|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#11
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (11) وصايا للمسافر (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ المقدمة: - الإشارة إلى فضل الوصايا النبوية (مقدمة الخطبة الأولى). - وصية اليوم: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- أَنَّ رجلًا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أريدُ أن أسافِرَ، فَأوصِني، قالَ: (عليكَ بتقوَى اللَّهِ، والتَّكبيرِ على كُلِّ شَرَفٍ)، فلمَّا ولَّى الرَّجُلُ، قالَ: (اللَّهُمَّ اطوِ لَه البُعدَ، وَهوِّن عليهِ السَّفرَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). - الإشارة إلى أن هذه الوصية تضمنت بعض آداب السفر الإيمانية والعقدية، وعلى هامش ذلك سنقف على بعض الآداب الأخرى التي جاءت في سنته -صلى الله عليه وسلم-. الأدب الأول: الوصية بالتقوى: - والتقوى في مجموعها تعني خوف الله في السر والعلن: قال علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: "التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل" (سبل الهدى والرشاد للصالحي). - الوصية بالتقوى تكون في كل وقت، ولكنها تتأكد في السفر؛ لأن المسافر يكون غريبًا عن الناس، فربما اجترأ على المعصية، لعدم خوف الملامة، حيث لا يعرفه أحد(1): قال -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) (النساء: 131)، وقال -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة: 197). الأدب الثاني: التكبير على كل شرف: - الصعود إلى الأماكن المرتفعة يشعر الإنسان بالعلو والكبرياء، فعند ذلك ينبغي عليه أن يستحضر أن الله أعلى وأكبر وأجل: قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع، أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس، لما فيه من استشعار الكبرياء، فشرع لمن تلبس به أن يذكر كبرياء الله -تعالى-، وأنه أكبر من كل شيء، فيكبره، ليشكر له ذلك فيزيده من فضله" (فتح الباري). - المسلم مرتبط بعقيدة التوحيد في كل حاله وترحاله: عن جابر -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: "كُنَّا إذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا، وإذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا" (رواه البخاري)، وعن ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: "كانَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وجيوشُهُ إذا علَوا الثَّنايا كبَّروا وإذا هبَطوا سبَّحوا" (رواه أبو داود، وصححه الألباني). ومن آداب السفر الأخرى: الأدب الثالث: التوبة والتحلل من المظالم: - ينبغي للمسافر أن يبدأ بالتوبة، ويخرج من المظالم، ويقضي ديونه إن لم يترك مَن يوفيها في موعدها، ويرد الأمانات إن كان سفره طويلًا، ويطلب مسامحة أصحاب الحقوق، ويتذكر بسفره خروجه من الدنيا: قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (البقرة: 281)، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء: 58)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). الأدب الرابع: إرضاء الوالدين: - فلا يسافر إلا برضاهما، لا سيما إذا كان سفره يطول، ويتضرران به: عن أبي سعيد -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: أنَّ رجلًا هاجرَ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- منَ اليمَنِ فقالَ: (هل لَكَ أحدٌ باليمَنِ؟)، قالَ: أبوايَ، قالَ: (أذنا لَكَ؟) قالَ: لا، قالَ: (ارجِع إليهما فاستأْذِنْهما، فإن أذنا لَكَ فجاهِدْ، وإلَّا فبرَّهُما) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وعن معاوية بن جاهمة السلمي أنه جاءَ إلى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ، فقالَ: (هل لَكَ مِن أمٍّ؟)، قالَ: نعَم، قالَ: (فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها) (رواه النسائي، وصححه الألباني). الأدب الخامس: توديع الأهل والأحباب: - وليتواصوا بالحق، وليدعوا كلٌّ للآخر: ففي وصية اليوم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ اطوِ لَه البُعدَ وَهوِّن عليهِ السَّفرَ)، وعن أنس -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: جاءَ رجُلٌ إلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أريدُ سفرًا فزوِّدني، قالَ: (زوَّدَك اللَّهُ التَّقوى)، قالَ زِدني، قالَ: (وغفرَ ذنبَك)، قالَ: زدني بأبي أنتَ وأمِّي، قالَ: (ويسَّرَ لَك الخيرَ حيثُما كنتَ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وكان ابن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عنْهما- يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا: ادْنُ مِنِّي حَتَّى أُوَدِّعَكَ كمَا كَانَ رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- يُودِّعُنَا، فيقُولُ: (أَسْتَوْدِعُ اللَّه دِينَكَ، وَأَمانَتَكَ، وخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني). الأدب السادس: اختيار الرفيق: - السفر يُمتحَن فيه الناس في أخلاقهم: قال بعض علماء اللغة: "سُمِّي السفر سفرًا؛ لأنه يكشف عن أخلاق الرجال". - والرفيق في السفر إذا كان صالحًا كان عونًا ومؤنسًا، وإن كان فاسدًا كان همًّا وعبئًا على صاحبه، ولربما حَمَّله من الذنوب ما لا يعلمه إلا الله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالحِ، والجَلِيسِ السّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِير، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (متفق عليه). - وإذا كانوا جماعة جعلوا عليهم أميرًا، يرجعون إليه إذا اختلفوا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ في سَفَرٍ فَلْيُؤمِّروا أَحَدَهُم) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). - ولا تسافر المرأة بغير محرم لها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ) (متفق عليه). الأدب السابع: التعجيل بالرجوع إلى أهله: - فلا يمكث في سفره فوق حاجته؛ مراعاة لحق أهله وعياله عليه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ، يَمْنَعُ أحَدَكُمْ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ونَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ، فَلْيُعَجِّلْ إلى أهْلِهِ) (متفق عليه)، وكان عمر -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- يأمر في سفر الجهاد والغزو ألا يزيد على ستة أشهر، حتى لا تتضرر المرأة(2). الأدب الثامن: البدء بالمسجد عند الرجوع: - يفعل ذلك تبركًا، واقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم-: فعن كعب بن مالك أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "كانَ إذَا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، بَدَأَ بالمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فيه رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ" (رواه البخاري). قال النووي -رحمه الله-: "فإن كان القادم مشهورًا يقصده الناس، استحب أن يقعد في المسجد، أو في مكان بارز، ليكون أسهل عليه وعلى قاصديه، وإن كان غير مشهور ولا يقصد، ذهب إلى بيته بعد صلاته الركعتين في المسجد" (المجموع). خاتمة: عود على بدء: - إعادة ذكر الوصية، مع الإشارة إلى فضل مراعاة ذلك عند السفر، حيث وَصَّى النبي -صلى الله عليه وسلم-. فاللهم وفقنا إلى ما تحب وترضى في السفر وفي الحضر، والحمد لله رب العالمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) وما أكثر صور ذلك في السفر، كحال بعض الطلبة المبتعثين في بلاد الغرب، أو بعض المسافرين للتنزه والسياحة، بل وصل الأمر ببعضهم إلى إحداث مَثَل شعبي حول التحلل من الأخلاق في السفر، وهو قولهم: "إذا دخلت بلدًا لا يعرفك أحد فيها، فتجرد من ثيابك وأمشي فيها!"، نعوذ بالله من الفجور والضلال. (2) إن واقع الحياة يحمل الصور المأسوية الكثيرة على فساد وانهدام كثير من البيوت، نتيجة غياب الأزواج في الأسفار مدة طويلة. نسأل الله أن يحفظ بيوت المسلمين.
__________________
|
#12
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (12) اجتنبوا السبع الموبقات (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ المقدمة: - الإشارة إلى فضل الوصايا النبوية (مقدمة الخطبة الأولى). - وصية اليوم: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ)، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: (الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ) (متفق عليه). - الإشارة إلى سبب تسميتها موبقات: قال المهلب: "سُميت بذلك؛ لأنها سبب لإهلاك مرتكبها"، قال الحافظ: "الموبقة هي الكبيرة" (فتح الباري). أول وأعظم المهلكات: الشرك بالله: - الشرك بالله تبديل للفطرة وجحود لنعم الله؛ ولذا فهو أكبر الكبائر: ففي الحديث في قصة يحيى بن زكريا -عليهما السلام- أنه قال لبني اسرائيل: (وإنَّ مَثلَ مَن أشرَك باللهِ كمثَلِ رجلٍ اشترى عبدًا مِن خالصِ مالِه بذهَبٍ أو ورِقٍ، فقال: هذه داري وهذا عمَلي، فاعمَلْ وأدِّ إليَّ، فكان يعمَلُ ويُؤدِّي إلى غيرِ سيِّدِه؛ فأيُّكم يَرْضَى أن يكونَ عَبْدُه كَذَلِك؟!) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). - والشرك بالله عاقبته الخلود في النار: قال -تعالى-: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) (المائدة: 72). - من مظاهر الشرك في حياة المسلمين: 1- اعتقاد أن غير الله من الأولياء والصالحين والأنبياء والملائكة يدبرون الأمر! (الشيعة مع أئمتهم - الصوفية مع الأولياء). 2- اعتقاد البعض الحرية في قبول الشرع أو رفضه! (العلمانيون - الليبراليون - ... ). 3- دعاء غير الله من الأموات وأصحاب الأضرحة، وسؤالهم الحاجات وتفريج الكربات! 4- الذبح والنذر لغير الله! 5- إتيان الكهان والعرافين وتصديقهم! 6- تعليق التمائم على البيوت والسيارات ونحوها، اعتقادًا لجلبها النفع أو دفعها الضر! المهلكة الثانية: السحر(1): - السحر كفر بالله -عز وجل-؛ لأن الساحر يوهم الناس أنه قادر على النفع والضر بما يتسبب فيه بسحره: قال -تعالى-: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (البقرة:102). - السحرة لا يتوصلون إلى سحرهم إلا بالكفر والأقوال والأفعال الشنيعة: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "يكتبون كلام الله بالنجاسة(2)، وقد يقلبون حروف كلام الله -عز وجل-، إما حروف الفاتحة، وإما حروف (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الصمد:1)، وإما غيرهما، ويذكر أنهم قد يكتبون كلام الله بالدم أو بغيره من النجاسات، وقد يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك" (مجموع الفتاوى). - ولذا كان إتيان السحرة خطر شديد على عقيدة المسلم وإيمانه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً) (رواه مسلم). المهلكة الثالثة: قتل النفس التي حَرَّم الله: - قتل النفس يضيق على العبد أمره في الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِن دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) (رواه البخاري)، وعَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ قالَ: "إنَّ مِن ورَطَاتِ الأُمُورِ الَّتي لا مَخْرَجَ لِمَن أوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بغيرِ حِلِّهِ"(رواه البخاري). - لقد تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- ممَّن يقتل المسلمين: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَن حَمَلَ عليْنا السِّلاحَ فليسَ مِنَّا) (متفق عليه). - دماء المسلمين أشرف الدماء، ولو استهان بها الفجار: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو أنَّ أَهلَ السَّماءِ وأَهلَ الأرضِ اشترَكوا في دمِ مؤمنٍ لأَكبَّهمُ اللَّهُ في النَّارِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن نافع قال: "نظرَ ابنُ عُمرَ يومًا إلى الكعبةِ فقال: ما أعظَمَكِ! وما أعظَمَ حُرْمَتَك! والمؤمِنُ أعظمُ حُرْمةً عند اللهِ مِنْكِ" (رواه الترمذي وابن حبان، وقال الألباني: "حسن صحيح"). المهلكة الرابعة: أكل الربا: - جريمة الربا حرب مباشرة مع الله ورسوله، نتيجتها محسومة خاسرة: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) (البقرة: 278-279). - المتعامل بالربا متوعد بالوعيد الشديد في الدنيا والآخرة: عن جابر -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: لعنَ رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- آكلَ الرِّبا وموكلَهُ وشاهديْهِ وَكاتبَه، وقال: (هُمْ سَوَاءٌ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الربا ثلاثةٌ وسبعونَ بابًا، وأيسرُها مثلُ أنْ ينكِحَ الرجلُ أمَّهُ، و إِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عرضُ الرَّجُلِ المُسْلِمِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وفي حديث الاسراء الطويل: (وأَمَّا الرَّجُلُ الذي أتَيْتَ عليه يَسْبَحُ في النَّهَرِ ويُلْقَمُ الحَجَرَ، فإنَّه آكِلُ الرِّبَا) (متفق عليه). - المتعامل بالربا متوعد بذهاب بركة المال، وحلول الخراب والوبال(3): قال -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) (البقرة: 276). المهلكة الخامسة: أكل مال اليتيم: - فقد الأب في الصغر يكسر قلب الصغير، ويضعفه بين الناس؛ ولذا جاء التحذير من إيذائه: قال -تعالى-: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى: 9)، وقال: (كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (الفجر: 17)، وقال عن الكافر: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (الماعون: 2). - وأوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- باليتيم والإحسان إليه: قال -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهمَّ إنِّي أحرِّجُ حقَّ الضَّعيفينِ: اليتيمِ، والمرأَةِ) (رواه ابن ماجه، والنسائي في السنن الكبرى، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا وأَشارَ بالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى، وفَرَّجَ بيْنَهُما شيئًا) (متفق عليه). - فكيف بمَن يأخذ ماله أو يتلفه (كحال بعض الورثة - أو بعض الأولياء - أو غيرهم)؟! قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء: 10)، وقال: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء: 34). المهلكة السادسة: التولي يوم الزحف(4): - الفرار من ميدان الجهاد من الكبائر العظام؛ لما له من أثر سيئ على الصف المسلم: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ . وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ) (الأنفال: 15-16)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الأنفال: 45). - فلا يجوز الانسحاب إلا لمصلحة شرعية بأمر أمير الجيش: قال -تعالى-: (إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ) (الأنفال: 16)، ومن ذلك فعل خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يوم مؤتة؛ لما رأى من خطر البقاء على المسلمين، وقد أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على فعله فقال: (حتَّى أخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ، حتَّى فَتَحَ اللَّهُ عليهم) (رواه البخاري). المهلكة السابعة: قذف المحصنات الغافلات(5): - قذف الأعراض بغير بينة من الكبائر العظام لما له من أثر سيئ في إفساد المجتمع المسلم؛ ولذلك شرع حد القذف: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ? وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 4)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 23). - الحذر الحذر مما شاع بين كثيرٍ من الجهلة وأصحاب الألسنة البذيئة من سب وقذف الناس: قال -تعالى-: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15). خاتمة: - تذكير بالوصية بالإشارة إلى خطر الوقوع في ذلك بإجمال. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) قال ابن قدامة -رحمه الله- في الكافي: "السحر عزائم ورقى وعُقَد تؤثِّر في الأبدان والقلوب، فيمرض ويقتل، ويفرِّق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه، قال الله -تعالى-: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (البقرة: 102)" (نقلًا عن فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، باب ما جاء في السحر). (2) كدم الحيض أو المني، أو غيرهما. (3) اسألوا عنابر السجون الممتلئة بمَن عجزوا عن سداد الديون الربوية. (4) التولي يوم الزحف: الانسحاب أثناء المعركة دون سبب مشروع، وهو يتضمن مفسدتين: الأولى: كسر قلوب المسلمين. والثانية: تقوية الكفار على المسلمين. (5) بأن يقول: هي زانية، وما أشبه ذلك. ومثله أن يقول عن رجل عفيف: هو زان، أو نحو ذلك.
__________________
|
#13
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (13) الحث على أكل الحلال (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ المقدمة: - الإشارة إلى فضل الوصايا النبوية (مقدمة الخطبة الأولى). - وصية اليوم: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عنْه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ(1) لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (المؤمنون: 51)، وقالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة: 172)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!) (رواه مسلم). - شرح مجمل للوصية ثم التفصيل في عناصر: قال العلماء: بعد أن بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله لا يقبل الا طيبًا، وأن المرسلين والمؤمنين أمروا بالأكل مِن الطيبات، بيَّن أن مِن الناس مَن يخالف هذا المسلك، فلا يكون أكلة طيبًا، بل يعمد إلى اكتساب الحرام واستعماله في جميع شئونه من مأكل وملبس وغذاء، وأن ذلك من أسباب عدم قبول دعائه، مع كونه أتى بأسباب قبول الدعاء، وهي في هذا الحديث أربعة: السفر مع إطالته، وكونه أشعث أغبر، وكونه يمد يديه بالدعاء، وكونه ينادي الله بربوبيته مع الحاحه على ربه بتكرار ذلك، ومع ذلك لا تحصل الإجابة، لوجود مانع عظيم، وهو أكل الحرام. الحث على أكل الحلال الطيب: - أمر الله بأكل الحلال الطيب (الأمر في الوصية): قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (البقرة: 172)، وقال -تعالى-: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) (المائدة: 4)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ?) (البقرة: 168)(2). - وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأكل الحلال: (وصية اليوم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يَتَصَدَّقُ أحَدٌ بتَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، إلَّا أخَذَها اللَّهُ بيَمِينِهِ، فيُرَبِّيها كما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، أوْ قَلُوصَهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ، أوْ أعْظَمَ) (متفق عليه). - من أقوال السلف في الحث على أكل الحلال: قال سهل بن عبد الله: "النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-" (تفسير القرطبي)، وقال وهيب بن ورد: "لَوْ قُمْتَ قِيَامَ هَذِهِ السَّارِيَةِ مَا نَفَعَكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ بَطْنَكَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ" (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبو نعيم الأصبهاني)، وقال بعضهم: "الحجر المغصوب في البناء أساس الخراب" (كتاب اللطائف لابن الجوزي). عاقبة أكل الحرام: - لقد شاع أكل الحرام في هذا الزمان، حتى تنافس الناس في طرقه ووسائله، دون مبالاة بعاقبته(3): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ) (رواه البخاري). - أكل الحرام من أعظم أسباب هلاك الانسان في الدنيا والآخرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ... ) وذكر منها: (وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ) (متفق عليه). بعض آثار وعواقب أكل الحرام: لا يقبل الله دعاءه: ففي وصية اليوم: (ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!) وقال بعض السلف: "لَا تَسْتَبْطِئِ الْإِجَابَةَ وَقَدْ سَدَدْتَ طَرِيقَهَا بِالذُّنُوبِ" (سير أعلام النبلاء للذهبي)، وعن وهب بن مُنبِّه قال: "من سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته" (جامع العلوم والحكم)، وروي في الحديث: "يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ؛ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ" (رواه الطبراني باختلاف يسير، وحكمه ضعيف). - محق البركة في حالة وماله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (الْبَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَتَفَرَّقا، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَذَبا وكَتَما مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِما) (متفق عليه)، وقال -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا) (البقرة: 276)، و(وهكذا في كل عمل محرم وكسب محرم). - استجلاب غضب الجبار سبحانه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَن حَلَفَ علَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وهو عليه غَضْبانُ) (متفق عليه). - وأعظم آثار أكل الحرام استحقاق النار: ففي سنن الترمذي بإسناد صحيح، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وفي رواية أحمد: (يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ النَّارُ، أَوْلَى بِهِ) (رواه أحمد، وقال محققو المسند: إسناده قوي). الصالحون يتحرون الحلال الطيب: - الصالحون ينظرون أدق النظر فيما يتكسبونه ويدخلونه بطونهم وبطون أهليهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيَهَا) (متفق عليه)، وعن عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عنْها- قالت: "كانَ لأبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ له الخَرَاجَ، وكانَ أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِن خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بشَيءٍ، فأكَلَ منه أبو بَكْرٍ، فَقالَ له الغُلَامُ: أتَدْرِي ما هذا؟ فَقالَ أبو بَكْرٍ: وما هُوَ؟ قالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ في الجَاهِلِيَّةِ، وما أُحْسِنُ الكِهَانَةَ، إلَّا أنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فأعْطَانِي بذلكَ؛ فَهذا الذي أكَلْتَ منه. فأدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شيءٍ في بَطْنِهِ" (رواه البخاري). الصالحون يجنون ثمار تحريهم أكل الحلال، واجتنابهم أكل الحرام: - لقد كانت المرأة في السلف الصالح حريصة ألا تأكل هي وأبناؤها إلا الحلال؛ خوفًا من هذا الحديث، فكانت الواحدة منهن توصي زوجها وهو ذاهب إلى عمله قائلة: "يا أبا فلان، إننا نصبر على ألم الجوع، ولا نصبر على ألم عذاب الله؛ فاتقِ الله فينا". - تعففوا عن الحرام فأغناهم الله من فضله -المبارك والد الإمام عبد الله بن المبارك-: "كان المبارك عبدًا رقيقًا أعتقه سيده، ثم اشتغل أجيرًا عند صاحب بستان، وفي ذات يوم خرج صاحب البستان مع أصحاب له إلى البستان، وقال للمبارك: ائتنا برمان حلو فقطف رمانات، ثم قدَّمها إليهم، فإذا هي حامضة، فقال صاحب البستان: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ قال لم تأذن لي إن آكل حتى أعرف الحلو من الحامض، فقال له: أنت من كذا وكذا سنة تحرس البستان وتقول هذا! وظن أنه يخدعه، فسأل الجيران عنه، فقالوا: ما أكل رمانة واحدة، فقال له صاحب البستان: يا مبارك ليس عندي إلا ابنة واحدة فلمن أزوجها؟، فقال له: اليهود يزوجون للمال، والنصارى يزوجون للجمال، والعرب للحسب، والمسلمون يزوجون للتقوى، فمن الأصناف أنت زوج ابنتك للصنف الذي أنت منه، فقال: وهل يوجد أتقى منك! ثم زوَّجه ابنته". ومن هذا البيت العفيف خرج الإمام عبد الله بن المبارك الذي كان يقول: "أَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا مِنْ شُبْهَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفٍ حَتَّى بَلَغَ سِتُّمِائَةَ أَلْفٍ" (الورع لابن أبي الدنيا). - تعففوا عن الحرام فبورك في الذرية "والد الإمام البخاري": عن أحمد بن حفص قال: دخلت على أبي الحسن -يعني إسماعيل والد الإمام البخاري- عند موته، فقال: "لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة"، قال أحمد: فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك، وقلتُ: وصلاح الآباء ينفع الأبناء؛ كما قال -تعالى-: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) (الكهف: 82) (حجية السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي). - وقد ذُكِر أن جنيدًا البغدادي -رحمه الله- جاء يومًا إلى داره فرأى جارية جاره ترضع ولده، فانتزع ولده منها، وأدخل أصبعه في فيه (فمه) وجعله يتقيأ كل الذي شربه، فلما سُئِل، قال: جاري يأكل الربا، يأكل الحرام، وجارية جاري تعمل عنده فهي تأكل الحرام، وجارية جاري ترضع ولدي فهي ترضع ولدي الحرام، ورسول الله -عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام- يقول: (لا يربو لحمٌ نبتَ من سحتٍ إلَّا كانتِ النَّارُ أولى بِهِ ". (رواه الترمذي: (614)، وصححه الألباني). - فيا عبد الله، إذا كنت لا تبالي بمثل هذا الوعيد؛ فهلا راعيت فلذات كبدك، وتحريت الحلال من أجلهم! خاتمة: - تذكر -يا عبد الله- دائمًا مع إعداد الجواب أن أحد الأسئلة الإجبارية يوم القيامة عن كسبك: أمن الحلال أم من الحرام؟ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). - تذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قال في الحديث الصحيح: (اتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ -تعالى- لا يُنالُ ما عندَه إلَّا بِطاعَتِهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). - تذكر قول الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) (المطففين: 1)، (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) (المطففين: 4-5). فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) قال القاضي: الطيب صفة الله -تعالى-، بمعنى المنزه عن النقائص، وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث (شرح مسلم للنووي). (2) يأتي هنا السؤال: ما مناسبة ذكر اتباع خطوات الشيطان بعد الأمر بأكل الحلال؟ الجواب: أن الانسان إذا كان كسبه من حرام فسد كلُّ حاله؛ فطعامه وشرابه سيكون من الحرام، ونكاحه سيكون من الحرام، وحجه، إلخ. (3) يحسن الاشارة إلى بعض الأعمال والوظائف التي يكون كسبها حرام، مثل: المؤسسات الربوية - الغش في البيع - بيع المحرمات - الموظفون المتهربون من أعمالهم - المقاهي والملاهي وقاعات الافراح المصحوبة بالمحرمات - بيع ملابس المتبرجات - حلاق السيدات - إلخ.
__________________
|
#14
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (14) عليك بالإياس مما في أيدي الناس (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ المقدمة: - الإشارة إلى فضل الوصايا النبوية (مقدمة الموعظة الأولى). - وصية اليوم: عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أوصني، قال: (عليكَ بالإياسِ مِمَّا في أيدي النَّاسِ، وإيَّاكَ والطَّمَعَ فإنَّهُ الفقرُ الحاضرُ، وصلِّ صلاتَكَ وأنتَ مودِّعٌ، وإيَّاكَ وما يُعتَذرُ منهُ) (رواه الحاكم والبيهقي، وقال الألباني: "حسن لغيره"). - الإشارة إلى أن هذه الوصية يرجى للمؤمن إذا أخذ بها، العزة والكرامة في الدنيا والآخرة: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: 8). (1) عليكَ بالإياسِ مِمَّا في أيدي النَّاسِ(1): - إذا أردتَ أن تكون غنيًّا عن الناس، عزيزًا بينهم، محبوبًا مطلوبًا، فلا تمدن عينيك إلى ما في أيديهم من متاع الدنيا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وازْهَد فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يحبُّكَ النَّاسُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الالباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ النَّاسِ) (رواه الحاكم والبيهقي، وحسنه الألباني). - استغنِ عما في أيدي الناس ولو كنت أفقرهم، فإنك لا تزال بذلك سيدًا كريمًا: قال أعرابي لأهل البصرة: "مَن سيدكم؟ قالوا: الحسن البصري. قال: بمَ سادكم؟ فقالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم"، وقال الحسن البصري: "لا يزال الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دنياهم، فإذا فعل ذلك؛ استخفوا به، وكرهوا حديثه وأبغضوه". وقال الشاعر: كن زاهدا فيما حوته يد الورى تـبـقـى إلـى كـل الأنـام حـبـيـبًا (2) وإيَّاكَ والطَّمَعَ فإنَّهُ الفقرُ الحاضرُ: - الإنسان إذا ابتلي بداء الطمع لا يشبع أبدًا مهما أعطاه الله -تعالى- من رزق: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كانَ لِابْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ) (متفق عليه). - علاج هذا الداء الوبيل هو الرضا بالقليل، ومجاهدة النفس وردها عن جعل الدنيا أكبر الهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ: فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ: جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، ورُوي أن موسى -عليه السلام- سأل ربه -تعالى- فقال: "أي عبادك أغنى؟ قال: أقنعهم بما أعطيته" (إحياء علوم الدين للغزالي). وقال أبو العتاهية: رَغيفُ خُبزٍ يَابِسٍ ... تَأكُلُهُ فِي زَاوِيَه وَكُوزُ مَاءٍ بَارِدٍ ... تَشْرَبُهُ مِنْ صَافِيَهْ وَغُرفَةٌ ضَيِّقَةٌ ... نَفْسُكَ فِيهَا خَالِيَهْ أَوْ مَسجِدٌ بِمَعزِلٍ ... عَنِ الوَرَى فِي نَاحِيَهْ تَقرَأُ فِيهِ مُصحَفًا ... مُستَنِدًا لُسَارِيَهْ مُعتَبِرًا بِمَنْ مَضَى .... مِنَ القُرُونِ الخَالِيَهْ خَيْرٌ مِنَ السَّاعَاتِ ... فِي فَيْءِ القُصُورِ العَالِيَهْ (3) وصلِّ صلاتَكَ وأنتَ مودِّعٌ: - إشارة إلى الاستعداد للموت في كل لحظة، والحرص على العمل الصالح ليكون آخر ما يلقى البعد به ربه: "التأمل لمشهد إنسان يعلم أن ملك الموت واقف أمامه ينتظر انصرافه من الصلاة! فكيف سيؤدي هذه الصلاة؟!". - مَن كان ينتظر الموت سيقصر أمله، ويكثر عمله الصالح: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَنَحْنُ نُعَالِجُ خُصًّا لَنَا، فَقَالَ: (مَا هَذَا؟) فَقُلْتُ: خُصٌّ لَنَا، وَهَى نَحْنُ نُصْلِحُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا أُرَى الْأَمْرَ إِلَّا أَعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَاعْدُدْ نَفْسَكَ فِي الْمَوْتَى) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني). - وفي التوجيه التنبيه على الإحسان في أداء الصلاة: قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون: 1-2)، وعن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَها وخُشُوعَها ورُكُوعَها، إلَّا كانَتْ كَفَّارَةً لِما قَبْلَها مِنَ الذُّنُوبِ ما لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وذلكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ) (رواه مسلم)، وعن عبدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ -رَضِيَ اللهُ عنه- قال: "رأيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي وفي صدرِه أزيزٌ كأزيزِ الرَّحى مِنَ البكاءِ" (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ الرَّجلَ لينصرِفُ، وما كُتِبَ لَه إلَّا عُشرُ صلاتِهِ تُسعُها ثُمنُها سُبعُها سُدسُها خُمسُها رُبعُها ثُلثُها، نِصفُها) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أسوَأُ النَّاسِ سَرِقةً الذي يَسرِقُ مِن صَلاتِه)، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وكيف يَسرِقُ مِن صَلاتِه؟ قال: (لا يُتِمُّ رُكوعَها، ولا سُجُودَها) (رواه أحمد، وقال الألباني: "صحيح لغيره"). (4) وإيَّاكَ وما يُعتَذرُ منهُ: - كن حكيمًا في كل تصرفاتك، ولا تقدم على شيء الا بعد تفكير؛ حتى لا ترتكب ما يضعك في موقف الاعتذار، لاسيما بين يدي اللئام(3): قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التأَنِّي مِنَ اللهِ، والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ) (رواه مسلم)، وقال بعض الحكماء: "مَن أسرع في الجواب أخطأ في الصواب، ومَن ركب العجل أدركه الزلل". خاتمة: عود على بدء: - تذكير بوصية اليوم مرة أخرى، مع الإشارة إلى مجمل فوائدها التي يرجى منها تحقق العزة للمؤمن. فاللهم أعزنا بالإسلام، وزيِّنا بالإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) تنبيه: اعلم أن الغنى المقصود في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الغنى الحقيقي، وهو غنى النفس، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (ليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ) (متفق عليه). (2) يعني: أنك قد لا تبقى في الدنيا إلى أن يسقط هذا الحائط، بل العمر أقصر وأسرع من ذلك. (3) لا مانع من الاعتذار عند الخطأ، ولكن هذا يجعل للناس عليك يدًا؛ فكيف إذا كان المعتَذَر إليه لئيمًا؟!
__________________
|
#15
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (15) الوصية بالزواج (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود فعن عَلْقَمَةُ قال: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَخَلَيَا، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي أَنْ نُزَوِّجَكَ بِكْرًا تُذَكِّرُكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ؟ فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى هَذَا أَشَارَ إِلَيَّ، فَقَالَ: يَا عَلْقَمَةُ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: أَمَا لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، لَقَدْ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (متفق عليه). مجمل الوصية: لما كان الزواج فيه المصالح العظيمة للإنسان في دينه ودنياه، أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- -صلى الله عليه وسلم- أمته؛ لا سيما الشباب الذين هم عرضة لفتنة النساء أكثر من غيرهم؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ). أهمية الزواج في الإسلام(1): - الزواج فطرة ربانية: قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1)، وقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) (الحجرات:13). - الزواج آية من آيات الله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21). - الزواج مصلحة اجتماعية عظيمة: قال -تعالى-: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء:1)، وقال: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات:13)، وقال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) (النحل:72)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) (الفرقان:54). - الزواج سنة شرعية قديمة: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) (الرعد:38)، (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد:27)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه)، وقال: (تَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا تَكُونُوا كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى) (رواه البيهقي، وصححه الألباني). - الإسلام يُرغِّب في الزواج: قال الله -تعالى-: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور:32)، (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) (النساء:3)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) (رواه مسلم). - الزواج سبب للغنى والعفاف: قال -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ... وَالنَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ نِصْفَ دِينِهِ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني). فضل الزوجة الصالحة: - هي النصر والفوز: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) (متفق عليه). - هي خير متاع الدنيا: قال -صلى الله عليه وسلم-: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) (رواه مسلم)، وقال الله -تعالى-: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) (آل عمران:14). - هي من أسباب السعادة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (ثَلاثَةٌ مِنَ السَّعَادَةِ، وَثَلاثَةٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ؛ فَمِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تَرَاهَا تُعْجِبُكَ وَتَغِيبُ عَنْهَا فَتَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ... وَمِنَ الشَّقَاوَةِ: الْمَرْأَةُ تَرَاهَا تَسُوؤُكَ وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْكَ، وَإِنْ غِبْتَ عَنْهَا لَمْ تَأْمَنْهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ) (رواه الحاكم، وحسنه الألباني). فضل الزوج الصالح: - من سعادة المرأة في الدنيا والآخرة أن ترزق زوجًا صالحًا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، وجاء رجل إلى الحسين بن علي -رضي الله عنهما- سائلًا فقال: "خطب ابنتي جماعة، فمَن أزوِّجها؟ قال: زوِّجها من التَّقي؛ فإنه إنْ أحبَّها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها" (شرح السنة للبغوي). - ومن سعادة الزوجين، التعاون على بناء البيت على الدِّين لتكون لهم السعادة الأبدية: قال -تعالى-: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ . هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ . لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ . سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) (يس: 55-58). التيسير في الزواج: - كلمة إلى أولياء المرأة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ) (رواه مسلم). "لا تغلق الباب في وجه شاب فقير - تخيَّل نفسك مكانه - سيكون لأولادك بعدك". - ليس المال شرطًا للرفض أو القبول: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ). - مهور نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-: عن عكرمة قال: لما زوَّج النبي -صلى الله عليه وسلم- عليًّا فاطمة، قال: (أَعْطِهَا شَيْئًا)، قال: مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: (فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟) قُلْتُ: هِيَ عِنْدِي، قَالَ: (فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني). - مهور نساء الصحابة: أم سليم -رضي الله عنها- كان مهرها: "لا إله إلا الله"؛ قالت لأبي طلحة: "إن أسلمت لم أرد منك من الصداق غيره". خاتمة الوصية: (فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ): - الإكثار من الصيام لمن عجز عن الزواج ويخاف الفتنة: قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوب مِنْ الصَّوْم فِي الْأَصْل كَسْرُ الشَّهْوَة". - واستنبط بعض أهل العلم حكمة أخرى من الأمر بالصوم في هذا الحديث؛ إضافة إلى ما ذكر من كسر الشهوة: قال السبكي -رحمه الله-: "وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله -تَعَالَى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الْمَعَاصِيَ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ أَظَلْفُ لِنَفْسِهِ -أي: أمنع لها-، وَأَرْدَعُ لَهَا مِنْ مُوَاقَعَةِ السُّوءِ، وَهُوَ أَحَدُ الْمَعَانِي فِي قَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: (فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)؛ فَفَهِمَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ لِإِضْعَافِ الصَّوْمِ الْبَدَنَ فَتَضْعُفُ الشَّهْوَةُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ زَائِدٌ عَلَيْهِ حَاصِلٌ مَعَهُ؛ وَهُوَ: أَنَّ الصَّوْمَ يَكُونُ حَامِلًا لَهُ عَلَى مَا يَخَافُهُ عَلَى نَفْسِهِ، إمَّا لِبَرَكَةِ الصَّوْمِ، وَإِمَّا لِأَنَّ حَقِيقًا عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَكُفَّ، فَإِنَّهُ إذَا أُمِرَ بِالْكَفِّ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ الْمُبَاحَيْنِ، فَالْكَفُّ عَنْ الْحَرَامِ أَوْلَى" (فتاوى السبكي). ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأجعلنا للمتقين إمامًا. والحمد لله رب العالمين. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) حكم الزواج: اختلف العلماء بين قائل بالوجوب لكلِّ قادر، وقائل بالاستحباب، وقائل باختلاف الحكم باختلاف حال الإنسان؛ وهو أرجحها، وبه قال المالكية في المشهور عنهم، وبعض الحنابلة والشافعية. - فيكون واجبًا في حقِّ القادر على الجماع الذي يَخشى على نفسه الفتنة، مع قدرته على نفقة النكاح. - ويكون محرمًا في حقِّ من يَخِل بحقوق الزوجة في الوطء والإنفاق، مع عدم قدرته على الوطء والنفقة. - ويكون مستحبًا في حقِّ مَن له شهوة ويأمن معها من الوقوع في الفاحشة.
__________________
|
#16
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (16) الوصية بالنساء (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود فعن عمرو بن الأحوص الجُشَمي، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله -تعالى- وأثنى عليه، وذكَّر ووعظ: (واستَوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّما هُنَّ عوانٍ عندَكم، ليسَ تملِكونَ مِنهنَّ شيئًا غيرَ ذلِكَ إلَّا أن يأتينَ بِفاحِشةٍ مبيِّنةٍ، فإن فعَلنَ فاهجُروهُنَّ في المضاجِعِ واضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّحٍ، فإن أطعنَكم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلًا، ألا وإنَّ لَكم على نسائِكم حقًّا، ولنسائِكم عليكم حقًّا، فأمَّا حقُّكم على نسائِكُم فلا يوطِئنَ فُرُشَكم من تَكرَهونَ، ولا يأذَنَّ في بيوتِكم لِمن تَكرَهونَ، ألا وإنَّ حقَّهُنَّ عليكُم أن تُحسِنوا إليهِنَّ في كسوتِهنَّ وطعامِهِنَّ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). مجمل الوصية: هذه الوصية قالها النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته، في حجة الوداع، وقيل لها: حجة الوداع؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ودع أصحابه، أو كأنه ودعهم فيها، في أعظم مشهد اجتمع فيه المسلمون في حياته -صلى الله عليه وسلم-، فذكرهم فيها بأمور؛ منها: الوصية بالنساء، وهذا يدل على شدة عناية الإسلام بشأن المرأة. - حرص الإسلام على أن تكون العلاقة الزوجية قوية متماسكة، ووضع من الحلول العملية لضمان استمرار الحياة الزوجية، وبغض في الفرقة بأي سبيل، وجعل الطلاق آخر الحلول: قال -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ? إِنَّ فِي ذَ?لِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21). ـ وضمانًا لاستمرار الحياة الزوجية شرع حقوقًا لكلٍّ من الزوجين، وواجبات على كل منهما تجاه الآخر: قال -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19)، وقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ( (البقرة: 228)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ألا وإنَّ لَكم على نسائِكم حقًّا، ولنسائِكم عليكم حقًّا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). حقوق الزوجة على زوجها: تمهيد: تنقسم حقوق الزوجة على زوجها إلى قسمين: (حقوق مالية - حقوق معنوية). أولًا: الحقوق المالية: - المهر: وهو المال الذي تستحقه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو بالدخول بها: قال -تعالى-: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (النساء: 4). - النفقة: وهو ما تحتاجه الزوجة من طعام ومسكن وملبس، وغير ذلك: قال -تعالى-: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 233)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (دِينارٌ أنْفَقْتَهُ في سَبيلِ اللهِ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ في رَقَبَةٍ، ودِينارٌ تَصَدَّقْتَ به علَى مِسْكِينٍ، ودِينارٌ أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ؛ أعْظَمُها أجْرًا الذي أنْفَقْتَهُ علَى أهْلِكَ ) (رواه مسلم). ثانيًا: الحقوق المعنوية: - وهذه الحقوق تتلخص في المعاشرة بالمعروف والإحسان إليها: قال -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19). ويتمثل حسن المعاشرة في الآتي: 1ـ احتمال أذاها، والحلم عند طيشها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (واسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا؛ فإنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا) (متفق عليه). 2ـ مداعبتها وملاطفتها ومضاحكتها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجابر -رضي الله عنه- لما أراد الزواج: (هَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ) (متفق عليه)، وفي رواية: (فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ؟) (رواه البخاري). 3ـ تجنب ضرب الوجه والسب والشتم عند تقويمها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ) (رواه أبو داود، وقال الألباني: "حسن صحيح"). 4ـ تعليمها ما تحتاجه من أمر دينها أو السماح لها بذلك: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله مَسَاجِدَ الله) (متفق عليه)(1). 5ـ الاعتدال في الغيرة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (منَ الغَيرةِ ما يحبُّ اللَّهُ ومِنها ما يُبغِضُ اللَّهُ، فأمَّا الَّتي يحبُّها اللَّهُ فالغيرةُ في الرِّيبةِ، وأمَّا الغيرةُ الَّتي يُبغِضُها اللَّهُ فالغَيرةُ في غيرِ ريبةٍ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). 6ـ العدل بين الزوجات في النفقة والمبيت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ) (رواه النسائي، وصححه الألباني). 7ـ عدم إساءة الظن بها: عن جابر -رضي الله عنه- قال: "نَهَى رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ، أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ" (متفق عليه). حقوق الزوج على زوجته: 1- معرفة مكانته في الدين؛ فقد عظم الإسلام من مكانة الزوج: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا يَصْلحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَر وَلَوْ صَلحَ لِبَشَر أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَر لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني). 2- وجوب طاعته في المعروف: عَنْ حُصَيْنِ بن مِحْصَنٍ، عَنْ عَمَّتِهِ، أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَاجَةٍ، فَقَضَى لَهَا حَاجَتَهَا، ثُمَّ قَالَ: (أَذَاتُ بَعْلٍ أَنْتِ؟)، قَالَتْ: "نَعَمْ"، قَالَ: (فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟) قَالَتْ: "مَا آلُوَهُ إِلا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ"، قَالَ: (فَانْظُرِي كَيْفَ أَنْتِ لَهُ فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ) (رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وصححه الألباني)، وقال الله -تعالى-: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) (النساء:34). 3- إعانته على طاعة الله: قال الله -تعالى-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قَلْبٌ شَاكِرٌ، وَلِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ صَالِحَةٌ تُعِينُكَ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاكَ وَدِينِكَ خَيْر مَا اكْتَنَزَ النَّاسُ) (رواه البيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني). (إشارة إلى قصة الزوجين اللذين تحولا بعد الطاعة إلى التفريط والمال والدنيا؛ كانت النهاية: أنتِ طالق"؛ فاحذري أن تعينيه على المعصية. 4- استئذانه فيما لا بد من إذنه فيه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ) (متفق عليه)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلا بِإِذْنِهِ) (متفق عليه). قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "إذا خرجت من داره بغير إذنه؛ فلا نفقة لها ولا كسوة". وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "وَلاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَصَدَّقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ" (رواه أبو داود، وقال الألباني: "صحيح موقوفًا"). 5- حفظ ماله وعياله، وتدبير شئون منزله: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ؛ أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ) (متفق عليه). 6- التبعل والتزين له وحده: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا؛ قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني). ـ المتبذلة مقصِّرة في حقِّ زوجها، ومخالِفة لفطرة الله في النساء: قال الله -تعالى-: (أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (الزخرف:18). تقويم الزوجة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). خاتمة: ـ من سعادة الزوجين: التعاون على بناء البيت على الدِّين لتكون لهم السعادة الأبدية: قال -تعالى-: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ . هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ . لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ . سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) (يس: 55-58). (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ (1) قال النووي -رحمه الله-: "ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث؛ وهي: ألا تكون متطيبة، ولا متزينة، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها، ولا ثياب فاخرة، ولا مختلطة بالرجال، ولا شابة ونحوها، ممَّن يفتتن بها، وألا يكون في الطريق ما يخاف منه مفسدة ونحوها) (شرح النووي على مسلم).
__________________
|
#17
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (17) الوصية بالصحابة (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، قال: إنَّ عمرَ خطبهم بالجابيةِ(1) فقال: يا أيُّها الناسُ، إنِّي قمتُ فيكم كقيامِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فينا، قال: (أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ) (متفق عليه). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه). مجمل الوصية: في هذه الوصية يقولُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي)، أي: أعطوهم حقوقَهم وأنزلوهم منزلتَهم، وقدِّروهم، ولا تهينوهم ولا تسبُّوهم، ودافعوا عن أعراضهم، وأوصيكم أيضًا بالذين يأتون من بعدهم وهم أبناؤُهم وأتباعُهم من التابعين، وأوصيكم أيضًا بالجيلِ الثالثِ الذين يأتون من بعدهم وهم أتباعُ التابعين. الجزء الأول من الوصية: (أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي): - مجمل كلام العلماء في تعريف الصحابة -رضي الله عنهم-: هم كلُّ من لَقِيَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأسلم وبقي على الإسلام حتى مات؛ كما أنه يقصد بالصحابة حملة رسالة الإسلام الأولين، وأنصار النبي -صلى الله عليه وسلم- المدافعين عنه، والذين آمنوا بدعوته وماتوا على ذلك. ويقصد بهم الذين رافقوا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في أغلب فترات حياته بعد الدعوة، وأعانوه على إيصال رسالة الإسلام ودافعوا عنه بأرواحهم وأموالهم. ثم بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- حملوا راية الدين، وتفرقوا في الأمصار لنشر تعاليمه وفتحوا المدن والدول، وعددهم -رضي الله عنهم- كبير، ولكن لا يمكن القطع به لتفرقهم في البلدان والقرى والبوادي، ولكن اتفقت كتب التاريخ والسير على أنهم كانوا في حجة الوداع مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، يزيدون على مائة ألف صحابي. فضل الصحابة في القرآن والسنة: - جاءت الأدلة الكثيرة في الكتاب والسنة تبيِّن ذلك: قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 100). وقال -تعالى-: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح: 18). وقال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح: 29). - وجاءت كذلك الأدلة الكثيرة في كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ)(2). وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). - عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ) (رواه مسلم). طبقات الصحابة -رضي الله عنهم-: - الصحابة درجات بعضها فوق بعض، فالسابقون الأولون الذين أسلموا وجوههم إلى الله، ولبوا مناديه إلى الإيمان، وكان كل من على سطح هذه المعمورة مخالف لهم هم المهاجرون، ويلي هؤلاء السابقين من المهاجرين، السابقون من الأنصار وهم الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة العقبة على أن يمنعوه من الأسود والأحمر، وآووه في ديارهم: قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). - وما سوى الصحابة الكبار طبقات بعضها أفضل من بعض: قال -تعالى-: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد: 10). الجزء الثاني من الوصية: (ثمَّ الذينَ يلونهم) (التابعون): - مجمل كلام العلماء في تعريف التابعين -رحمهم الله-: التابعون هم: الطبقة الثانية من المسلمين الذين أخذوا علمهم ودينهم من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقاموا خلفهم بحمل الرسالة والدعوة إليها، وقد التف التابعون حول الصحابة يأخذون عنهم القرآن والحديث وينهلون من علوم الشرع على الصورة التي نقلوها لهم عن رسول الله، وتتلمذوا على يد الصحابة بإقبال وشغف ومحبة، ثم كان لهم الشرف في حمل ذلك ونشره، وكان الصحابة قد تفرقوا في الأمصار واشتهر في كل بلد عدد معين من التابعين وكانوا حلقة مهمة ومؤثرة بين الصحابة وجيل أئمة المذاهب وتلاميذهم ومن جاء بعدهم؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَطُوبَى لِمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي وَلِمَنْ رَأَى مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي) (رواه الحاكم، وصححه الألباني). فضل التابعين: - أشار القرآن الكريم إلى فضلهم: قال -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). قال الشيخ حافظ الحكمي: "وقد رتَّب الله -تعالى- فيها الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أردفهم بذكر التابعين؛ كما في قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)". - وهم المقصودون بالثناء النبوي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه). والمقصود الصحابة ثم التابعون بعدهم. فضل التابعين في نشر الدين: - بعد أن تلقَّى التابعون علومهم على يدي الصحابة، وخالطوهم وعرفوا كل شيء عنهم، بدأت مرحلة تدوين الحديث: عن أبي قلابة قال: "خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قرطاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر وهو معه، فقلت له: يا أمير المؤمنين، ما هذا الكتاب؟ قال: حديث حدثني به عون بن عبد الله فأعجبني فكتبته". ثم أمر -رحمه الله- بجمع حديث النبي في دواوين، وبهذا بدأ تدوين وكتابة الحديث من قبل التابعين. - لم يكتفِ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بالأمر بجمع السنة، بل حث العلماء على نشرها في المساجد: روى البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم يقول: "ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يُعلَّم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرًّا"(3). الجزء الثالث من الوصية: (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (تابعو التابعين): - تابع التابعي هو: مَن لَقِيَ التابعي وأخذ عنه العلم والسنة، وعصر تابعي التابعين هو العصر الذي يلي عصر التابعين، وهو يبدأ من سنة مائة وسبعين تقريبً(4). ومن أشهر أتباع التابعين: الإمام مالك بن أنس، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق بالمدينة المنورة، وسفيان بن عيينة بمكة المكرمة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، وأبو يوسف بالعراق. - ومع انقراض تابعي التابعين بدأت تظهر البدع، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها وامتحن أهل العلم بالقول بخلق القرآن، ولم يزل الأمر في نقص إلى هذا الزمان. واجبنا تجاه السلف الصالح: - كما جاء في مجمل الوصية: "أعطوهم حقوقَهم، وأنزلوهم منزلتَهم، وقدِّروهم، ولا تهينوهم ولا تسبُّوهم، ودافعوا عن أعراضهم، وانشروا فضائلهم، واقتدوا بهديهم؛ فإنهم خير الناس". فاللهم اجمعنا بالسلف الصالحين في جنات النعيم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) خطبة عمر -رضي الله عنه- هذه مشهورة، خطبها بالجابية -وهي قرية بدمشق-. (2) قال البيضاوي: "معنى الحديث: لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أُحُدٍ ذهبًا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مُدِّ طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص، وصدق النية مع ما كانوا من القلة، وكثرة الحاجة والضرورة. وقيل السبب فيه: أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدد المتقدمين، وقلة أنصارهم فكان جهادهم أفضل؛ ولأن بذل النفس مع النصرة، ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها". (3) من التابعين -على سبيل المثال لا الحصر-: هشام بن عروة، والحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، ومحمد بن سيرين، وغيرهم كثير. (4) قال السيوطي -رحمه الله-: "والأصح أن القرن لا ينضبط بمدة، فقرنه -صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من الصحابة مائة وعشرون سنة، وقرن التابعين من مائة سنة إلى نحو سبعين، وقرن أتباع التابعين من ثم إلى نحو العشرين ومائتين".
__________________
|
#18
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (18) (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي) (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فعن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، قال: أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حُزْنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة: 92)، فَسَلَّمْنَا، وقُلْنَا: أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ وَعَائِدِينَ وَمُقْتَبِسِينَ، فَقَالَ الْعِرْبَاضُ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني). مجمل الوصية: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ): وذلك بفعل الواجبات وترك المُحَرَّمَاتِ. (وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ): أي: للأمراء. (وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا): أي: وإن كان هذا الأمير أو الوالي عَبْدًا حَبَشِيًّا. (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي): أي: بعد موتي. (فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا): في الدِّين، وغيره. ثم أرشدهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أنفع علاج عند وقوع الاختلاف الكثير، فقال: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي): أي: طريقتي ونهجي. (وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ) أي: الذين هداهم الله وأرشدهم إلى الحق، والمقصود بهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر الصِّدِّيقُ، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين-. (تَمَسَّكُوا بِهَا): أي: بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخلفاء، وأفرد لفظ: (بِهَا) مع أنها تعود على اثنتين؛ لأنهما كشيء واحد. (وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ): أي: آخر الأضراس؛ يعني بذلك الجد في لُزُومِ السُّنَّةِ والتَّمَسُّكِ بها. (وَإِيَّاكُمْ): أي: احذروا واجتنبوا. (وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ): أي: الأمور التي تُحْدَثُ بعد ذلك وتخالف أصل الدين. (فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ): في دين الله وشَرْعِهِ. (بِدْعَةٌ): أي: طريقة مُخْتَرَعَةٌ في الدين. (وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ): أي: مُوجِبَةٌ لِلضَّلَالَةِ والغَوَايَةِ، ويَضِلُّ بها صاحبها. الوصية الأولى: بتقوى الله -تعالى-: ـ تقوى الله: هي أن يَجْعَلَ الإنسان بينه وبين غضب الله وقايةً تَقِيهِ منه، وذلك باتباع الأوامر واجتناب النواهي، وتصديق الأخبار. ـ ولذا فهي وصية الله للأولين والآخرين: قال -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) (النساء: 131). وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرع لها سَمْعَكَ؛ فإنها إما خير تؤمر به، وإما شر تُنْهَى عنه". ـ وتقوى الله -عز وجل- هي سبب كل خير وصَلَاحٍ وفَلَاحٍ في الدنيا والآخرة: قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق: 4)، وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) (الطلاق: 5)، وقال: (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال: 29)، وقال: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) (البقرة: 282). الوصية الثانية: بالسمع والطاعة لولاة الأمر: ـ السمع والطاعة لولاة الأمور يكون في غير معصية الله ورسوله: قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ) (رواه البخاري). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ) (أخرجه أحمد بسند صحيح). ـ طاعة ولاة الأمور تُحَافِظُ على بقاء جماعة المسلمين وكيانهم وأمنهم: قال -تعالى-: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46). وقال عمر -رضي الله عنه-: (مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الجَمَاعَةَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)(1). ـ تنبيه: العبد منافعه مملوكة لسيده، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون خليفة. وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة؛ أرجحها: أن هذا للمبالغة في السمع والطاعة. الوصية الثالثة: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ): ـ المراد بسنته هنا، ما جاء في الكتاب والسنة، فكل ذلك سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قال -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) (الحشر: 7). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) (رواه البخاري). ـ ثم اتباع سنة الخلفاء الراشدين الأربعة -رضي الله عنهم-: عن سعيد بن جُمْهَانَ عن سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ المُلْكَ- أَوْ مُلْكَهُ- مَنْ يَشَاءُ) قَالَ سَعِيدٌ: قَالَ لِي سَفِينَةُ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ: أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَعُمَرُ عَشْرًا، وَعُثْمَانُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَعَلِيٌّ كَذَا، قَالَ سَعِيدٌ: قُلْتُ لِسَفِينَةَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ بِخَلِيفَةٍ، قَالَ: كَذَبَتْ أَسْتَاهُ بَنِي الزَّرْقَاءِ -يَعْنِي: بَنِي مَرْوَانَ-" (رواه أبو داود، وصححه الألباني). ـ هذا هو طريق العِصْمَةِ من الاختلاف والضلال الذي يجب على الأمة ألا تَحِيدَ عنه قيد أنملة: قال -صلى الله عليه وسلم-: (تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ). الوصية الرابعة: التحذير من البدع: ـ لما رَغَّبَ -صلى الله عليه وسلم- في اتباع السنن وحثَّ عليها، رَهَّبَ بعد ذلك من خِلَافِهَا، ومما يُخَالِفُهَا من البدع المُحْدَثَةِ، فقال: (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ). وقال مالك -رحمة الله-: "من أَحْدَثَ من هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سَلَفُهَا، فقد زعم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خان الرسالة"؛ لأن الله -تعالى- يقول: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3). ثم قال: "ما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا". وروى الإمام الدارمي -رحمه الله- بسنده، عن عمرو بن يحيى، قال: سمعت أبي، يُحَدِّثُ، عن أبيه قال: "كنا نَجْلِسُ على باب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قبل صلاة الغداة، فإذا خرج، مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- فقال: أخرجَ إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا بعد، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج، قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفًا أمرًا أنكرته ولم أرَ -والحمد لله- إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حَلَقًا جُلُوسًا ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حَصًى، فيقول: كَبِّرُوا مائةً، فيُكَبِّرُونَ مائةً، فيقول: هَلِّلُوا مائةً، فيُهَلِّلُونَ مائةً، ويقول: سَبِّحُوا مائةً، فيُسَبِّحُونَ مائةً، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: "أفلا أمرتهم أن يَعُدُّوا سَيِّئَاتِهِمْ، وضمنت لهم ألا يَضِيعَ من حَسَنَاتِهِمْ شيء". ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقةً من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: "ما هذا الذي أراكم تَصْنَعُونَ؟" قالوا: يا أبا عبد الرحمن حَصًى نَعُدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال: "فَعُدُّوا سَيِّئَاتِكُمْ، فأنا ضامن أن لا يَضِيعَ من حَسَنَاتِكُمْ شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هَلَكَتَكُمْ هؤلاء صحابة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- مُتَوَافِرُونَ، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تُكْسَرْ، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى مِلَّةٍ هي أهدى من مِلَّةِ محمد -صلى الله عليه وسلم- أو مُفْتَتِحُو باب ضلالة"، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: "وكم من مُرِيدٍ للخير لن يُصِيبَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَنَا أَنَّ قَوْمًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ، وَايْمُ اللهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ مِنْكُمْ" ثم تَوَلَّى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يُطَاعِنُونَا يوم النهروان مع الخوارج. <ينظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2005)>. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ (1) أين هي هذه الأمة اليوم؟ تفرَّقوا إلى سبع وخمسين دولة إسلامية، منها: اثنتان وعشرون دولة عربية؛ ولذا استضعفتهم أمم الأرض الأخرى.
__________________
|
#19
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ) (19) موعظة الأسبوع كتبه/ سعيد محمود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ عن أبي أُمَامَة رضي الله عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). مُجْمَلُ الْوَصِيَّةِ: أوَّلُ ما فُرِضَ من العِباداتِ في مكة، وأوَّلُ ما نُبِّهَ عليه في المدينة؛ لما له من عَظِيمِ الأثَرِ في الإعْدادِ والتَّرْبِيَةِ: عن سعد بن هشام بن عامر، قال: قلت لأم المؤمنين عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "حَدِّثِينِي عن قِيامِ اللَّيْلِ"، قالت: ألستَ تَقْرَأُ: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (المزمل: 1)؟ قال: قلت: بلى، قالت: فإن أوَّلَ هذه السُّورةِ نَزَلَتْ، فقام أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى انْتَفَخَتْ أقدامُهم، وحُبِسَ خاتِمَتُها في السَّماءِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، ثم نَزَلَ آخرُها، فصار قِيامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ. (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وعن عبد الله بن سَلامٍ قال: لما قَدِمَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة انْجَفَلَ الناس إليه، وقيل: قَدِمَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجِئْتُ في الناس لأنْظُرَ إليه، فلما اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَفْتُ أن وَجْهَهُ ليس بوَجْهِ كَذَّابٍ، وكان أوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ به أن قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). من فَضَائِل أهل قيام الليل: أهل القِيامِ شُرِّفُوا بذِكْرِهم في مُقَدِّمَة عِبادِ الرَّحْمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا . وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان: 63، 64). أهل القِيامِ هم أهل شَفاعَةِ القُرْآنِ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ) (رواه أحمد والحاكم، وصححه الألباني). أهل القِيامِ هم أكْثَرُ الناس اسْتِحْقاقًا لإجابَةِ الدَّعَواتِ وتَفْرِيجِ الكُرُباتِ؛ لأنهم وافَقُوا للإجابَةِ أعْظَمَ الأوْقاتِ: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) (متفق عليه). أهل القِيامِ هم أصْحابُ الشَّرَفِ والجَمالِ والقَبُولِ بين الناس: عن سهل بن سعد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: جاء جبريل إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: (يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني). وسُئِلَ الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ-: "ما بالُ المُتَهَجِّدِينَ باللَّيْلِ أحْسَنَ الناس وُجُوهًا؟" قال: "لأنهم خَلَوْا بالرَّحْمنِ جَلَّ وَعَزَّ، فألْبَسَهُمْ نُورًا من نُورِهِ". أهل القِيامِ هم أكْثَرُ الناس تَأَهُّلًا لدُخُولِ الجِنانِ: قال -تَعَالَى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ . كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ . وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات: 15-18). من قِيام النبي -صلى الله عليه وسلم-: كان -صلى الله عليه وسلم- يَجْتَهِد في قيام الليل اجْتِهادًا شَدِيدًا، مع ما له من المَكانَةِ عند رَبِّهِ، وضَمانِهِ الجَنَّةَ: عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أن نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يَقُومُ من اللَّيْلِ حتى تَتَفَطَّرَ قَدَماهُ، فقالت عائشة: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رسول الله، وقد غَفَرَ اللهُ لك ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قال: (أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا؟) (متفق عليه). بل كان لا يَدَعُهُ حَضَرًا ولا سَفَرًا، ولا صِحَّةً ولا مَرَضًا: عن عبد الله بن قيس، قال: قالت لي عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "لَا تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ لَا يَدَعُهُ، وَكَانَ إِذَا مَرِضَ أَوْ كَسِلَ، صَلَّى قَاعِدًا" (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، وعن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ، إِلَّا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ" (متفق عليه). من قيام السلف -رضي الله عنهم-: أدْرَكُوا فَضْلَ القِيامِ بالأسْحارِ، فكانوا يَحْرِصُونَ عليه باسْتِمْرارٍ: قال معاوية بن خديج: قال لي عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَئِنْ نِمْتُ النَّهَارَ لَأُضَيِّعَنَّ الرَّعِيَّةَ، وَلَئِنْ نِمْتُ اللَّيْلَ لَأُضَيِّعَنَّ نَفْسِي، فَكَيْفَ بِالنَّوْمِ مَعَ هَذَيْنِ يَا مُعَاوِيَةُ؟" (الزهد لأحمد بن حنبل)، وعن عبد الله بن أبي مَلِيكَةَ قال: "صَحِبْتُ ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان إذا نَزَلَ قام شَطْرَ اللَّيْلِ" (حلية الأولياء)، وعن طارق بن شهاب قال: "أتيت سلمان الفارسي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قلت: لأنْظُرَنَّ كيف صَلاتُهُ؟ فكان يَنامُ من اللَّيْلِ ثُلُثَهُ" (المصدر السابق). بل يحتفلون بالنصر والفتح بقيام الليل فتفتح قلوب العباد لهم: ففي قِصَّةِ إسْلامِ هند بنت عتبة صَبِيحَةَ فَتْحِ مكة، قالت: "فأتيت أبا سفيان، فقلت: إنما أريد أن أتَّبِعَ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقال: قد رأيتك تَكْرَهِينَ هذا الحَدِيثَ أمسِ. قالت: إني والله ما رأيت أن عُبِدَ الله حق عِبادَتِهِ في هذا المَسْجِدِ قبل اللَّيْلَةِ، والله إن باتوا إلا مُصَلِّينَ قِيامًا ورُكُوعًا وسُجُودًا" (حياة الصحابة). لماذا ثَقُلَ علينا قيام الليل؟! الأسْبابُ كَثِيرَةٌ، وهي تَتَضَمَّنُ أسْبابًا مادِّيَّةً، وأسْبابًا مَعْنَوِيَّةً، ولكن مُراعاةً لعدم الإطالَةِ وَقَفْنا على أبْرَزِها: - كَثْرَةُ الذُّنُوبِ والمَعاصي: قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الحافظ ابن حجر)، وقال رجل للحسن البصري: "يا أبا سعيد، إني أبِيتُ مُعافًى، وأحِبُّ قِيامَ اللَّيْلِ، وأعِدُّ طَهُورِي، فما لي لا أقُومُ؟ فقال: ذُنُوبُكَ قَيَّدَتْكَ!". - كَثْرَةُ السَّهَرِ بلا فائِدَة: عن أبي بَرْزَةَ -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا) (متفق عليه)، وكان عمر -رضي الله عنه- يَضْرِبُ الناس بالدِّرَّةِ بعد العِشاءِ، ويقول: "أسْمَرٌ أوَّلَ اللَّيْلِ ونَوْمُ آخِرِهِ؟!" (رواه ابن أبي شيبة في مُصَنَّفِهِ). - كَثْرَةُ الطَّعامِ قبل النوم: قال بعض الصالِحِينَ: "لا تَأْكُلُوا كَثِيرًا فَتَشْرَبُوا كَثِيرًا، فَتَرْقُدُوا كَثِيرًا، فَتَنْدَمُوا عند المَوْتِ كَثِيرًا". أسباب معينة على قيام الليل: وهي كذلك كثيرة؛ فمنها: أسْباب مادية وأسباب معنوية، ولكننا مُراعاة لعدم الإطالَة نقف على أبرزها: - اسْتِحْضارُ فَضْلِ قِيام الليل وجَزاء ذلك عند الله: قال -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 16، 17). - النوم على نية القيام: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-) (رواه النسائي، وصححه الألباني). - مُجاهَدَةُ النَّفْسِ المَجْبُولَةِ على حُبِّ الراحَة وعدم الاسْتِسْلام: قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، وقال ثابت البناني: "كابَدْتُ نَفْسِي على قِيامِ اللَّيْلِ عِشْرِينَ سَنَةً، وتَلَذَّذْتُ به عِشْرِينَ سَنَةً" (سير أعلام النبلاء للذهبي). - اسْتِشْعارُ أن الله يَرى ويَسْمَعُ صَلاتَكَ بالليل ويُباهي بك ملائكته: قال -تعالى-: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الشعراء: 217-220)، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ، مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ وَحَيِّهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ رَبُّنَا: أَيَا مَلَائِكَتِي، انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ، وَمِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي) (رواه أحمد، وصححه الألباني). خاتمة: في زمان الفتن والآلام تصبَّر بالقيام: قال محمد بن المُنْكَدِر -رحمه الله-: "ما بَقِيَ من لَذَّاتِ الدُّنْيا إلا ثَلاثٌ: قِيامُ اللَّيْلِ، ولِقاءُ الإخْوانِ، والصَّلاةُ في الجَماعَةِ" (إحياء علوم الدِّين للغزالي). فاللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
__________________
|
#20
|
||||
|
||||
![]() الوصايا النبوية (20) (كُنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) (موعظة الأسبوع) كتبه/ سعيد محمود فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ)، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري). ورواه الترمذي وزاد فيه: (وَعِدْ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ)، وزاد في كلام ابن عمر: "فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا". مجمل الوصية: أن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل راجعًا إلى وطنه ومسكنه الحقيقي. قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا" (جامع العلوم والحكم). الجنة هي وطن المؤمن الحقيقي: - لما خلق الله -تعالى- آدم -عليه السلام- أسكنه هو وزوجته الجنة، ثم أهبطهما منها ووعدهما والصالح من ذريتهما بالرجوع إليها: قال -تعالى-: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 38). - المؤمن أبدًا يحن إلى وطنه الأول، وحب الوطن شعور غريزي في الإنسان: وكما قيل: كم منزل للمرء يألفه الفتى وحـنيـنـه أبـدًا لأول مـنـزل فحي على جنات عدن فـإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نـعـود إلـى أوطـانـنـا ونسلَم - اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم: قال -تعالى- حاكيًا عن مؤمن آل فرعون أنه قال: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر: 39). وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). ومن وصايا المسيح -عليه السلام- لأصحابه: "اعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا"، وروي عنه أنه قال: "مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا، تِلْكُمُ الدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا" (جامع العلوم). - وبذلك تواترت تعبيرات السلف بما فهموه عن معلِّمهم -صلى الله عليه وسلم-: "دخل رجل على أبي ذر -رضي الله عنه- فجعل يقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: إن لنا بيتًا نوجِّه إليه"، "ودخلوا على بعض الصالحين، فقلَّبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحل، فقال: أمرتحل؟ لا أرتحل، ولكن أطرد طردًا". وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل". وقال بعض الحكماء: "عجبت ممن الدنيا مولية عنه، والآخرة مقبلة إليه؛ يشتغل بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة!" (جامع العلوم والحكم). ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الدنيا؟ - تمهيد: إذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: الأول: (كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غَريبٌ): - والغريب هو مَن قدِم بلدًا لا مسكن له فيه يؤويه، ولا ساكن يسلِّيه، خالٍ عن الأهل والعيال والعلائق، غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، وإنما هو مقيم في الغربة ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه. قال الفضيل بن عياض: "المؤمن في الدنيا مهموم حزين، همه مرمة جهازه" -الرمُّ: إصلاح الشيء الَّذِي فسد بعضه-. - فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم: قال الحسن: "المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن، وللناس شأن"؛ ولذا كان عطاء السليمي يقول في دعائه: "اللهم ارحم في الدنيا غربتي". - ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى وطنه: قال -تعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة: 197). الثاني: (أو عابِرَ سبيل)(1): - وهو أن يُنزِل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت: ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من متاع الدنيا، فهو في حالة تخفُّف دائمة من الأثقال حتى لا تعيقه أو تؤخِّره عن بلوغ مقصده. عن عبد بن مسعود -رضي الله عنه- قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثَّر في جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتَّخذنا لك وطاء فقال: (مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني). خاتمة: (وَعِدْ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ): - كن قصير الأمل "فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا": قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله-: "قال بعض السلف: ما نمت نومًا قط، فحدثت نفسي أني أستيقظ منه. وكان حبيب أبو محمد يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ونحوه. وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلها أن تكون منيتي التي لا أقوم منها، فكان هذا دأبه إذا أراد النوم. وقال بكر المزني: "إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة. وكان أويس إذا قيل له: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي، فيبشَّر بالجنة أو النار؟" (جامع العلوم والحكم). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ (1) قيل: إنَّ (أو) للإضراب بمعنى (بل)، والمعنى: بل كن كأنك عابر سبيل، وهو ارتفاع به إلى منزلة أعلى في الزهد من منزلة الغريب. فعابر السبيل أشدُّ زهدًا في مغريات طريقه من الغريب؛ لأن الغريب قد يسكن في بلاد الغربة ويقيم فيها، بخلاف عابر السبيل.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |