فقه الجزية وأحكام أهل الذمة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         المسيح ابن مريم عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 4729 )           »          ما نزل من القُرْآن في غزوة تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أوليَّات عثمان بن عفان رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          القلب الطيب: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          رائدة صدر الدعوة الأولى السيدة خديجة بنت خويلد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          طريق العودة من تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          مسيرة الجيش إلى تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1094 - عددالزوار : 128010 )           »          أدركتني دعوة أمي! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 21-07-2025, 06:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,747
الدولة : Egypt
افتراضي فقه الجزية وأحكام أهل الذمة

فقه الجزية وأحكام أهل الذمة

د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

‌اللهم ‌صلِّ ‌على ‌محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: ﴿ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].

شرع الله عز وجل الجهاد في سبيله لتنتشر دعوة الإسلام في أرجاء الأرض، حتى لا يكون لأحد حجة في الجهل بالإسلام، يقول الله عز وجل: ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165].

﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأنعام: 149].

والهدف الأسمى من الجهاد ليس استئصال الناس وقتلهم، ولكن كما قال الله عز وجل: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193]

﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39].
فالجهاد شُرع للقضاء على الفتنة؛ وهي الصَّدُّ عن سبيل الله الذي يقوم به الطغاة وأذنابهم والذين يسلكون كل سبيل لمنع تبليغ رسالة ربنا وإقامة شريعته لكي يَكُونَ الدين لله، وقد سبق بفضل الله عز وجل أن تناولنا العلاقة بين مفهومَي الجهاد والقتال، وبيَّنَّا أن القتال في سبيل الله إنما هو صورة من صور الجهاد، يدخل ضمن دائرته الواسعة ولا يُطابقه من كل وجه. ولمن أراد مزيدًا من التوسُّع والتحقيق في هذا الباب، فليُراجع ما قرره الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه «زاد المعاد في هدي خير العباد»، في مطلع الجزء الثالث، حيث عقد فصلًا نافعًا في هذا المعنى، حوى من البيان والتحرير ما يشفي الصدور، ويجلي الغموض، نفع الله به.

عقد الذمة:
وقد اشترط الفقهاء لقبول عقد الذمة شرطين أساسين: دفع الجزية، والالتزام بأحكام الإسلام.

الجزية:
وهي في اصطلاح الفقهاء: قدر من المال يؤخذ من الكافر في كل عام لإقامته بدار الإسلام، قال الله عز وجل: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

قال ابن حجر رحمه الله: هذه الآية هي الأصل في مشروعية الجزية.

وأما السُّنَّة فقد ثبت فيها ثبوتًا قطعيًّا ما يدل على مشروعية الجزية، ومن ذلك:
في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين ليأتي بجزيتها.

وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.

والأحاديث كثيرة جدًّا.

وأما الإجماع: فقد قال ابن قدامة في المغني: وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة.

وهذا الحكم مستمر إلى أن ينزل المسيح عيسى عليه السلام في آخر الزمان، وعند ذلك يضع الجزية ويلغيها، فيقاتل في سبيل الله ولا يقبل من أحد جزية كما صحَّ بذلك الخبر.

والإسلام ليس أول من استحدث أخذ الجزية، بل كانت معروفة عند الأمم السابقة؛ كاليونان والرومان والفرس.

الحكمة من مشروعية الجزية:
لم تشرع هذه الجزية عبثًا، بل ثمة حِكَم وغايات شرعت من أجلها، ولعل منها:
أن في أخذ الجزية عزة للمسلمين ورفعًا لمعنوياتهم، وصغارًا وكسرًا لشوكة الكفار، يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: ﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]، ويكون لدى الكافر فسحة وقت، ليتدبر الإسلام ويتعرف على محاسنه، إما من خلال المطالعة النظرية، أو من المخالطة العملية من المسلمين.

وحيث إن المسلمين يجب عليهم حماية أهل الذمة والذب عنهم، بل وكفالة مستضعفيهم، فلا بد أن يكون لذلك مقابل يؤخذ منهم ليُستعان به على أداء الواجب نحوهم.

وبما ذكرنا يندفع ما قيل وما يُقال إن الهدف من عقد الذمة وأخذ الجزية لأمر مادي بحت، وهو الحصول على المال من كل طريق، وأن فيه مجاملة للكفر وأهله، بل وإقرار لأهل الكفر على كفرهم، فالمهم هو الحصول على المال وإن كان على حساب العقيدة.

عن أي شيء وجبت الجزية؟
اختلف الفقهاء في الإجابة عن هذا السؤال.
- فالحنفية قالوا: إنها وجبت بدلًا عن النصرة؛ أي: إنها تؤخذ منهم ليُعفَوا من نصرة المسلمين والدفاع عن أوطانهم، وبعض الحنفية يضيف إلى ذلك القتل، بمعنى أنها تؤخذ في مقابل عدم قتلهم.

- أما المالكية فقالوا: إنها بدل عن القتل بسبب الكفر.

- وأما الشافعية والحنابلة فقالوا: إنها بدل عن القتل والإقامة في دار الإسلام، بمعنى أنها تؤخذ ليسمح لهم بالسكنى في ديار المسلمين، ولتعصم دماءهم أيضًا.

- ويذهب بعض المعاصرين إلى أنها وجبت عليهم في مقابل فرض الزكاة على المسلمين حتى يتساوى الفريقان في أداء الواجب؛ إذ الفريقان رعية واحدة، فالمسلم تجب عليه الزكاة، وغيره تجب عليه الجزية.

سبب وجوب الجزية:
سبب وجوب الجزية هو: عقد الذمة والعهد.

هل تؤخذ من كل الأمم؟
اختلف الفقهاء هل أخذ الجزية قاصر على نوع معين من الأمم والطوائف أو أنها تؤخذ من جميع الكفار؟

لكنهم اتفقوا على الآتي:
- جواز أخذ الجزية من اليهود والنصارى والمجوس.

- عدم أخذها من المرتدين؛ بمعنى أن المرتد ليس له جزاء- إن لم يسلم - إلا السيف.

- أما ما عدا هؤلاء؛ كالمشركين والملحدين الدهريين وغيرهم فقد اختلفت آراء الفقهاء فيهم نظرًا إلى عدم النص القاطع.

- الشافعي وظاهر مذهب أحمد أنها تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس فقط دون سائر المِلَل الأخرى.

﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

ووجه الدلالة: أن الله عز وجل أمر بقتال أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى حتى يؤدوا الجزية، ومعنى ذلك أن من تؤخذ منهم الجزية حددتهم الآية الكريمة، فمن لم يذكر في الآية لا يشمله الحكم، إلا المجوس فقد ثبت الحكم فيهم بالسُّنَّة؛ فقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، كما شهد بذلك عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المجوس: "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب". ومما ينبغي أن يعلم أن هؤلاء قالوا: إنها تؤخذ من جميع فرق اليهود والنصارى مهما كان بينهم من خلاف.

- وقال أبو حنيفة: تؤخذ من جميع الكُفَّار والمشركين إلا العرب؛ لأنهم رهط النبي صلى الله عليه وسلم فلا يُقَرُّون على غير دينه عليه الصلاة والسلام، ولأنهم أهل عادة وتقليد؛ ولهذا لم يقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم الجزية، فتعَيَّن السيف أو الإسلام، ولعموم قوله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5]، وأما مشركو العجم فلا يشملهم الحكم، فهم ليسوا في التعصب للرأي كالعرب، بل هم أقرب للانقياد، ولا سيما إذا أُخذت منهم الجزية فإنهم يضطرون إلى الدخول في الإسلام؛ هكذا قال الحنفية.

- ويذهب بعض الفقهاء إلى أن الجزية تؤخذ من جميع الكفار إلا قريشًا. واختلف أولئك الذين استثنوا قريشًا في سبب عدم أخذها منهم، فقيل: إكرامًا لهم عن الذلة والصغار؛ لمكانتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لأنهم أسلموا عام فتح مکة.

- وذهب الأوزاعي والإمام مالك: إلى أنها تؤخذ من جميع الأمم دون استثناء، اللهم إلا المرتدين؛ حيث الإجماع على عدم أخذها منهم. وأدلة هذا الرأي ما ورد من الأدلة العامة، ومنها:

- عن بريدة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أوصاه في خاصته بتقوى الله، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.. ثم قال: وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم.....» إلى آخر الحدیث، والخصال الثلاث هي الإسلام فالجزية فالقتال. فهنا لم يحدد نوع العدو، بل أطلقه فيبقى على عمومه.

- وقال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لعامل كسرى- في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه-: أمرنا نبينا، رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية. فهذا الحديث فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بمقاتلة أولئك حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فاللفظ فيه العموم.

- وقالوا: إن عباد الأصنام ليسوا بأسوأ حالًا من عباد النار (المجوس) بل كان في عباد الأصنام- من العرب خاصة- من هو أقرب الى الحنيفية- ملة إبراهيم- صلى الله عليه وسلم-، وأما المجوس فهم أعداء ملة إبراهيم عليه السلام جملةً وتفصيلًا.

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذها من العرب- عباد الأصنام- فليس معنى ذلك أنها لا تؤخذ منهم، بل لأن شرعية الجزية جاءت متأخرة؛ أي: بعد فتح مكة، فلم يكن هناك عرب مشركون، بل إنهم أسلموا؛ ولذلك فرضها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على مجوس هجر مع أنهم عرب.

إذا وجد قوم غير مسلمين لهم بأس وقوة وامتنعوا عن أداء الجزية:
ربما يوجد فئة من الكفار لهم صولة وبطش فيمتنعون من إعطاء الجزية للمسلمين، ويخشى المسلمون بأسهم، فهل يُلزمهم المسلمون ببذل الجزية، أم يقبلون منهم دفع المال باسم الصدقة؟ والحقيقة أن الإجابة عن هذا لها شعبتان:
الشعبة الأولى: في شأن نصارى بني تغلب، وهؤلاء طلب منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذل الجزية، فأخذتهم الأنفة وقالوا: نحن عرب، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم، فردهم وأخذ منهم الصدقة مضاعفة. وقد ذهب إلى جواز أخذ الصدقة من التغلبيين النصارى عامة الفقهاء؛ بدليل فعل عمر، ويرحم الله عمر الذي قال في شأن أولئك: هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم.

الشعبة الثانية: وهم ما عدا التغلبيين، الذين يخاف ضررهم بترك مصالحتهم، فيرى كثير من الفقهاء جواز مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة، لكن بشرط أن يكون المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية فأكثر.

صفة الفرد الذي تؤخذ منه الجزية:
بمعنى آخر: ما هي شروط وجوب الجزية؟ من المؤكد أنه ليس كل فرد- ممن هم من أهل الذمة والعهد- تؤخذ منه الجزية، بل لا بد من هذه الشروط:
- التكليف، فلا تؤخذ من صبي ولا مجنون دون خلاف؛ لأنهما غير مكلفين، وغير جائز قتلهما في الحرب، فلم تجب عليهما جزية.

- الذكورية، فلا تؤخذ من امرأة إجماعًا؛ لأنها لا تقتل في الحرب فلم تجب عليها جزية. ومما يرجح صحة ذينك الشرطين ما كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية، ولا تضربوها على النساء والصبیان.

- الحرية، فلا تضرب الجزية على عبد في قول عامة أهل العلم؛ لأنه لا يملك شيئًا، ولأنه قد يكون سيدُه مسلمًا، فإذا دفعها صار من إيجاب الجزية على المسلم.

- ألا يكون فقيرًا غير معتمل، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، وعند الشافعي: تجب عليه في أحد قوليه؛ لأنه وجب عليه القتل، فلا بد من دفعها لحقن دمه، واستدل الجمهور بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، والفقير العاجز عن العمل غير مكلف ماليًّا، فمطالبته بالجزية تعتبر تكليفًا فوق الوسع.

- ألا يكون شيخًا هرمًا، ولا أعمى، ولا مزمنًا، وهو قول الجمهور؛ لأنه لا يجوز قتلهم في الحرب؛ كالنساء والصبيان، فلم تجب عليهم الجزية. ويرى الشافعي أنها واجبة عليهم؛ لأنه يجوز قتلهم؛ إذ القتل بسبب الكفر، فإذا عوهدوا فُرِضت عليهـم الجزية.

- ألا يكون راهبًا ونحوه. وهو قول المالكية والحنابلة؛ لأنه ليس من المقاتلين، فلا تفرض عليه الجزية، وقال الحنفية: تجب عليه إذا كان قادرًا على العمل، وعند الشافعية: تجب مطلقًا؛ لأنه يجوز قتله فتفرض عليه الجزية.

مقدار الجزية:
هل هناك قدر معين للجزية يؤخذ من كل فرد لا يُزاد عليه ولا ينقص؟ هناك ثلاثة آراء:
أولها: أنها مقدرة بقدر معين، واختلف الفقهاء في هذا القدر:
- فقيل دينار واحد على الغني والفقير والمتوسط؛ لحديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن یأخذ من کل حالم دینارًا. والدينار = 4.25 جرامات من الذهب عيار 22، وهذا قول الشافعي ورواية عن أحمد. إلا أن الشافعي قال: إن صولحوا على أكثر من ذلك جاز.

- وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية أخرى: تقديرها كالآتي:
- في حق الموسر: ثمانية وأربعون درهمًا، والدرهم 3 جرامات من الفضة (2.975 من الجرامات)، وفي حق المتوسط: أربعة وعشرون درهمًا.

- وفي حق الفقير: اثنا عشر درهمًا.

دليل ذلك: ما ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جعل الجزية ثلاث طبقات: على الغني ثمانية وأربعين درهمًا، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهمًا، وعلى الفقير اثني عشر درهمًا.

- وقال مالك: الواجب على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهمًا؛ وذلك لما ورد أن عمر رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا.

ثانيها: أن أقلها محدد بدينار واحد لا ينقص عنه، وأما أكثرها فلا حد له، ووجه ذلك أن عمر رضي الله عنه زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص منه.

ثالثها: أنه لا تقدير فيها، بل تقديرها يرجع إلى الإمام، فهو الذي يحددها، وهو قول عطاء بن أبي رباح، ورواية عن أحمد؛ وذلك لأنه لم يرِدْ نص، بل ورد مجموعة من الأدلة مختلفة، وذلك يدل على أنه لا تحديد، ومما استدل به الذاهب لهذا القول: أن الجزية وجبت صغارًا أو عقوبةً، فتختلف باختلاف أحوالهم، ولأنها عوض، فلم تقدر كالأجرة.

اشتراط الضيافة عليهم:
ويجوز أن يشترط على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين، بل إن بعض الفقهاء قال: تجب عليهم الضيافة وإن لم تشترط عليهم. ودليل صحة الاشتراط ما أخرجه الإمام مالك بسنده إلى أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعين درهمًا، مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام.

وقت وجوب الجزية:
هل تجب الجزية بعد العقد مباشرة؛ أي: في أول الحول، أو لا تجب إلا في آخر الحول؟ قولان للفقهاء.

ووجه الثاني- وهو قول الشافعي وأحمد- أنه مال يتكرر كل حول فلم يجب في أوله کالزكاة.

ووجه الأول- وهو قول أبي حنيفة- قوله تعالى: ﴿ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون ﴾ [التوبة: 29]؛ حيث جعل غاية المقاتلة إعطاء الجزية؛ أي: بذلها، وأجاب أصحاب القول الثاني: بأن المقصود من إعطاء الجزية هو الالتزام بدفعها، وإن لم تدفع فعلًا.

إذا امتنعوا عن إعطاء الجزية:
إن الكفار إذا رضخوا للمسلمين، وتركوا القتال، واستجابوا لإعطاء الجزية، وجب على المسلمين الكف عنهم، وقبول الجزية منهم، ولو لم يدفعوها فعلًا، بل التزموا دفعها. وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء؛ وذلك لما جاء في الآية الكريمة ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]، فجعل بذل الجزية إنهاء للقتال.

وكما جاء في الحديث الصحيح في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمير الجيش- حينما يرسله- فإن أبوا الإسلام فادعهم إلى أداء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكفَّ عنهم.

فإن وجبت الجزية عليهم، وامتنعوا عن إعطائها، فهل ينتقض عهدهم؟
نعم ينتقض قولًا واحدًا في المذهب الحنبلي، وهو قول الشافعي أيضًا، وقول المالكية خلافًا للحنفية، فإنهم لا يرون ذلك ناقضًا للعهد. وقول الجمهور أصحُّ.

إذا عجزت الدولة الإسلامية عن حماية الذميين:
حماية الذميين مسئولية الدولة الإسلامية باتفاق الفقهاء، فلو عجز المسلمون عن الدفاع عنهم وحمايتهم فهل تسقط عنهم الجزية؟

الذي يظهر أنها تسقط لما ذكرنا من الاتفاق على وجوب حمايتهم، فلقد نص الفقهاء على وجوب حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب والذميين الآخرين، وحيث لم يستطع المسلمون حمايتهم سقط ما لزم أهل الذمة من دفعه في مقابل الحماية، وقد جاء في صلح خالد بن الوليد رضي الله عنه مع صلوبا بن نسطونا ما يأتي: "إني عاهدتكم على الجزية والمنعة... فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم". وكذلك ورد أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كتب إلى نوَّابه في الشام- حينما علم أن الروم تجمعوا ضد المسلمين وتكالبوا- أن يردوا على الذميين ما جبي منهم من الجزية والخراج، وأمرهم أن يقولوا لهم إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك.

قلت ما سمعتم، وإني أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه غفور رحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل عنه في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

‌اللهم ‌صلِّ ‌على ‌محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

أخرج أبو داود في «سننه» (3462) وغيره من حديث عبدالله بن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا تبايعتُم بالعينةِ، وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ، وترَكتمُ الجِهادَ؛ سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلًّا لا ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم".

الجهاد في سبيل الله تعالى ذروة سنام الإسلام، وعز أمة الإسلام، وبه ترجع أمجاد الماضي وتذهب أوجاع الحاضر.

وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة"، وهي: بيع سلعة بثمن مؤجل، ثم شراؤها بثمن أقل، "وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع"؛ أي: انشغلتم بالزرع وفلاحة الأرض "وتركتم الجهاد"؛ أي: ابتعدتم عن الجهاد رغبة في الدنيا، "سلَّط الله عليكم ذلًّا"؛ أي: صغارًا ومسكنة وما ينتج عنهما، "لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"؛ أي: لا يرفع هذا الذل عنكم حتى ترجعوا إلى الجهاد، وسماه هنا دينكم؛ زجرًا، أو حتى يرجعوا إلى دينهم بشموله وكماله، فيقدموا ما يجب أن يقدم في موضعه من أحكامه، فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته، واشتغل عنه بتحصيل الدنيا من وجوهها المباحة حصل له من الذل، فكيف إذا اشتغل عن الجهاد بجمع الدنيا من وجوهها المحرمة؟ في الحديث: الحث على الجهاد، وفيه: بيان لأسباب مرض الأمة، وبيان العلاج.

ومن نظر في واقع الأمة اليوم بعين البصيرة، وأحاط نظره بتقوى الله وموازين الشرع، رأى المحنة بادية لا تخفى، ورأى العدوَّ ظاهرًا متربصًا لا يهدأ، بينما جماهير المسلمين- إلا من رحم الله- غارقة في غفلة عميقة، قد شُغِلوا عن قضاياهم الكبرى بما لا ينفع. والداء العضال يفتك بجسد الأمة من داخلها، تمزقها الأهواء، وتتنازعها السبل، وقد أطبق عليها أعداؤها من كل حدب وصوب، ينهشون فيها بلا مقاومة، ويتقاسمون خيراتها بلا حياء، فما أضعف موقفها! وما أسرع تراجعها عند أول محنة! إلا من رحم الله وأحيا قلبَه بنور الإيمان.

أخرج مسلم في «صحيحه» (2898) من حديث المستورد بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَقُومُ السَّاعَةُ والرُّومُ أكْثَرُ النَّاسِ. فَقالَ له عَمْرٌو: أبْصِرْ ما تَقُولُ، قالَ: أقُولُ ما سَمِعْتُ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذلكَ، إنَّ فيهم لَخِصالًا أرْبَعًا: إنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وأَسْرَعُهُمْ إفاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ، وأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ ويَتِيمٍ وضَعِيفٍ، وخامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ: وأَمْنَعُهُمْ مِن ظُلْمِ المُلُوكِ».

وأخرج أبو داود في «سننه» (4297) من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما الوهنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ».

إذا ترك المسلمون الجهاد وحرصوا على الدنيا وأحبوها وكرهوا الموت، طمع فيهم أعداء الله من الكفار، وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم»؛ أي: يقرب أن تجتمع وتتحد على المسلمين الأمم الكافرة، «كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»؛ أي: كما يجتمع الجماعة من الناس على الطعام، وهذا إشارة إلى السهولة التي يلقاها العدو في المسلمين.

فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟"؛ أي: هل يكون طمعهم واجتماعهم على المسلمين لقلة عددهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»؛ أي: يكون مطمعهم في المسلمين ليس لقلة العدد- فإن العدد يكون كثيرًا، ولكن لا نفع فيه ولا فائدة- ولكن لقلة شجاعتهم وشدة تفرقهم، وغثاء السيل: ما يطفو على ماء السيل من زبد وأوساخ وفقاقيع.

قال صلى الله عليه وسلم: «ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم»؛ أي: الخوف، "وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"؛ أي: الحرص عليها، والتطلُّع فيها، وترك العمل للآخرة، وهذا يجعلهم يخافون الموت، ويحبون الحياة ومتع الدنيا، فيتركون الجهاد في سبيل الله.

الهوان والصغار ثمرة المعاصي:
فإذا أمعنت النظر في واقع الأمة، وما حلَّ بها من ابتلاءات ومحن، رأيت أن كثيرًا منها إنما هو ثمرة للذنوب والمعاصي، وسوء التولي عن أوامر الله.

﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 79] ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61] ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].

الزلازل من الآيات البينات وليست عبثًا:
يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].

إن الله عز وجل يُرسل لعباده من الآيات ما يكون نذيرًا وتنبيهًا واستعتابًا لهم، يدعوهم فيه إلى الرجوع والإنابة، ومن ذلك ما يبتليهم به من الزلازل وغيرها من الكوارث التي لا تقع عبثًا، بل لحكمة بالغة، ورحمة خفية، وتذكير بأن الميثاق مع الله قد وُثق، وأن الغفلة عنه لا تدوم. فعلى المسلمين إذا نزلت بهم هذه الابتلاءات أن يبادروا بالنزع والرجوع إلى الله تعالى، وأن يعلموا أنهم ما داموا في دار الحياة، فلا تزال أمامهم فرصة عظيمة للتوبة والإصلاح. أمَّا إذا أدركهم الموت ولم يتوبوا، فلن يُمهلوا ولا يُستعتبوا، كما قال الله عز وجل: ﴿ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ [الروم: 57]، فالتوبةَ التوبةَ، والرجوعَ إلى الله رجوعًا صادقًا قبل فوات الأوان، فإنه لا أمان مع الإصرار، ولا نجاة مع الإعراض.

موت العلماء:
وإن من أعظم المصائب وأشدها وقعًا على الأمة، وأقساها أثرًا في جسدها، موتَ العلماء الربانيين، الذين هم مصابيح الهدى، وورثة الأنبياء، فإذا غابوا غاب العلم، وخفت صوت الحكمة، وارتفعت الجهالة، وظهر الاضطراب في الأقوال والأحوال، وانفتحت أبواب الفتنة على مصاريعها.

أخرج البخاري في «صحيحه» (100) من حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا».

جعل الله العلم منارًا وهدايةً إلى طريقه، وبدون العلم يضل الناس الطريق، فالعلم الحقيقي يمنع من الوقوع في الزلل. وفي هذا الحديث يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يرفع العلم من الناس بإزالته من قلوب العلماء ومحوه من صدورهم، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء وموتهم، فيضيع العلم، فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وكلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى إذا لم يبق الله عالمًا ومات أهل العلم الحقيقي، وصل الجهلاء إلى المراكز العلمية التي لا يستحقونها؛ من تدريس وإفتاء ونحوه، وجعل الناس منهم علماء يسألونهم، فيفتون بغير علم لجهلهم، فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال، فيضلون في ذات أنفسهم عن الحق، ويضلون مَن اتَّبَعهم وأخذ بفتواهم من عامة الناس. ولا تغني المؤلفات والرسائل وغيرها عن وجود العلماء؛ لأنها لم تفهم على وجهها الصحيح بدونهم. وفي هذا الحديث: الحث على تعلم العلم وحفظه؛ فإنه لا يرفع إلا بقبض العلماء. وفيه: التحذير من ترئيس الجهلة، وتحذير ولاة الأمور من تعيين الجهلاء في المناصب الدينية. وفيه: أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية، وذم من يقدم عليها بغير علم.

خاتمة:
فإذا تأملت في فقد العلماء واحدًا بعد آخر، وتدبرت في نذر الله التي تتوالى على عباده من زلازل وغيرها من الآيات البينات، ثم وقفت على حقيقة الجهاد في سبيل الله بمفهومه الشامل- الذي لا يقتصر على السلاح، بل يشمل كل بذلٍ في سبيل نصرة الدين ورفع راية الحق- أيقنت أنه لا مخرج للأمة من هذا المأزق إلا بالعودة الصادقة إلى الله. ويبدأ ذلك من الواجب الفردي على كل مسلم: أن يصلح نفسه، ويصلح من يعول، على نور من الله وبصيرة، وأن يجتهد في طلب العلم النافع والعمل الصالح، فبصلاح الأفراد تنشأ الأمة، وبالهداية الفردية تُستأنف مسيرة العزة والتمكين، ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].

اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمُك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسمٍ هو لك سمَّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو عَلَّمْته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وجلاءَ أحزاننا، وذَهاب همِّنا وغمِّنا.

اللهم انصر إخواننا في غزة، وفي كل ديار المسلمين، واربُط على قلوبهم، وأنزِل عليهم من رَحَمَاتِك، اللهم داوِ جَرْحَاهم، واشْفِ مرضاهم، وتقبَّل شهداءهم، اللهم إنهم إخواننا، قد ظُلِموا بغير حقٍّ، وأُخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ، اللهم انتصر لهم، واربِطْ على قلوبهم، ورُدَّهم إلى ديارهم ومساجدهم، سالمين آمنين، اللهم يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين، يا رب السماوات والأرض، يا من بيده مقاليد الأمور، نسألك أن تنصر إخواننا على عدوِّك وعدوِّهم وعدوِّنا نصرًا عزيزًا مؤزرًا، اللهم انصر مَن نَصَرَهم، واخذُل من خَذَلَهم، واجعل الدائرةَ تدور على أعدائهم وأعوانهم، اللهم ارفع الحصار عن إخواننا، واجعل ديارهم وأوطانهم آمِنةً مطمئنة، اللهم انصر إخواننا، وارحم شهداءهم، واشفِ جَرْحَاهم، وفُكَّ أَسْرَاهم، واحفظهم من كل مكروه وسوء، اللهم إنا نسألك باسمك القهَّار أن تقهر مَن قَهَرَ إخواننا، ونسألك أن تنصرهم على القوم المجرمين، اللهم بارك جهاد المجاهدين في كل أرض المسلمين، وأيِّدهم بجنودك ونصرك يا قويّ يا كريم، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم كُنْ لهم ولا تَكُنْ عليهم.

اللهم من كان من والدينا حيًّا، فأطِلْ عُمُرَه في طاعتك، ومُنَّ عليه بالصحة والعافية وحسن الخاتمة، ومن سبقنا منهم إليك، فاغفر له ذنبه، ووسِّع له في قبره مدَّ بصره، وآنِسْ وَحْدَتَه ووَحْشَتَه.

اللهم ربِّ لنا أبناءنا، وأصلح نساءنا، واهدِ بناتِنا، وارزقهن العَفاف، ووفِّق المسلمين لكل خير وبِرٍّ.

وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 115.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 113.89 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.49%)]