فقه العمران في القرآن - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الصحبة الصالحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 104 )           »          فوائد من قصة يونس عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 84 )           »          ثمرات الابتلاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          نهي العقلاء عن السخرية والاستهزاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          فتنة المسيح الدجال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          معجزة الإسراء والمعراج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          كيف أتعامل مع ابني المدخن؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          حقوق الأخوة في الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          الأقصى: فضائل وأحداث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          الشباب أمل وألم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم اليوم, 12:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,210
الدولة : Egypt
افتراضي فقه العمران في القرآن

فقه العُمران في القرآن

الشيخ محمد عبدالتواب سويدان

الحَمْدُ للهِ الَّذِي استَعْمَرَنَا فِي أَرْضِهِ، وَأَسْـبَغَ عَلَيْـنَا مِنْ وَافِرِ فَضْـلِهِ وَمَنِّهِ، وَنَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ أَطَاعَ وَامتَثَلَ، وَاجتَهَدَ وَعَمِلَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
أيها الكرماء الأجِلَّاء عباد الله: فإن أُسُس العُمران في القُرآن الكريم هي: الرِّسالة السماوية، والإنسان، والمكان (الأرض)، وجاءت رسالة الإسلام لتحقيق ثلاثة مقاصد:
الأول: عبادة الله، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

الثاني: تزكية النفس، قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].

الثالث: عمارة الأرض، قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].

وأنت ترى هذا في دعاء نبي الله إبراهيم عليْه السَّلام لـمَّا قال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].

حيثُ أسكنَ أهلَه وابنَه بوادٍ بجوار الكعبة، وذلك بوحي من الله، ثمَّ دعا ربَّه أن يهيِّئَ لذريَّته ما يعينهم على القيام بعبادة الله، من أمْنٍ بجوار البيت الحرام، وتعارُف ومحبَّة بينهم وبين الوافِدين عليْهم مستقبلًا، وأن يرزُقَهم من الثمرات ما يحقق حاجتهم من الطعام والعيش الكريم، وبذلك وضع إبراهيم عليه السلام الأُسُس المادِّيَّة والروحيَّة للعمران البشري، وكأني به يضع تخطيطًا مستقبليًّا لعُمران أمَّة مسلمة ذات رسالة حضاريَّة متميّزة، ولقد قامت نهضة الإسلام بالتوازي بين المقاصد الثلاثة، ثم تعددت مواضع الخلل في فهم الإسلام، من حيث التركيز على المقصد الأول، وهو إقامة الشعائر التعبدية مع ترك تزكية النفس وعمارة الأرض، وركز البعض على جانب تزكية النفس، وتركوا جانب العبادة والعمارة، وركز آخرون على عمارة الأرض، ونحَّوا العبادات وتزكية النفس جانبًا؛ مع أن العبادة بمعناها الواسع تشمل كل هذه الجوانب.

والمتأمل في فقه العمارة في الإسلام يجده فقهًا راقيًا يتناول الإعمار من أبعاده كلها وعلى كل المستويات؛ فقد بدأ بإعمار أهم كائن في الكون والذي لا شك أنه أكبر مؤثر في ما حوله من كائنات؛ ألا وهو الإنسان، فاهتم بإعمار نفس الإنسان أولًا، وتزكية إيمانه قبل كل شيء وتعزيز روح التضحية في النفس الإنسانية حتى تسمو إلى عوالم الإيثار، وقد أخبر سبحانه وتعالى أن هذا الإعمار لا يعدله حتى إعمار أفضل بيت من بيوت الله في الأرض؛ قال تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ الله ﴾ [التوبة: 19].

فالإعمار المعنوي للنفوس هو الأساس الذي ينبني عليه إعمار الأرض، ولا يمكن أن نؤسس لحضارة إنسانية وارفة الظلال إلا بإعمار وتزكية الجانب الخلقي والإنساني فيها، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [ الروم: 9 ].

وقد أوْلَت الشريعة الإسلامية الاهتمام الأعظم بعنصر الفرد البشري، وجعلته أهم أركان البناء والتعمير، وبصلاحه يصلح العالم، وتنتظم شؤونه، كما قرر ابن عاشور في كتاب المقاصد أن المقصد العام للتشريع "هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان".

ومن المقاصد الشرعية التي لا تخطئها العين، مقصدُ إعمار الأرض، واستثمار خيراتها النافعة في تحقيق مراد الله تعالى، وهو من المقاصد المنصوص عليها في القرآن الكريم في أكثر من موضع؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].

ومعنى ﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ ﴾ في الآية: أي جعلكم عمَّارها، أو طلب منكم أن تعمروها، بصيغة الجمع مما يلفت الانتباه إلى علاقة الإنسان بمن يقوم معه بمهمة الاستعمار، وهي كقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 14]، وقوله سبحانه: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30]، فاستخلف الإنسان ليقوم بالعُمْران على الوجه الأكمل الذي يحقق به مرضاة ربه وخدمة بني جنسه وخدمة الكون من حوله.

أما عن الوسائل والمشاركة المباشرة في إعمار الكون فتشريعات الإسلام مليئة بالتقعيد والتنظير لإعمار الكون بأفضل منهج متوازن يحقق الاستقرار النفسي والروحي للكون وساكنيه، فشجَّعت على مبدأ الاكتساب والعمل، وأعلت من شأن اليد العاملة، وخفضت من شأن اليد الممتدة لطلب النوال المجاني، وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي توزعت على الكثير من سوره، اقترن فيها الإيمانُ بالعمل الصالح، الذي يكون مردودُه بالإيجاب على الفرد والمجتمع؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]؛ بل إن اللهَ تعالى أمَرنا- على سبيل الوجوب - بهذا العمل؛ قال سبحانه: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105].

وما خوطبت أمةٌ بضرورة الاهتمام بالعملِ قدر ما خُوطِبَتْ أمَّةُ الإسلام، وقد ذلَّلَ اللهُ تعالى الأرض لبني آدم ليكتنزوا ثرواتها بالعمل والجد فقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: ١٥].

وذلَّلَ البحرَ إمدادًا بالخيراتِ للطُّعْمَةِ والحِلْيَةِ وجريان السفائن موقراتٍ مع بقية صور الانتفاع والعمل، فقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ النحل: ١٤].

والمؤمن خليفةُ الله في أرضه يُقَلِّبُ شَقَاشِقَهَا لتضحكَ له بعطائها، ويمْخُرُ عبابَ مائها، ويشقُّ سماءها، ويرتادُ فضاءها بما يحويه المشهد العام للحِراكِ البشري من جهودٍ جبارةٍ تحتاجُ إلى جيوشٍ تعملُ وتكدحُ ليلًا ونهارًا في محاريب العملِ بأعدادٍ لا تنتهي من طلَّابِ حُسْنِ الاستخلاف عن الله تعالى في أرضه، وقد جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم البديل للفقر والعوز في زمانه الشريف هو العمل، وذاك ما يتصوَّره الناس أنه أحقر وأشق المهن "الاحتطاب"، فقال: ((لَأَنْ يأخذَ أحدكم حَبْلَهُ، فيَأْتِي بحِزْمَةِ الحطبِ على ظهرِهِ فيَبيعها، فيَكُف اللهُ بها وجهَهُ، خيرٌ لهُ من أن يسألَ الناسَ، أعطوهُ أو منعوهُ))؛ (صحيح البخاري، عن الزبير بن العوام).

بل كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يجعل العمل حلًّا دائمًا لمشكلة البطالة والحاجة، واستخدم صلى الله عليه وسلم طريقة (المزاد الحديثة) المعروفة على بعض مما يملك هذا الصحابي ليشتري به أدوات إنتاجه، فعن أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه قال: "إن رجلًا من الأنصارِ أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسألُه فقال: ((أمَا في بيتِكَ شيءٌ؟))، قال: بلى، حِلْسٌ نلبسُ بعضَه، ونَبسطُ بعضَه، وقعبٌ نشربُ فيه من الماءِ، قال: ((ائتني بهما))، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيده وقال: ((من يشتري هذينِ؟))، قال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمٍ، قال: ((من يزيد على درهمٍ؟)) مرتينِ أو ثلاثًا، قال رجلٌ: أنا آخذُهما بدرهمينِ، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمينِ وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: ((اشترِ بأحدِهما طعامًا فانبِذْهُ إلى أهلِكَ، واشترِ بالآخر قدُّومًا فأتني به))، فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عودًا بيدِه، ثم قال له: ((اذهبْ فاحتطبْ وبعْ ولا أَرَينَّكَ خمسةَ عشرَ يومًا))، فذهب الرجلُ يحتطبُ ويبيعُ فجاء وقد أصاب عشرةَ دراهمَ فاشتَرَى ببعضِها ثوبًا وببعضِها طعامًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذا خيرٌ لكَ من أن تجيءَ المسألةُ نكتةً في وجهِكَ يومَ القيامةِ، إنَّ المسألةَ لا تصلحُ إلا لثلاثةٍ: لذي فقرٍ مُدْقِعٍ، أو لذي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجِعٍ))؛ (سنن أبي داود).

ويرسخ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مبدأ ضرورة العمل، وأنه باب المغفرة، ويوجه أصحابه إلى ذلك قائلًا: ((من أمسى كالًّا من عمل يده بات مغفورًا له))؛ (الطبراني في المعجم الأوسط، والألباني في السلسلة الضعيفة).

ويؤسس هذه القاعدة الجليلة في المكاسب بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أطيبُ ما أكَلَ المؤمِنُ من عمَلِ يدِهِ))؛ (ابن الملقن في شرحه للبخاري، وقال: صحيح).

بل جعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في العمل نوعًا من أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى، فعن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: "مرَّ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فرأَى أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من جلَدِه ونشاطِه، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو كان هذا في سبيلِ اللهِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إن كان خرج يسعَى على ولَدِه صغارًا، فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كان خرج يسعَى على نفسِه يعَفُّها فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كان خرج يسعَى رياءً ومُفاخرةً، فهو في سبيلِ الشَّيطانِ))؛ (المنذري في الترغيب والترهيب، وقال: رجاله رجال الصحيح).

ولم يكن الأنبياء المطهرون عليهم السلام ومعهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين في معزلٍ عن العمل، بل اقتحموا الميدان على اختلاف مناشطه وجهوده، فآدم- عليه السلام – كان فلَّاحًا يحرُث الأرض ويزْرَع بنفسِه، وكان نبيُّ الله إدريس عليه السلام خيَّاطًا، وسيدنا نوحٌ عليه السلام كان نجَّارًا، وخليلُ الله إبراهيم عليه السلام كان بنَّاءً، وهو الذي بنَى الكعبةَ الشريفة وعاونَه في عملية البناء ولدُه إسماعيل عليه السلام، وكان نبي الله إلياسُ عليه السلام نسَّاجًا، وسيِّدنا عيسى عليه السلام كان يَعْمَل بالطبِّ، وكان نبي الله داود عليه السلام يعمل في صناعة الدروع الحديدية وما شابهها؛ كما قال عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ ١٠-١١]، وقال الله تعالى عن داود أيضًا: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: ٨٠].

وعن نبي الله داود عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أَكَلَ أَحَدٌ طعامًا قطُّ، خيرًا من أن يأكلَ من عملِ يدِه، وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ عليهِ السلامُ كان يأكلُ من عملِ يدِه))؛ (صحيح البخاري).

وقال الله عن نبيه سليمان عليه السلام: ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ [سبأ ١٢-١٣].

ومن قصة موسى الكليم عليه السلام في أرض مدين نجد أنه قد وافقَ أن يكون أجيرًا، يعملُ ويكدُّ بعرق جبينه وهو من أولي العزم الكبار، قال الله تعالى: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: ٢٦].

وقد عمل جمعٌ من أولي العزم من الأنبياء أيضًا في رعي الغنم، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((بُعِثَ موسَى وهوَ راعي غنم، وبُعِثَ إبراهيمُ وهوَ راعي غنَمٍ، وبُعِثْتُ أنا وأنا أرعَى غنمًا لأهلي بأجيادٍ))؛ (الألباني في صحيح الأدب المفرد، وقال: حديثٌ صحيحٌ عن عبدة بن حزن).

وعلى هذا سارت سنة الأنبياء الكرام يعملون ولا يأنفون.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة المجتمع كله في العمل، لا يأنف من أي عملٍ يَدَويٍّ يقوم به ما دام مشروعًا، وذلك في زمانٍ قد أَنِفَ فيه كثيرٌ من الأحرار أن يعملوا؛ لأن ذلك حرف العبيد لديهم، فقد خرج في صباه صلى الله عليه وسلم في رحلات متتابعة للتجارة في مال السيدة خديجة رضي الله عنها وقبلها كان يخرج في رحلة الشتاء والصيف إلى اليمن أو الشام مع عمِّه أبي طالب، وقد رعى الغنم في مكة قبل بعثته المباركة، وقال في ذلك: ((ما بعث اللهُ نبيًّا إلا رعى الغنمَ))، فقال أصحابُه: وأنت؟ فقال: ((نعم))، كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهلِ مكةَ؛ (صحيح البخاري).

وفي بناء المسجد النبوي الشريف تتجلَّى قيمةُ العمل في الإسلام؛ حيث يقوم رأس الدولة ذاته بالعمل في البناء وبذل الجهد بيده ولم يتَّخِذْ له حِجَابًا ولا عُلِّيَّةً من دون البناة وحُمَّال الحجارة؛ بل كان يحمل معهم، فلما رأى الأصحاب ما لا مثيل له في قيادات البشرية قالوا:
لئنْ قَعَدْنَا والنَّبي يعْمَلُ
لذَاكَ منَّا العَمَلُ المضَلَّلُ




وكذلك في غزوة الأحزاب كان يمسك المعول بيده الشريفة ويُفتِّت به الحجارة الصمَّاء في شق الخندق، وكان الصحابة الكرام يرونَ الغبار على جلدة بطنه الشريف صلى الله عليه وسلم.

وفي بيته المبارك حيث تنزُّلات الملائكة وأنوار العبادة تتجلَّى قيمة العمل في الإسلام كما روى عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه سأل خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بقوله: "قُلْتُ لعائشةَ: يا أمَّ المؤمنينَ، أيُّ شيءٍ كان يصنَعُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا كان عندَكِ؟ قالت: ما يفعَلُ أحدُكم في مِهنةِ أهلِه يخصِفُ نعلَه ويَخيطُ ثوبَه ويرقَعُ دَلْوَه"؛ (صحيح ابن حبان).

وكان لصحابة النبي الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أعمالٌ هم لها في المهن عاملون، فكان الصِّدِّيق أبو بكر بزَّازًا- تاجر أقمشة- وعمر يعمل في الأديم، وعثمان كان تاجرًا، وعليّ بن أبي طالب كان عاملًا يتكسَّب، فقد صحَّ أنَّه كان يؤاجر نفسَه، وكان يقول مفتخرًا:
لحملي الصخرَ من قمَمِ الجبالِ
أحبُّ إليَّ من منن الرِّجَالِ
يقولُ الناسُ في الكسبِ عارٌ
فقلتُ العارُ في ذُلِّ السُّؤَالِ


وكان عبدالرحمن بن عوف تاجرًا، والزبير بن العوام خياطًا، وسعد بن أبي وقاص نَبَّالًا- أي: يصنع النبال- وعمرو بن العاص جزارًا، وكان ابن مسعود وأبو هريرة لديهم مزارع يزرعونها، وكان عمار بن ياسر يصنع المكاتل ويضفر الخوص، وهكذا كان أصحاب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لهم صنائعُ وحِرَفٌ، فالعمل والعبادة متلازمان؛ فكما أمر الله تعالى عبادَه بأداء العبادات والشعائرِ التعبُّدية، أمرهم في ذات الوقت بالسعيِ والكَسْبِ؛ قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10].

فقد جاء ذكرُ الانتشار في الأرض والسعي فيها من أجلِ الرزق محصورًا بين قضاء الصلاة، وذِكْر الله كثيرًا، وهذا توجيهٌ من الله تعالى لعباده نحو تحرِّي الحلال، ومراقبة الله، وذكرِه أثناء العمل، وفي كل الأحوال؛ لأنه دليل الفلاحِ في الدنيا والآخرة، وكذلك فيه دليلٌ وإشارة إلى هذا التوازن الذي ينبغي أن يكون في حياة المسلمِ بين عملِ الدنيا وعمل الآخرة، وكلاهما إن تمَّ إتقانهما يوصلان إلى الفوز والفلاح.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فمن المقاصد الشرعية التي لا تخطئها العين، مقصدُ إعمار الأرض، واستثمار خيراتها النافعة في تحقيق مراد الله تعالى، وهو من المقاصد المنصوص عليها في القرآن الكريم وفي السنة النبوية قولًا وعملًا؛ قال تعالى: ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61]، ولكي يكتملَ إعمار الأرض لا بد مِن العمل الدؤوب لتحقيق ذلك، وتأمل معي هذا النص النبوي العميق في الدلالة على ما نحن بصدده، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ((إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة فليغرسها))؛ رواه الإمام أحمد وغيره عن أنس بن مالك، وصححه الألباني.

وفي هذا الحديث كما قال المناوي في فيض القدير: "مبالغة في الحث على غرس الأشجار وحفر الأنهار لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلُّل من الدنيا".

ودور المسلم رائد في إعمار الأرض، واستثمار طاقات الكون، وهي مسيرة بدأت من أولى لحظات الوعي البشري، وحتى آخر ساعة في هذا الوجود، وليس المقصد من زرع تلك الفسيلة هو الارتزاق أو سد حاجة لهذا الغارس؛ بل هي استجابة لنداء الشرع القاصد إلى إبقاء الحركة العمرانية قائمة في ذهن المسلم دون انقطاع، وهذا أبلغ ما يمكن أن يشير إليه هذا النص النبوي الكريم، وروى البخاري ومسلم أن رسول الله قال: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة))، وإنما كان له هذا الأجر الممتد؛ لأن الشارع يلحظ في هذا العمل التشجيع على إعمار الأرض، واستدامة المنافع، وتنمية المبادرات المجتمعية التي يعود نفعها لا على صاحبها فحسب، بل على سكان هذه الأرض من البشر، والطيور، والبهائم، فهي إذن حضارة بناء وإعمار لا يتضرر بها أحد، بل إعمار يتصالح مع كل مكونات هذا الكوكب وسُكَّانه المشاركين لنا في الوجود.

وفي البخاري باب "مَن أحيا أرضًا مَواتًا"، ورأى ذلك عليٌّ رضيَ الله عنه في أرضِ الخَرابِ بالكوفةِ، وأخرج حديث عائشةَ رضيَ الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعمر أرضًا ليست لأحد؛ فهو أحق)). قال عُروةُ: قضى به عُمَرُ رضي الله عنه في خلافته.

وفي مسند الإمام أحمد عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحيا أرضًا ميتةً فله فيها أجر، وما أكلت العافية منها فله فيها صدقة)). العافية: الطير وغير ذلك.

فالإحياء الذي نبهت إليه السنة النبوية يعد من أهم أدوات عمارة الأرض العمارة الحسية، وهو من أهم الحلول التي تقدمت بها السنة النبوية لتخفيف الأعباء الاقتصادية التي تعاني منها الدول اليوم من خلال تركز التجَمُّعات البشرية في المدن الرئيسية؛ مما يؤدي إلى زيادة الطلب على الخدمات، والاختناقات العمرانية المشهودة، بينما الشريعة الإسلامية تفتح آفاق العمران من خلال بعث الحياة في موات الأرض؛ مما يؤدي إلى توازن الانتشار البشري في أرجاء الأرض وعمرانها واستخراج خيراتها وأقواتها المودعة فيها.

وكذلك عمارة الأرض بما ينافي الظلم والفساد والخراب والهلاك؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 56، و85]، وقال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [محمد: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ [البقرة: 204 - 205].

فهذه الأحوال التي نهى الله عنها، وذم أصحابها، يقابلها عمارةُ الأرض بالتوحيد والطاعة والبر والإحسان والخير والصلاح والإصلاح؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77]، وقال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ [آل عمران: 104].

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نقول وبما نسمع، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأقم الصلاة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 65.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 64.00 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]