدة الطلاق وتستأنف عدة الوفاة؛ لأنه توفي عنها وهي في عصمته وفي حكم الزوجة، وقد بينا أنها في حكم الزوجة، ولذلك يحق للرجل أن يراجع زوجته الرجعية التي هي في الطلقة الأولى والطلقة الثانية بعد الدخول حتى ولو لم ترض، ويردها بدون مهر وبدون عقد جديد، وهذا يدل على أنها في حكم الزوجة، ومن هنا لو مات عنها فقد شاء الله عز وجل أن يموت وهي في عصمته، فتعتد عدة الوفاة وتبقى في حكم الزوجية، ومن هنا يرد السؤال لو بقي قليل من عدة طلاقها وتوفي الرجل، هل تتم عدة الطلاق أم تستأنف عدة الوفاة؟ بين رحمه الله أنها تسقط عدة الطلاق وتستأنف عدة الوفاة منذ وفاة زوجها، فلو توفي في شهر شوال وكان قد بقي لخروجها من عدة الطلاق إلى نهاية ذي القعدة وبلغ الخبر في خمسة عشر من ذي القعدة فإنها تحتسب من شهر شوال الذي وقعت فيه الوفاة، فبين رحمه الله حكمين: الحكم الأول: سقوط عدة الطلاق؛ لأنها في حكم الزوجة وقد توفي عنها زوجها. ثانيا: استئناف عدة الوفاة، وهذا الاستئناف لعدة الوفاة يكون من حين وفاته، وهذا ما أشار إليه المصنف رحمه الله حينما جعل بداية العدة منذ وفاته. طلاق الرجل لامرأته في مرض الموت قال رحمه الله: [وإن مات في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل] . سيدخل المصنف في مسألة الطلاق والموت بعده، فالمرأة إذا طلقها زوجها وتوفي بعد تطليقه لها لا يخلو طلاقه من صورتين: تطليق الرجل لامرأته قبل الموت مع عدم التهمة مثال ذلك: أن يطلقها وهو صحيح ثم يخرج -نسأل الله السلامة والعافية- فيحصل له حادث فيموت، وتكون الطلقة الأخيرة، أو يطلقها ثلاثا -على مذهب الجمهور- وتبين منه، ففي تطليقه لها الطلقة الثالثة أو ثلاث مجموعات في حال صحته وليس هناك مرض مخوف -كما قدمنا في ضبط مرض الخوف- فإنه لا يتهم في إخراجها وحرمانها من الميراث، ولا ترثه ولا إشكال في ذلك، فإذا طلقها وهو صحيح قوي ثم توفي فجأة فإننا لا نشك أن الطلاق قصد منه إخراجها عن العصمة وحرمانها من الميراث دون وجود تهمة أنه يريد ذلك، ولا ترثه لأنها صارت في حكم الأجنبية. تطليق الرجل لامرأته مع التهمة وقد يطلقها وتجتمع القرائن على إثبات أنه يريد حرمانها من الميراث، كأن يطلقها في مرض الموت المخوف ويبت طلاقها فدل على أنه يقصد أن يحرمها من الميراث، فهذه المسألة اختلف فيها أئمة السلف رحمهم الله، وكان الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه يقضي أنها تورث حتى ولو خرجت من عدتها، وذلك معاملة له بنقيض قصده حيث خالف شرع الله عز وجل وظلمها وحرمها حقها، فالظاهر شيء ونيته شيء آخر، فمن قضى من الصحابة بهذا القضاء غلب الباطن على الظاهر؛ لأن الشريعة قد يجمع فيها الأمران الظاهر مع الباطن، وقد ينظر إلى الظاهر ولا يلتفت إلى الباطن كما في المنافقين، وقد ينظر إلى الباطن ولا يلتفت إلى الظاهر كما في هذه المسألة، والباطن إما بإقراره كأن يقول: قصدت حرمانها، ويأتي شهود عند القاضي ويقولون: فلان طلق فلانة في مرضه وقال: قصدت حرمانها من الميراث، فحينئذ يثبت عند القاضي أنه قصد هذا القصد السيئ الذي يخالف شرع الله، أو تدور القرائن على هذا، كأن يطلقها بالثلاث وبعد أن أخبره الأطباء أن مرضه مرض موت، فليس هناك من داع لهذا الطلاق ومرضه مخوف يؤدي إلى الموت -نسأل الله السلامة والعافية- إلا الإضرار بالمرأة، ولذلك يذكر العلماء من أمثلة ختم العمل -والعياذ بالله- بالعمل السيئ: أن يظلم الإنسان في آخر عمره بتطليق الزوجة وحرمانها من الميراث؛ أو بالجوار في الوصية، كما جاء في الأثر أن من جار في وصيته ختم له بخاتمة سوء والعياذ بالله، فآخر ما يكتب في ديوانه عمل السوء -نسأل الله السلامة والعافية- حتى إن بعض العلماء قالوا: قوله: (فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ، قالوا: المراد دخول الموحدين، وهو أن يعمل بعمل أهل النار فيفعل كبيرة قبل موته فيختم له بخاتمة السوء، ويشاء الله تعذيبه كي يدخل النار تطهيرا من هذا الذنب. إذا: من أمارات سوء الخاتمة أن الشخص -والعياذ بالله- يجور ويظلم في آخر عمره، وفي هذه المسألة قضى الصحابة رضوان الله عليهم -وهو وقضاء عثمان رضي الله عنه- أنها ترث حتى بعد خروجها من العدة، وقد اختار هذا طائفة من أئمة السلف ودواوين العلم رحمهم الله واختاروا أنه يعامل بنقيض قصده. إذا توفي من أبانها في مرض موته قال رحمه الله: [وتعتد من أبانها في مرض موته: الأطول من عدة وفاة وطلاق] . أي: تعتد عدة الوفاة، وإذا أثبت لها عدة الوفاة فمعنى ذلك: أنه أثبت لها الميراث؛ وعامله بنقيض قصده، فترث في هذه الحالة كل من طلقها زوجها في حال مرضه المخوف -وهو مرض الموت وقد تقدم ضابطه- وكان طلاقه طلاقا بائنا، ولو كان طلاقه جاريا على العادة لطلقها طلاقا رجعيا، لكنه حين طلقها ثلاثا دل على أنه يقصد حرمانها وظلمها، فمن هنا تقوى الشبهة والقرينة في الدلالة على أنه يريد السوء بها فيعامل بنقيض قصده. إذا: يثبت لها: أولا: الإرث؛ معاملة له بنقيض القصد. ثانيا: إذا ثبت الإرث ترتب عليه العدة، فلو كانت عدة الوفاة أطول من عدة الطلاق قدمت عدة الوفاة على عدة الطلاق وتعتد عدة الوفاة، وإن كانت عدة الطلاق أطول من عدة الوفاة اعتدت عدة الطلاق. يعني: تعتد أطول العدتين، وهذا قد تقدم معنا غير مرة، وهي من مسائل الاشتباه، ولذلك يحتاط لحق الله عز وجل؛ لأن العدة فيها معنى التعبد، ومن هنا يقال: إذا كان الأطول عدة الوفاة اعتدتها، وإن كان الأطول عدة الطلاق اعتدتها، فلو أنه توفي في آخر عدة الطلاق فالأطول عدة الوفاة، ولو كان العكس كأن يطول حيضها وطهرها فعدة الطلاق أطول، وحينئذ تقدم عدة الطلاق على عدة الوفاة. حالات تقديم عدة الطلاق على عدة الوفاة قال رحمه الله: [ما لم تكن أمة أو ذمية أو جاءت البينونة منها فلطلاق لا لغيره] . (ما لم تكن أمة أو ذمية)؛ لأن الأمة والذمية لا إرث لهما، فلو تزوج أمة وتوفرت فيه الشروط التي تقدمت معنا في نكاح الإماء، وطلقها قبل وفاته طلاقا بائنا فلا ترثه سواء طلقها أو لم يطلقها. وموانع الإرث واحدة من علل ثلاث -كما ذكرها صاحب الرحبية-: رق وقتل واختلاف دين فاعلم فليس الشك كاليقين من موانع الإرث: الرق؛ لأن الأمة لا تملك وليس لها يد بالملكية، وحينئذ مالها لسيدها، فلو قلنا بإرثها لكان الإرث للسيد، وبناء على ذلك تقول: لا ترثه إذا توفي، فإذا كانت لا ترثه إذا توفي فحينئذ إذا طلقها فلا تهمة عليه؛ لأنها لا ترث أصلا، ومن هنا فليس هناك موجب لإدخال عدة الوفاة عليها إذا طلقها طلاقا بائنا. (أو ذمية) الذمية: هي المرأة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويجوز للمسلم نكاح نسائهم في سائر الأعصار والدهور؛ لأن النص واضح وصريح ولا إشكال فيه، ولكن قد تستثنى بعض الحالات ويمنع من ذلك، كأن يؤدي به إلى أن يذهب إلى بلاد الكفر، أو أن ذريته ستؤخذ منه، فهذه مسائل مستثناة؛ لكن الأصل الشرعي الذي دل عليه نص الكتاب وأصول الشريعة: جواز نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، والسبب في هذا: الطمع في إسلامهن، وقد أحل الله الزواج من الكتابية ولم يحل نكاح الكتابي للمسلمة؛ لأن الرجل غالب للمرأة، فالغالب أن المرأة تتأثر به، وقد تسلم، وإذا لم تسلم على يد زوجها فقد تسلم على يد أولادها، ولكن إذا كان الزوج كافرا والمرأة مسلمة، فقد يكون الأمر بالعكس، فأحل الله النكاح للرجال ولم يحله للنساء، فإذا قيل: إن عندهم شركا، فالنصارى يعبدون المسيح، واليهود يقولون: عزير ابن الله. نقول: لقد نص الله عز وجل على هذا من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشرك موجود من أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يختلف فيه اثنان، ووصفهم الله بأنهم أشركوا وكفروا، ونص على ذلك في غير ما موضع من الكتاب، ومع ذلك أجاز نكاحهن. إذا: من حيث النصوص فلا إشكال في جواز نكاح الكتابية، لكن لا يفتى لكل شخص بجواز ذلك، فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، فلو أن شخصا سألك عن ذلك، وأنت تعرف حالته أنه ضعيف دين وإيمان، ويخشى عليه من زواج الكتابية، فهذا لا شك أن شرع الله عز وجل يمنعه؛ لأن الوسائل آخذة حكم مقاصدها، فالوسيلة إلى الكفر من أعظم المسائل في الشريعة الإسلامية تحريما، حتى إن الإمام العز بن عبد السلام وكذلك السيوطي وغيرهما من أئمة العلم لما قرروا في قواعد الفقه مسألة الوسائل ذكروا أن أعظمها إثما: ما أفضى إلى الشرك والكفر، فإذا كان نكاحه للكتابية يفضي إلى الكفر منع من ذلك، وتتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان وفي حق بعض الظروف والأشخاص، لكن أصول الشريعة دالة على جوازه. إذا: الشاهد: أنه لو تزوج امرأة من أهل الكتاب وطلقها وأبانها في مرض الوفاة فإنه لا يتهم؛ لأنها لا ترثه؛ لأن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر كما تقدم في موانع الإرث في بيت الرحبية: رق وقتل واختلاف دين فاعلم فليس الشك كاليقين فاختلاف الدين يمنع من الإرث، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- لما سئل عن منزله في حجة الوداع، قال عليه الصلاة والسلام: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) ؛ لأن قرابته ماتوا وهم على الشرك فلم يرثهم عليه الصلاة والسلام، وعقيل تأخر إسلامه فورث الكفار الذين ماتوا من قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، فباع الدور ثم أسلم رضي الله عنه، فجمع الله له بين الدين والدنيا؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع) ؛ لأن الكفر حال بينه عليه الصلاة والسلام وبين الإرث، فالمرأة إذا كانت كافرة فلا يرثها زوجها المسلم ولا ترثه؛ لأن المقصود من نكاحه لها هدايتها إلى الإسلام، فإذا مات عنها وهي على الكفر فقد فات المقصود، ومن هنا لا علاقة بينه وبينها، وتطليقه لها في مرض الموت ولو كان باتا موجب لخروجها من العصمة ولا تهمة فيه، وحينئذ لا تثبت عدة الوفاة بالنسبة لها. قال رحمه الله: [أو جاءت البينونة منها فلطلاق لا لغير] . أي: طلبت الطلاق وهذه كلها أمثلة لما تستبعد فيه الشبهة وتستبعد فيه القرينة على أنه يريد حرمانها، وصورة المسألة: امرأة اختصمت مع زوجها في مرض موته، فقالت له: طلقني ثلاثا، فلو كانت الطلقة الأخيرة فقالت: طلقني، فيفهم حينئذ أنها هي التي طلبت الطلاق وليس هو الذي ابتدأ الطلاق، فالتهمة حينئذ ضعيفة، والظن ضعيف، فإذا طلقها فلا إرث لها ولا تأثير في عدتها؛ لأنها صارت أجنبية بالطلقة الثالثة وليس هناك تهمة له بقصد حرمانها من الميراث؛ لأنها هي التي طلبت الطلاق، ولم تتوفر العلة التي أعمل الصحابة رضوان الله عليهم بسببها الإرث وحكموا بثبوته، فإذا طلبت وسألت الطلاق؛ فحينئذ يسقط حقها في الميراث. بالمناسبة: يجب التنبيه على هذه المسائل خاصة في هذا الزمان -نسأل الله السلامة والعافية- الذي كثر فيه تطليق الكبار في آخر أعمارهم لزوجاتهم، وهذا أمر يحتم على طلاب العلم نصيحة الناس وتذكيرهم بالله عز وجل، خاصة الأئمة والخطباء، فإن الرجل في آخر عمره قد تسيء إليه زوجته وتضايقه، وقد تكون الإساءة منها بسبب ضعفها وكبرها، فالإنسان إذا كبر ضعف وربما ساء خلقه؛ كما في قصة ثعلبة في قصة الظهار لما جاءت زوجته خولة تشتكيه وقد كان شديدا عليها، وظاهر منها وآذاها وأضر بها، ومع ذلك قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (استوصي بابن عمك خيرا) ، فالرجل إذا كان كبيرا في آخر عمره تسوء أخلاقه، والمرأة إذا كبرت تسوء أخلاقها أكثر؛ لأنها أضعف من الرجل، فمسألة الطلاق في آخر العمر يوصى الأئمة والخطباء والعلماء ومن له دور في توجيه الناس بتذكير الناس بالله عز وجل بحفظ العهد، فالمرأة تمكث مع زوجها خمسون سنة وهي أم لأطفاله وتقوم على حاله، وقد يكون في حال فقر وشدة فتكافح وتجاهد من أجله حتى إذا كان في آخر عمره يسرحها ويطلقها، وقد لا يوجد من يعولها، فهذا أمر في شدة الغرابة، وهو يجوز له أن يطلق لكن ليس هذا من الوفاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أولئك بخياركم) ، فيذكر الناس بالأخير، ويذكر الرجل بأنه قد صبر هذه المدة كلها أفلا يصبر القليل من عمره؟! وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن حفظ العهد من الإيمان، ومن حفظ العهد: أنه إذا أساء إليك من له حق ومن له سابقة أن لا تقابله بالإساءة، فهذا حاطب بن أبي بلتعة الصحابي الجليل رضي الله عنه، شهد بدرا ثم كتب كتابه إلى قريش يحذرها من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب من أخطر الكتب؛ لأنهم إذا أخذوا الحذر فسيقتلون المسلمين وسيحتاطون، ولربما كمنوا للمسلمين، وأخذوا المسلمين على غرة فتسيل الدماء وتزهق الأرواح، ومع ذلك لما أطلع الله رسوله على كتابه قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق) ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ؛ لأنه جاهد ووقف الموقف العظيم في يوم بدر وكان منه ما كان، ولكن الله جل وعلا من عظيم وفائه، حفظ له جهاده وسابقته في الإسلام: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وهذا من كرمه سبحانه وتعالى، وصدق الله إذ يقول: {ومن أوفى بعهده من الله} [التوبة:111] ، فلا أوفى من الله، حتى إن الرجل الصالح إذا مات وفى الله له في حياته وبعد موته. الشاهد: أن الله يحب الوفاء، وعدم الوفاء أمر عمت به البلوى، وكثرت فيه الشكوى، خاصة: تطليق النساء في آخر الأعمار، وأعظم ما يكون ذلك إذا كانت المرأة لا عائل لها وتتعرض إلى سؤال الناس، وأعرف بعض الحوادث التي تئن لها القلوب وتنجرح لها النفوس -نسأل الله العافية والسلامة- استولى عليه الشيطان وطلقها في آخر عمره فعاشت في شر عيشة، مع أنها كانت معه في فقر وشدة وكانت بعد الله سببا في صبره على كثير من الشدائد التي مر بها، فهذه أمور في الحقيقة يفضل أنه ينبه الناس عليها، خاصة في هذا الزمان الذي لا يجد فيه الزوج من يصبره، وإلى الله المشتكى والله المستعان. مسألة: إذا طلق بعض نسائه مبهمة أم معينة ثم أنسيها ومات قبل القرعة قال رحمه الله: [وإن طلق بعض نسائه مبهمة أو معينة ثم أنسيها ثم مات قبل قرعة اعتد كل منهن سوى حامل الأطول منهما] . (وإن طلق بعض نسائه مبهمة أو معينة) مبهمة: أي: لم يحدد. كأن يكون عنده ثلاث نساء فقال: واحدة منكن طالق، فالطلاق وقع، ولكن لا ندري أيتهن التي طلقها. كذلك أيضا (معينة) لو قال: فلانة من نسائي طالق، وقال هذا في خلوته أو بحضور شخص، فنسي هو والشخص الذي معه من التي طلقها. إذا أبهم الطلاق فقال: (إحداكن طالق) فقد تقدم معنا أنه يقرع بين النساء، فمن خرجت القرعة عليها فهي الطالق، وفي هذه الحالة إذا أجريت القرعة عرفنا من التي يقع عليها الطلاق، لكن الإشكال: إذا حصلت له الوفاة قبل أن يقرع، فحينئذ تكون القرعة محتملة لكل واحدة، فكل واحدة منهن يحتمل أن تكون هي التي تخرج عليها القرعة لو أجراها في حياته، ومن هنا تلزم جميع نسائه بالأطول من العدة، سواء كانت عدة الوفاة أو عدة الطلاق؛ لما تقدم معنا في مسألة التداخل. (أو معينة ثم أنسيها) القضية أن يكون هناك إبهام، إما إبهام في الأصل، أو إبهام طارئ، والإبهام الطارئ: أن يعين ثم ينسى. (ثم مات قبل قرعة) نفهم أنه لو مات بعد القرعة فلا إشكال، فالتي خرجت عليها القرعة هي التي يتعلق بها الطلاق، والباقيات نساء يرثن ويعتددن. (اعتد كل منهن -سوى حامل- الأطول منهما). سوى الحامل: فإنها تعتد عدة الوفاة أو عدة الحمل، والحامل بينا أنها تعتد بوضع جنينها؛ لأن ظاهر الكتاب والسنة دال على أن المرأة إذا كانت حاملا ووضعت حملها انتهت عدتها، لكن بالنسبة للمطلقة فإنه ينظر إلى الأطول في عدتها، سواء عدة الطلاق أو الوفاة، كأن تكون واحدة من زوجاته صغيرة، والصغيرة التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، وعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، فتعتد عدة الوفاة؛ لأنها تكون في حكم الزوجة، وفي هذه الحالة نحكم بأنها تعتد الأطول وهي عدة الوفاة، وأسقطنا الأقل وهي عدة الطلاق الثلاثة الأشهر، ولو كان حيضها يطول فيه الطهر بين الحيضتين بحيث تستنفذ مدة الوفاة وتربو عليها فحينئذ تعتد بعدة الطلاق، سوى الحامل بنص الكتاب والسنة على أنها تعتد لوضع حملها، فقال رحمه الله: (سوى حامل) وسوى من أدوات الاستثناء.
__________________
|
#622
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة اعتبار السقط في انقضاء العدة بعد التخلق السؤال هل السقط معتبر في انقضاء العدة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فقد تقدمت معنا هذه المسألة وبينا أن الحمل إذا كانت فيه صورة الخلقة فإنه يحكم به ويعتد، وإذا كان لا تخلق فيه فإن وجوده وعدمه على حد سواء، وتستأنف المعتدة عدة الوفاة إذا كان قد توفي عنها زوجها، وعدة الطلاق إذا كانت مطلقة. فإذا: لا بد من وجود صورة الخلقة، فإذا وجد فيه التخلق وكان ذلك بعد نفخ الروح فيه، فيأخذ حكم الحمل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا وجه اعتبار هذا النوع من الحمل موجبا للخروج من العدة، وأنه تسري عليه أحكام العبادات من كون الدم دم نفاس، والله تعالى أعلم. حكم العزاء بعد ثلاثة أيام السؤال جاء في الشرع أنه لا يجوز الإحداد فوق الثلاثة أيام إلا للمرأة المنكوحة المتوفى عنها زوجها فيجب عليها إتمام عدتها، فهل يدل هذا على جواز العزاء بعد الثلاثة أيام؟ الجواب ذكر بعض العلماء أنه لا يعزى إلا في الثلاث؛ لأنها أقرب شيء إلى المصيبة، ولذلك كانوا يشددون فيما زاد على الثلاث؛ لأنه تذكير بالمصيبة، والشريعة فرقت ما بين الثلاث وما بعد الثلاث، ومن هنا: كانوا لا يستحبون إذا تطاول الزمان أن يعزى الرجل؛ لأنه إذا تطاول الزمان وجاء يعزيه ذكره بالمصيبة، والمراد بالتعزية التثبيت عند المصيبة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) فالثلاثة الأيام هي القريبة من الصدمة الأولى، فهذا وجهها، فكانوا يعتدون بالثلاث، وظاهر السنة واضح في هذا: أنه جعل الحداد في ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة من الصدمة الأولى، وما بعد الثلاث -يقولون- يختلف: فإذا كان هناك تقارب في الزمن فيمكن أن يعزى فيه، كشخص كان غائبا مسافرا وقدم من سفره، أو تعذر عليه الوصول خلال الثلاثة أيام، أو لم يعلم الخبر إلا بعد أسبوع، ثم جاء يطيب خاطر أهل الميت، فهذا لا بأس به، لكن إن تفاحش الزمان وطال فإنه تجديد للحزن، وهذا خلاف المقصود من العزاء وهو إسكان النفس من ثورة الصدمة وضررها، والله تعالى أعلم. العدل بين الزوجات السؤال من فارق زوجته بأن تزوج عليها ثم مات، فهل تعتبر الزوجة الأولى في عصمته وتعتد؟ الجواب إذا (فارق) هذا فيه تفصيل، فإذا قصد بالفرقة الطلاق فلا إشكال أنها إذا خرجت من عدة الطلاق فهي أجنبية عنه، وأما ما يجري من بعض الناس -نسأل الله السلامة والعافية- إذا تزوج امرأة ثانية انقطع عن الأولى ولم يأتها، وربما لا ينفق عليها وهي في عصمته، فهذا ينطبق عليه الحديث الصحيح: (أن من تزوج امرأتين ولم يعدل بينهما أتى يوم القيامة وشقه مائل) ، إما مشلول -والعياذ بالله- عقوبة من الله له لجوره وظلمه، أو كما يقول بعض العلماء: شقه مائل. أي: كفة السيئات تميل بكفة الحسنات، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج) -يعني: عظيم الحرج والإثم- في حق الضعيفين المرأة واليتيم) كما في صحيح البخاري، وهذا يدل على أن ظلم المرأة إثم عظيم، والوزر المترتب على أذية النساء لمكان الضعف فيهن أعظم من أذية غيرهن، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي يوم القيامة وشقه مائل نسال الله السلامة والعافية. وذكر بعض أئمة الحديث في شرحه أن المراد به: أن سيئاته تربو على حسناته لسبب ظلمه لفراشه وأهله، ولذلك كما أن خيركم خيركم لأهله، فمهوم ذلك أن من أشر الناس من كان شريرا على أهله وزوجه، فإذا فارقها بهذا الشكل، وتوفي عنها فهي زوجته وترث منه ويرثها ولو ماتت، وعليها عدة الوفاة بإجماع العلماء، والله تعالى أعلم. حكم الوصية بالثلث للمطلقة السؤال إن طلق الرجل زوجته وأراد الإصلاح والإحسان إليها كأن يوصي لها بالثلث، فما حكم ذلك؟ الجواب إذا كانت المرأة لا ترث ووصى لها فجزاه الله خيرا، وهذا من حفظ المعروف، ومن البر، فإذا وصى لها بشيء من الميراث، فجبر كسرها وجبر خاطرها فهذا خير، والله تعالى يقول: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] ، ولذلك ليس هناك أكمل من شرع الله عز وجل، ولو تبجح الناس بحقوق المرأة فليس هناك على وجه الأرض أكمل ولا أتم من هذا الدين الذي وصى بالنساء وصية لا يمكن أن يعلى عليه، ولا يمكن لأحد أن يبلغ ما بلغه هذا الشرع الكريم، فإن الله تبارك وتعالى وصى بالنساء خيرا، وثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: ومن هنا إذا طلقت المرأة مع تفرقهما عن بعضهما، يقول الله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة:237] ، ثم يوصي بمتعة الطلاق فقال: {وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} [البقرة:236] ، وجعل الإحسان أعلى مراتب العبادة لله عز وجل، ثم قال: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة:241] ، والتقوى كلها خير، فلا يحفظ هذا العهد إلا المحسن المتقي؛ ولذلك جاء رجل إلى القاضي الفاضل الإمام أبي أمية شريح الكندي رحمه الله برحمته الواسعة وقد كان قاضيا لثلاثة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، جاءه رجل طلق امرأته فقال له: يا هذا! متع زوجتك متاعا حسنا، فقال الرجل: لا. فتلا عليه قول الله جل وعلا: {وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} [البقرة:236] ، فأبى الرجل، فتلا عليه قول الله جل وعلا: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} [البقرة:241] ، فأبى الرجل، ومضت الأيام، ثم بعد مدة جاء هذا الرجل ليشهد في قضية فأهانه شريح ورد شهادته، وقال له: لا والله لا أقبل شهادتك، إنك أبيت أن تكون من المحسنين، وأبيت أن تكون من المتقين فلا أرضى شهادتك؛ لأن الله يقول: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] ، فلما أبى أن يكون من أهل التقوى، وأبى أن يكون من أهل الإحسان اعتبرها شريح طعنا في شهادته، فأذله وأهانه؛ وإسقاط الشهادة أمر عظيم، ولذلك أسقط الله شهادة القاذف، وأئمة السلف كانوا لا يتساهلون في مثل هذه الأمور التي وصى بها كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل الذي وصى للمرأة من ميراثه صاحب كرم وفضل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والله تعالى أعلم. حكم بيع الجلود قبل دبغها السؤال هل يجوز بيع الجلد قبل الدباغ لشركات الدباغة؟ الجواب الجلد قبل الدباغ على وجهين: الوجه الأول: أن يكون جلد مذكاة، فجمهور العلماء على أن جلدها وأجزاءها كلها طاهرة بالذكاة. وأما بالنسبة للميتة التي ماتت حتف نفسها، فهل يطهر جلدها إذا دبغ أو لا يطهر؟ للعلماء رحمهم الله وجهان: أصحهما مذهب الجمهور: أن الأديم والجلد إذا دبغ طهر، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) ، وقوله في الصحيح: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ، وقال في الحديث الحسن: (دباغ الأديم ذكاته) فإذا كان جلد ميتة ودبغ ثم بيع فلا بأس ولا حرج، وإذا كان جلد مذكاة فبيع قبل الدباغ فلا بأس ولا حرج، وإن كان جلد ميتة وبيع قبل الدباغ فذلك لا يجوز؛ لأنه في حكم الميتة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خطب في الغد من يوم الفتح فقال: إن الله ورسوله حرم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام) ، فهذا يدل على أن الميتة بجميع أجزائها التي تقبل الحياة لا يجوز بيعها، وبناء على ذلك: فكما أنه لا يجوز بيع الميتة كلها فلا يجوز بيع أجزائها التي تقبل الحياة، فإذا دبغ جلدها صار طاهرا؛ لأن العلة في هذه الأربع النجاسات كما في حديث جابر بن عبد الله: إما معنوية أو حسية أو جامعة للحس والمعنى، ولذلك يقول العلماء -وممن ذكر هذا ابن رشد في بداية المجتهد -والأصل تحريم بيع الأعيان النجسة لحديث جابر بن عبد الله، فالنجاسة الأصل في تحريم بيعها حديث جابر بن عبد الله هذا، فإن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر نجاسة في حيوان حي، ونجاسة في حيوان ميت، وذكر نجاسة الجامد والماء، وهذا لأجل أن يكون الحديث أصلا لغيره فيقاس عليه غيره؛ لأن الشيء إما من الحيوانات وإما من غير الحيوانات، وغير الحيوانات إما جامد أو مائع، والحيوان إما حي أو ميت، فدل هذا على صحة القياس، وأن المقصود أن يلحق بهذه الأشياء غيرها، وبناء على ذلك: فلو باع جلد الميتة قبل الدباغ، فإنه قد باع نجسا، والنجاسات لا يجوز بيعها في قول جماهير السلف والخلف، فلا يحل مالها ولا يحل أكل ثمنها، ولذلك حرم بيع الكلب وهو نجس، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثمن الكلب سحت) ، وقد قال في حديث عبد الله بن المغفل في الصحيح: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات وعفروه ... ) ، الحديث، فنبه على نجاسته فإذا ثبت هذا فالبيع هذا فيه هذا التفصيل، وأما إذا كانت ميتة ودبغ جلدها فالحنابلة يقولون بنجاسته ولو دبغ ويستدلون بحديث عبد الله بن عكيم عن أشياخ بني جهينة أنهم أتاهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر أو شهرين: (أن لا تنتفعوا من الميتة بيهاب ولا عصب) ، وهذا حديث ضعيف وهو مضطرب إسنادا ومتنا؛ ولذلك لا يعارض، ولو قيل بتحسينه، فإنه لا يقوى على معارضة ما في الصحيح، وبناء على ذلك فإننا نقول: إن جلد الميتة إذا دبغ حل بيعه؛ لأنه صار طاهرا، وإذا لم يدبغ بقي على الأصل، فهو نجس والنجاسة لا يجوز بيعها ولا شراؤها. والله تعالى أعلم. حكم بيع المنابذة السؤال إذا كان المشتري يجهل أوصاف السلعة فنبذ البائع على المشتري هذه السلعة دون أن يطلبها أو ينظر إليها. فهل هذه الصورة جائزة؟ الجواب إذا نبذ الشيء المبيع ومن يشتريه يعرف صفاته؛ فإنه يصح شراؤه؛ لأن المحرم بيع المجهول، والجهالة نوع من الغرر، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن بيع الغرر) ، فكل بيع لمجهول في صفته، أو قدره، أو وجوده، أو سلامته، أو بقائه لا يصح. المجهول في قدره: كبيع الحصاة، يقول له: أبيعك ما انتهت إليه الحصاة، فهذا مجهول القدر، أو تقول: أبيعك هذه الدار بدنانير، فالدنانير مجهول قدرها، وكذا لا يصح مجهول الصفة كأن تقول: أبيعك سيارة بعشرة آلاف، فلا يصح حتى تبين نوع السيارة وصفاتها، أو تقول: أبيعك بيتا بمائة ألف، فلا يصح حتى تبين صفة البيت ومكانه بما يندفع به الغرر. أما المجهول في الوجود -هل هو موجود أو غير موجود- كأن يبيع ما في بطن الشاة أو ما في بطن الناقة كما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حبل الحبلة) ، فإننا لا ندري هل هذا الذي في بطنها نفخ أو جنين، ثم هو مجهول السلامة فلا ندري هل هو حي أو ميت، وهو مجهول الصفة -أيضا- لأنه بعد خروجه من بطن أمه لا ندري أهو كامل الخلقة أو ناقص الخلقة، فكل هذه البيوعات حرمها الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، لمكان الغرر وجهالة؛ ولذلك حرم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عن الجميع-: (بيع الثمر قبل بدو صلاحه) ، لأنه مجهول السلامة. وقال -كما في الصحيح من حديث أنس - (أرأيت: لو منع الله الثمرة على أخيك فبم تستحل أكل ماله) ، فالثمرة قبل بدو صلاحها معرضة للتلف، ولكن إذا بدا صلاحها فالغالب السلامة كما تقدم معنا في كتاب البيوع، فهذا النوع من البيوعات حرمه الله ورسوله لمكان الغرر، فإذا قال له: أبيعك سيارة، وهو يعلم سيارته ويعرفها، وليس عنده سيارة غير هذه السيارة التي يعرفها بصفاتها جاز، أو يقول: أبيعك مزرعتي وهو يعرف مزرعته، أو أبيعك عمارتي وليس عنده إلا هذه العمارة، ولم يصفها له وكان المشتري على علم بها، جاز، وبناء على ذلك فيصح البيع بشرط: أن لا تكون السلعة قد اختلف حالها بعد العلم، فإن اختلف شيء من حالها بعد العلم كان له الخيار، وعلى كل حال: فمعول القضية ومدارها يدور حول زوال الجهالة والغرر، فإن كان يعلم فقد زال الغرر من جهة الجهالة ويصح البيع، والله تعالى أعلم. حكم الضفائر من الخيوط التي توصل بالشعر السؤال ما حكم ضفائر النساء التي تعمل من الخيط وتضفر مع الشعر ومن يراها يعرف أنها خيط وليست شعرا، علما أن الخيط الذي يضفر له عدة ألوان؟ الجواب هذا من الوصل الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعله، ومن فعل به ذلك، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) ، والسبب في ذلك: أنه لا يجوز تغيير خلقة الله، ومن خلقة الله أن المرأة إذا كان شعرها قليلا يترك كما هو ولا يوصل، ولذلك لما جاءت المرأة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن شعر ابنتها قليل؛ فقالت له: أفأصله؟ فلعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة، مع أن عندها عذرا، وهذا النوع من الفعل سواء كان الخيط على لون الشعر أو على غير لون الشعر، لا يجوز. وينبغي على المسلمة أن تجتنب هذا الأمر وأن تنصح من ترى من النساء يفعلن هذا، ففيه اللعنة، ومن لعنه رسول صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، واللعن أمره عظيم، فعلى المرأة أن تتجنب ذلك، والسبب في هذا -كما ذكر العلماء- أنه راجع إلى الاعتقاد؛ لأن الواجب على المسلم إذا أعطي خلقة أن يرضى بها، سواء في شعره أو في جسده، أو في طوله، أو في قصره، يجب عليه أن يرضى بذلك، فإذا لم يرض بقسمة الله عز وجل جاء اللعن من هذا الوجه؛ ولذلك كان الوعيد شديدا والعقوبة أليمة؛ لأنه متعلق بالعقيدة؛ وليست القضية في فعلها؛ إنما الأمر في الاعتقاد، وقد يقول قائل: لماذا ضيق في هذا الأمر؟ فنقول: لما فيه من عظيم الحكمة، فإن المرأة إذا دخلت على النساء وشعرها قصير، رأتها المرأة ذات الشعر الطويل فحمدت نعمة الله عليها وعرفت فضل الله عليها، فصار أجرا للمبتلاة وذكرا لغير المبتلاة، وكذلك في الخلقة -مثلا- لو كان أعمى، وكانت عينه عوراء -مثلا- فتترك على خلقتها، ولا يستخدم العدسات أو الأشياء التي تركب حتى تظهر العين بصورة جميلة وكأنها عين مبصر، فهذا كله من تغيير الخلقة بل تترك كما هي؛ لأن هذا هو الأصل، ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم -نسأل الله السلامة العافية- المغيرات لخلق الله. وجعل اللعن في النساء؛ لأنهن أحوج وأشد حاجة من الرجال، فتترك الخلقة كما هي في صورة الجلود وصورة الأعضاء والشعر، ويرضى بقسمة الله عز وجل، فذلك أتقى لله وأعظم أجرا للعبد عند سيده ومولاه، والله تعالى أعلم. حكم أخذ أنقاض البيوت التي تهدم مقابل التعويض السؤال إذا أعطيت بدل بيتي بيتا آخر فهل يجوز أن آخذ الأخشاب التي في البيت مع العلم أن الجهة التي تقوم بهدم البيت لا تهتم بمثل تلك الأنقاض؟ الجواب بالنسبة لأنقاض البيوت التي تهدم، إذا كانت ملكا لبيت مال المسلمين فلا يجوز استحلالها إلا بوجه شرعي، ولا يملكها أحد؛ لأنها لبيت مال المسلمين، والأصل يوجب أن تباع ثم توضع في بيت مال المسلمين، وأما إذا كان الذي اشترى منك البيت وهدمه غني وثري ولا يريد هذه الأشياء، وأذن للناس أن يأخذوها، فلا بأس أن تأخذها أنت وغيرك فيها على حد سواء، والحق لمن سبق أو من خصص له المشتري أن يأخذ ذلك الشيء، وبناء على ذلك يفصل في هذه المسألة فنقول: لا بد من وجود الإذن الشرعي أو الإذن من المالك، وإذا وجد الإذن جاز للغير أن يأخذها، وأنت من الغير فلا بأس أن تأخذها ولا حرج عليك، والله تعالى أعلم. حكم الدم الخارج من المرأة قبل الولادة بيوم أو يومين السؤال ما هي أحكام الدم الذي يخرج من المرأة الحامل قبل الولادة بيوم أو يومين، وهل تصلي إذا تأخرت الولادة؟ الجواب الدم إذا سبق الولادة بيوم فإنه من دم النفاس، لأن النفاس قد يسبق الولادة، وقد تأتي المرأة عند نفاسها فيخرج الدم أولا ثم يخرج الولد، وقد يخرج الولد ثم يخرج الدم من بعده على الصورة الغالبة، فإذا سبق الدم بزمن يسير فإنه دم نفاس، ولذلك يأخذ حكم دم النفاس، وإذا صامت ذلك اليوم لزمها قضاؤه ولا تلزمها الصلاة فيه، فيسري عليها ما يسري على المرأة النفساء، أما إذا تفاحش وسبق الولادة بأسبوع أو بعشرة أيام -مثلا- فهذا دم استحاضة؛ لأن الحامل لا تحيض على أصح قولي العلماء، رحمهم الله، وبناء على ذلك: فإنه إذا سبق على هذا الوجه تأكدنا أنه استحاضة ويكون حكمها حكم الطاهرة فتصلي وتصوم، والله تعالى أعلم. الجمع بين النهي عن ذكر مساوئ الميت وحديث ثناء الناس على الجنازة شرا السؤال كيف نوفق بين أمر النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم بالكف عن ذكر مساوئ الميت وبين ثناء الناس على الميت شرا وقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (وجبت) . الجواب كلا الأمرين والحديثين ثابت عن رسول الله صلى الله عليه سلم، فقد أمر بالكف عن مساوئ الموتى وذكر محاسنهم، وكذلك سمع صلى الله عليه وسلم من أثنى على الميت شرا، والجواب -فيما يظهر والله أعلم- أن الثناء على الميت بالشر راجع إلى جهة المظلمة مثلا: شخص مظلوم تكلم -مثل ما جاء في الحديث أنهم أثنوا عليه شرا -فيجوز للشخص إذا كان مظلوما أن يقول: هذا الظالم، هذا الذي أكل مالي، هذا الذي فعل كذا وكذا، مما فعل معه من الإساءة، فإذا قال ذلك على سبيل التظلم فهو مما استثني شرعا: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء:148] ، فالمظلوم من حقه أن يتظلم، ومن حقه أن يبين مظلمته فهو متضرر ولا حرج ولا عذل عليه إذا حكى ما وقع له من الظلم، فإن قالوا له: مات فلان، وقال: الذي فعل بي وفعل، فهذه أشياء تحدث في الجنائز، وتحدث عند سماع خبر الوفاة، وهذا هو الذي وقع في حديث عمر: أنه مر بجنازة فأثني عليها شرا أي: لما مروا قالوا: هذه جنازة فلان، فقال فلان: هذا الذي فعل، وهذا الذي فعل، وهذا الذي فعل -هذا بالنسبة لحقوق الآدميين- فإن كان الثناء الذي في حديث عمر رضي الله عنه بالشر على الجنازة في حقوق الآدميين فلا إشكال؛ لأنها مظالم وتحكى، فصاحبها متظلم ويحكيها كما يحكيها في حياته وفي وجهه، وأما بالنسبة لو كانت تلك المظالم مظالم فيما بينه وبين الله، فيفرق بين الاتفاق والقصد، فإنه لما مر بالجنازة اتفق الحال فقالوا: هذا فلان فأثنوا بالشر اتفاقا لا قصدا، وأما بالنسبة لذكر مساوئ الموتى وتتبع عثراتهم، والاشتغال بها والتكلف في ذكرها فلا. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفوا عن مساوئ موتاكم واذكروا محاسنهم) ، وما وقع من الصحابة يحتمل أنه قبل أمره عليه الصلاة والسلام بالكف عن مساوئ الموتى، ويحتمل أن يكون بعد الأمر، ويكون الصحابي لم يبلغه، وقوله عليه الصلاة والسلام (وجبت) حكم مترتب على الثناء بغض النظر عن كونه يجوز أو لا يجوز. والله تعالى أعلم. حكم الإشهاد على الدين السؤال هل يجب الإشهاد على الدين، وهل يجب تحديد مدة الدين كسنة أو سنتين؟ الجواب الإشهاد على الدين ليس واجبا على إطلاقه، فإذا استدان الشخص من أخيه المسلم فالأصل يقتضي أن تكتب هذه الديون وتحفظ، فإذا حفظت بالشهادة أو بالكتابة فلا إشكال، أو يكتب في وصيته: أن لفلان علي كذا وكذا، فإذا حدثت هذه الأشياء أغنت، والشهادة ليست بشرط، فلو كتب في وصيته أجزأ، لكن إذا كان الدين ليس له توثيق لا بكتابة ولا بوصية، وليس هناك ما يدل على ثبوته، كأن يعطي أحدهما الآخر -مثلا- مائة ألف ريال أو عشرة آلاف ريال في معاملة بينهما، فحينئذ يجب الإشهاد على الدين؛ لأن قضاء الحقوق واجب، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر برد الحقوق، ولا وسيلة لقضاء الحق إلا بالشهادة، وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب، ومن هنا: إذا كان الذي استدان لا يحفظ الدين الذي عليه إلا بالشهادة فالشهادة واجبة. إذا: التفصيل في الشهادة كالتفصيل في الوصية، فمن كانت عليه حقوق وأعطى أصحابها ما يوثق هذه الحقوق فالوصية في حقه مستحبة، وأما إذا كانت الحقوق التي أخذها من الناس لم يشهد عليها وليس هناك ما يثبتها فيجب عليه أن يكتبها في وصيته؛ لحديث ابن عمر في الصحيح: (ما حق امرئ مسلم يبيت وله شيء يريد أن يوصي فيه فيبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) ، فدل على وجوب توثيق الحقوق والاحتياط فيها، والخلاصة: أن الدين إذا كان محفوظا كأن يكتب ويسجل في سجلات أو يضبط بكتابة بينهما، أو يوثق بأي وجه فالشهادة فيه غير لازمة، وأما إذا كان غير موثق، وإذا مات أحد الطرفين لم يستطع توثيقه فإنه حينئذ يجب توثيقه ويلزم، والواجب على المسلم أن يحتاط في ذلك: وأن يحتاط في حقوق الناس، وأن يعلم أنه إذا توفي مديونا فإن نفسه مرهونة بهذا الدين، فعليه أن يسعى في حفظ حقوق الناس، وعدم إضاعتها حتى لا يرهن بتلك الحقوق، والله تعالى أعلم. حكم من جاوز الميقات في الحج دون أن يحرم لعدم علمه السؤال شخص ركب الطائرة يريد الحج أو العمرة فلما حاذت الطائرة الميقات وأعلن عن ذلك لم يفهم لغة من أعلن حتى جاوز الميقات، فماذا يجب عليه، علما أنه جاء إلى المدينة، وهل يحرم من ذي الحليفة؟ الجواب إذا جاوز الميقات فإنه يجب عليه أن يرجع إلى ذلك الميقات، ويجوز أن يرجع إلى أبعد منه أو إلى مثله، فلو كان من أهل الرياض -مثلا- وجاوز ميقات السيل ونزل بجدة جاز له أن يحرم من رابغ؛ لأنها أبعد من السيل، ويجوز له أن يحرم من يلملم؛ لأنها مثل ميقات السيل، فكلاهما على مرحلتين من مكة، وإذا رجع إلى المدينة -يعني: نزل إلى جدة ثم سافر إلى المدينة- فحينئذ لا إشكال؛ لأنه انتقل من الميقات الأدنى إلى الميقات الأبعد، ويلزمه الإحرام من المدينة وجها واحد؛ لأنه قد مر على ميقات المدينة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الميقات لأهله ولمن مر عليه من غير أهله، فلو أنه أحرم في الأول لانعقد إحرامه من ميقات بلده، ولكنه لما ترك الإحرام ونزل إلى المدينة لزمه الميقات الأبعد فيحرم من ميقات المدينة، والله تعالى أعلم. ضوابط في نقل الفتوى وأقوال العلماء الجواب هذه المسألة (مسألة التقليد في الفتوى) والعلماء رحمهم الله قد اختلفوا في هذه المسألة، لكن عند من يقول بجواز نقل فتوى العالم يشترط شروطا، منها: أولا: أن يكون طالب العلم على مستوى من الفهم والضبط للفتوى التي سمعها وللسؤال الذي ورد عليه. ثانيا: لابد وأن تكون الفتوى مطابقة ومماثلة للفتوى المسئول عنها، فإذا كان لا بد من المماثلة والمطابقة من حيث المضمون فإنه يستلزم الأهلية عند طالب العلم، ومن هنا لا ينبغي للإنسان أن يأتي ويقرأ الفتاوى على الناس في المسجد دون أن يكون عنده علم وإدراك، فالناس تسمع هذا الفتاوى وتطبقها كيف شاءت، ومقام الفتوى شدد فيه العلماء؛ لأن الفتوى علم له أهله، وليس كل من نصبته الناس وجاءت تسأله في مسجده وفي سوقه وفي عمله أهل للفتوى أبدا. الفتوى مسئولية عظيمة، ولذلك يوصف العالم بأنه موقع عن رب العالمين، وليس هناك مقام بعد مقام النبوة أعظم من مقام العلم الذي منه الفتوى، فهذا المقام العظيم يشترط في صاحبه أن تتوفر فيه الأهلية، فإذا أراد أن ينقل الفتاوى وأن يكون من طلاب العلم المنشغلين بنقل الفتاوى فلا بد وأن يدرس الأمور المهمة التي ينبغي توفرها في الشخص الذي يتولى نقل فتاوى العلماء، فيحتاج إلى قوة في الذكاء، وقوة في فهم أسئلة الناس والمراد من السؤال، وما وراء السؤال من المقصود، ويستطيع أن يفهم العبارات التي تستخدم في السؤال والكلمات، ومدلول الكلمات، فهذا أمر لا بد من العناية به، مما يحتم على طلاب العلم أن يكونوا على قرب من أهل العلم ليجمعوا بين العلوم النظرية والتطبيق، ولا يكفي أن يكون الطالب مع العالم يسمع فتواه؛ فإنه قد يسمع الفتاوى مختلفة فيحدث عنده التباس وقد يظن أن الشخص تناقض، ولكن الواقع أن الشيخ راعى حال السائل، وقد كنا نجد بعض مشائخنا رحمة الله عليهم في بعض الأحيان أضيق ما يكونون حالا، وفي بعض الأحيان أشرح ما يكونون صدرا، ويسألهم السائل فتجدهم يعطونه الجواب ويفصل، ويبينون له القضية، ثم تجدهم مع شخص آخر يضيقون عليه، وقد كنت مع الوالد رحمة الله عليه أسأله بعض الأحيان عن ذلك، لماذا هل فلان يضيق عليك؟ فيقول: يا بني! لأجل تعلم -ولا يجوز لي أن أغتاب الناس- لكني ألاحظ عليه وأعرف أنه صاحب فتنة، ومنهم من يقول لي: هذا ينقل بين المشايخ ويوقع ويغرب على هذا ويضرب العلماء بعضهم ببعض، وأشد ما تكون النميمة وأسوأ ما تكون بين العلماء، فكان العلماء رحمة الله عليهم لهم فراسة ومعرفة، وكان الوالد بعض الأحيان يقول لي: هذا رجل عجل لا يصلح للعلم فأنا أخشى أن مثل هذا يقلد هذا الشيء فيضر بالمسلمين، وللعلماء نظرات في بعض الأشياء والتصرفات، وبعض الأحيان كنت أجد الوالد ضيقا فأنظر في حاله فيكون مريضا، وفي حال المرض بعض الأحيان أجد عنده نوعا من توطئة الكنف واللين، وبعض الأحيان أجده شديدا ضيقا فيكون مرضه سبب شدته وضيقه خاصة في آخر عمره رحمة الله عليه عندما كان يتعاطى بعض الأدوية فتتغير طباعه ويضيق فأتعجب من بعض الفتاوى التي كنت أسمعها بالأمس وأسمعها اليوم، فأعرف أن حاله لا يسمح، ولو كنت طالب علم مبتدئا وجئت وسمعت فتواه في آخر عمره التبس عليك الأمر، لكني أعرف ما الذي يقصده وما الذي يريده، لذلك يحتاج بعض العلماء أن يكون طالب العلم على دراية بأحوالهم، هذا إذا كان يريد أن يصل إلى درجات الكمال، والله يحب من عبده أن يتقن، وأولى ما يكون فيه الإتقان وأفضل ما يكون في العلم وفي الدين والشرع؛ ولذلك تجد طلاب العلم الذين يصحبون العلماء بدقة وأمانة وتحفظ ورعاية لا يلبث إلا أن يفتح الله عليهم حتى يوفقون ويسددون ويعانون وينصرون من الله عز وجل، وكنت والله -حتى بعض المشايخ ومنهم الوالد رحمة الله عليهم- أسمع بعض الفتاوى وأستغرب منها، ولكن لما أجلس معه وأسأله وأراجعه أجد عنده من الأعذار ما لو لم اطلع عليه لم أعذره، لكن حينما بلينا بما بلوا به وتحملنا اليسير مما تحملوه -والله المستعان- أصبحنا نلوم أنفسنا على ما وجدنا في أنفسنا؛ ولذلك الفتاوى علم خاص، لا يصلح له كل أحد، وليس كل واحد يصلح لنقل فتاوى العلماء، والواجب أن ننصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نتقي الله في هذه الأمة، فلا يقلد الفتوى كل من هب ودب، ولا ينقل الفتوى كل من هب ودب. وهنا نقطة أحب أن أنبه إليها: ليس من الحكمة والمصلحة أن تنقل الفتوى، مثلا: بعض الناس يكون غنيا ثريا متكبرا، عنده أنفة، لا يرجع إلى العلماء، ولا يريد أن يسأل أهل العلم، فمثل هذا تزجره، ولا تكن عونا له على الكبرياء، بل تقول له: اذهب واسأل، وتهينه؛ لأنه يتعالى على العلم، فإذا نقلت الفتوى فأنت تعينه على الكبر، فلو أنه أراد أن يبني عمارة وأن يشتغل في تجارة لذهب إلى المستشارين والمهندسين وأهل الشأن في محلاتهم، ولكن للدين لا: {ما قدروا الله حق قدره} [الحج:74] ، والله غني عنه، فالله ليس بحاجة إلى أحد: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج:37] ، وأهل العلم في غناء عن الخلق، وليس هناك أحد أغنى بالله عز وجل بعد الأنبياء من أهل العلم، ومن ظن أنهم بحاجة إلى أحد، فوالله إنه مخطئ، ولا يعرف قدرهم ومنزلتهم، ولا يعرف العلم الذي قذفه الله في قلوبهم. إذا: لا تنقل الفتوى لأمثال هؤلاء المتكبرين -وبعض الأخيار يعين أمثال هؤلاء- وأنت لما تقول له: اذهب للعالم واسأله، فقد يأتي مجلسا من مجالس العلم وتتغير حياته كلها. ومن ذلك ما حدث لرجل كان ثريا غنيا لا يعرف العلماء ولم يعاشرهم فابتلي بقضية احتاج فيها إلى أهل العلم، فطلب أحد الأخيار وجاءه وجلس معه وحضرت الصلاة فقال له: قم نصلي، فقال: كيف؟ هذه حسابات، فقال له: قم نصلي، الآن وقت الصلاة ويجب أن نصلي، قال: -نسأل الله العافية- لما ذهبنا لنتوضأ إذا بالرجل لا يحسن الوضوء، فلما توضأ جاء وصلى صلاة المغرب في المسجد وبعد الصلاة قال له: نقوم! وإذا بالرجل جالس يذكر الله، قال: فلما أطال تركته فأطال -ولا أدري هل قال له: نقوم أو لا- فإذا بالرجل جالس مستأنس، قد وجد راحة نفسية ما حلم بها في حياته كلها، وانتظر إلى أن صلى العشاء ثم ما زال جالسا وقال: شعرت بسعادة ما شعرت بها من قبل. هذا متى؟ لما احتك بأهل العلم، ولما احتك بمن يتقي الله عز وجل، فقد يأتي إنسان من الأثرياء يتأدب في المجلس هذا، وقد يؤثر احتكاكه بأهل العلم في دينه وخلقه، وقد تكون فاتحة لاتصاله بالعلماء. إذا: نقل الفتاوى له سلبيات ووراءه تبعات. وأذكر أن بعض مشايخنا كان يقول للسائل: اذهب وقل لصاحب السؤال أن يأتي، وما يفتيه، وبعض الأحيان الفتاوى لا بد فيها من حضور الشخص بنفسه، فنقل الفتاوى لا يكفي، وينبغي على الإنسان دائما أن يضبط العلم وأن يتحرى فيه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#623
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (470) صـــــ(1) إلى صــ(27) شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [4] من أنواع المعتدات من يجري معها الحيض، ومنهن من لا يجري معها الحيض إما لصغر أو لكبر، وكل واحدة منهن لها حكمها الخاص وتفصيلاتها عند العلماء رحمهم الله في كتبهم. عدة الحائل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [الثالثة: الحائل ذات الأقراء] . شرع المصنف رحمه الله في بيان عدة المرأة التي تحيض؛ لأن الله تبارك وتعالى قسم المعتدات إلى أقسام، كما بين المصنف رحمه الله، ومن هذه الأقسام التي ذكرها الله سبحانه وتعالى: ذوات الأقراء، فقال تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] ، واختلف العلماء رحمهم الله في هذه الآية الكريمة: هل المراد بالقرء: الحيض، أو المراد بالقرء: الطهر؟ وقد تقدم معنا في كتاب الطهارة أن المرأة تحيض، ويجري معها الدم أياما معدودة ثم ينقطع، ثم يعاودها بعد ذلك في الحيضة الثانية، فما بين الحيضة الأولى والحيضة الثانية طهر، فهل مراد الله عز وجل في هذه الآية الكريمة أن تكون العدة ثلاثة أطهار، بمعنى: أن تمر عليها ثلاثة أطهار متتابعة يحتسب فيها طهر الطلاق؟ فالسنة في الطلاق إذا طلق الرجل زوجته أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن ابن عمر: (مره فليراجعها وليطلقها حائلا أو حاملا) . فالحائل: هي المرأة التي لا حمل فيها، وتكون حائضا وتكون طاهرا، فهل المراد: أن يمر عليها ثلاثة أطهار: الطهر الأول الذي طلقت فيه، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثاني، ثم تحيض، ثم تطهر الطهر الثالث؟ ففي هذه الحالة ثلاثة أطهار، وإذا طهرت ثلاثة أطهار خرجت من عدتها، أو المراد أن تحيض ثلاث حيضات، فإذا طلقها في الطهر انتظر حتى تأتيها الحيضة الأولى بعد الطهر، فتحتسب الحيضة الأولى ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثانية ثم تطهر، ثم تحيض الحيضة الثالثة؟ فهذه ثلاث حيضات. المراد بالقرء واختلاف العلماء فيه اختلف العلماء رحمهم الله في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] هل المراد بالقرء الطهر أو الحيض على قولين مشهورين عن الصحابة والتابعين، وأئمة العلم رحمة الله عليهم أجمعين: القول الأول: أن المراد بالقرء الطهر وحينئذ تعتد ثلاثة أطهار، وهذا القول قالت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكذلك قال به إمام التفسير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه شيخ ابن عباس، وكذلك قال به عبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع. وممن قال بهذا القول بعض أئمة التابعين كـ سالم بن عبد الله بن عمر، والإمام الزهري وعمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد، وهو مذهب المالكية والشافعية رحمة الله على الجميع، فهؤلاء الأئمة من أئمة الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المذاهب الأربعة يقولون: تعتد ثلاثة أطهار. القول الثاني: أن المراد بالقرء الحيض وهذا القول أثر عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وقال به بعض تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما، ويحكى أيضا عن ابن عباس، وهو مذهب الحنابلة والحنفية، وأهل الرأي من فقهاء الكوفة وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين، وهو الذي اختاره المصنف؛ لأن المذهب عليه. أدلة من قال إن المراد بالقرء الطهر واستدل الذين قالوا: إن المراد بالقرء: الطهر في الآية الكريمة بدليل من الآية نفسها؛ وذلك أن الله تعالى قال: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] ، والعرب تقول: (ثلاثة أطهار) ولا تقول: (ثلاثة حيضات) لأن العدد (ثلاثة) تذكره إذا كان المعدود مؤنثا، وتؤنثه إذا كان المعدود مذكرا، فدل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار. ثانيا: أن لسان العرب في مادة: (قرء) يطلق بمعنى: الاجتماع، ومن هنا فالدم يجتمع في الطهر وينفجر في الحيض، فيكون إطلاق القرء على الحيض؛ لأنه يجتمع فيه الدم، ولذلك يقال: مقراة، لمكان اجتماع الماء عند البئر، قال امرؤ القيس: فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل فقالوا: (القرء) للاجتماع، ومنه سميت القرية؛ لاجتماع أهلها فيها، فإذا كان مادة: القرء أصلها للاجتماع فإن الدم يجتمع في الطهر ولا يجتمع في الحيض؛ لأنه في الحيض ينفجر ويخرج، فيكون في الآية قرينة على أن المراد بالقرء: الطهر. كذلك أيضا استدلوا بقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أن المراد بها (في عدتهن) فاللام في قوله: (لعدتهن) أي: (في عدتهن) ، وبناء على ذلك: فقد دلت الآية على أن الطلاق يكون عند ابتداء العدة، والعدة تكون من الطلاق كما جاء في آية البقرة، ولا يمكن أن يقع الطلاق على الوجه المشروع إلا إذا كان في الطهر لا في الحيض، فيكون قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق:1] أي: في عدتهن عند الاستقبال؛ لقوله في الصحيح: (وليطلقها لقبل عدتها) يعني: عند استقبالها للعدة، فإذا وصف الله عز وجل الطهر بأنه بداية العدة دل على أنه هو الذي يحتسب به في العدة، وهذا من أقوى الأدلة، ولذلك (اللام) بمعنى (في) ، كما قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} [الأنبياء:47] ، أي: في يوم القيامة، (فاللام) تطلق بمعنى (في) في لسان العرب. وقالوا: إن هذا يدل على أن المراد بالقرء في الآية الكريمة: الطهر. وأما الذين قالوا: إن المراد به: الحيض قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، وقالوا: عندنا دليلان: دليل من اللسان الشرعي وهي الإطلاقات الشرعية، وعندنا أيضا دليل من حيث الاستعمال اللغوي، فمثلما أن الأولين عندهم الدليلان كذلك نحن عندنا الدليلان من هذين الوجهين. قالوا: إن الله تعالى يقول: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] ، والمرأة إذا اعتدت بالحيض تمت لها ثلاث حيضات كاملة، ولكنها إذا اعتدت بالطهر سيكون عندها الطهر الثالث ناقصا؛ لأنها إذا طلقت في الطهر الأول فإنه يحتسب من العدة، وحينئذ يكون الطهر ناقصا، فمعناه أنهما طهران كاملان وشيء، والله عز وجل يقول: (ثلاثة) ، والثلاثة لا تكون تامة كاملة إلا بالحيض لا بالطهر، هذا من جهة قوله: (ثلاثة قروء) . ثانيا: من جهة السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقرائك) كما في الصحيح، وقوله: (أيام أقرائك) يعني: أيام حيضك، فدل على أن المراد بالقرء في القرآن: الحيض. هذا في الحقيقة مجمل ما ذكر، وهناك استدلالات أخر لكن هذه أقوى الوجوه، والحقيقة أن القول الأول القائل بأن المراد بالقرء: الطهر، أقوى وأرجح، وذلك لأن ثلاثة أطهار، واضح الدلالة من جهة المعدود. وأما استدلال من قال: المراد به: الحيض، بأن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق القرء على الحيض فهذا محل إجماع بين العلماء، والقرء يستعمل في الحيض ويستعمل في الطهر، فإذا كان يستعمل في الحيض والطهر فلا مانع أن تكون الآية وردت باستعماله في الطهر ووردت السنة لاستعماله في الحيض؛ لأن حديث: (دعي الصلاة أيام أقرائك) متعلق بالقرء في باب الطهارة، ونحن في باب المعاملة وهي الزوجية، وهناك فرق بين أحكام الحيض في العبادة وأحكام الحيض في المعاملة، فلا مانع أن يطلق على الحيض: قرءا؛ لأن العبادة تمتنع في حال الحيض، ولكن العدة لا تمتنع في حال الحيض، ومن هنا كان إطلاقه عليه الصلاة والسلام لهذا اللفظ منتزعا من الأصل اللغوي بأن القرء يطلق على الحيض والطهر، وهذا لا نجادل فيه، وإنما نريد قرائن تدل على قوة إرادة هذا أو هذا، فلما جاء المعدود مذكرا دل على أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) أي: ثلاثة أطهار. كذلك أيضا الاعتراض على تفسير قوله: (ثلاثة قروء) بالطهر، بأنه يلزم أنها تعتبر بعض الطهر، وأنها في الحيض تعتبر الحيض كاملا يجاب عنه بوجهين: الوجه الأول: أنهم يعترضون على اعتبار الطهر ناقصا فيكون لها طهران وشيء، وهم يقعون في الزيادة؛ لأنهم يلغون الحيضة إذا طلقها في الحيضة، فلا تحتسب عندهم وجها واحدا، فإذا طلقها في الحيضة لم تحتسب، وظاهر السنة يدل على هذا، فمعنى ذلك أنها ستزيد إلى أكثر من ثلاث حيضات، وحينئذ تطول عدتها، فكما اعترضوا بالنقص يعترض عليهم بالزيادة، فقد قال: (ثلاثة) فكما أنكم زدتم عليها فنحن ننقص منها، فإن أوردتم على النقص أوردنا على الزيادة. الوجه الثاني: أننا لا نسلم أنه يمتنع إطلاق الثلاثة على بعض الشيء؛ لأن العرب تطلق على الاثنين وشيء: ثلاثة، مثلما تطلق على من دخل في بداية السنة الثالثة أن له ثلاث سنوات، وهنا إذا تمت وأخذت طهرين ودخلت في الثالث أو كان طلاقها في الثالث فرفقا من الله عز وجل يحتسب الثالث؛ لأنه طهر؛ والمراد منه النقاء. أما الدليل على أنه يطلق على الشيئين وبعض الشيء فهم أنفسهم يقولون في قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} [البقرة:197] قالوا: جمع، والجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة كما هو مذهب الحنابلة والحنفية أنفسهم، ومع ذلك يقولون: شهران وبعض الشهر؛ لأن المقصود: شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وينتهي الإحرام للحج ببزوغ فجر العاشر من ذي الحجة، وحينئذ يكون المقصود شهرين وبعض الشهر، وقال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات} [البقرة:197] ، وأنتم تقولون: إن الجمع لا يطلق على أقل من ثلاثة، وهنا أطلقتم الجمع على الاثنين وبعض الثالث، وبناء على ذلك يرد على الاعتراض بالنقص ويقوي قول من قال: إن المراد بالقرء: الطهر، خاصة وأن هذا التفسير للقرآن جاء من زيد رضي الله عنه وأرضاه، وكان إماما في كتاب الله عز وجل، حتى إن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لما كتبوا كتاب الله عز وجل وأرادوا جمعه لم يجدوا أحدا يقدم عليه رضي الله عنه وأرضاه، وابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن انتفع من علم زيد، وأخذ التفسير عن زيد وهو أعلم بدلالة القرآن، ومكانته معروفة رضي الله عنه وأرضاه، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه لما بلغته وفاة زيد بكى رضي الله عنه وقال: (لقد دفن الناس اليوم علما كثيرا، ولكن لعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس منه خلفا) ؛ لأنه كان مبرزا في التفسير، وابن عباس رضي الله عنهما أخذ منه. وتفسير (القرء) بمعنى: الطهر مأثور عن أم المؤمنين عائشة وهي رضي الله عنها أعلم بشئون النساء، وأعلم بما يكون من حيضهن، وأعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، حتى إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يرجعان إليها في أمور النساء وما يختص بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أن المراد بقوله: (ثلاثة قروء) يعني: ثلاثة أطهار. هذا حاصل ما يقال في المطلقة إذا كانت من ذوات الحيض فتعتد بثلاثة أطهار، وبناء على ذلك: إذا كنت حائلا، أي: غير حامل ويجري معها دم الحيض ولم تكن آيسة ولا صغيرة ولا انقطع دمها فإنها تعتد بالطهر على أصح الوجهين والقولين عند العلماء رحمهم الله. عدة المختلعة الحائل اتفق أصحاب القولين على أن الأصل في العدة: ثلاثة قروء، إما بالحيض -ثلاث حيضات- أو بالطهر -ثلاثة أطهار- على التفصيل الذي ذكرناه. ولكن استثنيت عدة المختلعة، فاختلف العلماء رحمهم الله فيها، فبعض العلماء يقول: إن الحائل من ذوات القروء إذا كانت مخالعة لزوجها فإن عدتها حيضة واحدة على المذهب، وهذا ما اختاره أئمة المذهب من أنها تعتد بحيضة واحدة، وقيل: بثلاث حيضات أو بثلاثة أطهار على القول بأن القرء هو الطهر، أما الذين يقولون: إن المختلعة عدتها عدة المطلقة المعتادة فقد استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ثابت: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فأمره أن يطلق المختلعة، فدل على أن الخلع طلاق، فإذا كان الخلع طلاقا؛ فإن الله عز وجل يقول: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] فدخلت في هذا العموم بدليل الكتاب والسنة من جهة لفظ الآية وورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تطلق. والذين قالوا: إنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها استدلوا بحديث الربيع رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تستبرئ بحيضة من خلعها وترجع إلى بيت أهلها، وكذلك قالوا في حديث ابن عباس الأول الذي رواه أصحاب السنن، والثاني عند أبي داود في سننه وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أمرت المختلعة أن تستبرئ بحيضة) ، قالوا: وهذا يدل على أن عدتها حيضة واحدة. بناء على ذلك: لو خالع الرجل زوجته فدفعت له المهر فإنها تستبرئ بحيضة واحدة على القول الثاني وتخرج من عدتها، وتصبح مستثناة من هذا العموم، فالأصل فيها ثلاث حيضات، ولكن تحيض حيضة واحدة يستبرئ بها رحمها، قالوا: والعقل يدل على هذا؛ لأن المختلعة إذا طلقها طلقة واحدة فليست طلقتها رجعية، يعني: ليس من حقه أن يراجعها؛ لأن المقصود أن يفسخ النكاح الذي بينهما، فلو كان من حقه أن يرتجعها لفات المعنى الذي من أجله شرع الخلع؛ لأن الخلع يقصد منه دفع الضرر عن المرأة، فالمرأة إذا كرهت زوجها ولم يكن بزوجها عيب يوجب الخيار لها، كأن تكون لا تريده ولا تحبه، نقول لها: ادفعي له المهر كما تقدم معنا من قوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم) فخالعت جميلة بنت أبي بن سلول، وامرأة ثابت رضي الله عنه وأرضاه وقالت: (إني أخشى الكفر بعد الإسلام) فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تفسخ العقد برد المهر لزوجها، فإذا ردت المهر دل على أنها لا تريد أن ترجع إليه ولا تريد استمرار الحياة الزوجية معه، فأمرت شرعا برد المهر إلى زوجها حتى يفسخ هذا العقد، فإذا ردت له المهر ردت له حقه، فلو كان له عليها سلطان لاستضرت المرأة؛ لأنه بمجرد ما يطلقها يراجعها بعد الطلاق، وحينئذ يكسب المهر ويكسب رجوعها مرة ثانية، فيفوت المقصود. ومن هنا قلنا: إن مراد الشرع من الخلع: دفع الضرر عن المرأة، فترد المهر ويفسخ النكاح بينهما، ويؤمر بتطليقها على ظاهر الحديث الصحيح: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) وتخالعه ولو لم يرض، فإذا خالعته على هذا الوجه يقولون: إن مقصود الشرع فسخ النكاح، وإذا كان مقصوده فسخ النكاح خالف الأصل المعروف في الطلاق؛ لأن المرأة إذا طلقها زوجها الطلقة الأولى فإنه يعطى مهلة العدة حتى يراجع نفسه وتراجع نفسها، فإن كان العيب منه ندم وراجعها، وإن كان العيب منها ندمت وأصلحت ورجعت إليه إذا كانا يريدا إصلاحا وعودة للنكاح، وبناء على ذلك قالوا: هذا المعنى غير موجود في المختلعة، وليس هناك وجه لردها إلى زوجها، فلا تطول العدة عليها، ولما كانت العدة يخشى منها أن تكون المرأة حاملا فتستبرئ، فعلى هذا الوجه تستبرئ بحيضة واحدة، فإن حاضت تلك الحيضة وخرجت منها دل على أنها حائل، وحينئذ علمنا خلو الرحم وحققنا مقصود الشرع من دفع الضرر عن الزوجة. فالخلاصة: أن المرأة إذا كانت حائلا -غير حامل- وكانت من ذوات الحيض، فإنها في هذه الحالة تعتد بثلاثة أطهار على أصح قولي العلماء رحمهم الله، واستثنى فقهاء الحنابلة المرأة المختلعة فإن عدتها عندهم حيضة واحدة على ظاهر حديث الربيع وحديث ابن عباس، وكلا الحديثين فيه كلام، فإن صحا قويا على الاستثناء وإلا بقيت العدة على الأصل. قال المصنف رحمه الله: (الحائل ذات الأقراء) . يعني: جنس المرأة الحائل من ذوات الأقراء. ذوات: صاحبات الأقراء: يعني: ممن يحضن، لأن المرأة إما أن تكون حاملا وإما أن تكون حائلا، فالحامل التي عدتها وضع الولد، وإذا كانت حائلا غير حامل فإما أن تكون من ذوات الحيض وإما أن تكون قد انقطع عنها الحيض لليأس، أو لم تحض بعد كالصغيرة، فبين رحمه الله أنها من ذوات الأقراء، يعني: ممن يحضن. قال المصنف رحمه الله: [-وهي الحيض-] . وهي الحيض أو الحيض على الجمع لأقراء، قلنا: القرء: هو الحيض، الأقراء: هي الحيض. يعني: يريد أن يفسر القرء بالحيض كما ذكرنا أنه مذهب الحنابلة. قال المصنف رحمه الله: [المفارقة في الحياة] . يعني: التي فارقها زوجها في الحياة فعدتها عدة الطلاق، لكن إذا فارقها ثم مات عنها فهذه قد قدمناها وهي عدة الوفاة، وسبق الكلام عليها. عدة المبعضة الحائل قول المصنف رحمه الله: [فعدتها إن كانت حرة أو مبعضة ثلاثة قروء كاملة] . إن كانت حرة فعدتها ثلاث حيضات كاملة؛ لأن الله يقول: {ثلاثة قروء} [البقرة:228] ، إن كانت مبعضة، يعني: بعضها حر وبعضها رقيق، فمثلا: أمة اشتراها رجلان أحدهما أعتق نصيبه، والثاني بقيت في ملكيته، فحينئذ نصفها حر ونصفها رقيق، فالمبعضة هذه إذا وقع عليها الطلاق تكون عدتها ثلاث حيضات؛ لأن الأصل عند الحنابلة أن الأمة تشطر العدة في حقها كما ورد عن عمر رضي الله عنه، فإذا شطرت العدة -يعني: تكون على النصف- فإنه ليس هناك نصف حيضة، فعندهم إما أن تكون الحيضة ثلاثة قروء كاملة أو قرئين، لأنه ليس هناك قرء ونصف؛ لأن الحيض لا يتشطر، فحينئذ جبروا الكسر وقالوا: عدتها حيضتان، وإذا كان الأمة عدتها حيضتان فحينئذ إذا وجد في الأمة حرية -مثلما ذكرنا- وكان نصفها حرا فعندها كسر من الحرية، فتزيد على القرئين بزيادة فتصبح حيضتان وشيء، فإذا كانت الحيضة لا تشطر فتدخل في الحيضة الثالثة. والأصل في الأمة أو المملوك أنك تعطيه نصف ما تعطي الحر، وهذا طبعا على القياس، وهي مسألة مشهورة عند علماء الأصول: (تعارض العموم مع القياس) فالعموم في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] هذا عام، والحقيقة أن القول بعدم التشطير من القوة بمكان على ظاهر الكتاب وظاهر السنة، وهو الأصل. لكن على كل حال في مسألتنا: إذا كانت العدة ثلاثة قروء وأردنا تشطير الثلاثة قروء فإنها لا تشطر، وإذا كان لا يمكن تنصيفها ففي في هذه الحالة ستحسب النصف الموجود كاملا وتقول: الأمة عدتها قرءان، فإذا قلت: إن لها قرئين في عدتها فإن دخلتها حرية زادت عن القرئين؛ لأنها أمة من وجه وحرة من وجه ثان، فدخلت بالوجه الثاني -وهو وجه الحرية- في جزء الحيضة الثالثة؛ لأنه إذا كان -مثلا- ربعها أو نصفها حرا فالمنبغي أن يحسب حساب هذه الحرية، ولكن هنا لا يمكن تشطير الحيضة الثالثة، فأصبحت عدة المبعضة ثلاثة قروء، والحرة ثلاثة قروء. هذا وجه قوله رحمه الله: إنها ثلاث حيضات. عدة الأمة الحائل قال المصنف رحمه الله: [وإلا قرءان] . وهذا إذا كانت أمة وليس فيها شائبة الحرية وليست مبعضة بل كلها أمة، وهناك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة ولكنه ضعيف، والصحيح عدم ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت أمة فالمذهب على أن عدتها قرءان. أي: حيضتان. عدة من فارقها زوجها حيا ولم تحض قال رحمه الله: [الرابعة: من فارقها حيا ولم تحض لصغر أو إياس فتعتد حرة ثلاثة أشهر] . الرابعة من المعتدات: من فارقها حيا، يعني: ليس هناك عدة للوفاة، (ولم تحض لصغر) أي: من أجل كونها صغيرة، أو لعلة الصغر (أو إياس) والله جل وعلا ذكر هذا النوع في آية الطلاق فقال: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن} [الطلاق:4] فقوله: (واللائي لم يحضن) عطف على قوله: (واللائي يسن) يعني: عدة الآيسات وعدة الصغيرات اللاتي لم يحضن ثلاثة أشهر. توضيح المسألة: أن هذا النوع من النساء لا يحيض؛ إما لأنها طلقت وهي صغيرة، كرجل قال لرجل: زوجتك ابنتي، -حتى ولو كانت صغيرة مثلما ذكرنا أنها يجوز العقد عليها- فزوجه ابنته وهي صغيرة، ثم كبرت البنت ودخل عليها ولم تحض بعد ثم طلقها، ففي هذه الحالة إذا طلقها بعد الدخول عليها، أو زوج صغير من صغيرة ودخل عليها وجامعها، فإذا حصل الدخول ولزمت العدة من طلاقها فإنها حينئذ تعتد بثلاثة أشهر؛ لأنه لا حيض معها، ولا يمكن احتساب الطهر ولا الحيض، فسقط القرء ورجع إلى الاعتداد بالأشهر، هذا إذا كانت صغيرة، وكذلك إذا كانت كبيرة أيست من المحيض، وانقطع دم الحيض عنها كامرأة عمرها ستون سنة فانقطع عنها دم الحيض، فهذه تعتد بالأشهر. وقد جعل الله عز وجل الثلاثة الأشهر مكان الثلاثة القروء، فهذه المرأة تعتد ثلاثة أشهر تامة كاملة من ابتداء الشهر أو من أثناء الشهر على تفصيل من حيث الجملة، وتعتد بثلاثة أشهر تامة كاملة، وتعتد بالأشهر القمرية ولا تعتد بالأشهر الشمسية وجها واحدا عند العلماء؛ لأن الأشهر التي تناط بها الأحكام الشرعية هي الأشهر القمرية، ويحتسب الشهر بهلاله، فإن كان ناقصا فإنه كامل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شهرا عيد لا ينقصان، رمضان وذو الحجة) فجعل التسعة والعشرين كالثلاثين، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وهذا يدل على أن وصف (أمية) وصف شرف للأمة، وليس بوصف عار أو منقصة؛ لأن الأمية لا تقترن بالجهل، الأمية هي عدم القراءة والكتابة، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب ولكنه أعلم الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد تجد الرجل كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب ومع ذلك عنده علم، فالعلم شيء والأمية شيء آخر، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (إنا أمة أمية) هذا يدل على أنه وصف شرف -كما يقول العلماء- للأمة: (لا نكتب ولا نحسب) دل على أن الشهور لا تدخل في الحساب الفلكي، ولا يحكم بدخولها أو خروجها بالحساب الفلكي؛ وهذا تيسير من الله عز وجل ورحمة، فأبقاهم على الفطرة يخرج الناس ويتراءون الهلال، إن رأوه كان الشهر ناقصا، وإن لم يروه فالشهر كامل، يمشون على هذا كما مشى عليه أسلافهم من قبل، فالمرأة تحتسب الثلاثة الأشهر بهذه الطريقة، إن كانت كاملة فكاملة وإن كانت ناقصة فناقصة، وإن جمعت بين الكمال والنقص فلا إشكال. وإن كانوا يقولون: لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، أي: من السنن المعروفة أنها لا تأتي ثلاثة أشهر متتابعة ناقصة، فقد يكون النقص في شهرين لكن لا يكون الثالث ناقصا غالبا. عدة الأمة التي لا تحيض لصغر أو إياس قال المصنف رحمه الله: [وأمة شهرين] . اختلف المذهب في الأمة، وفيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه. الرواية الأولى: توافق مذهب الإمام مالك وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله: أن الأمة تعتد كالحرة ثلاثة أشهر، ولا تشطر عدتها؛ لأن الله عز وجل نص على أن عدة اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن ثلاثة أشهر، ولم يرد ما يدل على استثناء أو تخصيص في هذه الآية الكريمة فتبقى على الأصل. الرواية الثانية تقول: تنصف عدة الأمة إذا كانت بالأشهر كما تنصف عدتها بالحيضات، وبناء على ذلك: اختلفوا على روايتين التي هي القول الثاني والثالث، فهناك رواية تقول: عدة الأمة شهر ونصف؛ لأن الله جعل في الأصل عدة الحرة ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف، وهذا قول للشافعي أيضا. الرواية الثالثة: أن الشهر لا يتشطر، وعلى القول بأنه لا يتشطر يصير مثل الحيض، فقالوا: إن الشهر لا يتشطر؛ لأنه بدل عن القرء، والقرء لا يتشطر، والبدل يأخذ حكم مبدله، فلا بد أن تعتد بشهرين، وهذا ما عليه المذهب من أنها تعتد بشهرين، وهو ضعيف من جهة الأصل ومن جهة النظر. عدة المبعضة التي لا تحيض لصغر أو إياس قال المصنف رحمه الله: [ومبعضة بالحساب ويجبر الكسر] . إذا قلنا: إن الأمة تعتد شهرا ونصفا، وإذا فرضنا أن النصف منها حرة فحينئذ نحسب الشهرين على أنها أمة، وإذا حسب الشهران على أنها أمة فالنصف الذي فيها يكون بخمسة عشر يوما وتضاف إلى الشهرين، وحينئذ تعتد شهرين ونصفا، فإذا كان الثلث قالوا: يضاف ويجبر الكسر في اليوم وتعتد بالعشرة، يصبح لها عشرة أيام؛ لأن الشهر تسعة وعشرين يوما فالأصل تمام الشهر ثلاثين يوما، فثلث الثلاثين عشرة، فتعتد شهرين وعشرة أيام، وقس على ذلك، وهذا معنى قوله رحمه الله: (ومبعضة بالحساب) . ويجبر الكسر في اليوم، إذا كان مثلا نصف يوم وثلث يوم فإن الكسر يجبر. عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه يقول المصنف رحمه الله: [الخامسة: من ارتفع حيضها ولم تدر سببه] . المرأة إذا ارتفع حيضها تنقسم إلى قسمين: الأول: إما أن تعلم السبب: كالرضاع، أو مرض معين إذا أصاب النساء ارتفع حيضها. الثاني: أن يكون ارتفاع حيضها بسبب لا تعرفه والأطباء لا يعرفونه. فإن كان بسبب تعرفه فلها حكم، وإن كانت بسبب لا تعرفه فلها حكم، والمصنف رحمه الله فصل في الأمرين فقال: (ومن ارتفع حيضها ولم تدر سببه فعدتها سنة) . صورة المسألة: امرأة -في الأصل- تحيض، ثم انقطع عنها الحيض، فإذا انقطع عنها الحيض فتحتاج أول شيء أن تتأكد أن انقطاع الحيض ليس للحمل؛ لأنها إذا حملت -غالبا- انقطع حيضها، فإن تأكدت من أنها ليست بحامل، وأن انقطاع دمها ليس للحمل فتمكث مدة الحمل الغالبة، ومدة الحمل الغالبة تسعة أشهر، فإذا تحققنا بمضي التسعة أشهر أنها غير حامل فإنها تبدأ بالعدة، لأنها ليست من ذوات الحيض فتنتقل إلى عدة الأشهر، فتضيف ثلاثة أشهر إلى التسعة، فتصبح عدتها سنة كاملة، تسعة أشهر للاستبراء والتأكد من أنها غير حامل، وثلاثة أشهر عدة المطلقة إذا لم تكن من ذوات الحيض. وهذا الحكم قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من المهاجرين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف أن أحدا خالفه، ولم يعارض فيه أصلا، بل إن الأصول تدل عليه؛ لأنه يحتمل أن تكون حاملا، فتعتد عدة الحامل ثم بعد ذلك تعتد عدة الأشهر؛ لأنها ليست بحائل، فالمنتزع الذي انتزعه رضي الله عنه فقه صحيح من الأصول الشرعية؛ لأن الله يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف:15] فالستة الأشهر أقل ما يكون من الحمل، فإذا ثبت هذا يقولون: نأخذ الحد الغالب وهو التسعة الأشهر؛ لأن الستة هي الحد الأقل، والغالب هو التسعة، والأكثر إلى أربع سنوات مثلما ذكرنا، فيؤخذ بالغالب وهو التسعة الأشهر، فنقول لها: تمكث غالب مدة الحمل وهو تسعة أشهر حتى نتحقق أنها غير حامل، ثم بعد ذلك تعتد بعدة الأشهر، هذا بالنسبة لقضاء عمر رضي الله عنه وقد عمل به الجمهور. عدة الأمة إذا ارتفع حيضها ولم تدر سببه يقول المصنف رحمه الله: [فعدتها سنة تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، وتنقص الأمة شهرا] . الإشكال على المذهب الذي يقول: إن الأمة تشطر وتنصف عدتها، فهل ننصف التسعة الأشهر، وننصف الثلاثة الأشهر أم لا؟ الجواب من جهة الحمل لا تنصيف؛ لأنه لا تختلف الأمة عن الحرة فيه، فالمرأة من حيث هي إذا حملت حرة كانت أو أمة تمكث تسعة أشهر على الغالب، فتبقى التسعة الأشهر كما هي. إذا: ما الذي يشطر؟ تشطر العدة التي هي الثلاثة الأشهر، فهنا: هل تكون شهرا ونصفا أو شهرين أو شهرا؟ خلاف في المذهب، والذي اختاره المصنف رحمه الله أنه شهر. نحن قلنا: إن التشطير ليس بوارد أصلا، والذي نرى أنها تعتد ثلاثة أشهر كاملة، وهذا ظاهر القرآن، وبناء على ذلك نرى أنها سنة كاملة في الأمة وفي غير الأمة. هذا من حيث الأصل.
__________________
|
#624
|
||||
|
||||
![]() عدة من بلغت ولم تحض يقول المصنف رحمه الله: [وعدة من بلغت ولم تحض والمستحاضة الناسية والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر] . عدة من بلغت ولم تحض: امرأة عمرها خمسة عشر سنة، فإذا بلغت خمس عشرة سنة فقد بلغت؛ لأن البلوغ يكون بالحيض، ويكون بالاحتلام، ويكون بالحمل، ويكون بالسنوات التي هي خمس عشرة سنة كما ذكرنا في علامات البلوغ وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثمان عشرة حولا ظهر وهذا على خلاف حديث بني قريضة، والصحيح أن إنبات الشعر علامة إذا كان حول العانة. أو بمني أو بإنبات الشعر أو بثماني عشرة حولا ظهر فالمالكية عندهم أن يسن البلوغ ثماني عشرة سنة، والحنفية قدموا الأنثى فجعلوها سبع عشرة سنة، والذكر ثماني عشرة سنة، وأما الحنابلة والشافعية فقالوا: خمس عشرة سنة لحديث ابن عمر، -وهو حديث صحيح- أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وفي رواية البيهقي: (ورآني قد بلغت) ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق لما بلغته هذه السنة، وأبلغه بها الزهري رحمه الله، كتب إلى الولاة في الآفاق: انظروا من بلغ خمس عشرة سنة فاضربوا عليه الجزية، ومن كان دونها فاجعلوه في الذرية -يعني: لا تضربوا عليه جزية- فهذا يدل على أن خمس عشرة سنة هي السن المعتبر للبلوغ. فإذا بلغت المرأة خمس عشرة سنة ولم تحض فحينئذ ليست من ذوات الحيض، وهي بالغة، فتبقى على الحكم؛ لأن الله يقول: {واللائي لم يحضن} [الطلاق:4] ، فجعل (اللائي لم يحضن) شاملا للصغيرة وللكبيرة التي بلغت. عدة المستحاضة الناسية (والمستحاضة الناسية). تقدم معنا في كتاب الطهارة ضوابط المستحاضة والفرق بينها وبين الحائض، وبينا أن دم الاستحاضة دم فساد وعلة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة) فقوله عليه السلام: (إنما ذلك عرق) اختلف فيه هل هو العاند أو العاذر أو العاذل، وقد بينا هذا وبينا سبب تسميته بهذه الأسماء، وهو دم فساد وعلة، فإذا استحاضت المرأة وجرى معها الدم على هذا الوجه فإنه لا يمكن ربط العدة بها -بالنسبة للمستحاضة-؛ فإذا نسيت عادتها -يعني: كانت لها عادة قبل أن ترتبك ثم نسيتها- مثل: امرأة كانت عادتها خمسة أيام أو ستة أيام ثم ذهبت في غيبوبة أو حصل لها حادث، ثم أفاقت من غيبوبتها ورجع لها عقلها ولم تتذكر كم كانت عادتها، واستحيضت، فحينئذ هي معتادة في الأصل لكنها أنسيت عادتها. وعلى كل حال: إذا أنسيت عادتها بأي وجه من الوجوه وأصبحت مستحاضة فلابد من أمرين: لابد أن تكون مستحاضة لا تستطيع أن تميز الحيضة عن استحاضتها، ونسيت أيام عادتها، فحينئذ تعتد بالأشهر، وتنقل إلى حكم المعتدات بالأشهر، وبعض العلماء يفصل فيها وعندهم كلام كثير في هذا النوع من النساء، ومنهم من يجعلها ترجع إلى التمييز، وترجع إلى غالب الحيض وتحتسب غالب الحيض كما يقع في العبادة، وقد تقدم معنا حديث الترمذي -والذي حسنه غير واحد من العلماء رحمهم الله ومنهم الإمام البخاري رحمة الله عليه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرأة التي استحيضت وقالت: (إني أثج ثجا، فقال عليه الصلاة والسلام: تحيضي في علم الله ستا أو سبعا) فجعل عادتها ستة أيام أو سبعة. لكن الإشكال عندهم أنه لابد أن تنسى عادتها من كل الوجوه، وقالوا: في الحديث لم تنس من كل وجه، ويمكن أن تحتسب عادتها في أول الشهر أو منتصف الشهر أو آخر الشهر، وقال الحنابلة: نرجع إلى الأشهر، قالوا: لأنها إذا أنسيت العادة وقلنا: تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في بداية الشهر يحتمل أن تكون عادتها في آخر الشهر، وحينئذ ربما حكمت بخروجها وهي لا زالت في عصمة زوجها الأول، ومن هنا قالوا: نقطع الشك باليقين ونقول: ثلاثة أشهر لكل حيضة منها شهر؛ لأنه يحتمل أن تكون حيضتها في أول الشهر ويحتمل أن تكون في منتصف الشهر، ويحتمل أن تكون في آخر الشهر، والأصل أنها زوجة ولا تخرج من الزوجية إلا بيقين، فنقول: إذا اعتدت ثلاثة أشهر فقد جزمنا أنها قد خرجت من عدتها. عدة المستحاضة المبتدأة يقول المصنف رحمه الله: [والمستحاضة المبتدأة ثلاثة أشهر] . والمستحاضة المبتدأة التي لأول مرة يأتي معها الدم، وقد فصلنا في أحكامها. أي: ابتدأها دم الحيض، لأول مرة تحيض. فالمرأة المبتدأة من هي؟ قلنا: هي المرأة التي لأول مرة يبتدئها الحيض، فإذا كانت لأول مرة تحيض فحينئذ ليست لها عادة، وتحتاج إلى ثلاثة أشهر لكي تثبت عادتها، فلا نستطيع أن نحدد كم عادتها، فأصبحت في حكم الأصل؛ لأنها هي في الأصل من اللائي لم يحضن، فلما جاءت تحيض وحاضت الحيضة الأولى، والحيضة الثانية، والحيضة الثالثة وهي مستحاضة والدم يجري معها ولم ينقطع رجعت إلى حكم الأصل، فاستصحبنا حكم الأصل، فجعلناها من ذوات الأشهر، ولا يمكن أبدا أن نجعل لها غالب الحيض، كالتي أنسيت عادتها. عدة الأمة المستحاضة يقول المصنف رحمه الله: [والأمة شهران] . لما ذكرناه من التنصيف، والصحيح: أنه لا تنصيف. يعني: إذا كانت المستحاضة التي نسيت عادتها أمة، فعدتها شهران لما ذكرناه سابقا، وهكذا إذا ابتدئت وكانت أمة مبتدأة فإنها تعتد بشهرين. عدة من ارتفع حيضها وعلمت السبب يقول المصنف رحمه الله: [وإن علمت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته] . هذه الجملة بين فيها رحمه الله النوع الثاني من اللاتي انقطع عنهن دم الحيض، وهن اللائي عرفن سبب انقطاع الدم، فإذا عرفت المرأة سبب الانقطاع انتظرت حتى يعود الدم، فإذا انقطع لحمل انتظرت حتى تضع حملها، وإذا انقطع لمرض انتظرت حتى يذهب المرض ثم تعتد، ما الدليل؟ لأن الله ألزمها بالقرء، وليست بآيسة، وليست ممن لا يحيض، فبقيت على الأصل، فتنتظر حتى يعود لها حيضها، وقال بعض العلماء: إنها تعتد سنة، وهذا القول استصحب حكم عمر رضي الله عنه وأرضاه وقال: إذا طال عليها الأمر وطالت بها المدة فلها أن تعتد سنة، فإذا مضت عليها سنة ولم يعد لها حيضها فقد خرجت من عدتها، والقول هذا وجيه وقوي جدا؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، والأول أصح من جهة الأصل، ووجه القول بأنها تستثنى إذا طالت: أنه واضح الآن استبراء رحمها وتبين استبراء رحمها، وكونها إذا مضت عليها سنة خرجت من عدتها هذا اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض المتأخرين، وأيضا سماحة الشيخ ابن إبراهيم المفتي رحمة الله عليه يرون هذا، وبناء على ذلك يقولون: إنها تستثنى. الأسئلة عدة المطلقة المنقطع حيضها السؤال ألا تندرج الثلاثة الأشهر تحت التسعة وذلك في التي ارتفع حيضها؛ لأن ما يتحقق في الثلاثة الأشهر قد تحقق في التسعة؟ الجواب الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فلا يحصل الاندراج في هذا؛ لأن المعنى لا يتحقق، فالتسعة الأشهر استبراء من الحمل، والثلاثة الأشهر عدة تعبدية، فكيف يدخل هذا في هذا؛ لأن الأول يقصد منه التأكد من أنها غير حامل، والثاني يقصد منها عدة شرعية، وبناء على ذلك: هي في الأول تمكث التسعة الأشهر من أجل أن تتأكد من الحمل، ولا تمكثها على أساس أنها عدة طلاق، ولا تصح منها عدة طلاق؛ لأنها لو نوت في التسعة الأشهر عدة الطلاق لما صح ذلك لاحتمال أنها حامل، وعلى كل حال فهذا التداخل لا يصح، ولذلك لا يحكم به، وتبقى على الأصل من أنها تحتسب السنة تامة كاملة، والله تعالى أعلم. حكم تحية المسجد لمن دخل المسجد وقت غروب الشمس السؤال إذا دخل الإنسان المسجد قبل صلاة المغرب بوقت يسير، فهل يظل واقفا إلى الأذان أم يجلس؟ الجواب إذا كان الوقت يسيرا فهو مخير بين أن يقف خروجا من الخلاف، وبين أن يجلس وهو الأصح والأقوى، أما الصلاة أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء انتصاف الشمس في كبد السماء فالنصوص قوية وصريحة بالإمساك عن الصلاة في هذا الوقت، حتى إن بعض العلماء يقول: هذا الموضع خارج من الخلاف بين العلماء؛ لأن النصوص فيه قوية جدا: (فإذا طلعت -يعني: عند طلوعها- فأمسك عن صلاتك فإنها تطلع بين قرني شيطان) لأنها عبادة المشركين، فالمشركون يسجدون للشمس عند طلوعها وعند غروبها، وتكون بين قرني شيطان؛ لأن الشيطان يأتي بينهم وبين الشمس، فيكون سجودهم للشيطان لا للشمس، لأنهم يعبدون الشيطان في الحقيقة ولا يعبدون الشمس، لأن الشمس تبرأ إلى الله عز وجل من عبادتهم، فهذا الوقت نهي عنه لأنه ذريعة إلى الشرك، ومشابهة للمشركين، فالعلة فيه قوية، ولذلك نقول: وقت الطلوع والغروب لا خلاف فيه -وهذا أمر يخلط فيه البعض- وقد جزم غير واحد من الأئمة رحمة الله عليهم بأنه خارج عن موضع الخلاف، وأنه لا يصلى فيه تحية المسجد ولا النوافل، لكن الفرائض فيها أدلة ونصوص واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) وهذا لمكان الفرضية المحتمة، والشرع يخالف بين الفرض وغير الفرض، ومن هنا لا وجه لأن يصلي أثناء الطلوع وأثناء الغروب، فإما أن يقف وإما أن يجلس وهذا هو الأقوى، وهي رخصة من الله وفسحة، وكما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جالسا في مسجده كما في الصحيح في قصة كعب بن مالك لما نزلت توبته ودخل عليه كعب بن مالك بعد صلاة الفجر، والحديث في سياقه يدل على أنه لم يصل تحية المسجد؛ لأن النص نص على أنه لما دخل قال: (فاستقبلني طلحة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست بين يديه) ، ولم يذكر تحية المسجد ولا الصلاة، ولذلك هذا الحديث من أقوى الأدلة على أن ذوات الأسباب بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس لا تصلى؛ لأن الصلاة أثناء الطلوع والغروب تشبه بالمشركين، وما بين الصلاة وما بين الغروب والطلوع ذريعة، ولذلك نهي عنها من باب سد الذرائع، لأنها ذريعة ينتهي بها إلى الوقت المحذور، فنهي عن الصلاة في هذين الوقتين، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا صليت العصر فأمسك عن الصلاة) ما قال: إلا تحية المسجد أو استثنى بل قال: (فأمسك عن الصلاة) ، ونهاه عن أن يصلي كما في الصحيح، فهذا يدل دلالة قوية على أنه لا يصلى على أصح القولين، والله تعالى أعلم. حكم شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب السؤال هل يجوز شراء الذهب بالعملة التي رصيدها ذهب، علما أن بائع الذهب لا يبيعه بنفس قيمة الرصيد للعملة؟ الجواب إذا كانت العملة رصيدها ذهبا كالجنيهات والدولارات والدنانير والليرات -فهذه كلها رصيدها ذهب- فلا يشترى بها الذهب إلا إذا تحققت المثلية؛ لأن الورق له رصيد، وإلغاء الرصيد لا يؤثر في الحقيقة؛ لأنه أخذ ودفع الورق مستندا على الرصيد، ومستند الدين لا يلغى بحال، ولو ألغي عرفا لا يلغى شرعا، ولذلك لو قيل: إنه يلغي، فالله ما أمرنا بزكاة الأوراق، وإن قيل: الورق له قيمة فورق الكتب له قيمة وورق الصحف له قيمة. إذا: القيمية في الورق لا تستلزم أنه تجب فيه الزكاة، وإذا ثبت هذا: فإن هذه الأوراق ينظر إلى رصيدها، فما كان فضة لا تشترى به الفضة إلا مثلا بمثل، وما كان ذهبا فلا يبادل بذهب إلا بإدخال الوسيط، فالدولار يحول إلى ريال ثم يحول إلى جنيهات ونحو ذلك، ولا ينقل من ذهب إلى ذهب ولا يشترى به الذهب، وإنما يشترى الذهب بالفضة وتشترى الفضة بالذهب خروجا من شبهة الربا؛ لأن قاعدة الربا: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) يعني: إذا لم نتحقق من المثلية بمبادلة الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة فإنه لا يجوز البيع؛ وأصل هذه القاعدة مستنبط من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة القلادة التي غنمها من خيبر، فإنه اشتراها بعشرين دينارا وقيل: بأكثر من خمس وعشرين دينارا ثم وجد فيها بعد فصلها من الذهب ما يعادل خمسة وعشرين دينارا، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع القلادة حتى يفصل الذهب عنها؛ لأنه إذا كان معها الفصوص جهل الوزن، فجعل عليه الصلاة والسلام الجهل بالوزن حتى تتحقق المثلية كالعلم بالتفاضل، فيحرم بيعها حتى تفصل، ومنه استنبط العلماء والأئمة هذه القاعدة في الربا: (أن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) فكل شيء يباع بمثله من نفس صنفه لابد أن نتحقق من المثلية فيه، صاع بصاع، كليو بكيلو، فإذا شككنا وليس عندنا شيء يجزم بأنه متساو امتنعنا من البيع؛ لأن جهلنا بهذا التماثل كأننا تحققنا من التفاضل، أي: يقع الربا شئنا أم أبينا، فقالوا: من هذا الحديث تستنبط القاعدة: (الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل) . والله تعالى أعلم. الفرق بين الخطبة وعقد النكاح السؤال يزعم بعض الناس أنه بمجرد خطبة النكاح يجوز الدخول بالمرأة؛ لأن الإيجاب والقبول قد تم. فما صحة هذا الأمر؟! الجواب الإيجاب والقبول يتم عقدا بحضور الشاهدين العدلين، فإذا زوج الولي موليته بحضور شاهدين عدلين تم العقد، لكن الخطبة أن يأتي ويقول للولي: يا فلان! مثلك أهل أن يتزوج منه، أو بيتك بيت شرف وفضل، وإني راغب في بيتك، أو أريد ابنتك، فليس بعقد وإنما هي حكاية الرغبة، ولا تأخذ حكم العقد، ولذلك لا يكون العقد إلا بإيجاب وقبول أنه نكاح، وصادر من الولي والزوج أو من يقوم مقامهما كالوصي ووكيل الزوج، فإذا حصل الإيجاب والقبول بحصول شاهدين عدلين؛ فإنه حينئذ يصح النكاح ويحكم بانعقاده، أما ما قبل هذا من خطبة فإنها لا تستلزم ثبوت العقد، وحينئذ المرأة لا تزال أجنبية حتى يثبت عقده عليها، والله تعالى أعلم. حكم وضع الغترة سترة في الصلاة السؤال يضع بعض الناس الغترة أو الشماغ عند الصلاة على الأرض فما حكم ذلك الفعل؟ الجواب بعضهم يضعها أشبه بالسترة مثل أن ينفخها أو يعليها إذا لم يجد سترة، فهذا بعض العلماء يراه سترة وبعض العلماء لا يراه سترة؛ لأنها غير ثابتة، فإذا تحركت الريح انخسفت، فلا تكون ثابتة إلا إذا لفت ودورت حتى تكون أشبه بمؤخرة الرحل، أما إذا وضعها حتى لا تشغله أثناء الصلاة بالرفع والوضع فهذا خلاف الأولى؛ لأن الأفضل والأكمل في المصلي أن يكون بغترته، والله يقول: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف:31] ، أي: عند كل صلاة، من باب إطلاق المحل وإرادة ما يحل فيه، فالأكمل والأفضل أن يكون بغترته ولا يعبث بالغترة. وعلى كل حال فالأكمل والأفضل ألا ينزعها عن رأسه؛ لأنها حالة كمال وإجلال وتعظيم للشعيرة، فهذا أكمل وأفضل، لكن هذا الفعل لا يستطيع أحد أن يقول: إنه حرام، بل نقول: خلاف الأولى. وهل خلاف الأولى مكروه؟ وجهان للعلماء: وصحح غير واحد -ومنهم الحافظ ابن دقيق رحمه الله- أن خلاف الأولى لا يستلزم أن يكون مكروها، والله تعالى أعلم. النهي عن البيع في المساجد السؤال وزعت قصاصات من الأوراق في المسجد فيها طلب شراء أشرطة الدروس من التسجيلات الإسلامية، فهل هذا يعد من قبيل البيع في المسجد؟ الجواب نعم. هذا داخل في النهي ولا يجوز، وللأسف بلغني في درس جدة ودرس مكة أنه وزعت هذه القصاصات للمذكرات وللأشرطة، وهذا من البيع، والمساجد ما بنيت لهذا، فإذا أراد صاحب التسجيلات أن يعرض شيئا فليعرضه خارج المسجد، أما المسجد فلذكر الله عز وجل، ولذلك لا أرى شرعية هذا الشيء ولو كانت دروسي، فلا يجوز هذا الشيء ولا يشرع، فمحل البيع والتجارة معروف، والمساجد ما بنيت إلا لذكر الله، فعلى الإخوة أصحاب التسجيلات أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يفعلوا هذا لا في الدروس ولا في المحاضرات، وأن يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البيع داخل المسجد، والإجماع منعقد على تحريم البيع داخل المسجد كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لا البيع ولا العرض والترغيب، حتى بعض التقاويم التي فيها دعاية للمؤسسات لا ينبغي أن تكون داخل المسجد؛ لأنه ليس المقصود التقويم، وإنما المقصود الدعاية للمؤسسة، والتجارة، ولذلك نقول لصاحب هذا التقويم: إذا كنت تريد وجه الله عز وجل فاطمس الدعاية حتى يتبين أنك تريد التقويم، ولا تريد أن تدعو إلى مؤسستك أو تجارتك، ولذلك من ناحية شرعية: التقاويم التي فيها دعاية تطمس الدعاية أو تخرج من المسجد؛ لأن المساجد ما بنيت إلا لذكر الله عز وجل، وبعض الأحيان يفقد غريب محتاج ضالته فينشدها في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من وجدتموه ينشد ضالته) رجل محتاج منكوب مكروب (فقولوا: لا ردها الله عليك) مع أنها شريعة رحمة ويسر، إلا إن المساجد لم تبن لهذا، وتكفي الدنيا خارج المسجد، وأما المساجد فليس فيها إلا ذكر الله، وليس فيها إلا تعظيم الله، وتمجيده وتوحيده، وتقديسه بالأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، يتخلى الناس في المساجد من نكد الدنيا وقذرها، فيتطهرون بالإقبال على الله، وبالتوبة والإنابة إليه عز وجل. ولذلك قال أبو الدرداء لرجل يبتاع في المسجد: (يا هذا! إن أردت البيع فاخرج خارج المسجد، فإنك في سوق الآخرة) يعني: هذا ليس مكان البيع والشراء، فالمساجد لله وحده لا شريك له {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن:18] ، ولذلك لا يجوز أن يقدس فيها أحد ولا أن يمجد فيها أحد، ولا أن تفعل فيها أشياء لتمجيد أشخاص أو ذوات أبدا إلا الله وحده لا شريك له، فهي أماكن عبادة وذكر لا يجوز لأحد أن يستغلها لأغراض دنيوية، وعلى الجميع أن يتقوا الله عز وجل سواء في مسائل البيع أو غيرها، وأن يعظموا شعائر الله عز وجل نسأل الله العظيم أن يوفقنا لذلك وأن يعيننا عليه، والله تعالى أعلم. الشكوى إلى الله علاج كل هم وكرب السؤال أعاني من ضيق شديد، وأحلام مزعجة، فادع الله لي، وما المخرج منها؟ الجواب نسأل الله العظيم أن يعجل لنا ولك ولكل مسلم مكروب منكوب بالفرج. أخي في الله! الشكوى إلى الله، ومن أنزل بالله حاجته وفاقته أوشك أن يتأذن الله له بالفرج العاجل، فاجعل شكواك إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، واجعل توكلك على الحي القيوم وسبح بحمده، فإنه يعلم حالك، وأرأف بك من نفسك التي بين جنبيك، فهو أرحم الراحمين، وهو رب العالمين، منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، فهو الله الذي لا إله سواه، ولا رب عداه، فاجعل حاجتك عند الله جل وعلا، واعلم أنك بين منزلتين: إن صبرت وسكت وجعلت بثك وحزنك إلى الله وحده رفعت درجتك، وكفرت خطيئتك، وأفرغ عليك الرحمن صبرا، فعاد البلاء نعمة عليك في الدين والدنيا والآخرة، فقويت نفسك، واستجمت روحك، وتعلقت بالله سبحانه وتعالى، حتى إن بعض المؤمنين المخلصين المحسنين إذا زال عنهم البلاء تألموا، فهم يجدون في البلاء من لذة مناجاة الله ما لا يجدونه إذا فارقهم، وهذا من كمال إيمانهم وتوحيدهم وتعلقهم بربهم، فكن ذلك الرجل رحمك الله. وأما إذا اشتكيت وأخذت ذات اليمين والشمال فأنت بين أمرين: إن اشتكيت شكوى للعلاج والأخذ بالأسباب كشكوى المريض إلى طبيبه فهذا من تعاطي الأسباب، وقد اشتكى عليه الصلاة والسلام فقال: (وا رأساه) ، وأما إذا كان إخبارا بالحال فلا بأس كما اشتكى عليه الصلاة والسلام فيما ذكرنا، وأما إذا كانت الشكوى تسخطا من القضاء والقدر فقد ضاقت النفس، وعزب الرشد، وحينها يقول صلى الله عليه وسلم: (فمن سخط فعليه السخط) ، نسأل الله السلامة والعافية، فلا تتسخط على قضاء الله وقدره، وارض بما قسمه الرحمن، وانظر إلى من هو أشد بلاء وضررا، واحمد الله جل وعلا على عافيتك. الوصية الأخيرة: ما من بلاء إلا بسبب ذنب، وإذا أراد الله بعبده خيرا نبهه لحقوق الناس ومظالمهم، فلعل مظلوما ظلمه، أو محروما حرمه، فتفقد نفسك، فلربما آذى العبد قريبا فقطع رحمه فابتلاه الله بهذه المصائب، ولربما ظلم ضعيفا، أو حرم ذا حق حقه، أو آذى وليا من أولياء الله، كأن يغتاب العلماء أو يقع فيهم أو ينتقصهم؛ لأن هذه الأمور غالبا عقوبة الله فيها أليمة وشديدة، خاصة أذية الوالدين والقرابة، وأذية أهل الفضل وأهل العلم، والصالحين والأتقياء، والظلم والبهت، والاستهزاء بالناس، فهذه دائما تسلط على الإنسان النكد والهم والغم، وتجعل نفسه في ضيق وكرب: {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [النحل:33] ، ما ظلم الله عز وجل عباده، ولكن ما وقعت بهم هذه البلايا إلا بسبب ظلمهم وأذيتهم وإصرارهم على اعتدائهم على حدود ربهم، فالواجب على المسلم أن يتفقد نفسه، وسعادة المؤمن وحسن حاله في الدنيا أنك تجده يعرف من أين يؤتى، فقل أن ينزل به بلاء إلا وألهمه الله سبب ذلك البلاء، وهذا إذا قلت سيئاته وكثرت حسناته، عندها يعلم من أين يؤتى، أما -والعياذ بالله- من عظمت سيئاته وأحاطت به خطيئته، فعندها لا يزال يبتلى ويبتلى حتى ينزل الله به نقمته فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، نسأل الله السلامة والعافية. فعلى كل حال أوصيك بهذه الأمور: أولها: الالتجاء إلى الله وحده لا شريك له، واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد وعدك بالفرج، فما من منكوب ولا مكروب يصدق مع الله في دعائه وسؤاله ورجائه إلا صدق الله معه، وما من عبد ينادي ربه في ظلمة ليل أو ضياء نهار وقد فرغ قلبه من كل شيء إلا الله جل جلاله، معتقدا من خالص قلبه أن الله قادر على إزالة كربه، يناديه نداء صدق وهو يعتقد ربوبيته وألوهيته وقدرته على خلقه إلا جعل الله له فرجا ومخرجا، فإما أن يزيل البلاء بالكلية، وإما أن يفرغ على هذا الحبيب المؤمن الولي الصالح صبرا، فلو أنه نزل عليه البلاء كأمثال الجبال لم يشعر من ذلك بشيء، ولذلك عليك أن تركز على هذا الأساس وهو الالتجاء إلى الله عز وجل. ثانيا: تأخذ بالأسباب والتي منها أن تعرف من أين أتيت، فتفقد ما بينك وبين قرابتك من الوالدين والقرابة، وكذلك أيضا ما بينك وبين صالحي العباد من العلماء والأئمة الأموات والأحياء، فتستغفر الله من ذنوب وقعت بها في حقوقهم، وتسأل الله العفو عنك. والوصية الأخيرة: الاستكثار من الأمور التي توجب الرحمة والتي من أعظمها وأجلها: أولا: سماع القرآن وكثرة تلاوته، قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [الأعراف:204] ، فالذي يكثر من سماع القرآن يبدد عنه الهم والغم، وكذلك أيضا الذي يكثر من تلاوته فإن الله يشرح به صدره. ثانيا: مما يزيل الله به الهم والغم ويعجل به الفرج من الأعمال الصالحة: كثرة الاستغفار، فإن الله عز وجل أخبر أنه لا يعذب من استغفر، ولذلك من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، فتستغفره قائما وقاعدا، وممسيا ومصبحا، تستغفره على كل حال، وتسأله الرحمة في سائر الأحوال. نسأل الله بعزه وجلاله أن يرحمنا برحمته، وأن يعمنا بواسع مغفرته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________________
|
#625
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (471) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [5] من أنواع المعتدات من ينقطع حيضها لسبب قد يكون معروفا وقد يكون غير معروف، ولكل حكمه، ومن أنواع المعتدات كذلك من يغيب عنها زوجها، فلا تدري أهو حي أم ميت، وهذه كلها أحكامها مبينة في كتب العلماء رحمهم الله. عدة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسبيله إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [الخامسة من ارتفع حيضها ولم تدر سببه] . هذا النوع الخامس من النساء المعتدات، وحاصله: أن المرأة يرتفع حيضها وينقطع عنها، ولا تدري ما هو سبب الانقطاع، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله -كما سيبينه المصنف- أن هذا النوع ينقسم في الأصل إلى قسمين: القسم الأول: أن يرتفع الحيض وينقطع ولم تعرف سببه. والقسم الثاني: أن يرتفع وتعلم سبب الارتفاع. فهذا النوع من النساء في الأصل ينقطع عنهن دم الحيض، ثم إذا انقطع هذا الحيض إما أن تعلم سبب الانقطاع وإما أن لا تعلم، فإن علمت سبب الانقطاع فلها حكم، وإن لم تعلم سبب الانقطاع فلها حكم آخر، والمصنف رحمه الله شرع في بيان هذا النوع فقال: (من ارتفع حيضها ولم تدر سببه فعدتها سنة) . من ارتفع حيضها ولم تدر سبب انقطاع دم الحيض عنها فعدتها سنة، وهذا قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وهذه السنة توجيهها: أنها تعتد تسعة أشهر لاحتمال أن تكون حاملا، فإذا مضت عليها تسعة أشهر ولم يتبين أنها حامل فإنه حينئذ تبدأ عدتها بالأشهر وتكون عدتها ثلاثة أشهر بنص القرآن على أن المرأة التي لم تحض والمرأة اليائسة من الحيض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا أضيفت التسعة الأشهر إلى الثلاثة الأشهر أصبح المجموع اثني عشر شهرا -سنة كاملة- كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قالوا: لم يخالف في هذا الحكم، فإذا انقطع دم الحيض عن المرأة ولم تدر ما سبب انقطاعه فإنه يلزمها أن تعتد سنة كاملة، تسعة أشهر لاحتمال أن تكون حاملة استبراء لرحمها من الحمل، وثلاثة أشهر التي هي العدة الأصلية للتي ليست ممن يحضن. يقول المصنف رحمه الله: [تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، وتنقص الأمة شهرا] . وتنقص الأمة شهرا؛ لأنه بالنسبة للتسعة الأشهر تستوي فيها الأمة والحرة؛ لأن الحمل لا يختلف من حرة إلى أمة، فالتسعة الأشهر في الحرائر والإماء، فتعتد تسعة أشهر، والثلاثة الأشهر التي هي عدة اللائي لا يحضن من النساء تتشطر على مذهب الحنابلة، وقد ذكرنا أن الصحيح عدم التشطير وهو مذهب المالميكة والظاهرية رحمة الله عليهم، وقول بعض فقهاء المدينة كـ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -أحد فقهاء المدينة السبعة- وسالم بن عبد الله بن عمر، وهو قول مجاهد بن جبر والدليل على ذلك: أولا: عموم الأدلة الواردة في كتاب الله عز وجل حيث لم يفرق سبحانه وتعالى بين الحرة والأمة. ثانيا: أن الذين قالوا بالتشطير خصصوا هذا العموم بقول الصاحب، والعموم أقوى. ثالثا: أنهم خصصوه من جهة العقل، وهذا مبني على المسألة الأصولية: تعارض العموم مع القياس، ودلالة العموم أقوى من القياس في هذه المسألة، فإن الله تعالى نص على التشطير في الحد ولم ينص على تشطيره في غيره من حيث الأصل العام، فبقي الغير على الأصول إذ ورد فيه دليل عام فيبقى على عمومه؛ ولذلك يترجح مذهب من قال: إنه لا تشطير في عدة المرأة إذا كانت من الإماء. عدة من بلغت ولم تحض قال المصنف رحمه الله: [وعدة من بلغت ولم تحض، والمستحاضة الناسية، والمستحاضة المبتدأة: ثلاثة أشهر والأمة شهران] (وعدة من بلغت ولم تحض) المرأة إذا كانت صغيرة -الصبية- إذا بلغت لها حالتان: الحالة الأولى: أن تبلغ بالحيض وحينئذ لا إشكال؛ فعدتها بالأقراء -على التفصيل هل هو الطهر أو الحيض- وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الله تعالى يقول: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة:228] وهذه ذات قرء فيجب عليها أن تتربص ثلاثة قروء بنص كتاب الله عز وجل. الحالة الثانية: أن تبلغ ولا يظهر بها حيض، كما لو بلغت الخامسة عشرة على الصحيح وقد بينا خلاف العلماء رحمهم الله في سن البلوغ، فإذا بلغت -مثلا- خمسة عشرة سنة على القول بخمسة عشرة سنة، أو سبعة عشرة سنة في مذهب الحنفية في التفريق بين الذكر والأنثى، وثمانية عشرة سنة كما هو مذهب المالكية، فإذا بلغت ولم تحض فحينئذ قال طائفة من أهل العلم: إننا نستصحب حكم الأصل: أن التي لم تحض لصغر تعتد بالأشهر لآية الطلاق، فإن الله تعالى بين في آية الطلاق أن اليائسة من الحيض والتي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، فإذا ثبت أن المرأة في صغرها لم تحض فبالإجماع أنها تعتد بالأشهر، فإذا وصلت إلى سن الحيض ولم يجر معها دم حيض استصحب الأصل، فبلوغها لم يؤثر في الحكم شيئا؛ لأنها لا زالت غير حائض، والله يقول: {واللائي لم يحضن} [الطلاق:4] فبين أن اللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، وهذه لم تحض، فتبقى على حكم الأصل فتعتد ثلاثة أشهر، وهذا كما نص عليه المصنف رحمه الله وهو قول طائفة من أئمة العلم من السلف والخلف. عدة المستحاضة الناسية (والمستحاضة الناسية) تقدم معنا من هي المستحاضة، وبينا أنها المرأة التي يجري معها دم الحيض، وإذا جرى دم الحيض فله صور، وبينا أنه تارة يكون لها عادة، وتارة يكون لها تمييز، وفصلنا في أحكام هذا في كتاب الحيض. والمسألة عندنا: امرأة مستحاضة كانت لها عادة ثم نسيتها، فلما نسيت عادتها أصبح حيضها مجهولا، فقالوا: تعتد ثلاثة أشهر، حتى في مذهب الحنابلة فإنهم يردونه إلى الأصل في كتاب العبادات. كيف تعتد ثلاثة الأشهر؟ قالوا: تحمل على حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، وهو حديث حسنه غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، ومنهم الإمام البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال لها: (. أنعت لك الكرسف -قالت: يا رسول الله! هو أشد من ذلك، قال لها: استذفري، ثم قال لها: تحيضي في علم الله ستا أو سبعا، ثم صلي ثلاثا وعشرين أو أربعا وعشرين) فقوله: (تحيضي في علم الله ستا أو سبعا) ردها إلى الغالب من حيض النساء، فتتحيض ستة أيام أو سبعة أيام على حسب قوة الدم وضعفه، والتي تتحيض ستة أيام أو سبعة أيام وقد نسيت عادتها تنقسم إلى قسمين: أن تعلم مكان العادة -لأنها قد تنسى عدد العادة ولا تنسى مكانها- في أول كل شهر أو في آخر كل شهر، أو في منتصف كل شهر، فإن كانت عادتها تأتيها في أول كل شهر فحينئذ نقول لها: تحيضي في علم الله ستا أو سبعا من بداية كل شهر، وإن كانت عادتها تأتيها في آخر الشهر يقال لها: تحيضي في علم الله ستا أو سبعا من آخر الشهر، لأنها تعلم مكان الحيض. كيف نحكم بانتهاء العدة؟ الثلاثة الأشهر هنا فيها وجهان: الأول: من أهل العلم من يقول: ثلاثة أشهر كاملة كأن الحيض سقط اعتباره ورجع إلى التي لم تحض، وقال: لأنها لما كانت ذات حيض ولا تعرف عادتها، ولا يمكن تمييز عادتها أصبح وجود الحيض وعدمه على حد سواء، فيرد إلى ثلاثة أشهر كاملة، وبناء على هذا القول: لو طلقت في آخر ذي الحجة فإنها تعتد محرم وصفر وربيع الأول، وتخرج في آخر ربيع الأول من عدتها، وتحل للأزواج بنهاية شهر ربيع الأول. الثاني: من أهل العلم من يقول: تعتد ثلاثة أشهر، على تفصيل حديث حمنة رضي الله عنها وأرضاها، وفي هذا الحديث قلنا: إذا كانت تعلم وقت عادتها في بداية الشهر أو آخره أو وسطه، فيفصل في هذا القول على التفصيل الذي تقدم معنا في الحيض والطهر. هل عدة المرأة بالحيضات أو بالأطهار؟ أولا: إن قلت: إن عدة المرأة بالحيضات -كما اختاره المصنف- وهو مذهب الحنابلة والحنفية رحمهم الله: يقولون: تعتد ستا أو سبعا من بداية محرم، ثم ستا أو سبعا من بداية صفر، ثم ستا أو سبعا من بداية ربيع، فإذا انتهت من اليوم السابع أو السادس -على التفصيل- خرجت من عدتها؛ لأنها حاضت ثلاث حيضات، وهذا حيض تقديري بنص الشرع يعني: الشرع اعتبرها في هذا النوع من النساء، وكما أن العبادة ترتبت على هذا الحيض التقديري فالمعاملة مرتبة عليه. ثانيا: إن قلت إن العدة بالأطهار، فتقول: تتحيض ستا أو سبعا من بداية محرم ثم صفر ثم ربيع وتنتهي بالطهر الثالث، وبناء على هذا تختلف: العدة على الوجهين في القول الثاني. فالقول الأول: يتم العدد. يعني: لا بد من مضي الثلاثة الأشهر. والقول الثاني: لا يرى مضي الثلاثة الأشهر، والإشكال حينما يقع الطلاق، فلو وقع الطلاق أثناء الشهر، فلو كانت في بداية الشهر كما لو طلقت في آخر ذي الحجة فلا إشكال أنها تبتدئ من محرم، وتعتد ثلاثة أشهر -كاملة أو ناقصة- قمرية؛ لأن أحكام الشريعة الإسلامية مرتبة على الأشهر القمرية لا الأشهر الشمسية، والأشهر الشمسية ليس لها في أحكام العبادات والمعاملات تأثير، إنما التأثير في الأشهر القمرية التي نص الله عز وجل على اعتبارها: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس} [البقرة:189] وبين تعالى بهذه الآية أن الأصل: الاعتبار بالأشهر القمرية، وهذا محل إجماع عند العلماء رحمهم الله. فلو أنها طلقت في آخر الشهر وابتدأت الثلاثة الأشهر من أول الشهر فتعتد الثلاثة الأشهر كاملة أو ناقصة، وحينئذ تارة يكمل الشهر الأول والثاني وينقص الثالث، وتارة ينقص الأول والثاني ويكمل الثالث، وتارة ينقص الأول والأخير ويكمل الوسط، وتارة العكس، فالعبرة في هذا كله بنقص الشهر وكماله فتارة تكون عدتها (89) يوما وتارة (88) يوما على حسب كمال الشهر ونقصه. لكن لو أنها طلقت في منتصف شهر محرم، أو طلقت في (10) من شهر رمضان، أي: طلقت أثناء الشهر، فللعلماء في هذه المسألة خلاف، والذي عليها جمهور العلماء رحمهم الله أنهم يقولون الآتي: عدة الوفاة والطلاق تحتسب بالأشهر، فما زاد عن الشهر يعتبر مضموما إلى آخر شهر، فإذا طلقت في اليوم العاشر من رمضان فحينئذ تتبع عدتها من اليوم الحادي عشر إلى نهاية رمضان، ثم نحتسب شوال ناقصا أو كاملا، ونحتسب ذا القعدة ناقصا أو كاملا، فإن نقص في الأهلة فهي شهر، وإن كمل فهو شهر، ثم يبقى السؤال في شهر ذي الحجة: ما الذي يضاف إلى الأيام التي مضت؟ فبعض العلماء يقول: يضاف من ذي الحجة عشرة أيام؛ لأن الأيام التي خلت من أول رمضان عشرة أيام، فبناء على ذلك قالوا: لا بد وأن تحتسب المدة كاملة بناء على الشهر ويقدر الثاني والثالث -أي الشهرين الذين في الوسط- كاملين ويبقى الشهر الأول والرابع على حسب النقص الموجود في الأول ويكمل من الشهر الرابع. وبناء على هذا القول: لو كان شهر رمضان ناقصا فعندهم تعتد إلى عشر من ذي الحجة سواء كان ناقصا أو كاملا، قال بعض العلماء: العبرة بالعدد، فما خرج عن الشهرين يرجع فيه إلى الأصل، وبناء على ذلك: لو نقص فإنه لا بد وأن يحتسب ثلاثين يوما، فتخرج في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، ومن حيث الأصل فالشهران اللذان هما في الوسط يكون الاحتساب بهما بالنقص والكمال، فلو كانا ناقصين فالعدة تامة كاملة، ولا يلتفت إلى الحساب بالتقدير من جهة أن يكون الشهران ستين يوما، بل لو نقص الأول والثاني الذي هو شهر شوال وذو القعدة، وكان رمضان كاملا فإنه يحتسب ويعمل به ولا يؤثر، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة) ، وقال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا قال الراوي: هكذا: فعد ثلاثين، ثم خنس الإبهام في العدد الثاني) يعني: يكون ثلاثين ويكون تسعا وعشرين، وهذا من سماحة الشريعة أنها اعتبرت الرؤية، فإن رؤي الهلال فبها ونعمت، وإن لم ير أكملت العدة ولا عبرة بالحساب الفلكي وبينا هذا غير مرة، وبينا أن وصف الأمية لهذه الأمة وصف شرف وليس بوصف منقصة؛ لأن الله وصفهم بهذا، وقلنا بأن الأمية لا تستلزم الجهل، فالذي يقول: إن الأمي جاهل يخلط بين الأمرين، لأن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ أي: أنه باق على حالته كيوم ولدته أمه، وقد يكون الشخص لا يقرأ ولا يكتب وهو أعلم الناس؛ فالأعمى لا يقرأ ولا يكتب، وقد يكون عنده علم، فالقراءة والكتابة ليست هي العلم، إنما العلم بالتحصيل والوعي، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (رب مبلغ أوعى من سامع) . عدة المستحاضة المبتدأة (والمستحاضة المبتدأة) كذلك الحكم بالنسبة للمستحاضة المبتدأة: تعتد ثلاثة أشهر. (والأمة شهران) على مذهب التشطير وبينا أنه مرجوح وليس براجح. عدة من ارتفع حيضها وعلمت سببه قال رحمه الله: [وإن علمت ما رفعه من مرض أو رضاع أو غيرهما فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض] هذا النوع الثاني من النساء: من ارتفع حيضها وعلمت سبب الارتفاع كمرض، وقال لها الأطباء: إن الحيض انقطع عنك بسبب المرض، أو كان بسبب الرضاع، ففي هذه الحالة يحمل هذا النوع من النساء على العدة التي سبقت وتقدمت، فتعتد سنة كاملة، وبهذا قضى الصحابة -رضوان الله عليهم- أن المرأة إذا ارتفع حيضها وعلمت سبب ارتفاعه فإنها تبقى على حالها حتى يعود إليها الحيض، وبهذا قضى الصحابة. فـ علقمة بن قيس رحمه الله -صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- كانت له زوجة فطلقها طلقة أو طلقتين، فحاضت حيضة أو حيضتين والشك من الراوي -والأثر عند مالك في الموطأ من طريقه، ورواه البيهقي بسند صحيح- فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها الحيض، ثم بقيت سنة ونصف سنة، قيل: إنها توفيت بعد سبعة عشر شهرا، وقيل: بعد ثمانية عشر شهرا، ولم يعد إليها الحيض؛ لأنها كان عندها مرض، وعلمت السبب فحاضت الأولى ثم الحيضة الثانية وجاءها المرض فلم تحض الثالثة، وهذا لطف من الله عز وجل، فلما لم تحض الثالثة توفيت قبل أن يعود إليها الحيض، فرفع أمره إلى عبد الله بن مسعود فورثه منها، وقال له: (حبس الله لك ميراثها) . يعني: الله عز وجل حبس عنها الحيض؛ لأنها لو حاضت الثالثة ما ورث منها شيئا؛ لأنها تخرج بها من العدة، والرواية صحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وبناء على ذلك: إذا ارتفع الحيض بمرض وعلمت السبب -كما ذكر المصنف رحمه الله- تبقى حتى يزول هذا السبب وترجع إلى الأصل؛ لأن هذه ليست يائسة من الحيض، بل هي ذات حيض جاءها عذر أو طارئ، فتبقى على الأصل من إلزامها بالحيض حتى يعود إليها حيضها ولو مكثت سنتين أو ثلاثا فإنها تبقى على عدتها، وهي في حكم المعتدة حتى يعود إليها الحيض وتتم العدة على الوجه المعتبر. (فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض وتعتد به أو تبلغ سن الإياس فتعتد عدته). فيستمر الأمر معها حتى تدخل سن اليأس، وقد بينا قضية سن اليأس وهل له سن معين أو لا وبينا أن الصحيح أنه لا حد لليأس، وما دام أن دم الحيض يجري على المرأة فهي حائض، لكن لو انقطع فيما يشبه سن اليأس في غالب النساء أو في أترابها وقرائنها وكذلك أهل بيتها، ومعروف في بيتها أن النسوة اللاتي يبلغن سن خمس وخمسين عاما ينقطع عنهن الحيض، فجلست تنتظر بعد المرض الذي أصابها ولم يزل المرض ودخلت في سن اليأس، فالغالب كالمحقق، والغالب: أن وضعها ووضع أهل بيتها وعادة أترابها أنها تكون آيسة؛ فحينئذ يحكم لها بعدة الإياس فتنتقل من عدة ذات الحيض إلى عدة ذات الإياس، وتلزم بالعدة ثلاثة أشهر. عدة امرأة المفقود قال رحمه الله تعالى: [السادسة: امرأة المفقود] والمفقود هو: الذي غاب ولا يعرف خبره. وبعضهم يقول: غاب وانقطع خبره، وبعضهم يقول: لا يعرف خبره، فيخرج الحاضر، والذي يعرف خبره، مثل الذي يراسل زوجته أو أقاربه فحينئذ لا يكون في حكم المفقود، فالمفقود يغيب وينقطع خبره، فلا يعرف حاله، وينقسم إلى قسمين: أقسام المفقود القسم الأول: أن يكون غائبا في حال يغلب عليها الهلاك ومن أمثلته: الذي يفقد في القتال في سبيل الله عز وجل، فيكون بين الصفين، أو تحدث فتنة وقتال وهرج ومرج ويدخل فيها ثم يفقد، فهذا فقد في شيء غالبه الهلاك، أو يحدث زلزال في المدينة أو القرية أو المكان الذي هو فيه وينقطع خبره ولا يدرى أهو حي أو ميت. أو مثلا: يحدث فيضان، أو سيل على المكان الذي هو فيه -والعياذ بالله- أو تحصل حرائق أو كوارث أعاصير ثم ينقطع خبره ولا يعرف أحي فيرجى أو ميت فيحكم بهلاكه. فإذا كان في غيبة غالبها الهلاك فقضاء الصحابة -رضوان الله عليهم- أنه ينتظر أربع سنوات، فإذا لم يأت شيء ولم يتبين شيء حكم بموته تقديرا، وهذا على قاعدة: (تنزيل المعدوم منزلة الموجود) ؛ لأن الموت ليس محققا، لكن ننزله منزلة الموجود، أو (تنزيل الموجود منزلة المعدوم) . وهذا الأصل في التقدير كما ضبطه العلماء. وفي هذه الحالة نقدر الموجود منزلة المعدوم وهو حياته فنقدرها كأنها ليست موجودة، أو نقدر المعدوم منزلة الموجود وهو موته فنقول: إنه ميت؛ لأن الأصل أنه حي، وعلى كل حال يحكم بموته تقديرا ثم تعتد عدة الوفاة، فإذا اعتدت عدة الوفاة حكم بعد ذلك بحلها للأزواج، إن شاءت أن تنكح وإن شاءت أن لا تنكح، فهي حرة في أمرها. وقد أثر هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقضى بذلك واشتهر هذا القضاء عنه رضي الله عنه وأرضاه، وعمل به الأئمة، وقال بعض السلف: ينتظر سنة كاملة، كما أثر عن سعيد بن المسيب؛ والرواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي عن طريق سعيد بن المسيب ورواية سعيد رحمه الله عن عمر بن الخطاب فيها خلاف: هل سمع أو لم يسمع؟ وهل هي متصلة أو منقطعة؟ لكن العمل عند أهل العلم على هذا القضاء. واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه الأربع سنوات. هل هي معللة أو غير معللة؟ يعني: هل عمر لما قضى بالأربع السنوات قصد شيئا من تحديد الأربع دون زيادة أو نقص أو لم يقصد؟ فقال بعض العلماء: قصد شيئا، فهي معللة، وقالوا: قصد أنها أقصى مدة للحمل، فهي تتربص على هذا الوصف وعلى هذه المدة استبراء لهذا الميت في حقه بالنسبة لها، ثم تعتد عدة الوفاة. وقال البعض: الأشبه أنه غير معلل وهذا قول فيه قوة، وقضاء الأربع السنوات يشبه أن يكون الغالب أن الأربع السنوات إذا لم يعرف فيها خبر الإنسان يكون أشبه بالهالك، خاصة إذا كان حاله حال هلاك، مثل أن يفقد في مواضع غالبا لا يعيش صاحبها، مثل أن يسافر إلى أرض مسبعة فيها سباع، أو يكون البحر في حال هيجان، فالأربع السنوات مدة كافية أنه لو كان حيا لحصل أقل شيء الخبر والعلم بحاله. القسم الثاني: أن يكون غائبا في حال يغلب عليها السلامة مثل أن يسافر للتجارة في بلد آمن، أو أن يسافر ومن عادته أن يسافر، وفجأة انقطعت أخباره ولم يعرف هل هو حي أم ميت، أو سافر لصلة رحم وبعد ما تركهم لم يعرف ماذا صار له وماذا جرى؛ فإذا سافر على وجه غالبه السلامة كالتجارة والنزهة والصيد ونحو ذلك وفقد فمذهب جمهور العلماء: أنه ينتظر. يعني: الأصل أنه حي وتبقى امرأته على هذا الأصل حتى تستيقن موته، إما أن يأتيها خبر أنه ميت أو تمكث مدة يغلب على مثله أن يموت، هذا وجه. أو تمكث إلى أن يقدر عمره تسعين سنة، وقيل: إلى مائة، وقيل: إلى مائة وعشرين. صورة المسألة: الرجل عمره ستون سنة مثلا، والمرأة شابة عمرها ثماني عشرة سنة، أو خمس عشرة سنة، فتنتظره إلى التسعين، قالوا: والغالب أنه لا يجاوز التسعين. وقال بعض العلماء: تنتظر إلى مائة وعشرين. ومن أهل العلم من قال: ينظر إلى أقرانه ومن في سنه، فإذا انقرضوا وماتوا حكم بوفاته، وهذا كله لأجل قضية الإرث والحقوق التي سترتب على الحكم بوفاته، فهم يقولون: نبقى على الأصل أنه حي حتى يغلب على الظن هلاكه، والقول بأنه ينظر إلى من هم في مثل سنه ومن هم أقرانه حتى ينقرضوا أشبه، وكل الأقوال هذه عند الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة ذكروا أنه ينتظر على التفصيل الذي ذكرناه، فمنهم من قدر التسعين، ومنهم من قدر المائة، ومنهم من قدر المائة والعشرين كما نص عليه بعض فقهاء الحنفية والشافعية رحمة الله عليهم. فينتظر هذه المدة، فإذا مضت هذه المدة حكم بوفاته. وفي هذه الحالة لو قلنا: إن المرأة تنتظر. فالمرأة قد تخاف على نفسها الحرام والفتنة، ولا تستطيع أن تنتظر هذه المدة، وتريد حقوقها، وتريد من يعولها ويقوم عليها، كأن ترغب في الزواج، فترفع أمرها إلى القاضي وتشتكي، وفي بعض الأحيان من حق القاضي أن يطلق عن الزوج إذا رأى ظلم المرأة، وخشي عليها. إذا: فالمرأة لها أن تنتظر، لكن متى نحكم بإرثها منه؟ ومتى نحكم باعتدادها من عدة الوفاة؟ وهذا الكلام في حال إذا رضيت أن تبقى وتعتد عدة الوفاة، فإذا قالت: أنا سأبقى، ولا أريد تركه، وأريد حقي في إرثه مثلا، ففي هذه الحالة نقول: لا حق لك ولا إرث لك حتى تمضي المدة التي غالبا أنه يهلك فيها، ثم بعد ذلك يحكم بموته تقديرا، على تفصيل في مسألة الإرث والميراث، ولكن الذي يهمنا هنا أنها تمكث منتظرة إلى أن يغلب على الظن هلاكه بهلاك أقرانه، أو بمضي مدة على التفصيل الذي ذكرناه. قال رحمه الله: [تتربص ما تقدم في ميراثه ثم تعتد للوفاة] . تتربص ما تقدم في ميراثه من كتاب الفرائض وقد تقدم، والعلماء دائما يحيلون المسائل على مواضعها ومظانها، فمظان هذه المسألة في ميراث المفقود وقد تقدم، وهذا التفصيل في كتاب الفرائض وفي غيره أنهم يقولون: إنها تنتظر إلى أن يغلب على الظن هلاكه. عدة الوفاة لامرأة المفقود قال رحمه الله: [ثم تعتد للوفاة] . إن حكم بوفاته تقديرا ومضت المدة أو هلك أترابه -الأتراب الذين في سنه- {عربا أترابا} [الواقعة:37] يعني: أنهم في سن واحدة- فلو هلك أترابه وانقرضوا، فحينئذ يحكم القاضي بوفاته، ثم بعد ذلك تعتد عدة الوفاة فيحكم بإرثها.
__________________
|
#626
|
||||
|
||||
![]() تربص أمة المفقود قال رحمه الله: [وأمة كحرة في التربص] . تتربص مثلما تتربص الحرة، يعني: تمكث أربع سنين مثلما ذكرنا، ولا يشطرون المدة هنا. قال رحمه الله: [وفي العدة نصف عدة الحرة] التشطير في العدة فقط، والغريب أن بعض المالكية قال بالتشطير -فتمكث سنتين- مع أنهم خالفوا في العدة، وقال: تتم العدة. وعلى كل حال طالب العلم ربما وجد عند بعض العلماء أقوالا مختلفة، فليعلم أن وراءها أسبابا، يعني: في بعض الأحيان التفريق بين المجتمع والجمع بين المفترق دليل على فقه العالم؛ لأنه أعطى كل مسألة حقها، والشريعة تفرق بين المجتمع وتجمع بين المفترق، وهذا طبعا لأنه الأحكام تختلف وتتأثر بعللها وموجبات التغيير فيها. وعلى كل حال: فالذي عليه العلماء هنا أنهم لم يروا تشطيرا في مدة التربص، فعندنا مدتان: المدة الأولى: أربع سنين، وهي مدة من لا تغلب عليه السلامة، وهذه المدة لا تشطير فيها. والمدة الثانية: مدة عدة الوفاة وهذه فيها التشطير -وقد تقدم معنا - لأنهم يشطرون عدة الوفاة بالنسبة للأمة، وبينا أن الصحيح أنه لا تشطير في عدة الوفاة ولا في عدة الطلاق. وقت ابتداء التربص بالنسبة لامرأة المفقود قال رحمه الله: [ولا تفتقر إلى حكم حاكم بضرب المدة وعدة الوفاة] اختلف العلماء رحمهم الله: لو أن المرأة أرادت أن تتربص الأربع السنين فهل تحتسب الأربع السنين منذ سفره، أو منذ انقطاع خبره، أو منذ شكواها ورفعها إلى القاضي؟ الجواب هناك قولان للعلماء رحمهم الله: القول الأول: تبتدئ الحساب من الوقت الذي انقطع خبره، كأن يكون يراسلها كل شهر وانقطع عنها في شهر محرم، فتبدأ التربص من محرم وتحتسب الأربع السنوات من محرم، وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وقد كان حكي عن أصحابه أنها تحتسب منذ فقده؛ لأن الضرر جاءها من حين فقده وفقد خبره. القول الثاني: تحتسب المدة من قضاء القاضي لها أن تتربص أربع سنين، فتبتدئ الأربع السنوات من قضاء القاضي كما هو في مذهب الإمام مالك رحمه الله، وعن الإمام مالك أنه نص على ذلك، أن تبدأ بالحساب منذ أن رفعت أمرها إلى القاضي. والفرق بين القولين: أنه ربما انقطع خبره من محرم فسكتت وانتظرت إلى أن جاء شهر -مثلا- شعبان فرفعت إلى القاضي أمره في شعبان، فعلى القول الأول تحتسب من محرم وتمضي أربع سنين حتى يأتي محرم من السنة التي تكمل فيها أربع سنين فتخرج من الإلزام بالأربع، وتدخل في عدة الوفاة. وعلى القول الثاني: يبتدئ حسابها من شعبان منذ أن حكم القاضي، وليس العبرة بابتداء الفقد أو انقطاع الخبر، والفرق بين القولين: إذا نظر إلى أن الأربع السنوات تبعدية وأنها تقدير من الشرع اعتمادا للغالب ففي هذه الحالة يقوى أنها تتوقف على حكم القاضي، وإذا نظر إلى أنها اجتهادية وفيها معنى التعليل ففي هذه الحالة العلة موجودة منذ الفقد، ومنذ انقطاع الخبر، فيقوى القول الأول على القول الثاني من أنها معللة؛ لأنه إذا انقطع خبره في هذه الحالة حصل الضرر لها فتبدأ الحساب من ذلك الوقت، وكلا القولين له وجهه، وظاهر الذي اختاره المصنف هنا: أنها لا تفتقر إلى حكم القاضي، يعني: تحتسب المدة من حين انقطاع الخبر. مسألة: إن تزوجت امرأة المفقود وجاء قبل أن يطأها الزوج الثاني قال رحمه الله: [وإن تزوجت فقدم الأول قبل وطء الثاني فهي للأول وبعدها له أخذها زوجة بالعقد الأول ولو لم يطلق الثاني] (إن تزوجت) هذا تسلسل في الأفكار، وميزة هذه الشريعة العظيمة الكريمة التي هي: {تنزيل من حكيم حميد} [فصلت:42] {يقص الحق وهو خير الفاصلين} [الأنعام:57] أنها شريعة تامة كاملة. ولذلك تجد أن الفقه الإسلامي ضرب أجمل الصور وأروعها في معالجة المسائل والمشاكل والنوازل بدقة وعناية وشمولية، بينما القوانين الوضعية قاصرة، يجلس أصحابها مدة يعاينون الناس وينظرون أعرافهم حتى يسنون القانون بعد ما تحدث القضايا، ويدرسون الأقضية التي تسمى: دراسة القضاء، فيقولون: هكذا في القضاء الفلاني والعلاني، فيجمعون هذه الأقضية ويجمعون تصورات ثم بعد ذلك يحدثون، فلو شاء الله أن الأعراف تغيرت، وأحوال الناس تبدلت واختلفت المعايير في المجتمع واختلفت أوضاع الناس ذهبت قوانينهم أدراج الرياح، وما عادت تنفع؛ لأن البيئة التي فيها التزام ومحافظة ليست كالبيئة التي لا يوجد فيها التزام، والبيئة الغنية ليست كالفقيرة، والبيئة الجامعة بين الغنى والفقر ليست كالمتمحضة فقرا أو غنى، لكن الشريعة الإسلامية هؤلاء علماؤها وأئمتها -رحمة الله عليهم- قد خرجوا المسائل من أصول صحيحة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بأجمل وأكمل ما يكون، فهنا لم يقولوا: إن امرأة المفقود يحكم بأنها تنتظر، فإذا انتهت مدة الانتظار حكم بأنها أجنبية وأنها تحل للأزواج ويقفون عند هذا فحسب؛ ما الذي يترتب على هذا الشيء؟ تحكم الشريعة في الشيء ولا تقف عاجزة، وقد كانت دولة الإسلام من المحيط إلى المحيط ولم تقف الشريعة ولا الفقه الإسلامي يوما من الأيام عند نازلة أو مسألة أبدا، بل إنها وفت وكفت وجاءت على أتم الوجوه وأكملها، لكن القوانين الوضعية تعجز في كثير من الأشياء والأمور التي تطرأ أو تجد، وهذا ما يسمونه بمسائل (الطوارئ) في لغة العصر، وتسمى: مسائل النوازل عند العلماء، فإذا نزلت النوازل اختلفت المعايير واختلفت الأقيسة، لكن الشريعة الإسلامية لا يحدث تغير فيها ولا عجز، والعلماء -رحمهم الله- منذ فجر الفقه الإسلامي عندهم ما يسمى بمسائل التخريج، وهذه المسائل اعتني بها تقريبا من القرون الأولى في الفقه الإسلامي، يخرجون ما حدث ووجد على ما مضى، حتى أنك تجد أن الفقيه ليس عنده دليل ينص على حكم المسألة لكن يستطيع أن يقول الحكم في المسألة ويصيب الحق؛ ولذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -وكان من فقهاء الصحابة ومفتيهم وكان عمر رضي الله عنه يقول فيه: (أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين) - قال: (أقول فيها برأيي -في مسألة سئل فيها- فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان ثم قضى بأن عليها العدة ولها الميراث. فقال له الأشجعي: أقسم بالله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا) . الله أكبر! يقول: أقول فيها برأيي، ويقول: إنه: ليس هناك نص، ولكنها بصائر تنورت، وقلوب صقلت بروحانية الكتاب والسنة، وأمة تلقت هذا الفقه بضوابط وأصول صحيحة، ومن هنا كان التأدب مع العلماء الراسخين، فهذا يقول: (أقول فيها برأيي) وما كذب رضي الله عنه وأرضاه، وإذا هي برأيه المحض، وهناك من يتهكم بالفقهاء ويقول: أهل الرأي!! والصحابي هنا يقول: (أقول فيها برأيي) فالرأي إذا كان مستنبطا من الشرع فلا يلام عليه أحد، وأئمة الإسلام ودواوينه ما جاءوا بالرأي من جيوبهم بل من الكتاب والسنة، وإنما الرأي المذموم هو الذي يكون غير مستند إلى العلم، كأن يأتي شخص ويفتي دون أن يكون قد درس الفقه على أصوله. هذه المسألة من مسائل النوازل وتترتب على الأصل المقرر، وهي مسائل المستتبعات التي يذكرها العلماء، وتختلف مناهج المتون الفقهية، وتقسم تقريبا إلى ثلاث درجات: الأولى: متون تعتني بالأصول فقط ولا يدخلون في التفريعات، وكأنها مختصر المختصر، وأصحاب الفقه والأصول ينهجون هذه الطريقة. الثانية: ومتون هي وسط بين المختصر والمطول، وتعتني بالأصول والتنبيه على نكت وطرائف وتتمات وفوائد لطيفة، ولا يدخلون في التفريعات. الثالثة: متون موسعة، وهي متون ومختصرات في الفقه، لكنها تعتني بالأصول وما بني على الأصول، وما يطرأ من مسائل الآثار، وربما في بعض الأحيان يأتي بغرائب المسائل، وهذا يختلف من مذهب إلى مذهب ومن فقه إلى فقه. وعلى كل حال فقد ذكر المصنف -رحمه الله- المسألة الأخيرة وهي: إذا تزوجت امرأة المفقود وجاء المفقود، وفي هذا قضاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قضى به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان رضي الله عن الجميع. أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فإنه قضى أنها لزوجها الأول، ويخير بين أن تعود إليه وبين أن يعطى الصداق وتبقى مع زوجها الثاني، وهذا الحكم من عمر رضي الله عنه مبني على الأصل؛ لأن القاعدة في الشريعة تقول: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) . يعني: إذا ظننت ظنا وعندك له دلائل وبنيت عليه أحكاما ثم تبين أنه خطأ، فهذا الظن لاغ، وما بني عليه من حيث الأصل لاغ أيضا، مثلا: لو أن شخصا استدان من شخص عشرة آلاف ريال ثم ظن أنه سدده، ورفع إلى القاضي فحلف بالله فقيل له: هل لك بينة؟ قال: ليس عندي بينة. فقيل: يا فلان! أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف بالله على غلبة الظن، فهو يظن أنه دفع له، ويجوز للمسلم أن يحلف على غلبة الظن، مثلما يحصل بين التجار حين يتعاملون مع بعضهم، فجاء في ظنه أنه دفع له عشرة آلاف من معاملة قديمة، فظن أن هذه المعاملة هي التي عليها الخصومة، ثم بعد سنة أو سنتين أو ثلاث تبين له أنه مخطئ. فهل يسقط حق الرجل بسبب ذلك الظن؟ نقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه ونرجع إلى الأصل، فنحن هنا حكمنا بأنه ميت وأنها خرجت من عدتها وحلت للأزواج، ثم تبين أنه حي، ولم يطلق ولم يحدث بينه وبينها مخالعة وفسخ، والأصل: أن العصمة بيد الزوج، وفي هذه الحالة يلغى الظن ويرجع إلى الأصل من أنها زوجته، فقضى -رضي الله عنه- بهذا، وهذا مبني على القاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) . وقضى رضي الله عنه بهذا القضاء في امرأة من بني شيبان اختصمت إليه رضي الله عنه وأرضاه، فقضى بخروجها واعتدت أربع سنين واعتدت عدة الوفاة ثم جاء زوجها الأول فخيره بين رجوعها وصداقها. وكذلك أيضا: ارتفعت قضية إلى عثمان رضي الله عنه وأرضاه ومضى إليه أهل المرأة وكانوا قد زوجوها فقال عثمان - -وكان رضي الله عنه في الحصار-: (كيف أقضي بينكم وأنا في هذه الحال؟) وهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه، فقد رجع إلى مسألة القضاء، فقالوا: قد رضيناك، فقضى فيها رضي الله عنه بالقضاء الذي ذكرناه، فلما توفي رفعت القضية إلى علي فأثبت الذي قضى به عثمان رضي الله عنه وأرضاه، فأصبح قضاء عمر وعثمان وعلي، وحينئذ يخير بين أن يرجع إلى زوجته وبين أن يأخذ الصداق. ثم بقي النظر: هل يرجع في الصداق على المرأة؟ أو يرجع على الزوج ثم الزوج يرجع على المرأة؟ وجهان للعلماء؛ ولذلك جاء في قصة الشيبانية أنها دفعت الألفين -وكان صداقها ألفين- قالت: (ثم أخذ من زوجي ألفين فأغناه الله) ، ألفين من عندها، وألفين من زوجها، وقالوا: إن هذا بطيبة نفس منه، لكن من حيث الأصل فإن الصداق يرجع فيه على الزوجة؛ لأنها هي التي نيط بها الحكم، وقال بعض العلماء: يرجع فيه إلى الزوج ثم الزوج يرجع على من غره وهي الزوجة، والغالب على هذا. ولكن إذا رغب الزوج الأول في زوجته فهنا يرد السؤال عن صداق الثاني؛ لأن الثاني دفع الصداق، فقال: يرجع إلى من غر. وهذا كله إذا حصل الدخول، أما إذا لم يحصل الدخول فقد ذكر المصنف -رحمه الله- أنها للأول، وقد قضى به غير واحد من أئمة السلف رحمة الله عليهم، وفرقوا بين بين أن يقع رجوع قبل الدخول أو يقع بعد الدخول. الوطء قبل الخروج من عدة الثاني قال رحمه الله: [ولا يطأ قبل فراغ عدة الثاني] (ولا يطأ قبل فراغ) استبراء للرحم حتى لا يخلط ماءه بماء غيره، ولا بد أن يحصل استبراء، يعني: لو قال: أريد زوجتي. والزوج الثاني قد وطئها، فينبغي أن يتحرى، فلا يطأ إلا بعد أن تستبرئ لرحمها، فإذا استبرئ الرحم فيحل له حينئذ أن يطأها. تجديد العقد الثاني إن ترك الأول قال رحمه الله: [وله تركها معه من غير تجديد عقد] قال بعض العلماء: يستحب أن يجدد الثاني العقد إذا ترك الأول، وقال: لا أريدها، عافتها نفسي، أو أنه لا يحب أن يسيئ إلى أخيه أو قريبه. فقال: لا أفسخ النكاح، فهل يجدد عقد الثاني أو لا يجدد؟ هذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، وقد نص المصنف على اختياره -رحمه الله- لعدم التجديد. قال رحمه الله: [ويأخذ قدر الصداق الذي أعطاها من الثاني، ويرجع عليها بما أخذه منه] إذا اختار أن تبقى المرأة عند زوجها فيرد له صداقه، ومثلما ذكرنا: هل يرجع على الزوجة أو يرجع على زوجها؟ إن قيل: يرجع على زوجها، فيرجع الزوج بعد ذلك على الزوجة، وإن قيل: إنه يرجع إلى الزوجة مباشرة فلا إشكال، لأن المرأة هي التي أخذت صداق الرجلين الأول والثاني، فحينئذ: إما أن ترد الصداق إلى الأول أو للثاني، على التفصيل الذي ذكرناه. الأسئلة عدة من ارتفع حيضها بسبب الرضاع السؤال من ارتفع حيضها بسبب الرضاع فهل لها أن تقطع الرضاعة وتعتد بالحيض أم تبقى على الإرضاع وتعتد ثلاثة أشهر؟ الجواب بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإذا انقطع الحيض عن المرأة فإنها لا تستطيع أن ترده وليس الأمر بيدها، فتنتظر حتى يذهب هذا المانع والرافع للحيض على التفصيل الذي ذكرناه سابقا، إذا: الأصل أنها تنتظر حتى يعود إليها الحيض، ثم إذا عاد إليها الحيض حكم بعدتها كعدة ذوات الأقراء. والله تعالى أعلم. حكم صلاة الميت على المفقود السؤال إذا لم يرجع الرجل المفقود هل يصلى عليه صلاة الميت؟ الجواب لا. لم يحصل أن أحدا من أهل العلم قال بذلك، ولا أعرف أن أحدا من أهل العلم قال: يصلى على المفقود أبدا. وحصل الفقد في عصر عمر وعثمان وعلي وهم ثلاثة أئمة من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم وما صليت صلاة الغائب على واحد مفقود، فهذا لا أصل له، فربما ظهر أنه حي، والأشبه أن الصلاة عبادة توقيفية لا يمكن أن يحكم بها وبشرعيتها إلا إذا دل الدليل، والدليل دل على مشروعية الصلاة إذا وجدت الجنازة أو الصلاة على الغائب على اختلاف في ذلك كما تقدم معنا في كتاب: الجنائز، والله تعالى أعلم. حكم إعانة المرأة على مخالعة زوجها السؤال امرأة أرادت أن تخالع زوجها وليس لديها ما تخالع به، فاقترضت من رجل قدر مهرها ولكن المقرض اشترط أنه إذا شاء تزوجها بهذا القرض، فما حكم هذه المسألة؟ الجواب لا يجوز هذا؛ لأن هذا يدخل في تخريب المرأة على زوجها، وإذا فتح هذا الباب أمكن لكل شخص له غرض في امرأة أن يقول لها: أنا أعطيك صداقه واختلعي منه وما أعطيته لك فهو لك صداق، وبهذا تفسد بيوت المسلمين، وتدمر الأسر، وتشتت العوائل، وفي هذا من البلاء ما لا يخفى. والمرأة إذا أرادت أن تقترض تقترض على الوجه المعتبر للقرض، وهي امرأة في عصمة رجل، فلا يجوز لأحد أن يغريها، ولا يجوز لأحد أن يدفعها إلى ذلك بالإغراء المادي وأنه متكفل بكل شيء، إلا إذا كان أخا من إخوانها أو قريبا من قرابتها رأى الظلم عليها والأذية، ورأى أنها يخشى عليها الفتنة، وزوجها مقصر في حقها أو كذا، وليس هناك طريق غير الخلع. فقال لها: أنا أعينك وأساعدك وأقف معك حسبة وقياما بالحق. وبالمناسبة: الخلع حق من حقوق النساء، ولكنه للأسف -خاصة في هذه الأزمنة- ضيع عند كثير إلا من رحم الله، حتى إن بعض من يرفع إليهم أمر الخلع من القضاة وغيرهم لا يجريه على السنة، وهذا أمر يحتاج إلى أن يتقى الله عز وجل فيه، المرأة إذا جاءت تشتكي ولا تريد أن تعاشر زوجا تمكن من الخلع، ولا يجوز تأخيرها ومماطلتها والضغط عليها. إذا ما أرادت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. قال: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فكما أن الرجل يطلق متى شاء وكيف شاء، فالمرأة من حقها أن تترك الزوج إذا لم ترغب فيه، وليس لها محبة له، وقل أن تخالع امرأة زوجها، والخلع له وجهين: إما أن الرجل فيه شيء من العيوب موجب للخيار، أو أمور ليست بعيوب موجبة للخيار -أي: دون الكمال- والمرأة خافت على نفسها الحرام، فتخالع زوجها، ولا يجوز أن تماطل المرأة في ذلك، وأعرف بعض القضايا جلست المرأة سنة كاملة وهي تطالب بالخلع ولا مجيب، وهذا مخالف لشرع الله عز وجل، فالمرأة إذا جاءت تطالب وهي مستعدة أن تؤدي للرجل حقه فهذا حق من حقوقها، وتمكن من حقها. ولا شك أن بعض القضاة يجتهد -جزاه الله خيرا- ويقول: ربما تكون سفيهة، أو طائشة، لكن لا يجوز هذا، وهذا خلاف السنة، وهذا اجتهاد مع النص، والنص جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) وقد أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إني لا أعيب في ثابت خلقا ولا دينا، ولكني أخاف الكفر بعد الإسلام) امرأة من الصحابة وفي عهد النبوة وفي خير القرون تقول: (يا رسول الله! ولكني أخاف الكفر بعد الإيمان) ولذلك بادر النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها حقها. إذا: المرأة لها أن تخالع ولكنها لا تعان على سبيل التخريب والإفساد، فيقال لها: زوجك لا يصلح، ما رأيك لو أعطيتك، هذا ماذا تريدين من عنده؟! ما عنده وظيفة، ما عنده كذا، فهذا من باب الإفساد والتحريش؛ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذا وأمثاله: (لعن الله من خبب امرأة على زوجها) ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وهذا أمر عظيم جدا. فلا يجوز إفساد نساء المؤمنين على أزواجهن، وعلينا أن نتقي الله عز وجل، وإذا أراد أن يساعدها بالمعروف فجزاه الله خيرا، أما إذا كان على سبيل الإفساد؛ فإنه محرم ومنكر، وكبيرة من الكبائر، والله تعالى أعلم. الجمع بين اختيار النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر وبين كون عظم الأجر مع المشقة السؤال إن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فكيف يجمع بين هذا وبين كون عظم الأجر مع المشقة؟ الجواب تخيير النبي صلى الله عليه وسلم يكون فيما لم يبت فيه، والفضائل في المشقات فيما بت في حكمه، وتوضيح ذلك: أنه إذا خير عليه الصلاة والسلام بين أمرين أحدهما أيسر للجماعة وللأفراد كان عليه الصلاة والسلام يختار الأيسر؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، ويختار ما هو أخف على الناس حتى في بعض الأشياء التي تكون منه عليه الصلاة والسلام في شأنه وسمته يختار أيسرها، ومع أهله وزوجه يختار أيسرها؛ لأن التخفيف يكون فيه إحسان إلى الغير إذا كان الغير له تبع كما هو حاله مع أهله وأزواجه، فالمسلم إذا اختار الأيسر في معاشرته لأهله ومعاشرته لمن ولاه الله أمره من العمال والخدم والأجراء ييسر عليهم، ولا يعنفهم، ولا يشق عليهم ويأخذهم باليسر فهذا أفضل. مثلا: لو أن رجلا أراد أن يبني عمارة وهذه العمارة يمكن أن تبنى خلال خمسة أشهر ويمكن أن تبنى في خلال عشرة أشهر، ولكنه خلال الخمسة الأشهر يضيق على العمال ويضغط عليهم، فيختار النبي صلى الله عليه وسلم -كمثال- في هذا الأيسر، ويخفف على الناس ولو طال الأمد. وكان صلوات الله وسلامه عليه يختار اليسر في سمته وشأنه كله، ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت للميسرين) أما في مجال العبادات والرقائق - مثلا - إذا رأيت شخصا على منكر فإنك مخير بين يسر وعسر، فالعسر أن تأتي بقوة وتقول: يا أخي! اتق الله! فهذا منكر، وما كان ينبغي لمثلك أن يفعل هذا. فهذا لا تلام فيه؛ لأنك قلت حقا وصدقا، وقلت شيئا يستند إلى أصل شرعي، فالذي فعله منكر، بشرط أن لا تتجاوز الحد في النهي، مثل أن تقول له: أنت كذا وأنت كذا، وتتهجم عليه، وإنما تأتيه بقوة في اللفظ تقول له: يا أخي، اتق الله. ولذلك تجد البعض إذا أنكر ينكر بقوة وبشدة، ولا يمس حق أخيه المسلم، ولا يستطيل في عرضه، ولا يسبه ولا يشتمه، فهذا الذي أخذ بالقوة يعطي هيبة للدين، وللشرع، ولا يأتي شخص يسفهه ويقول: انظر إلى هذا لا يعرف كيف يأمر وينهي. لا. فهو أخذ بشيء حسن، وقال صدقا، فلا يستطيع صاحب المنكر أن يرد ما قاله، وأمر به؛ لأنه من شرع الله عز وجل وهذا طبعه وهذه طريقته، أخذ بالحسنى، وقال بالحسنى، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. لكن لو جاءه وقال له: يا أخي! اتق الله عز وجل، فمثلك ينتسب لدين الله وشرع الله ولا يليق بمثلك هذا، وأنت عندي أفضل من أن تفعل هذا الشيء، أو رأه على منكر قال: أسأل الله أن يعافيك من هذا البلاء، أسأل الله أن ينزع من قلبك حبه، أسأل الله عز وجل أن ييسر لك التوبة منه، فشرح صدر الرجل إلى القبول، وشرح صدر الرجل إلى الأخذ بهذا الذي قاله، فهذا قد أخذ باليسر والسهالة. الأول: أخذه بالقوة وبعزيمة الشرع: (ولتأطرنه على الحق أطرا) وجاءه على الأصل وهذا حسن. الثاني: أخذ باليسر، وهو أحسن؛ لأنه رغبه ودعاه إلى الخير، وكلاهما من شرع الله عز وجل وكل منهما في حسن؛ فالأول نظر إلى الثمرة والنتيجة فلو أن الناس أخذوا بالعزيمة بقيت هيبة الدين وقوة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني رغب الناس إلى الخير، لكن ربما يعامل الفاسق والفاجر والمتهتك بذلك فيستطيل على أهل الحق ويستطيل على من يأمر وينهي، فيؤخذ باليسر في موضعه والحزم في موضعه؛ وحينئذ الكمال والتمام يأتي بالتي هي أحسن فإن رفع صوته عليه رفعه عليه، وإن أغلظ له أغلظ عليه ورد عليه منكره، فتعطي كل ذي حق حقه. مثلا: في بعض الأحيان تقع في وضع لو أنك أخذت باليسر والسهالة لتهتك الناس به ولربما تأتي في موضع لا يستحق الشدة وترى فيه خطأ فتعنف بقوة، وأنت عالم أو شيخ أو داعية، وكان بالإمكان أن تأخذ بالتي هي أحسن لكن قد ترى أن ممن يحضر أناس وتعلم أنك لو أخذته باليسر سيرتكب غيره نفس الخطأ وتعلم أنك لو أخذت بالقوة في هذا أنك تعالج أمرا فيه مصلحة للغير، فحينئذ تكون الشدة والقوة في مكانها، واليسر في مكانه، فتأخذ باليسر في موضعه، وتأخذ بالقوة والشدة في موضعها، فإذا أخذت بالذي فيه مشقة، فربما تضجر الناس من ذلك وقالوا: ما ينبغي لهذا الداعية أن يفعل هذا، وربما يسفه رأيك، وربما يستهجن فيعظم أجر الإنسان أكثر، ولربما يحصل بالبلاء ما لا يحصله بغيره. وفي اليسر يحصل جانبا آخر مثل: أنه يمنع الناس من الكلام في أهل العلم، ولذلك لما مشى بعض أئمة السلف، وكانت به عاهة وبجواره عالم آخر فيه عاهة ثانية، فقال: إذا رآنا الناس قالوا: كذا وكذا. يعني: يقولون: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، فقال له العالم الآخر: مالك وللناس فليقولوا ما قالوا، قال: وما عليك أن يسلم الناس ونسلم. الأول يقول: أريد الأجر والثاني يقول: وما عليك أن يسلموا ونسلم، انظر كيف النظر الأبعد؛ فمثل هذا يأجره الله. وهناك جوانب في اليسر تدرك فيها فضائل العسر، وهناك جوانب في العسر تدرك فيها فضائل اليسر، وهذا يرجع إلى الفقه، ولذلك قالوا: الفقه عن الله عز وجل يحصل الإنسان به ما لم يحصله غيره؛ لأن غيره لا يستطيع أن يزن الأمور بموازينها. وكنا نجد بعض علمائنا ومشايخنا رحمة الله عليهم -نحن عندما نقول: قال بعض مشايخنا كذا، فإنا والله لا نشك أن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم غنيان عن كل أحد، لكن ضرب الأمثلة من الواقع والحياة التي يعيشها الناس يؤثر كثيرا- كنا نجد بعض علماءنا يتعاملون بعنف وبعض الأحيان يتعاملون بيسر، حتى أنك تتألم وتقول: كان ينبغي أن يأخذ بالقوة والحزم، ولكن تمضي الأيام تتتابع، وإذا بالذي اختاره الله له عين الصواب وعين الحق، ويجعل الله من حسن الأثر وحسن العاقبة ما لم يكن في الحسبان، وهذه كلها ترجع إلى أمر واحد وهو: توفيق الله جل وعلا. فالإنسان عندما يمارس العسر واليسر في دعوته إلى الله لا يريد إلا وجهه، فلن يندم عليها أبدا، وسيوفقه الله عز وجل للصواب ويعينه؛ لأن أهل العلم والدعوة وطلبة العلم والخطباء وكل من تولى ولاية شرعية لحمل الناس على طاعة الله لا يوفقهم الله إلا إذا علم فيهم الخير والصدق، وانظر إلى أهل الدنيا من التجار وأهل الأموال كيف يقفون مع من يعينهم على دنياهم، وكيف أنهم يغارون -وحق لهم ذلك- لأنهم نصحوا لهم وقاموا معهم، فكيف بمن نصح لله جل وعلا ولدينه؟ أبدا لا يخيب، فعسره سيجعل الله به الخير إن اتقى الله فيه، ويسره سيجعل الله فيه خير، وسبحان الله العظيم! بعض الأحيان يختار الإنسان المشقات التي فيها الأجر أعظم، لأنه كما جاء في الحديث: (ثوابك على قدر نصبك) وقلنا: إن هذا فيما بت في أمره. مثلا: في التشريعات -مثلا- المشي في الحج. لو ركب أو مشى، فإنه إذا ركب تأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو مشى تعب وحصل له الأجر بالعناء والتعب، لكن لا يعتقد أن المشي أفضل من الركوب من جهة كونه سنة، وإن اتفق له أن يمشي فليمش، وله الأجر الأعظم في المشقة، لكن إذا جاء وخير بين الركوب والمشي فيختار سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ركب، فإذا أخذ باليسر تأسيا أو كان الأمر فيما بت فيه فلا إشكال، والخير في اتباعه وتتبع سنته عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قالوا: الوارد أفضل من غير الوارد، فالوارد إذا اتبع فيه الشرع كان الأجر أعظم عند الله عز وجل، بل فيه الرحمة والهدى؛ لأن الله جل وعلا جعل الرحمة والهدى لمن اتبع سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم تسليما، وزاده تشريفا وتكريما. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
|
#627
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (472) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [6] هناك مسائل كثيرة تلحق بباب العدة: وهي مسائل تتعلق بدخول عدة في عدة، ودخول النكاح في العدة، والوطء في العدة بنكاح فاسد أو شبهة أو زنا، وغيرها من المسائل والأحكام. عدة المرأة المطلقة من زوجها الغائب أو وفاته عنها وهي لا تعلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل] . هذا الفصل يشتمل على جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بدخول عدة في عدة، ودخول النكاح في العدة، وما الحكم إذا وطئ رجل امرأة وهي في عدتها؟ وهذا الفصل مهم جدا؛ لأنه قد يحصل الخطأ فيقع الوطء بالشبهة، وقد يقع الوطء في نكاح فاسد، وللمرأة في كل حال عدتها، ومن هنا يرد السؤال هل العدة الأولى تلغى ثم تستأنف وتعتد من جديد، أم أنها تنقطع عن هذا النكاح الفاسد ثم بعد ذلك تبني على العدة؟! أي: تنقطع العدة بدخول النكاح الفاسد ثم يفرق بينهما -يعني: بين الزوج والزوجة المعتدة- ثم تبني على عدتها القديمة؟ قال رحمه الله: [ومن مات زوجها الغائب أو طلقها: اعتدت منذ الفرقة وإن لم تحد] من هنا أتانا العلماء والأئمة -رحمهم الله- ببيان حكم هذه المسألة، وصدر المصنف رحمه الله هذا الفصل بمسألة أخرى مهد بها للكلام على ما ذكرناه من المسائل، وهي مسألة: طلاق المرأة من زوجها الغائب، أو وفاة زوجها عنها، ولا تعلم بالوفاة ولا بالطلاق إلا بعد مضي المدة، فالسؤال: هل تحتسب عدة الوفاة من حصول الوفاة الحقيقية، أم أنها تحتسب عدة الوفاة منذ بلوغها الخبر، حيث تبدأ وتشرع في العدة؟ قد بين -رحمه الله- أن من مات عنها زوجها الغائب ولم تعلم بوفاته فإنها تعتد من حين الوفاة، فلو وقعت الوفاة في أول شهر محرم ثم مضت مدة العدة أربعة أشهر وعشرا، وعلمت بعد مضي هذه المدة، فقد خرجت من عدة الوفاة. إذا: كونه بلغها الخبر متأخرا، أو بلغها أثناء عدة الوفاة، كأن يمضي شهر أو شهران أو ثلاثة أشهر، سواء مضى أكثر العدة، أو نصف عدة الوفاة، أو أقل عدة الوفاة، فالحكم واحد، وتحتسب عدتها من اليوم الذي مات فيه، وفي هذه المسألة مذهبان، ومذهب جمهور العلماء رحمهم الله: أنها تبتدئ بيوم الوفاة وتعتد بيوم الوفاة، حتى ولو بلغها الخبر بعد تمام عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، فإنه يحكم بكونها قد خرجت من العدة. المسألة الثانية المفرعة على هذا الحكم، وهي: أن يطلقها زوجها، ثم يكتمها الطلاق ولا يراجعها حتى تخرج من عدتها، أو يطلقها زوجها ثم يكتب لها الكتاب وهو في قرية أو مدينة بعيدة ولا يصل إليها الكتاب إلا بعد مضي ثلاث حيضات -على القول بأن عدة المطلقة بالحيضات، أو ثلاثة أطهار على القول بأن عدة المطلقة بالأطهار- فيحكم بخروجها من عدة الطلاق، وعلى كل حال: سواء مضت عدة الطلاق أو الوفاة كاملة، أو مضى بعضها وهو الأكثر أو الأقل أو في منتصف الوقت علمت فالحكم في جميع هذه الصور واحد، وقالوا: إن العبرة في العدة أن يحصل الاستبراء وقد حصل؛ لأنه مضت مدة بعد الطلاق ولم يجامعها فيها زوجها، وحصل الاستبراء وخلو الرحم، فمقصود الشرع من العدة موجود، وقالوا: هي معتدة محكوم بكونها في حداد وإن لم تحد حقيقة، فهناك شيء يسمونه: الحكمي والحقيقي، وقد تقدم معنا غير مرة، فهي في عدة الوفاة حكما لا حقيقة، لأنها لم تنو ولم تقصد، ولكن يحكم وكأنها اعتدت عدة الوفاة، قالوا: وعذرت لعدم علمها وجهلها بوفاة زوجها، وقال بعض العلماء: إن العدة لها معنى تعبدي، وأن مقصود الشرع أن تتعبد وتتقرب إلى الله، وكنت أرجح هذا القول سابقا وأفتي به في بعض المسائل، ولكن تبين لي رجحان مذهب الجمهور، وأن العبرة في عدة الطلاق بحين صدور الطلاق سواء بلغها الخبر بعد انتهاء العدة أو قبل انتهائها. فائدة الخلاف: مثلا: طلقها محمد ووقع طلاقه في أول محرم، ومضت حيضتان، وعلمت في الحيضة الثالثة، فمن حقه أن يراجعها -بلا إشكال- لأنها إذا علمت قبل الحيضة الثالثة، في هذه الحالة لو راجعها عند الجميع زوجها، وهذا في الطلقة الأولى والطلقة الرجعية، لكن الإشكال ومحل الخلاف: أنه لو طلقها، فمضت الثلاث الحيضات، ثم علمت بعد مضي الثلاث الحيضات فعلى القول الثاني المرجوح استأنفت وحل له أن يراجعها، لأنها لم تتم العدة على قول الجمهور يحكم بأنها خلو، وخرجت من عصمة زوجها، وهو القول الأول الراجح، وحينئذ لا بد وأن يعقد عليها من جديد إن بقيت له طلقات. عدة الموطوءة بشبهة زنا أو بعقد فاسد قال رحمه الله: [وعدة موطوءة بشبهة أو زنا أو بعقد فاسد كمطلقة] ، (وعدة موطوءة بشبهة) امرأة أخطأ رجل فظنها زوجة له، فوطئها وكانت تظنه زوجا لها، أو حصلت الشبهة، وقد تقع الشبهة من الطرفين وقد تقع من طرف دون الآخر، فيكون الوطء لشبهة بالنسبة للطرفين، وكل منهما يظن أنه زوجه -الزوجة تظن أنه زوج، والزوج يظن أنها زوجة- فوطئها وتبين أنها ليست زوجته وأنه ليس بزوجها، ففي هذه الحالة يسمى: وطء الشبهة، أي: أن الأمر اشتبه وظنها زوجة له أو ظنها حلالا؛ لأن الشبهة تشمل الاشتباه بكونها زوجة له، والاشتباه بأنها حلال، والتي هي شبهة الحكم وشبهة المحل، ففي هذه الحالة إذا وطئ تكون الشبهة من الطرفين، وقد تكون من أحدهما دون الآخر، مثلا -والعياذ بالله- يأتي الرجل الفاجر يخدع المرأة وتظنه زوجا لها، ويأتيها موهما أنه زوجها، وليس بزوجها، فالشبهة الآن للمرأة، وهو في هذه الحالة لبس عليها والتبس عليها الأمر، فإذا وقع عليها هذا الوطء، فالمرأة في عصمة الزوج الأول، وهذا الوطء يختلط فيه ماء الرجل الثاني بماء الرجل الأول، فإن كانت المرأة بعد طهرها ولم يجامعها زوجها الأول، فلا بد وأن تعتد عدة الطلاق، حتى نتحقق من أن الرحم لم يحصل فيه ذلك الماء بالحمل، يعني: لم ينتج عنه حمل، وحينئذ تتحقق براءة الرحم وسلامته. و (أو زنا) أما بالنسبة للزنا -والعياذ بالله- لو أن المرأة أكرهت على الزنا، فزنت ثم أرادت أن تتزوج، فنقول: لا يحق لك أن تتزوجي حتى يحصل الاستبراء للرحم، وحتى تحصل العدة بعد الوطء المحرم، فتعتد عدة الطلاق، وهذا تقدم معنا، وسيأتينا إن شاء الله، وتقدم معنا في موانع النكاح الإشارة إلى هذا، وهو أن الزانية لا يجوز نكاحها ولا يحق للمسلم أن يتزوجها إلا بشرطين: الشرط الأول: توبتها من الزنا، والشرط الثاني: أن تعتد. يعني: يتبين لنا براءة رحمها عن طريق العدة، وهنا يرد السؤال هل يحصل الاستبراء بحيضة أو حيضتين أو بعدة الطلاق؟ قالوا: إنها تعتد بعدة الطلاق سواء بسواء، على التفصيل الذي مضى معنا في عدة الطلاق. بناء على ذلك: -مثلا- لو أن امرأة خانت زوجها -والعياذ بالله- وزنت، فلا يجوز لزوجها أن يأتيها بعد هذا الزنا، حتى تقع العدة وتكون كعدة الطلاق، أو تستبرئ عند من يقول: إنه يكفي فيه الاستبراء. إذا: لا بد من العدة صيانة للفروج، وصيانة للحلال عن الحرام حتى لا يختلط، لأن الله عز وجل جعل للحلال حكما وللحرام حكما، ولا يجوز الخلط بينهما، ويجب على المسلم أن يسلم لأوامر الله سبحانه وشرعه، فما كان حلالا من الأولاد من وطء النكاح له حكمه، وما كان من الأولاد من زنا وسفاح -من حرام وبغي- فإنه يفصل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهذا الواجب هو تمييز الحلال من الحرام. بناء العدة على العدة قال رحمه الله: [وإن وطئت معتدة بشبهة أو نكاح فاسد، فرق بينهما وأتمت عدة الأول، ولا يحتسب منها مقامها عند الثاني، ثم اعتدت للثاني، وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين] : (وإن وطئت معتدة بشبهة) امرأة في عدتها من الطلاق، طلقها زيد فجلست تعتد، فجاء رجل وجامعها يظنها زوجة له على وطء شبهة، ففي هذه الحالة يرد السؤال -ونحن قد أثبتنا أن للطلاق الشرعي عدة، وللوطء بشبهة عدة، وللوطء المحرم عدة، فإذا دخلت العدد على بعضها كما ذكرنا في صدر الفصل- ما الحكم؟!! في هذه الحالة حينما اعتدت من زوجها الأول، ومضى الثلث منها كحيضة، ثم حصل وطء الشبهة بعد مضي الحيضة الأولى، وقبل الحيضة الثانية، فالحيضة الثانية في هذه الحالة ستأتي بعد وطء الشبهة فلا تحتسب من حيضة الأول، ويفرق بينهما، هذا بالنسبة لوطء الشبهة. ويلحق ذلك ما ذكره -رحمة الله- بقوله: (أو نكاح فاسد) ، وطئها في نكاح فاسد مثل نكاح الشغار، نكح امرأة شغارا وهي في عدتها فما الحكم؟! (فرق بينهما) ، يعني: فرق بين الواطئ والموطوء -المعتدة- وهذا الحكم الأول أن يفرق بينهما. (وأتمت عدة الأول)، إذا حصل فراق حكمنا بأنها تبني على ما مضى من عدة الأول، إذا: يفرق بين الواطئ للشبهة وبين موطوءته، ويفرق بين الواطئ والموطوءة بالنكاح الفاسد -هذا الحكم الأول- فلا يجمع بينهما، وهذا لأجل استبراء الرحم من عدتين، وبعد الفراق تبتدئ بالعدة الأولى، فقلنا: إنه مضت حيضة، فتستقبل الحيضة الثالثة في هذه الحالة، وتتبعها للعدة الأولى، لأن الوطء فصل بين جزئي العدة. قوله: (وما يحتسب منها مقامها عند الثاني) ، يعني: مثلا: إذا فرضنا أن عدتها بالأشهر، فلا تحسب المدة التي مكثتها عند الثاني، مثلا: لو كانت تعتد فمضى شهر، ثم عقد عليها الثاني بنكاح فاسد -ينتبه لهذه المسألة- فلا تزال في عدة الأول حتى يطأها الثاني، أي: أن النكاح وحده لا يكفي بل لا بد من وجود الوطء، فيحدث الخلل بدخول الثاني على الأول إذا حدث جماع ودخول، لكن لو أنه عقد ثم تبين له أن العقد فاسد، ألغي العقد واستمرت على عدتها، مثلا: كانت تعتد بالأشهر فاعتدت شهر محرم ثم عقد عليها عقدا فاسدا في أول صفر، ثم منع من هذا العقد الفاسد وتبين له، ولم يمكن من الدخول، فحينئذ تبني على أنها لا تزال في عدتها، وتحتسب أيام صفر من عدتها، حتى ولو كانت تجلس معه ولم يحدث جماع، يعني: تختلي معه وتظن أن هذا جائز لها، ثم تبين أنه لا يجوز، فهذه المدة تحتسب من العدة، فتبني على الأشهر التي مضت من عدتها. (ثم اعتدت للثاني) إذا: تبني على عدة زوجها الأول ودخول وطء الثاني يمنع، فإذا فرق بينهما بني على عدة الأول؛ لأن الأصل مستصحب وتحل له بعقد بعد انقضاء العدتين. قلنا: إن الحكم أنه يفرق بينهما، وهذا الإشكال فيه، متى؟! إذا حدث الوطء، وأما إذا فرق بينهما قبل الوطء، فحينئذ لا إشكال أن العدة سارية ويحتسب فيها المدة التي مكثتها عند الثاني، ما دام أنه لم يقع جماع، فلا يؤثر عقد الثاني إلا بالجماع كما ذكرنا. الحكم الثاني: تتم عدتها من الأول، وهذا الذي يسمى: البناء، يعني: تبني على عدة الأول، ولو مضى من عدة الأول شهر ووقعت هذه الحادثة في الشهر الثاني، ثم حصل فراق بعد منتصف الشهر الثاني، فإذا حصل جماع، فبمجرد فراقه تبتدئ من النصف الثاني، لكن إذا لم يحدث جماع، فكأنه لم يحدث شيء. إذا: إذا دخل الثاني بنكاح شبهة أو بنكاح فاسد، فنقول: لا يخلو الأمر من حالتين: إما أن يعقد ويدخل، وإما أن يعقد ولا يدخل، فإن عقد ولم يدخل فغير مؤثر، وهي مستمرة في عدتها، وإن عقد ودخل، فإنها في هذه الحالة تقطع المدة التي قضتها معه ولا تحتسبها، ثم تستأنف بعد فراقه لها، فإذا فارقها -مثلا- بعد الحيضة الثانية، ففي هذه الحالة تحتسب الحيضة الثالثة، ولو فارقها قبل الحيضة الثانية، فإن الحيضة الثانية تحتسب للأول، وهذا ما يسمى بالبناء، بناء العدة، أي: تبني على عدة الأول ولا تهدمها، لأن منهم من يقول: تقطع، وهذا ما يسمى بالاستئناف، ومنهم من يقول: تبني على عدة الأول، وهذا ما يسمى بالبناء، وهو مذهب الجمهور. قال رحمه الله: [وإن تزوجت في عدتها لم تنقطع حتى يدخل بها] : (وإن تزوجت في عدتها) تزوجت رجلا في عدتها، والمرأة أثناء العدة لا يجوز أن يعقد عليها أحد، ولا أن يدخل بها، وهذا حكم مجمع عليه بين أهل العلم رحمة الله عليهم؛ فإن الله تعالى شرع العدة لحق الزوج الأول، وحقه مستصحب حتى تتم هذا الحق، وتتم العدة الثانية. (وإن تزوجت في عدتها) منهم من يخص ذلك بالنكاح الصحيح، ومنهم من يلغيه، لكن في الصور التي ذكرنا يستقيم الحكم، فإذا تزوجت بنكاح صحيح، أي: ظاهره الصحة، في أثناء عدة الأول، فما الحكم؟! قالوا: فيه تفصيل على الصورة التي ذكرناها: إن عقد ولم يدخل لم يؤثر، وإن عقد ودخل فإن هذا الدخول يقطع المدة التي مكثتها بعد دخوله بها، وما بين دخوله وفراقه هذا لا يحتسب، وفراقه: يعني: التفريق بينهما، ولا يحكم بكونه تابعا للعدة الأولى، فلو جلست معه شهرين سقطت الشهران من العدة، وبنت من قبل الشهرين، وهكذا لو كانت من ذوات الحيض، كما تقدم معنا. قال رحمه الله: [فإذا فارقها بنت العدة من الأول، ثم استأنفت العدة من الثاني] ، عندنا عدتان: عدة قطعت، وعدة تأتي مستقيمة تامة، فالعدة التي قطعت هي عدة الزوج الأول، لأن الناكح الثاني والعاقد الثاني قد جار وظلم في حق الزوج الأول، أما إذا كان مستحيلا فهذا ما فيه إشكال أنه زنا، إذ لا يجوز نكاح المرأة في عدتها والعقد عليها، فهذا تلاعب بشرع الله عز وجل، واستهزاء بحكمه، لكن قد يقع في بعض الأحيان وتقع بعض الشبهات، وقد تخدع المرأة الرجل، وقد تجهل المرأة، ويقع هذا في بيئة ليس فيها علماء، ويجهلون الأحكام الشرعية، فيعقد للمرأة وهي في عدتها، يعقد لها أبوها أو أخوها، وهو يظن أن هذا حلال، ثم يزوجها وهي لا زالت في عدة الأول، يعني: لا زالت في عصمة زوجها الأول، وقد بينا أن المطلقة طلاقا رجعيا في حكم الزوجة. قال رحمه الله: [وإن أتت بولد من أحدهما، انقضت منه عدتها به، ثم اعتدت للآخر] : (وإن أتت بولد من أحدهما، أنقضت منه عدتها به) : إذا كان الثاني عقد عليها ودخل بها، وهي حامل من الأول، فمعنى ذلك: أنه قد دخل أثناء عدة الأول التي ينبغي أن تقيد بالحمل، وتعرفون أن الحامل عدتها -كما تقدم معنا تفصيله- وضع الحمل، ففي هذه الحالة، هل يكون الولد للأول أو للثاني؟!! الولد للأول، ونحكم بكونها لا زالت في عدة الأول، ولا يحكم بخروجها، ويفرق بين الثاني وبينها، ثم تنتظر حتى تضع ولد الأول، لتخرج من عدته، لأن الولد ولده، فالحمل إذا وقع في تداخل العدتين، ينظر لمن هذا الحمل، فإن كان الحمل للأول، فحينئذ لا إشكال، وننتظر حتى تضع الحمل، وبمجرد وضعها للحمل تخرج من عدة الأول لا الثاني، لأن الولد ليس بولده، وإن كان الولد للثاني، مثل: أن تعتد من الأول وتكون -مثلا- صغيرة، ثم بعد ذلك يظهر بلوغها، ويطؤها الثاني بعد البلوغ، ويتبين حملها -أحيانا بفارق المدة على الضابط الذي ذكرناه في نسبة الولد- فإذا مضت المدة أو كان الوطء من الثاني بعد الحيض، علمنا أن الحمل للثاني لا الأول، وإذا كان الحمل للثاني فهنا مشكلة ما الحل؟! قالوا: نحتسب العدة للثاني، وتنتظر حتى تضع هذا الولد، فإذا وضعت هذا الولد خرجت من عدة الثاني، ثم بنت على عدة الأول، فلو كان عدة الأول -مثلا- مضى عليها شهر، تصبح المسألة المشهورة: (تداخل عدة الحيض مع عدة الأشهر) فعند بعض العلماء أنها إن كانت صغيرة أثناء عدتها من الأول وحصل أنه دخل بها ثم طلقها، واعتدت فالشهر الأول بمثابة الحيضة، فإن جاءها الحيض بعد ذلك، بنت ولم تستأنف، فعلى هذا المذهب يرون أنها تبني يحيضتين؛ لأن كل شهر يقوم مقام حيضة واحدة، فنقول لها: انتظري حتى تضعي ولد الرجل الثاني فتخرجين من عدته، ثم تبني على عدة الأول، كالحال فيما إذا عقد ودخل، فقطع عقده المصحوب بالدخول عدة الأول فتستأنف بعد ذلك، فيكون هذا الولد مع وضعه بمثابة العقد مع هذا الدخول، فإنه لا تحتسب مدة هذا الحمل والوضع من عدة الأول، وإنما هي من عدة الثاني؛ لأن الولد ولده. قال رحمه الله: [ومن وطئ معتدته البائن للشبهة، استأنفت العدة بوطئه ودخلت فيها بقية الأولى] . (ومن وطء معتدته البائن للشبهة) المرأة إذا طلقها الرجل ثلاثا لا يحل لها وطؤها. وصورة المسألة: إذا طلق امرأة فبانت منه، ففي هذه الحالة لا يجوز له أن يجامعها أو أن يعاملها كالزوجة الرجعية، ولو أنه وطئها وهي بائن، فالأصل يقتضي أنه لا يجوز له الوطء، فأصبحت عندنا عدتان على الأصل: يصبح وطؤه لمرأته البائن كوطء الأجنبي أثناء عدته هو، لأنه هو كالأجنبي، فإذا طلقها طلاقا بائنا -ثلاثا- فقد بانت منه، وفي هذه الحالة لو حصل وطء فقد حصل منه خلل ويكون هو والأجنبي على حد سواء، ولا يفصل فيه، وإذا كان الولد ولده فالأمر أخف. (استأنفت العدة بوطئه)، قال بعض العلماء: تتداخل العدتان، وفي هذه الحالة حكمنا أنه في حكم الأجنبي، ويقولون: إنه في حكم الأجنبي من وجه، وفي حكم الرجل الواحد من وجه آخر، فيكون في حكم الأجنبي من وجه لأننا استأنفنا العدة. فالآن عندنا صورتان: إذا كان محمد طلق زوجته ثلاثا، ثم أثناء عدتها من هذا الطلاق البائن وقع بها علي، هذا بالنسبة للصورة التي فيها الشرح، والتي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الموضع، وفي هذه الحالة دخل وطء علي وهو أجنبي، فوطء علي غير وطء محمد، فيقولون: يكون وطء الإنسان لمطلقته البائن كوطء الأجنبي حينما حكمنا بالاستئناف. إذ لو قلنا: إنه وطء واحد لم يستأنف وبنى على ما تقدم، وأتمت المرأة عدتها، وقالوا: إذا استأنف، فيستأنف العدة للأمرين، ووجه ذلك، أنه بوطئه الأخير تكون حينئذ قد خرجت من عدتها، فحينئذ صار كالأجنبي من وجه، وكالشخص الواحد من الوجه الآخر. (ودخلت فيها بقية الأولى). يعني: لو كانت اعتدت من العدة الأولى شهرا وحصل الوطء أثناء العدة، فإن هذا الوطء لو وقع في صفر، فقد مضى شهر محرم وهو ثلث العدة، فبقي من العدة الثلثان، وإذا مضت حيضة بقيت حي
__________________
|
#628
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة الفرق بين الطلاق والفسخ الجواب فسخ النكاح يأتي على صور عديدة، والأصل أن العصمة إذا ثبتت فلا يحكم بزوالها إلا على وجه معتبر شرعا، وهو الطلاق أو الفسخ، ويفسخ النكاح أحيانا بطلب من المرأة، كما إذا ضاع حق من حقوقها، ومن أمثلة ذلك: إذا ظهر عيب في الرجل، كما لو كان الرجل يقوم بحقوقها الزوجية ثم أصبح عنينا أو أصبح مجنونا أو أي إعاقة، وتضررت المرأة فحينئذ تطلب فسخ النكاح، وترفعه إلى القاضي، وتطلب منه أن يفسخ نكاحها من هذا الرجل. السؤال ما الفرق بين الطلاق والفسخ عند الفقهاء رحمهم الله؟ ولو أنه كان عاقلا ثم فجأة جن فتضررت من جنونه، فرفعت أمرها إلى القاضي، وقالت: أريد فسخ النكاح؛ لأن المجنون لا يمكن أن يطلق، فينظر القاضي ويحكم بفسخ نكاحها من هذا الزوج. والفسخ لا يمكن أن يكون إلا عن طريق القاضي، فهو الذي يقدر وينظر هل من حق المرأة أن تفسخ النكاح بينها وبين زوجها أم لا؟ وفي بعض الأحوال إذا حصل الضرر، قد يتولى القاضي الفسخ في بعض الصور الخاصة، ويحكم بزوال العصمة، وارتفاع قيد النكاح، واختلف العلماء في مسألة الخلع في النكاح، وقالوا: هل هو طلاق أو فسخ؟ والصحيح: أن الخلع طلاق وليس بفسخ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقه) والأصل في الطلاق أن يكون للرجل، وقد يقوم القاضي مقامه، أو ولي المجنون أو ولي الصبي، وكذلك الوكيل ينزل منزلة موكله، لكن الفسخ في أعظم صورة يكون عن طريق القضاء، والفسخ والطلاق قد يجتمعان وقد يختلفان، مثلا: يكون الطلاق رجعيا، ويكون بائنا، فلو طلقها قبل الدخول فهو طلاق بائن، ولا يمكن الرجعة فيه، لكن في الفسخ في جميع صوره إذا حكم بالفسخ فإنه لا يملك الارتجاع إلا بعقد جديد، وأما في الطلاق فيمتلك الارتجاع إذا دخل بها فطلقها طلقة واحدة أو طلقتين، ولم تخرج من عدته، ويملك ارتجاعها بدون عقد، سواء شاءت أو أبت، ولذلك هذا الذي جعل بعض العلماء يقول: إن الخلع فسخ، وليس بطلاق، لأنه لو قلنا: إنه طلاق، كان من حق الرجل أن يراجعها، والمقصود من الخلع: أن تدفع المرأة ضرر الزوج عنها، فتعطيه ماله وتخالعه، فلو قلنا: إنه طلاق. كان من حقه بعد ما تخالعه أن يعود ويراجعها، فخرجوا من هذا الإشكال، وقالوا: الخلع طلقة بائنة، كما أنه لو طلقها طلقه قبل الدخول فإنه في هذه الحالة يحكم بكونه لا يحل له إرجاعها إلا بعقد جديد، وهي البينونة الصغرى، ومن الفوارق أيضا: أن الفسخ لا يحتسب في الطلاق. أي: إذا فسخ النكاح لا يحتسب، لكن إذا طلق احتسبت، وأيضا من الفوارق: أن الفسخ يهدم النكاح، والطلاق قد لا يهدم، مثلما ذكرنا في الرجعيه، وعلى كل حال: فإن الفسخ أقوى من الطلاق -في بعض الصور- ولذلك لا يمكن أنه يحكم بانفساخ النكاح، إلا في صورة خاصة فيما يتعلق بالقضاء. حكم الائتمام بالمؤتم المسبوق بعد سلام إمامه السؤال جماعة ائتمت بمأموم -ظنته إماما- وهو في الحقيقة يقضي ركعات فاتته مع إمام آخر، فما حكم صلاة الجميع؟ الجواب أولا: لا يجوز للإنسان أن يصير مأموما لمن هو مؤتم بالغير، فإذا جئت ووجدت إنسانا يصلي وراء إمام معه أو بعده قابلا لصلاته، فلا يجوز لك أن تأتم به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، فجعل المأموم مؤتما بالغير، وجعل الإمام غير مؤتم، فإذا ائتم بالمأموم صير المأموم إماما، والنبي صلى الله عليه وسلم جعله مؤتما، وصير المؤتم إماما، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله تابعا، وبناء على ذلك: لا يجوز الائتمام بالمأموم، وقد اتفق العلماء وأجمعوا على أنه لو كان الإمام يصلي والمأموم وراءه يصلي أثناء الاقتداء بجماعة فإنه لا يجوز الائتمام ولا تحتسب الجماعة، ونبهت طائفة من العلماء إلى أنه إذا بطلت الجماعة وقد نواها بطلت الصلاة ولم تصح ولو توفرت فيها شروط صحتها، ويحكم ببطلان الصلاة ووجوب الإعادة عليه. ومن العلماء -وهو مذهب ضعيف ولكن في بعض الصور يقوى- يرى أنه ينقلب منفردا، وتصح الصلاة له منفردا، يعني: لا ينال أجر الجماعة على القول بصحتها منفردا، ولا يمكن أبدا إيقاع هذا الحكم في صلاة الجمعة، فإنه لو ائتم في الجمعة بشخص يظنه الإمام وتبين أنه مأموم، ففي هذه الحالة يجب أن يعيدها ظهرا، لأنه لا يصح أن تنقلب له الجمعة منفردة، فيرجع إلى الأصل من صلاته -وهو أربع ركعات- وكونه يصلي بآخرين أثناء ائتمامه بإمام هذا لا يجوز له بالإجماع، لكن اختلفوا لو أن الإمام سلم وبقيت لك ركعة أو ركعتان، وقمت تقضي، وجاء أناس وائتموا بك، ففي هذه الحالة هناك وجه ضعيف عند بعض العلماء يقول به بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمهم الله: أنه يجوز لهم أن يأتموا به، وهذا ضعيف لظاهر السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من ارتبطت صلاته بالإمام مؤتما على كل حال، ولذلك قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، ولذلك نجد المأموم مؤتما بإمامه بعد سلامه، ويبني على صلاته مع إمامه، ولا ينقطع عنها، وبناء على ذلك لا يصح أن يقتدي بالمأموم بعد أن قام للقضاء، لكن لو أنه لا يدرك مع الإمام شيئا، وجاء في التشهد الأخير ودخلتما معا المسجد، وقلت له: إذا سلم الإمام فائتم بي أو سأأتم بك فلا بأس في ذلك في قول طائفة من أهل العلم، لأنه ليس بمأموم من جهة الإدراك، لأن قوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) من جهة الإدراك، ولذلك لا يحكم بكونه مؤتما على الحقيقة إلا بإدراك ركعة فأكثر، ومن هنا لو أن هذا المأموم دخل في يوم الجمعة والإمام قد رفع رأسه من الركعة الأخيرة، فإنه يتمها أربع ركعات؛ لأنه لم يدرك الجمعة، فدل على أن الإدراك الحقيقي شيء، والإدراك الحكمي شيء آخر، فمن أدرك حكم الجماعة فضلا ليس كمن أدرك حكمها حقيقة، فلا يؤتم بالمدرك حقيقة، لأنه مرتبط بإمامه، ويؤتم بالمدرك الحكمي التقديري على أصح قولي العلماء رحمهم الله، لأن الأصل في قوله: (إنما جعل الإمام) أن يراد به المدرك، ويحمل على المدرك الحقيقي لا غيره، والله تعالى أعلم. حكم دخول المرأة الحائض المسجد السؤال كثير من الأخوات حريصات على حضور الدروس والمحاضرات التي تقام في المساجد فهل يجوز للمرأة إذا جاءتها الحيضة أن تحضر الدرس والمحاضرات وتجلس عند الدرج أو عند موضع الأحذية -أكرمكم الله- وهي عند مصلى النساء. أي: داخل الباب من جهة المصلى أو من جهة المسجد؟ الجواب لا شك أن المرأة المؤمنة التي تطلب العلم وتريد وجه الله سبحانه وتعالى، وتخاف الله عز وجل في خروجها لطلب العلم بعيدا عن الفتنة، لا شك أن الله أراد بها خيرا، وخير ما يوصى به النسوة اللاتي وفقهن الله لحضور مجالس العلم: الإخلاص لله عز وجل، والبعد عن الفتنة ما أمكن، فإذا أراد الله عز وجل أن يعظم الأجر والمثوبة لطالبة العلم، وفقها إلى هذين الأصلين العظيمين: إخلاص لوجه الله، وبعد عن الفتنة في القول والعمل. وأما ما ورد السؤال عنه من دخول المرأة الحائض المسجد، فإن المرأة الحائض لا تدخل إلى المسجد إذا كانت حال حيضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) ، فدل على أن الأصل عدم دخول الحائض، بدليل أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما قال لها: (ناوليني الخمرة؛ قالت: إني حائض) ، فامتنعت من الدخول واعتذرت بكونها حائضا، فدل على أن هذا كان معمولا به في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لأنها لا تنشئ الأحكام من عندها، وقد قال لها عليه الصلاة والسلام ذلك صريحا في قوله: (اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت) حينما حاضت في حجة الوداع، فالذي على المرأة أن تلتزم به: أن لا تدخل مسجدا إذا كانت حائضة والله يأجرها ويكتب ثوابها، فوالله ما من مؤمنة حرصت على مجلس علم، وما من مؤمن حرص على مجلس علم، وواظب عليه ثم جاءه العذر إلا كتب الله أجره، ولو مضى في العذر سنوات، وهذه فائدة المداومة على الطاعة، فكم من رجل مشلول مقعد، تكتب له ملايين الحسنات في اليوم، لأنه نشأ نشأة صالحة، وجاءته تلك المصيبة والنقمة والبلية، وهو على طاعة الله ومرضاته، فلو أنه حصل لك أي ظرف أو أي عذر كتب أجرك كاملا، فالشخص يصلي ويقوم ويتهجد بالليل فيأتيه العذر، فإذا جاءه مرض أو سافر واتبع السنة وترك فيها القيام، كتب أجر ما يقوم به، ولو كان يختم القرآن كل ثلاث ليال، كتب الله له أجر ختم القرآن إذا سافر ثلاثة أيام وكأنه مقيم حاضر، فإنه يعامل الكريم سبحانه وتعالى، ومن أكرم من الله سبحانه وتعالى؟ الذي لا تنفد خزائنه، ويده سحاء الليل والنهار، لا تغيضها نفقة جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومع هذا كله حتى إن كرمه جعله لكبير السن الذي كان في شبابه محافظا على الطاعة، ثم جاءه الشيب فإنه يكتب الله له الأجر كاملا غير منقوص، فإن كان في شبابه يجلس مجالس الذكر ثم لما كبر ضعف عنها، كتب له الله أجر مجالس الذكر، ولو كان في أيام شبابه حريصا على أن يذهب للرحم بنفسه، حريصا على أن يفرج كرباتهم، حريصا على أن يقف مع المكروبين والمنكوبين، ويذهب بنفسه للإصلاح بين الناس، كتب الله له الأجور، فما وقف أحد على بابه، وسأله المسألة، فقال له: والهل لو قدرت لفعلت، إلا كتب الله له الأجر كاملا، الأول للعمل، والثاني للعذر، قال تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} [التين:6] ، يعني: غير منقطع. قال بعض أهل العلم في تفسيرها -وهو قول طائفة من المفسرين- (لهم أجر غير ممنون) أي: أن الله يكتب لهم أجر الشباب تاما كاملا غير منقطع، فلو عمر مائة سنة وكان خلال الخمسين سنة الأخيرة، عاجزا ولو كان مشلولا مقعدا فيكتب له الأجر تاما غير منقوص، وهذا فضل عظيم، بفضل الله والمواظبة على الطاعة، وليس هناك أكرم منه جل جلاله، ولا أتم رحمة بخلقه، ولذلك وصف نفسه سبحانه فقال تعالى: {وهو الغفور الودود} [البروج:14] ،الود: خالص الحب، تقول: يا فلان! إني أودك، ليس كقولك: إني أحبك، فالود خالص الحب، فالله يتودد لعباده سبحانه وتعالى، وهو أغنى ما يكون وهم أفقر ما يكونون إليه، فمن وده ولطفه ومحبته لخلقه، وإحسانه لهم: أن العبد ما حافظ على خصلة من خصال الخير إلا أدركها، وهذه فائدة المحافظة على السنة والأذكار. قال بعض العلماء: حتى إن الرجل يكون على طاعة وخير ثم يسري به الجنون فجأة، فيزول عقله -يأتيه حادث فيصبح مجنونا- فيكتب له الأجر كاملا، وقالوا -والعياذ بالله-: يخشى على من كان على المعاصي ثم التزم بالدين، وما حال بينه وبين المعصية إلا العذر، لكن الصحيح: أنه لا يأثم، وهناك أشياء يسمونها التقديرات ذكر منها العز بن عبد السلام في قواعد: (التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود والموجود منزلة المعدوم) ، قالوا: المجنون الآن ليس بمسلم لأنه لا يقدر أن يتلفظ بالشهادتين ولا يعرف، ولا يعقل، فقالوا: نحكم بإسلامه لأنه كان قبل جنونه مسلما، فنزلنا المعدوم منزلة الموجود استصحابا للأصل الذي كان عليه، ونقول: فلان صالح ولو أنه بعد جنونه وبعد سحره اقترف المعاصي، لأنه لا يشعر بنفسه، استصحابا للأصل الذي عرف عنه، وكل هذا فضل وكرم من الله سبحانه وتعالى، فالمرأة الصالحة التي تحافظ -هذا محل الشاهد- على دروس العلم، لا تحضر المسجد في أيام الحيض، ولا يقولن أحدكم هذا تشديد عليها، فهذا حكم الشرع، والشارع لا يحكم إلا بحكم ترى في ظاهره الرحمة، فانظر إليها تجلس في قعر دارها ويكتب لها الأجر كاملا، وفي هذه الحالة تجلس خارج المسجد عند باب المسجد وتسمع، لكن لا تدخل، ولها أن تدني رأسها وتصغي -لكن: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن لا تذل ولا يذل طالب علم ولا طالبة علم إلا أعزه، وأن لا يهين نفسه في العلم إلا أكرمه. وكان أحد العلماء لما وقف موقفا ظاهره ذل لأجل طلب علم، قال: (ذل في مقام عز) . فطالبة العلم التي تأتي -كما ذكر في السؤال- عند الحذاء -وهذا شيء كبير جدا- وتجدها امرأة وابنة ناس لو سفك دمها ما أهانت نفسها، لكنها للعلم تهين نفسها، وتجد الرجل ابن أناس لكنه على أبواب العلماء يزاحم ويجلس ويذل، وليس للعالم ولكن لله فبخ بخ للمرأة الصالحة في التجارة الرائحة، الغنيمة الرابحة، وعند الله رائجة، ولا شك في عظم ثوابها وأجرها عند ربها سبحانه وتعالى، حينما تتحمل هذه المشاق، والمرأة أكثر شؤما من الرجل، وعلى كل حال قد أغنى الله بوجود الأشرطة إذا حصل عذر، فالأمر قد يكون أيسر، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم التوفيق للجميع، ويستثنى من هذه المسألة أن تكون هناك غرفة خارج المسجد، فإذا كانت هناك غرفة خارج المسجد إذا اقتطع جزء من المسجد، فهو جزء من المسجد -لكن لو أنها بنيت غرفة خارج المسجد، على أنها مكتبة، أو على أنها غرفة استراحة، أو على أنها غرفة ضيوف يستقبل فيها، والحفلات الخاصة تفعل فيها، ففي هذه الحالة يجوز للمرأة أن تدخل في هذا الملحق، وهو أرفق بالنساء، والله تعالى أعلم. حكم صلاة من توضأ بماء قد تغير طعمه مع عدم علمه بسبب التغير السؤال من توضأ لمدة أسبوع بماء قد تغير طعمه بسبب مياه المجاري، علما بأنه لم يعلم سبب تغير طعم الماء إلا بعد أسبوع وصلى، فهل يعيد هذه الصلوات؟ الجواب الماء إذا تغير طعمه ولونه، هذان الوصفان هما أقوى أوصاف التأثير، والرائحة قد تكون أضعف لكنها مؤثرة، فإنه يحكم بما غيره، فإن كان تغير لون الماء بمادة طاهرة فهو طاهر لا طهور، كالسدر -مثلا- فإنه يصير طاهرا لا طهورا، ولو تغير بنجس حكمنا بكونه نجسا، ولذلك يقولون: المتغير يأخذ حكم ما غيره، يعني: إن كان نجسا فنجس، وإن كان طاهرا فطاهر، أما الدليل على ثبوت القسم الثاني فظاهر السنة، وإن كان القرآن قد دل على ذلك من جهة اللفظ، فإن الله تعالى يقول: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان:48] ، ولم يقل "طاهرا" ، وطهور (فعول) في لغة العرب، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم، يؤكد هذا حينما قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فلما بين عليه الصلاة والسلام أن البحر طهور، ولم يقل: (هو الطاهر ماؤه) ، وإنما قال: (هو الطهور ماؤه) ، فأثبت كون الماء طهورا، إذا كان على أصل خلقه، وكيف نقول: إن هناك فرق بين الطاهر والطهور ولمسنا هذا من حديث أبي هريرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وذلك أن الصحابي رضي الله عنه، قال لرسول الله: (يا رسول الله: إنا نركب البحر، ومعنا القليل من الماء، إن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر) لأن ماء البحر رائحته متغيرة، ولونه متغير لطول المكث، فمن هنا دل على أن أي شيء يتغير ولو كان متغيرا بطاهر، فإنه حينئذ ينتقل عن الأصل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان:48] ، فجعل الماء الباقي على أصل خلقته طهورا، وهذا الماء الطهور يكون على أوجه: كأن يستقر في الأرض، قال تعالى: {فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون} [المؤمنون:18] ، وحينئذ تقول: كل ماء سكن في الأرض، واستخرج كماء العين، أو كماء البئر، أو خرج بنفسه كماء العين، فهو طهور، لأن الله وصف أصله بأنه طهور -وهو الذي نزل من السماء- ووصفه بأنه طهور يأتي على وجهين في الأرض: إما أن يسكن في باطن الأرض، وإما أن يجري على وجهها، فإن سكن في باطنها فماء بئر وعين، وإن جرى على وجهها، فماء سيل ونهر، فإذا كان ماء بئر أو ماء عين أو ماء سيل أو ماء نهر، فهو طهور، لأنه باق على أصل خلقته، فالبحر لما كان في أصله طهورا لكنه تغير دل على أن الطهور إذا تغير ينظر في حال ما غيره، إن كان نجسا فنجس وإن كان طاهرا فطاهر، ومن هنا قال جمهور العلماء: يقسم الماء إلى ثلاثة أقسام، وهناك من قال بأنه قسمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من قصعة فيها أثر العجين، وهذا متغير، والحقيقة أن هناك فرقا بين قول الصحابي: (فيها -يعني: في القصعة- أثر العجين) ، ومن يقول: (فيه أثر العجين) ، وأنتم تعلمون من أكل عصيدة، وأكل عجين، يعرف أن العصيدة تيبس في الإناء، ولا تتحلل، فلا ينقلب الماء أبيض إلا بعد فترة، فمعنى: (فيها أثر العجين) أي: فيها شيء يابس باق، ثم بعد ذلك صب عليه الماء، وليس معنى ذلك أنه كان في القصعة عجين فصب الماء عليه، فلا يمكن هذا، وبناء على ذلك لا يقوى هذا الدليل على معارضة الأصل الذي ذهب إليه جمهور العلماء، والله تعالى أعلم. ففي هذه الحالة إذا كان الماء الذي ذكر ماء نجسا وهو ماء المجاري، فيلزمه أن يعيد الصلوات، لأنه كان المنبغي عليه لما وجد أن الماء قد تغير طعمه أن يبحث، أما أن الشخص يتوضأ بماء تتغير طعمه وتتغير رائحته، ثم يأتي بعد أسبوع ويسأل عن حكمه -لا- هو الذي قصر، ولذلك لا يقال إن مثل هذا يعذر، الواجب عليه أن يبحث عن الأصل، ولو كان يشرب هذا الماء، كان بمجرد أن يجد طعمه متغيرا يذهب ويفتش ويبحث، وعلى كل حال: لا بد أن يعيد هذه الصلوات؛ لأنه تبين أنه يصلي بغير وضوء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ولأن الوضوء الشرعي يكون بالماء الطهور وليس بالماء المتنجس. حكم المأموم إذا أدرك سجدة السهو مع الإمام السؤال من أدرك مع الإمام سجدة من سجدتي السهو، فهل إذا سلم الإمام يسجد المأموم الثانية؟ الجواب اختلف العلماء -رحمهم الله- في المأموم إذا لم يدرك السهو مع الإمام -إذا لم يدرك نفس السهو- هل هو ملزم بسجود السهو أو ليس بملزم؟!، فعلى القول: بأنه ليس بملزم، فهذه السجدة الثانية ليست بواجبة عليه، وحينئذ إذا سلم الإمام قام وصلى، أما على القول بأنه ملزم بسجود السهو، سواء أدرك السهو أو لم يدركه، فحينئذ هناك إشكال؛ لأنه لم يدرك نفس الصلاة، وإنما أدرك سجود السهو، وهناك فرق بين إدراك الصلاة أو جزء الصلاة حتى يحكم بوجوب السجدتين عليه، وبين إدراك جزء سجود السهو، فإذا أدرك جزء سجود السهو -وهي السجدة الثانية- فالأشبه فيه أنه لا تلزمه السجدة الثانية، لأنه مأمور بالقيام بالركن، وهو إتمام صلاته والقيام بفعل الركعة الأولى، فلا يشتغل بشيء مشتبه على هذا الوجه، وإنما يقوم ويتم صلاته على الوجه المعتبر، والله تعالى أعلم. نصائح في شكر النعم السؤال قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم:34] ، وقوله: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر:8] ، كيف نشكر نعم الله علينا ونحن لا نستطيع حصرها، وكيف نعد جواب سؤال هذه النعم؟ الجواب ظاهر أن هناك تعارض بين الآيتين، فالله أمر بشكر النعم ولا يمكن للإنسان أن يحصي النعم، فكيف يكون شاكرا؟ والجواب: إن تكاليف الشرع مبنية على القدرة، والله عز وجل كلف الإنسان بما في وسعه وقدرته، وما ليس في وسعه وقدرته فليس بمكلف به، ولذلك يحمد الله ويشكره على ما ظهر وما بطن من النعم، وما سبق وما لحق من النعم، وله سبحانه الحمد أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وسرا وجهارا، وهو المحمود على كل حال، المشكور على النعم سبحانه وتعالى، وله أن يشكر شكرا عاما، الذي هو: (اللهم أني أحمدك وأشكرك على نعمتك) فهذا كرم من الله عز وجل، قبل القليل وأعطى الكثير، إذا قال: "اللهم أني أحمدك على نعمك" ، ولو قال: "أحمدك على جميع نعمك" ، ما بقيت نعمة إلا ودخلت في هذا الحمد، خفيفة على اللسان لكنها ثقيلة في الميزان، وقد تنوء بها الملائكة من كثرتها، وقال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: (حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه) قال: (والذي نفسي بيده، لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يصعد إلى السماء) وهذا يدل على فضل الحمد والشكر، وهناك شكر خاص على النعم الخاصة، فإذا تجددت النعم تجدد الشكر، فإذا خرج من بيته، فسلمه الله من آفة في جسده، أو آفة في أهله وماله وولده، لهج لسانه بذكر الله عز وجل، ووالله إن الإنسان ليحار، كم تجد من النعم المرسلة والمقيدة، والظاهرة والباطنة، ومع ذلك الإنسان في غفلة عظيمة عن هذا، ولو أنه نظر فقط إلى طرفة هذه العين التي يحركها، طرفة العين تبعد عنه من البلاء، وقال تعالى: {الله لطيف بعباده} [الشورى:19] ، وما قال: "إني لطيف بعبادي" ، قال: (الله) بلفظ الجلالة، وجاء بالاسم الظاهر (الله) لأنه وحده الذي له هذه النعمة، وهذا من كرمه سبحانه وتعالى، وقلما تجد شخصا إذا دخل البيت تذكر نعمة الله عز وجل، حينما يجد سربه أمنا وأهله وجدهم ولم يفقدهم، فكم من خارج من البيت كان آخر عهده بأهله وولده، فما رآهم بعد ذلك، ماتوا وهلكوا، وكم من إنسان يأتي ويدخل إلى بيته، ويرى من النعم التي حفظ الله بها أهله، كالكهرباء لو حصل أي اختلال لأهلكته ودمرته وحصل منها من البلاء ما الله بها عليم، وينام تحتها وينال خيرها ويحفظ من شرها، فسبحان الله العظيم، والإنسان يركب الطائرة، وهم ممكن في أقل من طرفة عين يدمرون ولا يبقى منهم أحد، فحملهم في البر والبحر، وحملهم في السماء والأرض، برحمة منه، ولطف منه، وإحسان منه، ويمرون في المخاطر الشديدة والأهوال الأكيدة، فمن الذي كان يحلم أنه يطوف في السماء؟ وليس الواحد ولا الاثنين، ولكن أمة من الناس، ولا تحمل فقط، ولكن تأكل وتشرب وتنام، ومع هذا كله، إذا أصابها الحر بردت، فهي في البراد، وإن كان في شدة البرد فهي في الدفء والراحة، ولذلك لو حوسب الخلق على هذه النعمة لهلكوا، فمن منا الآن إذا نزل في المطار وقد انتهى من الرحلة شكر الله حق شكره؟ ومن منا قبل أن يخرج رجله من هذه الطائرة تذكر أين كان، ومن الذي كلأه بعنايته ورحمته سبحانه وتعالى? تصور لو أن إنسانا تعرض للخطر في طريقه في البر وليس في السماء، وجاء شخص وقف عليه فقط دقيقة أو دقيقتين، لعد أن حياته كأنها دين لهذا الشخص، ولله المثل الأعلى: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد:11] ، أي: بسبب أمر الله، أو يحفظونه من الأمر الذي قدره الله، فتبارك الله وجل الله. ومن عرف الله يعرف نعمته؛ لأن طريق المعرفة بالله أن تعرف نعمته سبحانه وتعالى، ولذلك كان أكمل الخلق معرفة بنعم الله هم أنبياء الله ورسله، وكانوا أشد الناس وأعظمهم شكرا لله، حتى أن الواحد منهم إذا رأى النعمة بين يديه كان أول ما يلهج به الثناء على الله عز وجل، فلا يزهو ولا يختال، ولا يتجبر ولا يتكبر، وإنما ينكسر لربه غاية الانكسار، ويسند الفضل كل الفضل لله وحده لا شريك له، سليمان عليه السلام في وسط البحار -وأين العلم وأين التقدم الحديث؟ - انظر إلى الذي قال له: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني} [النمل:40] ، انظر إلى قوله: (من فضل ربي) ، فما استوجب على الله فضل، فالفضل هو الزيادة كما في لغة العرب (من فضل ربي) . يعني: أعطاني الله عز وجل فضلا منه وتكرما، فأنا مربوب لله عز وجل، فمن أنا لولاه؟! ثم قال: (ليبلوني) من أجل أن يبلوني ويختبرني، فعرف الهدف من النعم، وهو ابتلاء العباد بشكرها، فإذا امتلأت القلوب بذكر ربها ولهجت الألسن بالثناء على خالقها سعد العبد، فأصبح يمسي ويصبح وهو ينظر في نعم الله التي يتقلب فيها، فهو من شكر إلى شكر، ومن حمد إلى حمد، ويعتقد في قرارة قلبه أن الفضل كل الفضل لله، حتى إذا لهج لسانه بالشكر والثناء على الله اعتقد من قرارة قلبه، أن الله تفضل عليه بشكره سبحانه وتعالى، وهناك ينال العبد المراتب العلى، فلا يزال لسانه شاكرا حتى يكتبه الله من الشاكرين، ويجعله في ديوان الذاكرين، ثم يتأذن له بالرحمات والباقيات الصالحات، ويجعل له أول بشارة على شكر الله جل جلاله فيضع له البركة في رزقه، فالشيء الذي تشكر الله عليه ترى بركته وترى خيره، ولذلك تجد كبار السن في القديم الشخص منهم يضع الكسرة من الخبز، فيقول: يا رب! لك الحمد والشكر، تجد الواحد منهم يشرب الشربة القليلة بكف ماء من نهر مليء بالطين، ويقول: يا رب! لك الحمد والشكر، ومع ذلك تجد البركة فيها، وهذا الطين الذي يحمل البكتريا اليوم، وتجد فيه من الوسوسة، حتى أن الواحد يخاف أن تكون بجوار البيت، فكيف بهؤلاء وهم يضعونه بداخل أجوافهم؟ ومع هذا كانوا أصح الناس أبدانا وأصلحهم حالا بالشكر لله جل جلاله، وترى العبد اليوم شبعان تغدق عليه النعم، حتى إنه يجلس على المائدة، ونظر إلى أصناف الطعام التي فيها، جاءته من مشارق الأرض ومغاربها بما لا يحصيه إلا الله وحده، ولا ندري هل ذكر الله أم لا؟ ثم يقوم فيتسخط من هذا الطعام ويعد مثالب هذا الطعام أو يلمز هذا الطعام، وكل ذلك كفر بنعم الله، ونسيان لفضله. اللهم لا تجعلنا من الغافلين، ولا تسلك فينا سبيل المجرمين، اللهم اجعلنا من الشاكرين، إنك ولي ذلك وأنت أرحم الراحمين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
#629
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب اللعان) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (473) صـــــ(1) إلى صــ(30) شرح زاد المستقنع - كتاب العدد [7] من كمال الشريعة أنها تراعي أحوال المكلفين، ولهذا شرعت لمن توفي عنها زوجها أن تحد عليه أربعة أشهر وعشرا، وهذا التقييد فيه أسرار وحكم عظيمة، يبينها العلماء عند الكلام عليه. مشروعية الحداد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها في نكاح صحيح ولو ذمية أو أمة أو غير مكلفة] . شرع المصنف -رحمه الله- في بيان أحكام الإحداد، والإحداد هو: عدة المرأة التي توفي عنها زوجها، فهي عدة تختص بالوفاة، وتختص بنوع من النساء، وأصل الحد: المنع، ومنه سمي البواب حدادا؛ لأنه يمنع الغير من الدخول، والإحداد يمنع المرأة من الزينة، ومما ينبغي على المحتدة أن تجتنبه: الطيب، والحلي، ومحاسن الثياب، والخروج من البيت على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- بيانه. الأدلة على مشروعية الحداد الإحداد ثبتت مشروعيته بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة: الأدلة من الكتاب وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة:234] ، فهذه الآية الكريمة أصل عند العلماء -رحمهم الله- في ثبوت الإحداد وعدة الوفاة على المرأة التي توفي عنها زوجها، وهي خبر بمعنى الإنشاء -كما سيأتي- أي: أنها تضمنت الدلالة على وجوب الإحداد ولزومه. الأدلة من السنة وأما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأحاديث كثيرة: منها: حديث أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وعن أبيها: أنه لما توفي أبوها أبو سفيان رضي الله عنه وأرضاه أخذت طيبا فطيبت جارية عندها، ثم مست من ذلك الطيب، وقالت: والله مالي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا )) ، فهذا الحديث المتفق عليه أصل عند العلماء -رحمهم الله- في مشروعية الحداد. وهناك أحاديث أخر تتضمن الدلالة على مشروعيته كحديث أم سلمة في الصحيحين، وحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها في الصحيحين أيضا في قصتها مع سعد بن خولة رضي الله عنه وأرضاه حينما توفي فدخل عليها خالها أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنها وعنه. والأحاديث في مشروعية الحداد كثيرة. ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الحداد مشروع بهذه السنة على التفصيل الذي سنبينه. ومرادهم: الحداد الأعلى، وهو أن تحد أربعة أشهر وعشرا، وأما الإحداد ثلاثة أيام فيجوز للمرأة إذا توفي أبوها أو أخوها أو قريبها أن تحد؛ لأن أم حبيبة حدت على أبيها أبي سفيان وامتنعت من مس الطيب إلا بعد تمام الثلاثة الأيام. الإجماع أما بالنسبة للإجماع: فقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه يشرع للمرأة أن تحد على الميت أربعة أشهر وعشرة أيام، وهي المدة التي سمى الله عز وجل في كتابه، وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته. ومناسبة الإحداد لعدة الطلاق واضحة؛ لأنه بعد أن فرغ المصنف -رحمه الله- من بيان عدة الطلاق شرع في بيان عدة الوفاة، فيجتمع الحداد مع عدة الطلاق في كون كل منهما عدة، فالأولى بسبب الطلاق والفراق في حال الحياة، والثانية متعلقة بالفراق الذي لا اختيار فيه، وهو فراق الموت. الحكمة من مشروعية الحداد وشرع الله جل وعلا هذا النوع من العدة لحكم عظيمة وأسرار كريمة تنتظم بها مصالح الدين والدنيا والآخرة، فالمرأة إذا فقدت بعلها وفارقت زوجها وبقيت في بيت الزوجية هذه المدة التي سمى الله جل وعلا تذكرت حق بعلها عليها، فإن كان قد أحسن إليها كان ذلك أدعى أن تترحم عليه، وأن تحفظ وده، وأن تحفظ ما بينها وبينه من العهد، فتذكره بصالح الدعوات، وتسأل الله جل وعلا أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، وفي ذلك من الأجر العظيم والثواب الكريم لها ولبعلها ما لا يخفى. كذلك أيضا: فيه حفظ لحق المسلم الميت، فليست أمة الإسلام أمة ضعيفة تنتهي أواصرها ومحبتها وأخوتها ووشائجها بالموت والفراق كما يحدث لأهل الدنيا، فشرع الله جل وعلا هذا الحداد، فأمر المسلمين أن يذكروا حق الميت المسلم، ومن هنا عظم حق الزوجية، حتى إن الزوج إذا فارق زوجته لا ينسى الحق الذي له مباشرة، فلو تصورنا أن المرأة بعد وفاة زوجها تنكح في اليوم الثاني أو تنكح بعده بيسير لتناسى الناس حقوق أمواتهم. ثم انظر إلى الوسطية، فلم يجعل الإسلام هذا الحداد حزنا دائما، ولم يجعله منقطعا مخالفا للفطرة، ولكن جاء بالوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وكان أهل الجاهلية يمكثون عاما كاملا، فإذا توفي الرجل عن امرأته دخلت المرأة في مكان وهو حش صغير أشبه بـ (الصندقة) ، أو أضيق مكان في البيت، تدخل فيه ثم تمتنع من جميع ما أحل الله عز وجل إلا أكلها، فتبقى في تفثها وشعرها وسوء حالها بالحالة المزرية، لا تغتسل ولا تمس الطيب، وبأبشع الأحوال وأشدها حتى تتم سنة كاملة، ثم بعد ذلك تفتض ببعرة كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وقد كانت إحداكن تجلس حولا كاملا في حشها حتى يبلغ الكتاب أجله، ثم تفتض ببعرة) فخفف الله سبحانه وتعالى ويسر، فأحل لها الطيبات، ولكن منعها من الزينة، ومنعها من الحلي، ومنعها من التجمل في جسدها وثيابها، فأبقى حق الزوج، وكذلك أيضا لم يضيق على الزوجة مع أنها تثاب وتؤجر على هذا الامتناع والطاعة لله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ لامتثال الأمر بالإحداد واجتناب ما نهيت عنه المرأة المحتدة، فالمقصود: أن الحداد فيه حكم عظيمة وأسرار كريمة. كذلك أيضا: لا يسع المؤمن إلا أن يسلم أمره إلى الله عز وجل ورسوله، فالمدة التي سماها الله عز وجل أربعة أشهر وعشرا قال بعض العلماء: لو كانت حاملا يتبين حالة الجنين خلال هذه المدة التي هي الأربعة أشهر وعشرا، وقالوا: (لأنه يجمع خلق الإنسان أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فيؤمر بنفخ الروح وكتابة أجله ورزقه، وشقي هو أو سعيد) كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، فقالوا: إن هذا النفخ يقع في العشرة الأيام التي تلي الأربعة الأشهر، فإن الأربعة الأشهر -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- مائة وعشرون يوما، وهي تمام ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين، ثم الأربعون، ثم الأربعون، ثم تأتي العشر، ذكر هذا بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، ولكن مع هذا الله يأمر ويحكم، ورسوله صلى الله عليه وسلم يبلغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم. بيان من يلزمه الحداد يقول رحمه الله: (يلزم الإحداد) . وهذه العبارة تدل على مشروعية الحداد أولا، والحداد المشروع: هو حداد المرأة المتوفى عنها زوجها، وأما محدثات الجاهلية في الإحداد مما يحدثه الناس سواء كان ذلك على مستوى الأمم والشعوب أو الجماعات فهذا مما لا أصل له في دين الله، ولا في شرع الله عز وجل، فليس هناك حداد إلا الحداد الذي سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع حداد غير هذا الحداد الذي ورد النص به في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن الحداد يكون للنساء ولا يكون للرجال، ولا يكون بين أفراد الرجال، حتى لا تعطل المصالح اليومية، هذا كله مما يحدثه الناس بخلاف شرع الله عز وجل، ولا يمكن أن يعد ذلك من دين الله في شيء؛ لأنه لم يثبت به شرع ولم يثبت به نص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا أصبح أمرا ظاهرا، فإن الواجب تبيين حكمه إعذارا إلى الله سبحانه وتعالى، وأن هذا مما أحدثه الناس، ومما لا أصل له في دين الله وشرعه. والحداد يشرع للمرأة إذا كان قد توفي عنها زوجها، أو توفي قريبها إذا كانت مدة الحداد عليه المدة التي ذكرناها وهي الثلاثة الأيام. قوله: (يلزم) أولا يدل على مشروعية الحداد كما ذكرنا. وثانيا: أن هذه المشروعية على سبيل الوجوب، فالمرأة يجب عليها الحداد، وهذا بإجماع السلف والخلف رحمهم الله، خلافا للحسن البصري والأوزاعي رحمة الله عليهما، فهذان العالمان الجليلان قالا بعدم وجوب الإحداد، والصحيح ما ذهب إليه أئمة السلف ودواوين العلم، ولكن لعل الإمام البصري والأوزاعي لم يبلغهما ما ورد صريحا في السنة من الأمر بالحداد، فقد يكونا قد قالا بمشروعيته لظاهر القرآن: (يتربصن) دون أن يفهما منه اللزوم، ولكن السنة أمرت وألزمت بالحداد وأوجبته، فالواجب العمل بهذه السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك أيضا في قوله: (يلزم الحداد) الحداد هو: اجتناب المرأة التي توفي عنها زوجها الطيب وزينة اللباس وما في حكمهما مدة معلومة، وبناء على ذلك فحقيقته الشرعية: اجتناب مخصوص -وهو اجتناب الطيب، ومحاسن الثياب والحلي، والزينة في البدن وفي الملبس- من شخص مخصوص -والمراد به: المرأة التي توفي عنها زوجها، فلا يشمل غيرها كما سيأتي إن شاء الله- مدة مخصوصة. وهي أربعة أشهر وعشرة أيام على ما بينته السنة إلا إذا كانت حاملا، فالمدة هي إلى وضع الحمل، فلو أنها بعد وفاة زوجها بدقيقة واحدة وضعت حملها خرجت من عدتها؛ وذلك لصريح حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها: (أنها توفي عنها سعد بن خولة وهو بمكة رضي الله عنه وأرضاه، فمكثت بعده -قيل: عشرة أيام، وقيل: ثمانية أيام، وقيل غير ذلك- فوضعت ما في بطنها، فتجملت وتزينت، فدخل عليها خالها، وقال لها: لا والله ما أنت بحل للأزواج حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فجمعت علي ثيابي، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأخبرني أني قد حللت منذ أن وضعت ما في بطني) ، فهذا نص واضح يدل على أن مدة الحداد تكون أربعة أشهر وعشرا على الأصل بنص كتاب الله: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} [البقرة:234] ، وكذلك حديث أم سلمة في الصحيحين: (تحد المرأة على ميت أربعة أشهر وعشرا) فهذا يدل على أن المدة إما أربعة أشهر وعشرا على الأصل، أو إلى وضع الحمل ولو طالت مدته على حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها. مدة الحداد قال رحمه الله: [يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها] . (مدة العدة) العدة هنا: عدة الوفاة، وهي -كما ذكرنا- أربعة أشهر وعشرا، أو مدة وضع الحمل، لكن هناك من العلماء من يرى الحداد للمطلقة طلاقا بائنا، ويرى عليها الحداد مدة العدة من طلاقها، والصحيح: أن الحداد يختص بعدة الوفاة فقط، ودليلنا على هذا ما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث -وفي لفظ آخر: فوق ثلاثة أيام- إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) فقال: (لا يحل) فدل على أن الحداد لا يجوز إلا في عدة الوفاة فقط، فاجتهاد بعض العلماء بأن المطلقة طلاقا بائنا تقاس على المعتدة عدة الوفاة ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تفعل هذا الفعل إلا في عدة الوفاة، فدل على اختصاص الفعل بعدة الوفاة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. اختصاص الحداد بالزوجات (كل متوفى زوجها عنها). أي: كل امرأة توفي عنها زوجها، وبناء على ذلك: فإن الرجل بالإجماع لا يحتد، ويختص الحداد بالنساء كما ذكرنا، وكذلك أيضا (كل متوفى) يشمل الصغيرة والكبيرة، وبناء على ذلك: لو كانت التي توفى عنها زوجها صغيرة وعمرها تسع سنوات -مثلا- ولم تحض بعد، فإنها تلزمها عدة الوفاة، لحديث معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد ذكر قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الوفاة للمرأة المعقود عليها. إذا ثبت هذا فالمرأة الصغيرة تعتد عدة الوفاة، ودليلنا على ذلك: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا) والمرأة الصغيرة داخلة في هذا الأصل. كذلك أيضا من الأدلة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عن أم سلمة رضي الله عنها، والحديث في الصحيحين-: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وهي تشتكي عينيها، أفنكحلهما؟ قال: لا، لا، مرتين أو ثلاثا) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها هل ابنتها بلغت أم لم تبلغ، (وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) خاصة أن المرأة إذا سألت وقالت: إن ابنتي. الغالب أنها تكون دون البلوغ؛ لأنها لو كانت كبيرة لأتت البنت بنفسها وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث أصل في أن الحداد للصغيرة والكبيرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولذلك هو حق -فيه معنى الحق- للزوج، والصغيرة لزوجها عليها حق. ثانيا: أنها ترث من الزوج، والأصل حديث معقل، وعدة الوفاة في الأصل مرتبطة بالإرث، فقوله: (كل امرأة) يدل على أن المرأة إذا كانت صغيرة تلزم بعدة الوفاة. من الذي يأمرها بعدة الوفاة ويراقبها؟ وليها، يقوم وليها عليها، ويجنبها ما تجتنبه المعتدة، مثل الصغير إذا حج أو اعتمر فإنه يقوم وليه بمنعه من محذورات الإحرام. كذلك أيضا في قوله: (كل) عموم؛ لأن (كل) من ألفاظ العموم، فشمل هذا اللفظ المرأة المسلمة والكتابية؛ لأن المسلم يحل له نكاح الكتابية اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون حرة، ولا يجوز له أن ينكح بالعقد إماء أهل الكتاب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الله تعالى يقول: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء:25] ، فاشترط في الرقيقة التي تنكح: عدم الطول، واشترط فيها خوف الزنا، واشترط أن تكون من الفتيات المؤمنات، فدل على أن الكتابية لا يجوز نكاحها إذا كانت أمة. إذا: المسلم لا يموت إلا عن زوجة مسلمة أو كتابية التي هي اليهودية أو النصرانية، فإذا توفي عن امرأة يهودية أو نصرانية عقد عليها فإنها يلزمها الحداد، واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة، فمنهم من قال: اليهودية والنصرانية لا يلزمها الحداد إذا توفي زوجها المسلم، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) . وأجيب بأن هذا الحديث خرج مخرج الغالب، وقد قال الله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن} [البقرة:234] فعمم الله عز وجل في كل مسلم ترك وراءه زوجة أن تحد عليه، وبناء على ذلك فهذا النص القرآني العام أصل، ويجاب عن الحديث بأنه خرج مخرج الغالب. وهناك جواب من وجه ثان: وهو أن الكتابية تؤمن بالله وتؤمن باليوم الآخر، فهي تؤمن أن الله موجود، وإن كانت تشرك بالله حينما تقول: إن عزيزا ابن الله، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، لكنهم يؤمنون أن الله موجود، بخلاف اللاديني الذي لا دين له، وبخلاف الملحد والوثني، ففي الأصل عندها إيمان بالله، وأيضا عند أهل الكتاب إيمان باليوم الآخر، وهذا جواب طائفة من جمهور العلماء عن هذا الحديث: أن الكتابية من حيث الأصل عندها دين، وإن كان دينها فيه تحريف، ولذلك فرق الله بين الكتابي وغير الكتابي، وقد كانوا يفعلون الشرك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله أنهم قالوا: إن عزيرا ابن الله، وقالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ومع ذلك وصفهم أنهم أهل كتاب، وهذا لوجود الأصول العامة من كونهم يؤمنون بأن هناك إلها، ويؤمنون بأن هناك رجعة بعد الموت، بخلاف الدهريين والمشركين والوثنيين الذين لا يؤمنون بهذا، فلهذا أعطوا حكما خاصا، ولذلك الكتابية إذا نكحها المسلم حل نكاحها؛ لأنها أقرب ويمكن جذبها إلى الإسلام، ولذلك حل نكاح الرجل لنساء أهل الكتاب، ولم يحل نكاح رجالهم لنساء المؤمنين؛ حتى لا يكون سببا في إغواء نساء المؤمنين، فالمقصود: أن هناك قواسم يمكن أن تكون سببا في هدايتهن كما بينا هذا في كتاب النكاح. فالمرأة الكتابية إذا توفي عنها زوجها المسلم يلزمها الحداد على الصحيح من أقوال العلماء؛ لظاهر آية الإحداد، والحديث يجاب عنه بخروجه مخرج الغالب والمخاطبة، وعلى كل حال فالمصنف -رحمه الله- عبر بهذه الأمور لكي يبين لزوم الحداد للجميع. حكم الحداد للذمية قال رحمه الله: [في نكاح صحيح ولو ذمية] . (في نكاح صحيح) فلا يلزم الحداد إلا إذا وجد النكاح الصحيح، والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوجها) والوصف بالزوجية مقترن بالوصف الشرعي، فكل من وصف شرعا بأنه زوج وتوفي شرع الحداد عليه، والزوج الذي يوصف بكونه زوجا شرعيا لا يمكن أن يوصف بذلك إلا بعقد صحيح، وهو العقد الذي توفرت فيه شروط صحته مما تقدم معنا في كتاب النكاح: أن لا يكون هناك مانع يمنع من نكاح المرأة، وأن يكون هذا العقد بولي، وشاهدين، ومهر، وإيجاب وقبول صادرين من المعتبر، إذا ثبت هذا؛ فإنه حينئذ إذا وقع العقد صحيحا وبعد العقد ولو بلحظة توفي عنها زوجها لزمها الحداد؛ لأن الله يقول: {ويذرون أزواجا} [البقرة:234] ، وهي زوجة بمجرد صحة العقد. وأما إذا كان النكاح فاسدا أو كان وطء زنا -والعياذ بالله- فهذا لا حداد فيه؛ لأن النكاح الفاسد لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء، وكذلك إذا كان وطء شبهة فإنه لا يلزم فيه الحداد. ولو أنه نكح نكاح متعة فإن نكاح المتعة نكاح فاسد، وإذا توفي عنها بعد هذه المتعة لا نقول بوجوب الحداد عليها؛ لأنه نكاح فاسد. حكم الحداد لمن سقط عنها التكليف قال رحمه الله: [أو أمة أو غير مكلفة] . (أو أمة أو غير مكلفة) يشمل المجنونة، فإن المجنونة لا يلزمها الحداد، وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أنها لا تخاطب ولا تلزم بالحداد؛ لأن التكليف لا يناط بها، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ويشمل هذا الرجال والنساء، فإذا كانت مجنونة فإنها لا تلزم بالحداد. حكم الحداد للمرأة البائن قال رحمه الله: [ويباح لبائن من حي] . أي: ويجوز أن يكون الحداد من امرأة طلقها زوجها طلاقا بائنا، وهي الطلقة الثالثة والأخيرة له، في هذه الحالة إذا طلقها تمتنع من الطيب، وتمتنع من الخروج من البيت، ويلزمونها بالحداد كما تحتد من الوفاة، هذا عند من يقول بوجوبه، وأما المصنف فقال: (يباح) أي: أنه لا يجب عليها، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور، ولكن لو أنها امتنعت من هذه الأشياء قال المصنف: (يباح) وقال بعض العلماء: لا يباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل) ، وهذا نص واضح، (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) وهذا هو الصحيح، فإن السنة حجة في هذا الأمر على أن الحداد خاص بمن سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، فالقياس هنا يقدح فيه بقادح، وهو قادح فساد الاعتبار، وفساد الاعتبار: أن يكون القياس في مقابل النص من القرآن أو السنة، أو في مقابل الإجماع، فالنص قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) فإذا طلقت المرأة وكان طلاقها بائنا فإنها تدخل تحت هذا العموم؛ لأنها لا يحل لها أن تحد على غير زوجها. حكم الحداد للمطلقة طلاقا رجعيا قال رحمه الله: [ولا يجب على رجعية] يعني: لو أنه طلقها طلاقا رجعيا فإنها لا تمتنع من الزينة ومن اللباس والطيب، والواقع أن الرجعية في الأصل الأفضل والأكمل لها أن تتجمل وتتزين لزوجها؛ لأن هذا يدعو إلى الرجوع والعدول عن فراقه لها، والله تعالى أمرها أن تعتد في بيت الزوجية؛ لأن هذا يعين على رجوع زوجها لها، فالمطلقة الرجعية الشرع يقصد رجوع زوجها إليها، ويحبب في ذلك ويرغب فيه؛ كما قال تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} [الطلاق:1] ، فجعله من اليسر والسماحة. فلو قلنا للمطلقة الرجعية: لا تلبس الثياب الجميلة، ولا تتطيب، وتفعل ما تفعله المحتدة ازداد زوجها نفرة منها، وحينئذ يقع خلاف مقصود الشرع، ولذلك حكي الإجماع على أن المطلقة طلاقا رجعيا لا يلزمها حداد؛ لأن ذلك مخالف لمقصود الشرع، ومخالف للسنة من قصد رجوع الزوج إلى زوجته وتحبيبها إليه. حكم الحداد للمرأة الموطوءة بشبهة أو نكاح فاسد أو زنا قال رحمه الله: [وموطوءة بشبهة] . (وموطوءة بشبهة) كرجل وطئ امرأة بشبهة، ثم توفي عنها، فإنه لا يلزمها أن تحد عليه؛ لما قدمنا من أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم خصا الحداد بالمرأة التي توفي عنها زوجها، والموطوءة بشبهة أو بنكاح فاسد كلتاهما لا ينطبق عليهما هذا الوصف الشرعي من كونهما زوجة على الوجه المعتبر شرعا. قال رحمه الله: [أو زنا] . وهكذا لو كان زنا -والعياذ بالله- فالمرأة المزني بها لو توفي عنها الزاني فإنها لا تحد عليه. قال رحمه الله: [أو في نكاح فاسد أو باطل] . كنكاح المتعة، وهكذا لو حكم ببطلانه، وكان بطلانه محل خلاف، كمن يبطل النكاح بدون ولي، وبدون شاهدين، فإن كان فيه تأويل فقد قدمنا هذه المسألة وبينا ما يترتب عليه من آثار، وأما إذا لم يكن فيه تأويل فالذي عليه العمل أنه يفتي بما ظهر له، فيحكم ببطلانه على الظاهر؛ لأنه يعتقد هذا ويلزم به. حكم الحداد لملك اليمين قال رحمه الله: [أو ملك يمين] . وهكذا لو أنه تسرى بجارية من جواريه فوطئها ثم توفي عنها، فلا نقول لإمائه: يلزمكن الحداد؛ لأن الحداد مختص بالزوجات، والإماء لسن بأزواج، قال تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون:5 - 6] ، فجعل ملك اليمين غير الزوجة، فدل على أن ملك اليمين لا ينطبق عليها الحداد، وإنما ينطبق على الزوجة، وقد قال: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا} [البقرة:234] فخص الحداد بالزوجات، وملك اليمين ليس بزوجة، ولذلك لا يتعلق الحداد بالإماء.
__________________
|
#630
|
||||
|
||||
![]() تعريف الحداد قال رحمه الله: [والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها، ويرغب في النظر إليها] . (اجتناب) يعني: ترك، (يدعو) يعني: يغري، وفي هذه الجملة قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين حقيقة الحداد، وذلك بعد أن بين من هي المرأة التي يلزمها الحداد، وشرع في بيان كيفية الحداد، وهذا من التسلسل والترتيب المنطقي، أنك تبدأ أول شيء بالشخص الذي يتعلق به الحكم، وبعض العلماء في بعض المسائل يبدأ بحقيقة الأمر، ثم يبين بمن يتعلق الأمر، وكلاهما مسلك صحيح، لكن هذا يختلف بحسب اختلاف الأبواب والمسائل. وأما بالنسبة لقوله رحمه الله: (والإحداد) فحقيقة الحداد: أن تجتنب كل ما يدعو ويغري الرجل بالمرأة، ويشمل هذا: زينتها في جسدها، كالطيب ووضع الحناء، ودهن الشعر بالأدهان المطيبة، والاكتحال، وهكذا لو وضعت الحناء في بعض الأعضاء دون بعضها، وهذا حكم عام سواء كان لبعض الأعضاء أو لكل الأعضاء من التجمل العام كالشامبو الموجود في زماننا ونحوه مما يمكن أن تغتسل به ويكون طيبا للبدن، أو كان لبعض البدن، فالحكم في هذا كله أنه يجب اجتنابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة المحتدة أن تتقي الطيب والحلي، والثياب الجميلة من المعصفر والمزعفر، وكذلك أيضا: تتقي الخروج من المنزل، فهذان الأمران أحدهما: يتعلق بالمرأة وشارتها وهيئتها، والثاني: يتعلق بالمسكن ولزومه، فبين -رحمه الله- أن الأصل يقتضي أن المرأة تلزم بترك كل ما يرغب في نكاحها. وهذا الذي يدعو ويرغب في نكاحها يعبر عنه بالزينة، والزينة: هي الجمال والحسن، وما يتزين به هو الشيء الذي يزيد من جمال الإنسان وحسنه وبهائه، وهذا الشيء ربطه بعض العلماء بقاعدة وهي: (الرجوع إلى العرف) فكل ما عده العرف زينة يغري بالمرأة ويحبب فيها فإنه يدخل في هذا الأصل ويمنع، يعني: ننظر في كل بيئة وفي كل مكان وعرف ماذا يعدون الزينة، فإذا كان هذا الذي تضعه وهذا الذي تلبسه، وهذا الذي تريد أن تتجمل به يعد في العرف زينة فإنه يحكم بعدم جواز تعاطيها له، سواء تعلق باللباس أو تعلق بالجسد، فالكل في حكم واحد، وينبغي اجتنابه. قال رحمه الله: (والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها) . (ما يدعو إلى جماعها) يعني: يرغب في المرأة؛ لأن المحاسن والتجمل والتحسن والزينة تدعو إلى جماع المرأة وترغب في المرأة، وهذا يشمل -مثلا- زينتها في عينيها كالكحل، وزينتها في وجهها كتحمير الخدين كما ذكره العلماء رحمهم الله، وتصفير الوجه في بعض الأحيان، وكذلك زينتها في شعرها مثل وضع الطيب في الشعر، أو ما وجد الآن من الصابون المطيب في الشعر وفي الجسد، وكذلك أيضا ما يدعو إلى جماعها ويرغب فيها مثل الحناء، أن تحني يديها ورجليها، فهذا يغري بالمرأة، وهو جمال متعلق بعضو خاص، وكذلك ما كان زينة لبعض الأعضاء كالخاتم للأصابع، والقلادة للصدر والأقراط والفتخات، ونحو ذلك مما يكون من الخلخال في القدمين، كل هذا تتقيه المرأة؛ لأنه يرغب فيها ويتشوف الرجال إليها إذا كانت متجملة. قال تعالى: {أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين} [الزخرف:18] ، فجعل الحلية تزيد من زينة المرأة وجمالها. قوله رحمه الله: (ويرغب في النظر إليها) . كما ذكرنا، سواء كان ذلك في وجهها أو بدنها أو ثيابها، فالثياب الجميلة مثل الثياب الصفراء واللامعة البراقة، والبيضاء البراقة الجميلة، أو ذات الخطوط المزركشة والمنقوشة بالنقش الذي يغري ويحبب ويجذب الأنظار، هذا النوع كله تتقيه المرأة وتجتنبه. كذلك الثياب المطيبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن المعصفر، وكذلك أيضا ما هو موجود في زماننا من وضع بعض الأصباغ التي فيها طيب على الثياب فتتقيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعصفر والمزعفر، والمعصفر من الثياب هي التي توضع في العصفر، وهو نبت في اليمن طيب الرائحة إذا وضع في الثوب كان جمالا وزينة وطيبا له، فإذا غسل به بدت رائحته زكية، وهو نوع من أنواع الأطياب، ونوع من أنواع الزينة في الثوب، فهو يجمع بين طيب اللون وطيب الرائحة. ما يجتنب في الحداد الزينة قال رحمه الله: [من الزينة] . على شرط أن يكون زينة، أما إذا كان لا يتزين به ولا يزيد في الزينة فلا يؤثر. الطيب قال رحمه الله: [والطيب] . والطيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتطيب المحتدة، قال: (ولا تمس طيبا إلا نبذة من قسط أو أظفار عند طهرها) كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها، فقوله: (ولا تتطيب) نهي، والنهي يدل على التحريم، وهذه العبارة استخدمت في الحج، قال: (ولا تمسوه بطيب) فدل على أنه محذور على المرأة المحتدة أن تمس الطيب، والطيب سمي طيبا لطيب رائحته، وقيل: لأن النفوس تطيب لشمه، وتجد الإنسان يستزيد من شمه، والطيب يشمل جميع أنواع الطيب، سواء كانت من الأدهان أو كانت من المشمومات كالبخور ونحوها، وقد أخذت أم حبيبة الطيب بعد ثالث يوم من حدادها على أبيها، وبينت وقالت: (والله ما لي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل) فدل على أن الأصل أنها تمس الطيب، ولا يجوز للمرأة المحتدة أن تمس الطيب، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. إذا قيل: إن الأصل أنها لا تمس الطيب فهذا يشمل أن تتعاطى الأسباب لشم الطيب كأن تشم الطيب في غيرها فتتشوف لشمه، ولذلك قال بعض العلماء: يمنع عليها أن تشم من الغير لأنها ممنوعة من شم الطيب، والصحيح أن المحظور عليها الوضع، وأما الشم فقال بعض العلماء: لا بأس به إذا شمته من الغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تمس طيبا) فجعل الحكم متعلقا بالتطيب لا بشم الطيب، وبناء على ذلك قالوا: إنه يجوز، وبعض العلماء يقول -وهو الصحيح- إنه يجوز لها أن تشم الطيب. لكن أجيب عن هذا بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تمسوه بطيب) أجمع العلماء على أن المحرم لا يجوز له أن يشم ولا أن يضع، ولذلك قالوا: إن الأصل أن تتقي المرأة اشتمامه، فلا تتطيب بشمه اتفاقا، ولا تضعه في بدنها. كذلك أيضا: الأدهان مثل الزيوت أو ما يعرف في زماننا بالشامبو الذي يوضع في الرأس في الشعر، فإذا كان فيه طيب فإنها لا تضعه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمس طيبا) فإذا وضعت هذا النوع من الطيب في شعرها فقد مست الطيب. وكذلك أيضا بالنسبة للضرورة، قال بعض العلماء: حتى ولو اضطرت لكسب معيشتها، كأن تكون تبيع الطيب، قالوا: إنها تتقي بيعه والتعامل به حال حدادها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها، وبيعه من الأسباب التي تؤدي إلى المس؛ لأنها إذا باعت لابد وأن تكون في محلها تتعاطى هذا الطيب. التحسين قال رحمه الله: [والتحسين] . والتحسين: التجميل، والشيء الحسن هو الجميل. أي: لا تحسن شارتها وهيئتها ولا تتجمل في بدنها وثيابها، فلا تلبس الثياب الجميلة، ولا تلبس الثياب المزركشة التي عليها النقوش، والتي تعد زينة للابسها، ولا تتزين في نفسها بوضع الحناء كما ذكرنا، أو بوضع ما يصفر الوجه أو يحمره ونحو ذلك من الأصباغ، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن وضع الكحل في عين المحتدة منع عليه الصلاة والسلام من ذلك، ومنع أم سلمة رضي الله عنها من ذلك، وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تحسن نفسها، ولا أن تحسن أعضاءها، ولا تتجمل. الحناء قال رحمه الله: [والحناء] . كذلك الحناء وهي معروفة، فلا يجوز للمرأة المحتدة أن تضع الحناء؛ لأنه نوع من الزينة ونوع من الجمال سواء وضعته في بعض الأعضاء أو في أكثر الأعضاء. ما صبغ للزينة قال رحمه الله: [وما صبغ للزينة] . الأصباغ التي توضع في البدن للزينة لا يجوز للمرأة المحتدة أن تضعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن جميل الثياب، ونهاها عن الطيب، ونهاها عن الحلي لمعنى يفهم من مجموع هذا وهو ألا تتجمل، وألا تفعل ما يدعو إلى نكاحها ويرغب فيها. الحلي قال رحمه الله: [وحلي] . وهذا نص حديثه عليه الصلاة والسلام: (ولا الحلي) فنهى عليه الصلاة والسلام عن لبس الحلي، وجمهور العلماء على أنها لا تلبس الحلي لا في رأسها -كأن تضع على رأسها ما يمسك الشعر من الذهب أو الفضة أو نحوهما- ولا تضع في أذنيها الأقراط، ولا تضع في رقبتها القلائد، ولا تضع في أيديها الأسورة والخواتيم، ولا الدمالج، والدملج يوضع في أسافل القدمين، فهذه كلها يحظر على المرأة المحتدة أن تتجمل بها، إلا أن بعض العلماء اجتهد وقال: يجوز لها أن تلبس الخواتم إذا كانت من الفضة، واختاره بعض العلماء، واختلفوا في هذا الاستثناء، قالوا: لأن الفضة في الغالب زينة الرجال، وليست من زينة النساء، فهي إذا وضعت الفضة ليست بالمتجملة، ولكن هذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص فقال: (ولا الحلي) فهذا نص يدل على أنه لا يجوز لها أن تلبس الحلي، والفضة من الحلي، ولذلك لا يجوز لها أن تلبس كل ما يصدق عليه أنه حلي سواء كان ذهبا أو فضة أو ألماسا أو جواهر أخر، كل ذلك تتقيه المرأة وتجتنبه. الكحل الأسود قال رحمه الله: [وكحل أسود] . لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها- ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه منع أن تكتحل المرأة المحتدة، وقد اشتكت إليه أنها تشتكي عينها. قال العلماء: إن وضع الكحل يزيد من جمال العين، وهو زينة من الزينات، لكن رخص في وضعه في الليل ومسحه في النهار عند وجود الضرر، وقيل: هذا خاص بالصبغ فإنها تضمد به في الليل دون النهار. قال رحمه الله: [لا توتيا] هذا نوع من أنواع الزينة، على كل حال: لكل زمان ما يعرف في بيئته وزمانه أنه زينة. قال رحمه الله: [ولا نقاب] . فلا تضع النقاب؛ لأنه يزيد من جمال المرأة وزينتها. قال رحمه الله: [وأبيض ولو كان حسنا] . ما كان من الثياب البيضاء والصفراء، والألوان الباهتة البراقة الجميلة منعت منها المرأة؛ لما فيها من زيادة البهاء والجمال، (لا توتيا ولا نقاب ... ) ، استثناء، وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، ولا نقاب أي: لا يحظر عليها لبس النقاب، ولا يحظر عليها لبس الأبيض. وقال بعض العلماء: تتقي الأبيض والثياب الباهتة الصفراء الجميلة، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة المحتدة أن تلبس المعصفر، وقالوا: إن هذا أصل في المنع من الثياب البراقة والجميلة، والأصل عند العلماء أن الثياب الجميلة والبراقة تمنع منها، وكذلك المنقوشة نقشا يلفت النظر ويزيد من زينتها وحسنها تمنع منها ولا يجوز لها أن تلبسها في الحداد، لكن الأبيض خفف فيه بعض العلماء كما أشار المصنف رحمه الله، وبعض العلماء قال: تتقي الأبيض؛ لأنه يزيد من الجمال وهو من خير الثياب. لكن من حيث الأصل العام فالثياب البراقة والبيضاء الجميلة لا شك أنها تلفت النظر، مثل الحرير، أي أنها تكون بيضاء لكن فيها نوع من الزينة، أما أن تكون بيضاء خالصة فاختار المصنف -رحمه الله- الجواز. وبعض العلماء منع من الثياب البراقة كالصفراء والبيضاء الجميلة التي تكون خامتها ملساء جميلة تلفت النظر فلا تلبسه المرأة المحتدة لما فيه من الزينة والجمال. العدة في بيت الزوجية قال رحمه الله: [فصل: وتجب عدة الوفاة في المنزل حيث وجبت] . وتجب عدة الوفاة على المرأة المحتدة في المنزل، ولذلك قال تعالى: {متاعا إلى الحول غير إخراج} [البقرة:240] فأمر المعتدة في عدة الوفاة ألا تخرج من بيت الزوجية، وقد نسخت هذه الآية بالنسبة للمدة ولم تنسخ بالنسبة لحكم عدم الخروج، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها لما توفي عنها زوجها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله) فأمرها بلزوم البيت، وأنها لا تخرج، ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تخرج من حاجة، وإلا فإنه لا يجوز لها الخروج في حال الحداد. حكم التحول من بيت الزوجية في الحداد قال رحمه الله: [فإن تحولت خوفا أو قهرا أو بحق انتقلت حيث شاءت] . (فإن تحولت) يعني: انتقلت من بيت الزوجية (خوفا) مثل أن تكون مع زوجها في صحراء، ويخشى أن يأتيها من يؤذيها في عرضها، أو يأتيها السبع، فحينئذ يجوز لها أن تتحول، واختلف العلماء: هل إذا تحولت تنظر إلى أقرب مكان بالنسبة لبيت الزوجية، أم أنها إذا تحولت حل لها أي مكان؟ وجهان للعلماء: وفائدة هذا الخلاف: أننا إذا قلنا: تنظر أقرب مكان لو أن امرأة في ضاحية من ضواحي مكة، وخافت من البيت -مثلا- فهي ضعيفة وفي مكان منفرد ليس فيه أحد، وكان معها زوجها يقوم عليها، ثم لما توفي عنها زوجها خافت، وخشي عليها ففي هذه الحالة إذا قلنا: تنتقل إلى أقرب مكان فإنها تنتقل إلى مكة، ويلزمها أن تحد في مكة على القول بأنها تنتقل إلى أقرب مكان؛ لأنه إذا تركت هذا المكان فينظر إلى أقرب مكان يمكن أن تحتد فيه. ومنهم من قال: تخير، فيجوز لها أن تنتقل إلى أي مكان، وهذه المسألة لها نظائر: منها: إذا قلنا: إن الزكاة تختص بالموضع الذي فيه المال، فهل إذا لم يجد فقيرا في المكان الذي فيه المال هل ينتقل إلى أقرب مكان إليه أم أنه يخير في جميع الأمكنة؟ هذه المسألة لها قاعدة عند العلماء رحمهم الله، والذي اختاره بعض العلماء أنه إذا قويت الشبهة من أن مقصود الشرع القرب نظر إلى الأقرب، وأما إذا كان الأمر على الإطلاق فإنه إذا تخلف المقيد حل للمكلف أن ينتقل إلى الكل على حد سواء، وبناء على هذا فإنه يقوى هنا أن يقال: إنها تنتقل إلى أي مكان سواء كان قريبا من بيت الزوجية أو بعيدا، مثلا: لو كان عندها قريب قريب من الموضع الذي توفي فيه زوجها، وقريب في موضع آخر بعيد، فإنه يجوز أن تنتقل إلى البعيد، ويجوز لها أن تنتقل إلى القريب على حد سواء، ولا تلزم بواحد منهم. (أو قهرا). أن تقهر بالقوة والكره، يقال لها: لا تجلسي في هذا البيت، ويقع بعض الأحيان -نسأل السلامة والعافية- كأن يكون هناك شحناء، وتكون امرأة تزوجها رجل وهي ليست بقريبة، وجاءت إلى أقرباء الزوج فغاروا منها -وهذا الكلام يقع مع اختلاف البيئات والأعراف والتقاليد- فإذا توفي الزوج الذي كان يحفظها تسلط عليها أهل زوجها فقهروها وأجبروها بالقوة أن تخرج من بيت الزوجية، وقالوا: نريد أن نبيع البيت، ونريد أن نتصرف في البيت ويخرجونها. فإذا غلبت بقوة وقهر وأكرهت على الخروج، فإن الإكراه يسقط التكليف؛ لأن الله تعالى يقول: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] فأسقط الله بالإكراه الردة وهي أعظم شيء، فمن باب أولى أن يسقط ما دونه مثل الحداد. (أو بحق). مثل أن تحتد في بيت ليس لزوجها، وإنما قال له شخص: هذا البيت اسكنه ما دمت حيا، فجاء وسكن في البيت، وسكنت معه زوجته ثم توفي، فالزوجة في البيت، والرجل يريد بيته، والبيت ليس ببيت الزوج، فحينئذ تخرج من البيت بحق؛ لأن البيت بيته له الحق أن يخرجها، وله الحق أن يبقيها، فإن أبقاها ففضل وكرم، وإن أخرجها فماله وحقه، وما على المحسنين من سبيل. وهكذا لو انتهت الأجرة، كما لو كان مستأجرا فمكثت شهرا، ثم انتهت الإجارة، فقال صاحب البيت: اخرجي؛ فإنها تخرج. (انتقلت حيث شاءت). أي: أنها لا تنظر إلى أقرب مكان للبيت الذي جاءها فيها النعي. حكم الخروج أثناء الحداد للحاجة قال رحمه الله: [ولها الخروج لحاجتها نهارا لا ليلا] . ولها أن تخرج لرزقها وحاجتها نهارا، مثل أن تكون عندها عمل أو وظيفة، أو تحتاج إلى كسب المعيشة لها ولأولادها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمرأة أن تخرج تترزق وتنفع أولادها، فإذا احتاجت لذلك فإنها تخرج، ولا بأس بذلك في النهار، ثم في الليل تأوي إلى بيت الزوجية وتحتد فيه. حكم ترك الحداد قال رحمه الله: [وإن تركت الإحداد أثمت] . وإن تركت الإحداد أثمت؛ لأن الله أمرها أن تحتد، فإذا لم تمتثل ما أمرت به أثمت إذا كانت عالمة، وإذا كانت جاهلة لم تأثم، وكذلك لو كانت غير عالمة بوفاة زوجها، كأن يتوفى عنها زوجها وتمكث أربعة أشهر بعد الوفاة ولم يأتها خبر، ثم يأتيها الخبر بعد سنة فلا شيء عليها، لكن إذا قصدت وعلمت فإنها آثمة، ولا يلزمها أن تقضي فلو أنها -مثلا- تطيبت أثناء الحداد ولبست جميل الثياب فهي آثمة، ومن عصى الله ورسوله فإنه يخشى عليه، فإن المعاصي بريد إلى ما هو أعظم، ولربما استدرج صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله. انتهاء عدة الحداد قال رحمه الله: [وتمت عدتها بمضي زمانها] . سواء علمت أو لم تعلم، فإذا مضى الزمان عليها فإنها لا تلزم بقضاء ما فرطت فيه وامتنعت فيه من الأيام التي خلت.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |