
16-02-2019, 10:13 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,734
الدولة :
|
|
استثمار أموال الزكاة
استثمار أموال الزكاة
د. محمد عثمان شبير
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتاحية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. أما بعد ..
فإن قضية استثمار أموال الزكاة من القضايا المهمة في فقه الزكاة المعاصر، إذ إنها تثير اهتمام كثير من المؤسسات الزكوية والهيئات الخيرية في العالم الإسلامي، وهي من المسائل الملحة التي تحتاج إلى إجابة شافية. لقد بدأ بهذه القضية بعد تنوع أساليب العمل والإنتاج، وظهور المشاريع الاستثمارية الضخمة التي تدر أرباحا وفيرة على مالكيها فثار التساؤل التالي: هل يجوز توجيه بعض أموال الزكاة إلى إنشاء المشاريع الاستثمارية لتامين مورد مالي ثابت، ودائم للمستحقين الذين تتزايد حاجاتهم؟ هذا السؤال طرح بهذه الصيغة وبغيرها عدة مرات على مجامع فقهية وندوات علمية متخصصة وعلى كثير من لجان الفتوى في البلدان الإسلامية. ولما كانت الإجابات والأبحاث المقدمة مقتضبة وسريعة رأت الهيئة الشرعية العالمية للزكاة طرح هذا الموضوع ضمن موضوعات الندوة الثالثة لقضايا الزكاة المعاصرة بغية الحصول على مزيد من التعمق والتفصيل في هذا الموضوع.
فكتب هذا البحث للمشاركة في تلك الندوة المباركة لعلى أسهم في تحقيق أهداف تلك الندوة ولما كان البعد الفقهي هو الأساس في هذه الدراسة فقد اعتمدت على عدد كبير من المراجع والمصادر الفقهية التي تمثل اكبر المذاهب ذيوعا بالإضافة إلى كتب السنة وشروحها.
وقد قسمت هذه الدراسة إلى: ثلاث مباحث وخاتمة :
المبحث الأول: حقيقة استثمار أموال الزكاة
المبحث الثاني: حكم استثمار أموال الزكاة
المبحث الثالث: تكاليف استثمار أموال الزكاة
الخاتمة: ذكرت فيها نتيجة البحث .
والله أسال أن يتقبل منى هذا الجهد المتواضع ويجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون.
المبحث الأول
حقيقة استثمار أموال الزكاة ..
قبل الشروع في بيان استثمار أموال الزكاة لابد من بيان حقيقة استثمار أموال الزكاة كي يتسنى لنا إدراك الأحكام المتعلقة بهذه المسألة وفهمها. إذ بيان الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
أولاً: معنى الزكاة :
الزكاة لغة: النماء والزيادة وتطلق أيضا على التطهير والمدح (1) وهي في الاصطلاح: إخراج جزء مخصوص من مال مخصوص بلغ نصابا إن تم الملك وحال الحول (2) فهي تطلق شرعا على إخراج الزكاة كما تطلق على المخرج من المال، ولذلك عرفها ابن قدامة بأنها : حق يجب في المال (3).
ثانيا: معنى الاستثمار في الفقه الإسلامي:
الاستثمار لغة: طلب الثمر، فيقال أثمر الشجر إذا خرج ثمره وثمر الشيء إذا تولد منه شيء آخر، وثمر الرجل ماله تثميرا، أي كثرة عن طريق تنميته، ومعنى كثرة المال جاء في القران الكريم، ومنه _تعالى_:"وكان له ثمر فقال لصاحبة وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا" (4). أي مال كثير مستفاد كما قال ابن عباس ويقال لكل نفع يصدر عن شيء ثمرته: كقولك ثمرة العلم العمل الصالح وثمرة العمل الصالح الجنة (5).
وعلى هذا فان الاستثمار: هو طلب الحصول على الثمرة، استثمار المال: هو طلب الحصول على الأرباح .. والفقهاء يستعملون هذا اللفظ بهذا المعنى، حيث جاء في المنتقى شرح موطأ الأمام مالك في أول كتاب القراض: أن يكون لأبي موسى الأشعري النظر في المال بالتثمير والإصلاح (6) وجاء في تفسير الكشاف عند قوله _تعالى_: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" (7) السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي، ولا يقومون بإصلاحها وتثميرها والتصرف فيها (8).
ثالثا: الاستثمار في الاقتصاد المعاصر :
الاستثمار في اصطلاح علماء الدراسات الاقتصادية المعاصرة هو: ارتباط مالي بهدف تحقيق مكاسب يتوقع الحصول عليها على مدى مدة طويلة في المستقبل (9). فالاستثمار نوع من الأنفاق على أصول يتوقع منها تحقيق عائد على مدى فترة طويلة من الزمن . ولذلك يطلق عليه البعض إنفاق رأسمالي (10) تمييزا له عن المصروفات التشغيلية أو المصروفات الجارية، وهي التي تتم من يوم إلى يوم: مثل الأجور والمرتبات، والصيانة، وشراء المواد الخام. أما الأنفاق الرأسمالي فإنه يشمل كل المفردات الضرورية لتحقيق تقدم المشروع في الأجل الطويل: مثل بناء مصنع حديد، وشراء آلات وعدد لخط إنتاج جديد، والقيام ببحوث لتحسين سلع قائمة أو إخراج سلع مبتكرة (11). والأنفاق الرأسمالي نوع من إنفاق المال لتحقيق منافع مستقبلية، سواء كان ذلك من مشروعات جديدة أو استكمال مشروعات قائمة، أو تجديد وتحديث مشروعات قديمة، أو التجارة في سلع تجارية أو غير ذلك. والاستثمار بهذا المعنى يتفق مع الاستخدام العلمي الشائع له وهو توظيف الأموال بقصد الحصول على منافع في المستقبل ومع ذلك توجد عدة استخدامات للاستثمار في الواقع اليومي. ومن تلك الاستخدامات: توظيف النقود لأي أجل، والاستثمار بالنسبة للبنوك التجارية -توظيف النقود في أوراق مالية (أسهم وسندات) والاستثمار - بالنسبة للشركات- هو إنفاق استثماري تمييزا له عن الأنفاق الجاري . والاستثمار- بالنسبة للبعض -هو ارتباط بأية أصول خالية نسبيا عن المخاطرة أو الخسارة والاستثمار بالنسبة للبعض الأخر- توظيف الأموال بقصد الحصول على عائد جار. أو بقصد الحصول على قيمة أكبر في نهاية المدة، أي دون عائد جار. والاستثمار قد يكون ماديا بمعنى أن المكاسب يجب أن تكون مادية، وقد يشمل الاستثمار مكاسب غير مادية أي منافع أخرى. كما تستخدم كلمة استثمار بمعنى مشروع استثماري، أي مجرد اقتراح استثماري لم ينفذ بعد: كما قد تستخدم كلمة الاستثمار بمعنى توظيف فعلى للأموال (12). وقد تبنت الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية المفهوم الواسع للاستثمار هو: توظيف النقود لأي أجل، في أي أصل أو حق ملكية، أو ممتلكات أو مشاركات محتفظ بها للمحافظة على المال أو تنميته سواء بأرباح دورية أو بزيادات الأموال في نهاية المدة، أو بمنافع غير مادية (13).
ويلاحظ على هذا التعريف - مع ما فيه من الشمول - عدة ملاحظات منها :
1- انه عبر عن الاستثمار بالتوظيف، والتوظيف كلمة تحتمل عدة معان منها: تعيين الوظيفة، وهي ما يقدر للإنسان في اليوم أو في السنة أو الزمان المعين: من طعام أو رزق ونحوه. ومنها الإلزام، فيقال وظف الشيء على نفسه توظيفا الزمها إياه (14). ولا يقال وظف المال بمعنى زاده، وإنما يقال: نمى المال وثمره فالأولى استعمال تنمية بدلاً من توظيف.
2- انه اقتصر في استثمار الأموال على النقود (العملة). وأموال الزكاة لا تقف عند هذا الشكل من الأموال، بل تتعداه إلى المبالغ العينية، لأن مصادر الزكاة متنوعة الأشكال:
كالزروع والثمار، والحيوانات، وعروض التجارة، والمعادن وغير ذلك، فالأولى التعبير بالأموال .
وبناء على ذلك يمكن تعريف استثمار أموال الزكاة: "بأنه العمل على تنمية أموال الزكاة لأي أجل، وبأية طريقة من طرق التنمية المشروعة لتحقيق منافع للمستحقين.
رابعاً: الألفاظ ذات الصلة بالاستثمار :
يتصل بالاستثمار بعض الألفاظ كالاستغلال، والاستنماء، والانتفاع.
1- الاستغلال :
الاستغلال لغة : طلب الغلة والغلة هي كل عين حاصلة من ريع الملك .(15)
وهذا هو عين الاستثمار ، فما تخرجه الأرض هو ثمرة ، وهو غلة. وللحنفية تفرقة خاصة بين الثمرة والغلة في باب الوصية. فإذا أوصى بثمرة بستانه انصرف إلى الموجود خاصة ، وإذا أوصى بغلته شمل الموجود ، وما هو بعرض الموجود (16).
2- الاستنماء:
الاستنماء لغة: طلب النماء وهو الزيادة، فيقال: نما المال ينمي، ويقال ينمو بمعنى زاد (17) وهو عين الاستثمار ، فما يتولد من الحيوانات هو ثمرة ، وهو نماء .
3- الانتفاع :
الانتفاع لغة: من نفع ينفع نفعا ، والاسم المنفعة . وهو الاستفادة من الشيء (18).
4- الانتفاع:
الانتفاع في الاصطلاح : التصرف في الشيء على وجه يريد به تحقيق فائدة (19) والانتفاع أعم من الاستثمار، لأن الانتفاع قد يكون بالاستثمار وبغيره .
المبحث الثاني
حكم استثمار أموال الزكاة
استثمار أموال الزكاة قد يحصل من المستحقين للزكاة بعد قبضها، أو من المالك الذي وجبت عليه الزكاة، أو من الأمام أو نائبه الذي يشرف على جمع أموال الزكاة ولكل حالة حكمها.
المطلب الأول: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل المستحقين :
نص الفقهاء على جواز استثمار أموال الزكاة من قبل المستحقين بعد قبضها؛ لأن الزكاة إذا وصلت أيديهم أصبحت مملوكة ملكا تاما لهم وبالتالي يجوز لهم التصرف فيها كتصرف الملاك في أملاكهم، فلهم إنشاء المشروعات الاستثمارية، وشراء أدوات الحرفة وغير ذلك .
جاء في كشاف القناع: من أخذ بسبب يستقر الأخذ به وهو الفقر، والمسكنة والعمالة والتالف صرفه فيما شاء ، كسائر أمواله ،لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة بلام الملك .وإن أخذ بسبب لم يستقر الملك به صرفه فيما أخذه خاصة ،لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه وإنما يملكه مراعي فان صرفه في الجهة التي استحق الأخذ بها، و إلا استرجع منه كالذي يأخذه المكاتب والغارم والغازي وابن السبيل (20). وجاء في مغنى المحتاج: أضاف الأصناف الأربعة الأولى بلام الملك والأربعة الأخيرة بفي الظرفية للأشعار بإطلاق الملك في الأربعة الأولى، وتقييده في الأربعة الأخيرة، حتى إذا لم يصل الصرف في مصارفها استرجع بخلافه في الأولى (21). وجاء في الأشباه والنظائر لأبن نجيم: أسباب التملك المعاوضات المالية، والأمهار والخلع، والميراث والهبات والصدقات، والوصايا والوقف والغنيمة، والاستيلاء على المباح والأحياء .. الخ (22). وبالرغم من أن الشافعية قالوا: أن الملك في الأصناف الأربعة الأخيرة مقيد بالصرف في تلك الجهات (وهي تحرير العبيد - وقضاء الدين - والجهاد في سبيل الله - ونفقات طريق ابن السبيل).
إلا أنهم أجازوا لهؤلاء المستحقين استثمار أموال الزكاة التي وصلت إلى أيديهم فقالوا: يجوز للعبد المكاتب أن يتجر فيما يأخذه من الزكاة طلبا للزيادة وتحصيل الوفاء. وهذا لا خلاف فيه (أي بين الشافعية)(23).
وقال النووي: "قال أصحابنا يجوز للغارم أن يتجر فيما قبض من سهم الزكاة، إذا لم يف بالدين ليبلغ قدر الدين بالتنمية"(24).
ما أجاز الشافعية وأحمد في رواية إعطاء الفقراء والمساكين من أموال الزكاة لاستثمارها، فيعطي من يحسن الكسب بحرفة ما آلاتها، بحيث يحصل له من ربحها ما يفي بكفايته غالباً. فإن كان نجاراً أعطى ما يشتري به آلات النجارة. سواء كانت قيمتها قليلة أو كثيرة بحيث تفي غلتها بكفايته.وإن كان تاجراً أعطى رأس مال يفي ربحه بكفايته، يراعي في مقدار رأس المال نوع التجارة التي يحسنها، وقد مثلوا لذلك بما يلي: البقلي يكفيه خمسة دراهم، والباقلاني يكفيه عشرة، والفكهاني يكفيه عشرون، والعطار ألف والبزاز ألفان، والصيرفي خمسة آلاف، والجوهري عشرة آلاف. وإن كان لا يحسن الكسب، ولا يقوى على العمل:كالمريض بمرض مزمن يعطي ما يشتري به عقاراً يستغله، بحيث تفي غلته حاجته، فيملكه ويورث عنه، ويراعي في العقار عمر الفقير الغالب وعدد عياله(25).
المطلب الثاني: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل المالك:
إذا أخر المالك إخراج الزكاة عن وقت وجوبها بقصد استثمارها، فهل يجوز ذلك أم لا ؟ الإجابة على هذا السؤال تنبني على مسالة : هل تجب الزكاة على الفور أم على التراخي؟
أولاً: الزكاة تجب على الفور أم على التراخي:
اختلف الفقهاء في فورية إخراج الزكاة بعد وجوبها، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية- في المختار عندهم- والمالكية في أصل المذهب والشافعية والحنابلة إلى أن الزكاة تجب على الفور (26)
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1- قوله _تعالى_: "وآتوا حقه يوم حصاده"(27) فالمراد الزكاة، والأمر المطلق يقتضي الفور (28).
2- قوله _صلى الله عليه وسلم_: "ما خالطت الصدقة مالا قط إلا أهلكته"(29) فالحديث يدل على الفورية، لأن التراخي عن الإخراج مما لا يبعد أن يكون سبباً لإتلاف المال وهلاكه(30)
3- ما روي عن عقبة بن الحارث قال :"صلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ العصر فأسرع ، ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج، فقلت أو قيل له: كنت خلفت في البيت تبرا من الصدقة، فكرهت أن أبيته فقسمته" (31). فالحدث يدل على فورية إخراج الصدقة قال ابن بطال: "الخير ينبغي أن يبادر به، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود" وزاده غيره: "وهو أخلص الذمة للحاجة، وأبعد من المطل المذموم، وأرضى للرب تعالى، وأمحى للذنب " (32).
4- ولأن حاجة الفقراء ناجزة، فيجب أن يكون الوجوب على الفور.(33) وقال الكمال بن الهمام الأمر بالصرف إلى الفقير معه قرينة الفور، وهي أنه لدفع حاجة وهي معجلة(34).
5- ولأن الزكاة عبادة تتكرر في كل عام، فلم يجز تأخيرها إلى وقت وجوب مثلها: كالصلاة والصوم (35). وذهب الحنفية في قول اختاره أبو بكر الجصاص وغيره إلى أن وجوب الزكاة عمري : أي تجب على التراخي، ومعنى التراخي- عندهم - أنها تجب مطلقاً عن الوقت، ففي أي وقت أدى يكون مؤدياً للواجب، وبتعيين ذلك الوقت للوجوب إذا لم يؤد إلى آخر عمره بحيث يتضيق عليه الوجوب، بأن بقى من الوقت قدر يمكنه الأداء فيه، وغلب على ظنه أنه لو لم يؤد فيه يموت فيموت، فعند ذلك يتضيق عليه الوجوب، حتى إنه لو لم يؤد فيه حتى مات، يأثم. واستدلوا لذلك بما يلي:
1- الأمر بأداء الزكاة مطلق، والأمر مطلق يقتضي التراخي، فلا يتعين الزمن الأول لأدائها دون غيره، كما لا يتعين لذلك مكان دون مكان.
2- وقد استدل الجصاص لذلك بمن عليه الزكاة إذا هلك نصابه بعد الحول والتمكن من الأداء، أنه لا يضمن، ولو كانت واجبة على الفور لضمن، كمن أخر صوم شهر رمضان عن وقته، أنه يجب عليه القضاء (36). وقد أجيب عن اقتضاء الأمر المطلق الفورية أو عدم اقتضائها:
بأن المختار في أصول الفقه أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التراخي ، بل يقتضي مجرد طلب الفعل المأمور به، والفورية تستفاد من القرائن. وأجيب عن قول الجصاص: عدم الضمان بهلاك النصاب بعد وقت الوجوب: بأن هذه المسألة خلافية، ومبنية على مسألة الأمر المطلق الفورية أو عدم اقتضائها فيضمن عند من يقول بالفورية، ولا يضمن عند من يقول بالتراخي (37) فلا يصلح هذا الدليل للاستدلال به. والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزكاة تجب على الفور، لأوامر الشرع التي قامت القرائن على وجوب المبادرة بها، وللأحاديث التي ذكرتها، ولقوله تعالى: "واستبقوا الخيرات (38) وقوله _تعالى_: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين" (39).
وبناء على القول الراجح فلا يجوز للمالك تأخير الزكاة لغير عذر: كدفعها إلى من هو أحق من ذي قرابة أو ذي حاجة، أو لحاجته إليها. أما استثمارها فلا يعد عذراً من أعذار التأخير، فلا يجوز له تأخيرها بقصد الاستثمار، لعدم تحقق الإخراج المأمور به على الفور.
ثانياً: هل يشارك الفقير المالك بعد وجوب الزكاة إذا استثمر الأموال الزكوية في الأرباح؟
إذا أخرج المالك الزكاة،و استثمر المال الذي خالطته الزكاة، فهل يشارك المستحقون المالك في الربح والخاسرة؟ إجابة هذه المسالة مبنية على مسألة تعلق الزكاة بالعين أو بالذمة. اختلف الفقهاء في تعليق الزكاة، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، والشافعي في الجديد وهو الصحيح في المذهب وأحمد في راية عليها المذهب إلى أن الزكاة تتعلق بالعين (المال) لا بالذمة(40)
واستدلوا لذلك فيما يلي:
قوله _صلى الله عليه وسلم_: "في أربعين شاة(41) وقوله _صلى الله عليه وسلم_: "فما سقت السماء العشر"(42) وغير ذلك من النصوص الوارد فيها حرف "في" وهي للظرفية. فالواجب جزء من النصاب.
وذهب الشافعية في القديم وأحمد في رواية اختارها الخرقي في مختصره إلى أن الزكاة تتعلق بالذمة لا بالعين، لأن إخراجها من غير النصاب جائز، فلم تكن واجبة فيه: كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت فيه لأمتنع تصرف المالك فيه، ولتمكن المستحقون من إلزامه أداء الزكاة من عينه، أو ظهر شيء من أحكام ثبوته فيها، وأسقطت الزكاة بتلف النصاب من غير تفريط: كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني (43). والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الزكاة تتعلق بالعين، لا بالذمة للنصوص الواردة في ذلك، ولقوله تعالى:
"خذ من أموالهم صدقة" (44). وقوله _تعالى_: "والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم" (45) وقول النبي _صلى الله عليه وسلم_ لمعاذ: "فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم"(46). وأما جواز إخراجها من غير النصاب، فيجاب عنه بأنه أجازها رخصة، وتوسيعها على المالك، لكونها وجبت مجاناً على سبيل المواساة.
فبناء على القول بأن الزكاة تتعلق بالذمة، فإن ملك المالك لا يزول عن شيء من المال، ويصح تصرفه فيه بالبيع والاستثمار وغير ذلك، والربح في حال الاستثمار له، والخسارة عليه. وبناء على القول بأن الزكاة تتعلق بالعين، فإن الفقهاء اختلفوا بمشاركة المستحقين للمالك في ماله، وهي مبنية على الاختلاف في التكييف الفقهي لتعلق الزكاة بالمال بعد وجوب الزكاة فيه: هل هو تعلق شركة، أو تعلق رهن، أو تعلق أرش جناية الرقيق برقبته؟
اختلف الفقهاء في ذلك على عدة أقوال :
القول الأول: ذهب المالكية والشافعية في قول والحنابلة في قول إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق شركة، فينتقل مقدار الزكاة إلى المستحقين بعد وجوبها، ويصيرون شركاء رب المال في قدر الزكاة، واستدلوا لذلك بظاهر قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" (47)… فإن اللام في الآية للتمليك، ولأن الواجب يتبع المال في الصفة من الجودة والرداءة، فتؤخذ الصحيحة من الصحاح، والمريضة من المراض، ولو امتنع المالك من إخراجها أخذها الأمام منه ، فهو كما يقسم المال المشترك إذا امتنع بعض الشركاء من قسمته ولهذا كان للفقير أن يأخذ مقدار الزكاة من المال إذا ظفر به (48).
القول الثاني: ذهب الحنفية والشافعية في قول والحنابلة في قول إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق أرش (49) جناية العبد المملوك برقبته، فلا يزول ملك رب المال عن شيء منه إلا بالدفع للمستحق، لأن الزكاة تسقط بتلف المال قبل التمكن أو من غير تفريط، كسقوط أرش الجناية بتلف الجاني… (50)
القول الثالث:ذهب الشافعية في قول ثالث والحنابلة في قول ثالث إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال تعلق الدين بالرهن، وبمال من حجر عليه لفلسه، فلا يصح تصرفه قبل وفائه أو إذن ربه… "(51). بناء على القول بأن الزكاة تتعلق بالعين تعلق شركة قال بعض العلماء: إن المستحقين يشاركون رب المال في الربح الحاصل من استثمار المال الذي خالطته الزكاة، فجاء في العروة الوثقى: "إذا اتجر بمجموع النصاب قبل أداء الزكاة كان الربح للفقير بالنسبة والخسارة عليه".(52). وجاء في كتاب الخمس: "فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها "للزكاة" الربح، وإن نويت في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك شيء، فإن لم تعزلها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح، ولا وضعية عليها" ويعتمد هذا القول على قاعدة "تبعية النماء للملك" (53). ولكن الشافعية الذين قالوا بتعلق الزكاة بالعين تعلق شركة لم يقولوا بذلك ولم يرتبوا عليه تلك النتيجة، ومقتضى قولهم: إن المستحقين لا يشاركون رب المال في الربح والخسارة، إذا استثمر المالك المال الذي خالطته الزكاة لأن التمليك في الزكاة للمستحقين ليس تمليكاً حقيقياً قبل قبضهم لها، فقد جاء في أحكام القرآن للألكيا الهراسي "وإنما لم يجعله تمليكاً حقيقياً من حيث جعله لوصف لا لعين، وكل عين لموصوف فإنه لا يملكه إلا بالتسليم، إلا أن ذلك لا يمنع استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات حتى لا يحرم صنف".(54). وبناء على القولين: الثاني والثالث للذين جعلا تعلق الزكاة بالعين تعلق استيثاق كما في الرهن وأرش جناية العبد، فلا يشارك المستحقون رب المال في ربح ما استثمره من أموال خالطتها الزكاة، وقد صرح بذلك الحنابلة حيث جاء في الأصناف: "والتصرف فيه ببيع غيره بلا إذن الساعي، وكل النماء له (أي للمالك).(55).
والذي أراه أن المستحقين لا يشاركون صاحب المال في الربح الذي يحصل له من استثمار أمواله بعد وجوب الزكاة وقبل الأداء، لأن قول الحنفية ومن معهم من أن الزكاة تتعلق بالعين تعلق أرش جناية العبد برقبته أرجح الأقوال في المسألة، فلا يزول ملك رب المال عن شيء من أمواله إلا بالدفع إلى المستحقين، وأما ما ذهب إليه الشافعية ومن معهم من أن اللام في آية توزيع الصدقات للتمليك، فيجاب عنه بأن هذا المبدأ ليس محل اتفاق كما بينت في بحث: مبدأ التمليك ومدى اعتباره في صرف الزكاة"(56)… والتمليك بالنسبة لمن قالوا به ليس على الحقيقة قبل قبض الزكاة- كما بينت سابقاً - فالفقير ليس بمالك للزكاة حقيقة، ولكن له صلاحية أن تصرف إليه، ويستحق هذا القدر على صاحب المالك، وعلى معنى أنه إذا أراد الأداء يجب عليه أن يصرفه إلى الفقير دفعاً لحاجته، ولا يقال لما وجب الصرف إليه لفقره كان المال حقه، فيكون هو مستحقاً له حقيقة، لأنا نقول ما يجب لفقره رزقاً له على الله تعالى، لأنه تعالى هو الضامن للرزق دون العبيد إلا أن الله أمر بصرف هذا الواجب إليه.(57).
وإذا عزل المالك الزكاة عن أمواله فلا يجوز له استثمارها، إلا إذا منع من توصيلها للمستحقين مانع فلا بأس باستثمارها لحين توزيعها بحيث يضمن الخسارة.
المطلب الثالث: حكم استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه:
إذا وصلت أموال الزكاة إلى يد الأمام أو نائبه فهل يجوز له استثمارها في مشاريع ذات ريع أم لا؟
أولاً: آراء العلماء المعاصرين في استثمار الأمام لأموال الزكاة:
اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار الأمام لأموال الزكاة على قولين:
القول الأول: يرى بعض العلماء عدم جواز استثمار أموال الزكاة من قبل الأمام أو من ينوب عنه، وممن ذهب إلى ذلك الدكتور وهبه الزحيلي، والدكتور عبد الله علوان، والدكتور محمد عطا السيد، والشيخ محمد تقي العثماني(58).
القول الثاني: يرى كثير من العلماء المعاصرين جواز استثمار أموال الزكاة في مشاريع استثمارية سواء فاضت الزكاة أولا. وممن ذهب إلى هذا القول الأستاذ مصطفى الزرقا والدكتور يوسف القرضاوي والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور عبد السلام العبادي، والدكتور محمد صالح الفرفور ، والدكتور حسن عبد الله الأمين، والدكتور محمد فاروق النبهان.
قال الأستاذ مصطفى الزرقا: "الاستثمار الذي هو تنمية المال.. أرى أن كل طرق الاستثمار بمعنى أن يوضع في طريق ينمو به مال الزكاة، فيصبح الواحد اثنين والاثنان ثلاثة…، على شرط أن تمارسها أيد أمينة، وأساليب وتحفظات مأمونة كل هذا جائز، سواء أكان عن طريق تجارة أم عن طريق الصناعة أم عن طريق أي شيء يمكن أن يستثمر. (59). وقال الدكتور يوسف القرضاوي: "بناء على هذا المذهب- أي مذهب إناء الفقير من الزكاة تستطيع مؤسسة الزكاة إذا كثرت مواردها واتسعت حصيلتها أن تنشأ مؤسسات تجارية أو نحو ذلك من المشروعات الإنتاجية الاستغلالية وتملكها للفقراء كلها أو بعضها، لتدر عليهم دخلا دورياً يقوم بكفايتهم كاملة، ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها لتظل شبه موقوفة عليهم .(60). وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: "يجوز استثمار هذه الأموال "أموال الزكاة" بما يعود على المجاهدين الأفغان بالخير بهذه الطريقة المشروعة "المرابحة" وأنتم وكلاء في القبض ، فيمكن أن تكونوا وكلاء في التصرف، وأنتم في مقام المودع إذا أذن له في التصرف".(61).
وقال الدكتور محمد فاروق النبهان: "اقترح أن تنشأ وزارة خاصة يطلق عليها اسم وزارة الزكاة وتكون مهمتها جباية الأموال من الأغنياء، وتوزيعها على مستحقيها من الفقراء.. إليهم دون غيرهم"(62). وقال الدكتور عبد العزيز الخياط عميد كلية الشريعة بالجامعة الأردنية سابقاً: أرى ضرورة توظيف واستثمار بعض أموال الزكوات في المشروعات الخيرية والصناعية والتجارية لصالح جهات الاستحقاق"(63).
وقال الدكتور محمد صالح الفرفور: "أرى جواز استثمار أموال الزكاة استحساناً خلافا للقياس للضرورة أو الحاجة بإشراف ولي الأمر أو من يفوضه كالقاضي (64). وقد أفتى بجواز استثمار أموال الزكاة كثير من العلماء ولجان الفتوى في العالم الإسلامي - كما هو مبين في ملاحق الفتاوى والقرارات-
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|