إن الله لا يحب المسرفين - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 372 - عددالزوار : 80545 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 48 - عددالزوار : 38384 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 56 - عددالزوار : 31523 )           »          قصة الحروب الصليبية د .راغب السرجانى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 31 - عددالزوار : 43197 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 176 - عددالزوار : 54129 )           »          فريضة تحيط بنا ونغفل عنها! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          من وحي آيات الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          ثقّل ميزانك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          زيف الانشغال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          الأمر سهل وفضل الله واسع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-05-2025, 11:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,862
الدولة : Egypt
افتراضي إن الله لا يحب المسرفين

"إن الله لا يحب المسرفين"

عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ، ذِي الطَّوْلِ وَالْإِنْعَامِ، الْمُحْسِنِ بِفَضْلِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وصلى الله وسلم على نبينا مُحَمَّد عَبْد اللهِ وَرَسُوله، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ اقْتَصَدُوا فِي عَيْشِهِمْ فلَمْ يُسرفوا ولم يقتروا، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أمَّا بَعد:
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللهِ، فَتَقْوَاه هِيَ الفلاح، وَالْمَنْجَاةُ يوم الفزع الأكبر، ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر: 61].


أيها المسلمون، من فضل الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن شَرَعَ لَها دِينًا قَيِّمًا، أباح لهم به الطيبات، وحرَّم عليهم به الخبائث، ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف: 157]، وَجَعَلَها أُمَّةً وَسَطًا، وَإنَّ مِنْ مَظَاهِرِ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةِ: الِاعْتِدَال فِي الْإِنْفَاقِ والتوسُّط فيه، فلا إسراف ولا تقتير، ولا بخل ولا تبذير، وَالْعَدْلُ الْوَسَطُ مِنْ صِفَاتِ أَوْلِيَاءِ اللهِ مِنْ عِبَادِه الذين مدحهم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، قَالَ الإمام ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: "أَيْ: لَيْسُوا بِمُبَذِّرِينَ في إِنْفَاقِهِمْ فَيَصْرِفُونَ فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُخَلَاءَ عَلَى أهْليهم فَيُقَصِّرُونَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَكْفُونَهُمْ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء: 29]"،قال الإمام الشافعي رحمه الله: "التبذير إنفاق المال في غير حقه"، وقيل: "الإسراف مجاوزة الحد في الإنفاق في الحق"، وقد يُطلق أحدهما على الآخر فيكونان بمعنى واحد.


وَقد ذَمَّ سُبْحَانَهُ الْإِسْرَافَ وَالتَّبْذِيرَ وَجَعَلَهُمَا مِنْ صِفَاتِ إِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ؛ والذين لا يُحبهم تَحْذِيرًا وَتَنْفِيرًا منهما؛ فقال عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27]،وقال سبحانه: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31]، قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا؛ أي: مما رزقكم اللّه من الطيبات،﴿وَلَا تُسْرِفُوا؟في ذلك، والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي، والشره في المأكولات الذي يضُرُّ بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفُّه في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام،﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، فإن السرف يبغضه اللّه، ويضر بدن الإنسان ومعيشته"، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما فضول الطعام فهو داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويُثقلها عن الطاعات، وحسبك بهذين شرًّا! فكم من معصية جلبها الشِّبع وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونها، فمن وقي شر بطنه فقد وقي شرًّا عظيمًا، والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام؛ ولهذا جاء في بعض الآثار: "ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم"، ولو لم يكن في التملي من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عز وجل، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومنَّاه وشهَّاه، وهام به في كل وادٍ، فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت"، فلا خير في الإسراف في أي أمر سوى الإنفاق في سبيل الله تعالى، والخير والفلاح في الاقتصاد، أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عال من اقتصد".


أيها الفضلاء، الْإِسْرَافُ والتبذير دَاءان قَتَّالان، وَمَرَضان عُضَالان، يَهْدِمان مُقَوِّماتِ الْأُمَمِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُبَعْثِران الْأَمْوَالَ وَيُبَدِّدان الثَّرَوَاتِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ، فهما سَبَب لنيل غضب الله تعالى والوقوع في الْمَهَالِكِ وأَعْظَم أسْبَابِ زَوَالِ النَّعَمَةِ وَفُقْدَانِهَا، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، اسألوا الآباء والأجداد عن شظف العيش، وشدة الحياة وقسوتها، والجوع الذي عاشوه، ثم تأملوا حال البلدان الذين كانوا في غنى ورزق وفير كيف تبدَّلت أحوالهم، ودار عليهم الزمان، وتحوَّل علينا وعليهم، فاغتنينا بعد فقر، وشبعنا بعد جوع، وكيف افتقروا بعد غنى، وجاعوا بعد شِبع، لتُدركوا أن النعم زوارة زوالة، إن قُيدت بالشكر استقرَّتْ، وإلا زالتْ وفَرَّتْ، وليس الإسراف والتبذير بشكرها في شيء.


وللإسراف صور ومظاهر متعددة من أعظمها:
الكفر بالله تعالى، والإشراك به، قال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127]، ومن صوره الإسراف في القتل، ومجاوزة الحد فيه، كأن يُقتل غير القاتل، أو يُعتدى على ذوي القاتل ظلمًا وبغيًا، أو يُعتدى على القاتل تمثيلًا به ونحو ذلك مما فيه تجاوز للحد الذي أذن به الشارع الحكيم، كما قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء: 33]، ومن صوره فعل الفواحش واقتراف الرذائل، كما حكى الله عز وجل قول نبيه لوط عليه السلام لقومه محذرًا لهم وناصحًا:﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [الأعراف: 81]، ومن صوره الإسرافُ على الأنفُسِ بالمعاصي والآثام، وتسويف التوبة، قال جل وعلا: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53]، ومن دعاء المؤمنين الوارد في الكتاب العزيز: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا [آل عمران: 147]، فمن أسرف على نفسه بالمعاصي مُصِرًّا عليها مؤجلًا التوبة منها إلى حين يكبر أو غير ذلك من المبررات والتسويفات الشيطانية، فإن ذلك من التعدي والإسراف وموافقة الهوى والشيطان، فقد يفجؤه الموت وهو مُصِرٌّ على هذه المعاصي، ويلقى الله تعالى بها من غير توبة، وهذا هو الخسران والحرمان إلا أن تُدركه رحمة الله تعالى وعفوه، أما من بادر إلى التوبة والإقلاع عن المعاصي بعد إسرافه فإن الله غفور رحيم، يقبل التوبة ويعفو عن السيئات سبحانه، فما أجمل المبادرة للتوبة عن كل ذنب وإسراف في المعاصي ليشملنا الغفور الرحيم بما هو أهله بالعفو والتجاوز.


ومن صور الإسراف ومظاهره:
الإسراف في الطعام والشراب، والشِّبَعُ المُفرِطُ، فقد نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الإسرافِ في تناوُلِ الطَّعامِ، فقال: ((ما ملأَ ابنُ آدم وِعاءً شَرًّا من بَطنه، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلْبَه، فإن كان لا محالة، فثُلُثٌ لطعامِه، وثُلُثٌ لشرابِه، وثُلُثٌ لنَفَسِه))؛ رواه الترمذي والنسائي، وقال عليه الصلاة والسلام: ((كُلواوتصدَّقوا، والبَسوا في غيرِ إسرافٍ ولا مَخيَلةٍ))؛ رواه النسائي، قال الإمام القُرطبيُّ رحمه الله: "من الإسرافِ الأكلُ بَعْدَ الشِّبَعِ، وكُلُّ ذلك محظورٌ"، وقال لُقمانُ رحمه الله لابنِه: "يا بُنَيَّ، لا تأكُلْ شِبَعًا فوقَ شِبَعٍ؛ فإنَّك أن تَنبِذَه للكَلبِ خيرٌ من أن تأكُلَه"، ومن الإسراف في الطعام، الإكثار منه عند إعداد الولائم والمناسبات خاصةً ولائم الأعراس، والمبالغة في تحضيره وزيادته عن حاجة الحاضرين، تفاخرًا ورئاء الناس، لنيل ثنائهم ومدحهم، وإتباع ذلك تصويرًا ونَشْرًا في تطبيقات التواصل الاجتماعي المختلفة، ويزيد الأمر سوءًا حين يُرمى باقي هذا الطعام في القمامة، وعدم إعطائه للمحتاجين، ومن تأمَّل الهدي النبوي في ولائم الأعراس وجده قائمًا على الاقتصار على القليل من الطعام؛ إذ الهدف من الوليمة إعلان النكاح فقط، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ رأى عبدَالرَّحمنِ بنَ عوفٍ وعليْهِ رَدْعُ زَعْفَرانٍ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ: ((مَهْيَمْ؟))، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، تزوَّجتُ امرأةً، قالَ: ((ما أصدقتَها؟))، قالَ: وَزنَ نواةٍ من ذَهبٍ، قال: ((أوْلِم ولو بشاةٍ))؛ رواه البخاري، وعن أنس رضي الله عنه، قال: ((ما أوْلَم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أوْلم على زينب، أولم بشاة))؛ راوه البخاري، فكيف بمن يولم بعدد كبير من الشياة أو الإبل، ويُقيم حفل الزواج في فندقٍ أو قاعة يدفع فيها مبالغ كبيرة، ويدعو القريب والبعيد تفاخُرًا وتنافُسًا مَعَ مَنْ سَبَقَه من قريب أو صديق.


ومن مظاهر الإسراف:
الإسرافُ في استعمال الماء لجميع الحاجات، من غسيل أو سقي ونحوهما، وكذا الإسراف في الوضوءِ، فقد مَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، مرَّ بسَعْد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه وَهوَ يتوضَّأُ، فقالَ: ما هذا السَّرَفُ يا سَعْدُ؟ فقالَ سعد: أفي الوضوءِ سَرفٌ؟ فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعَم، وإن كنتَ على نَهْرٍ جارٍ))؛ رواه ابن ماجه والبيهقي. قال الإمام ابن القَيِّم رحمه الله: "وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أيْسَرِ النَّاسِ صَبًّا لماءِ الوُضوءِ، وكان يُحَذِّرُ أمَّتَه من الإسرافِ فيه، وأخبر أنَّه يكونُ في أمَّتِه من يعتدي في الطُّهورِ".


ومن مظاهر الإسراف:
المبالغة في الإنفاق على الكماليات من ملبس ومركب وأثاث، وأجهزة بأنواعها المختلفة، وتجديد ذلك باستمرار مباهًا للآخرين وتُفاخرًا، وربما تحَمَّل الأب ديونًا مقابل ذلك الإسراف المذموم.


ومما يجدر التنبُّه له أن الإكثار من الطاعات والقُرب، وكذا الإنفاق في سبيل الله تعالى ابتغاء مرضاته، لا يُعَد ذلك إسرافًا ولو كثُر، قال الإمام مجاهد رحمه الله: "لو أن رجلًا أنفق مثل أُحُدٍ في طاعة الله تعالى لم يكن من المسرفين"، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أمرَنا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أن نتصدَّقَ، فوافقَ ذلِكَ عندي مالًا، فقلتُ: اليومَ أسبقُ أبا بَكرٍ إن سبقتُهُ يومًا، فَجِئْتُ بنِصفِ مالي، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ((ما أبقيتَ لأَهْلِكَ؟))، قلتُ: مثلَهُ، وأتَى أبو بَكْرٍ بِكُلِّ ما عندَهُ، فقالَ: ((يا أبا بَكْرٍ، ما أبقَيتَ لأَهْلِكَ؟))، فقالَ: أبقيتُ لَهُمُ اللَّهَ ورسولَهُ، قلتُ: لا أسبقُهُ إلى شيءٍ أبدًا"؛ رواه الترمذي وأبو داود، وأخرج البخاري في صحيحه أن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه حِينَ حُوصِرَ، أَشْرَفَ عليهم، وقالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، ولَا أَنْشُدُ إلَّا أَصْحَابَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: ((مَن حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ))، فَحَفَرْتُهَا؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ قالَ: ((مَن جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ))، فَجَهَّزْتُهُمْ؟ قالَ: فَصَدَّقُوهُ بما قالَ"، إلى غير ذلك من قصص لإنفاق الصحابة في سبيل الله تعالى المال الكثير وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك؛ إذ إنه ليس داخلًا في الإسراف المحرم.

وأما التبذير فصوره كثيرة، فكل مالٍ أُنفق في غير حله فهو تبذير، فمن يشتري بماله أكلًا أو شرابًا حرامًا فهو مبذرٌ أخ للشياطين، كما أخبر بذلك الله عز وجل؛ كشراء المخدرات بأنواعها، وشراء الدخان أو الشيشة أو آلات اللهو والغناء والمعازف أو إنفاق المال للسفر لبلاد الكفر أو السفر لمعصية الله تعالى كل ذلك تبذير للمال مُحرَّم.


اللهم إنا نسألك القصد في الفقر والغنى.


بارك الله لي ولكم في الكتاب والسُّنَّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقولُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم وَلسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذَنْبٍ وَخطيئةٍ، فَاستغفِرُوهُ، إنَّهُ هَوَ الغفورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المباركون، لِلْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ أَسْبَابٌ وَدَوَافِع؛ مِنْهَا: جَهْلُ أَوْ تَجَاهُلُ الْمُسْرِفِينَ والمبذرين بِحكم هذين الفعلين الممقوتين في دين الإسلام، وَحُبُّ الْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ، وَالرَغْبَةُ فِي التَّسَابُقِ وَالتَّكَاثُرِ فِي مَظَاهِرِ الدُّنْيَا الزَائِفَةِ، وَالتَّقْلِيدُ وَاتِّبَاعُ الْعَادَاتِ، وَمُصَاحَبَةُ الْمُسْرِفِينَ والمبذِّرين؛ فالصَّاحِب يَتَأَثَّرُ بِأَخْلَاقِ صَاحِبِهِ، وَيَتَطَبَّعُ بِطِبَاعِهِ، وَمن الأسباب التَّأَثُّرُ بِمُحْتَوَى مَشَاهِيرِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِي، وَمُسَايَرَتُهُم فِي حَيَاةِ الْبَذَخِ وَالْإِسْرَافِ المصطنعة والمزيفة، حَتَّى أُصِيبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسُعَارِ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، وَالْمَظَاهِرِ الْمُثِيرَةِ، وَالتَّبَعِيَّةِ الْجَوْفَاءِ بِلَا تَمْحِيصٍ وَلَا بَصِيرَةٍ.


وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كلامًا جميلًا ونُصْحًا رشيدًا فيما يتعلَّق بالتعامل مع المباحات، فقال: "وأكمل الناس لذةً من يتناول لذاته المباحة على وجه لا يُنقص حظه من الدار الآخرة، ولا يقطع عليه لذة المعرفة والمحبة والأنس بربِّه، فهذا ممن قال الله تعالى فيه: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف: 32]، وأبخسهم حظًّا من اللذة من تناول الطيبات على وجه يحول بينه وبين لذات الآخرة، فيكون ممن يُقال لهم يوم استيفاء اللذات: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف: 20]، فهؤلاء تمتَّعوا بالطيبات، وأولئك تمتعوا بالطيبات، وافترقوا بها على الوجه الذي أُذِن لهم فيه، فجُمِع لهم بين لذة الدنيا والآخرة، وهؤلاء تمتَّعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواء أُذِن لهم فيه أم لا، فانقطعت عنهم لذة الدنيا، وفاتهم لذة الآخرة، فلا لذة الدنيا دامت، ولا لذة الآخرة حصلت لهم، فمَنْ أحَبَّ اللذة ودوامها والعيش الطيب، فليجعل لذة الدنيا موصلة له إلى لذة الآخرة، بأن يستعين على فراغ قلبه لله وإرادته وعبادته، فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه، لا بحكم مجرد الشهوة والهوى، وإن كان ممن زويت عنه لذَّات الدنيا وطيِّباتها، فليجعل ما نقص منها زيادة له في لذة الآخرة، ويُجِم نفسه ها هنا بالترك ليستوفيها كاملةً هناك".


فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ، وَاحْذَرُوا سَخَطِهِ وَمَعْصِيَتِهِ.


الَّلهُمَّ أَلْهِمْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَدَوَامَ عَافِيَتِكَ، وَجَنِّبْنَا فُجَاءَةَ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعَ سَخَطِكَ.


عباد الله، صلوا وسلموا على مَنْ أمَرَنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارْضَ اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصَّحْب والآل ومَن تَبِعَهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.


اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحِّدين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً، اللهم وفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال، ومُدَّهما بنصرك وإعانتك وتوفيقك وتسديدك، اللهم أدِمْ على هذه البلاد عِزَّها وأمْنَها وإيمانها ورغد عيشها، اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نيَّاتنا وذرياتنا، وبلِّغنا فيما يرضيك آمالنا، وحرِّم على النار أجسادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.


عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 64.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 63.18 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.58%)]