|
ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() طائرٌ طار فحدَّثنا... بين فوضى التلقي وأصول طلب العلم محفوظ أحمد السلهتي بينما كنتُ أدرّس «جامع الترمذي» مؤخرًا، استوقفتني جملة تختصر موقفًا كاملًا من فوضى النقل وضعف المصداقية في طلب العلم. فقد حكى الإمام الترمذي عن الإمام سفيان بن عيينة: سُئل يحيى الكوفي عن راوٍ اسمه أبو ماجد، فأجاب: «طائرٌ طارَ فحدَّثَنا»! [انظر: جامع الترمذي، باب المشي خلف الجنازة، تحت حديث رقم 1011]. جملة قصيرة، لكنها كناقوس يدقّ في أذن الغافل، تُسائل بحزم: من هذا؟ ومن أين أتى؟ ما أصله؟ وما علمه؟ لا شيء! مجرد طيف مرَّ، ثم صار يحدّث الناس ويُلقي عليهم ما يشبه العلم، وهو في الحقيقة أبعد ما يكون عنه. تذكرتُ في ذلك قول الإمام ابن سيرين رحمه الله تعالى: «إن هذا العلم دينٌ، فانظروا عمن تأخذون دينكم»؛ [صحيح مسلم، مقدمة، 1/14]، فطلب العلم الشرعي ليس مجرد نقل معلومات، بل هو مسؤولية عظيمة وعبادة تتطلب أمانةً، وتثبّتًا، وتوثيقًا. واليوم، في زمن المنصات المفتوحة، برزت فئة من المتكلمين في الدين بلا تأصيلٍ ولا تزكيةٍ ولا إجازة علمية. تكفي صورة لامعة، أو جماهير كثيرة، ليُؤخذ عنهم الكلام، دون تحقق ولا معرفة. يطلّ علينا من يُلقي موعظة أو تفسيرًا أو فتوى، ثم يختفي، وقد أضل بها الآلاف! «طائر طار فحدّثنا»... ثم لم يُعرف له أثر. فحين يُنسب قولٌ إلى الشرع، يكون من واجب طالب العلم أن يسأل: من هذا المتحدث؟ ما خلفيته العلمية؟ من هم شيوخه؟ هل تلقى العلم عن أهل الاختصاص؟ وهل حصل على تزكية من أهل العلم؟ أم هو مجرد صوت يُبث عبر الهاتف، لا يُعرف له أصل ولا سند؟ نراه على يوتيوب أو فيسبوك يفسّر القرآن بتفسيرات شاذة، أو يتحدث في السنة بغير أهلية، ومع ذلك يُصدَّق، ليس لعلمه، بل لعدد متابعيه المتزايد! وهنا ينبغي أن نُذكّر بمعيارٍ قرآنيٍّ عظيمٍ، قال جلَّ وعلا: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [آل عمران: 164]، أي: أنه ليس غريبًا عنهم، بل يعرفونه حق المعرفة؛ يعرفون نسبه الشريف، وصدقه المشهود، وأمانته المعروفة، وسيرته بينهم. كما قال تعالى، حكايةً عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ﴾ [يونس: 16]. فالمصداقية لا تُكتسب بالصورة أو الشهرة، بل تُبنى على المعايشة والمعرفة الصادقة. وكما قال سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمام الملك العادل أصحمة النجاشي حين وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه». [مسند أحمد، برقم 22498]. وهذا المعنى هو ما أشار إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في موقفه التاريخي. روى ابن الجـوزي في «مناقب الإمام أحمد» (ص 401) أنّ «ابن أبي دُؤاد أقبل على الإمام أحمد يُكلّمه، فلم يلتفت إليه الإمام حتى قال المعتصم: ألا تكلم أبا عبدالله؟ فقال أحمد: لست أعرفه من أهل العلم فأُكلّمه». ونبّه الإمام أحمد إلى سبب حكمه فقال: «كيف أكلّم من لم أره على باب عالم قط». «الفوائد المنتخبة» لابن بشكوال، (1/ 170). فالعلم لا يُؤخذ إلا عن معروفٍ بالطلب، ومجالسة حُذّاق الفن، وطول الملازمة، والمثول بين أيديهم، والتحصيل المتين. فلا اعتبار بمن كَثُر متابعوه أو حَسُن مظهره، فالعبرة بالعلم المتلقى عن أهله. وإن لم تُحسن -أيها الطالب- تمييزَ أهل العلم، فاسأل عنهم الراسخين الذين حملوا هذا العلم كابرًا عن كابر، وتلقَّوه عن أهله بالضبط والتوثيق. فزمن «الطائر الذي طار فحدّثنا» يفرض علينا التثبت، لأن الانبهار بالشكل قد يقود إلى البدعة والضلال. وإنّ سُلوك منهج التثبّت ليس ترفًا علميًّا، بل ضرورة إيمانية. نسأل الله تعالى أن يحمينا من فتن المتعالمين، وأن يرزقنا العلم النافع، والفقه في الدين، والصدق في النقل، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |