|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() جاء الإسلامُ الكريم بالتشريع الدُّنيوي والديني، فربَّى النفسَ على الخُلق والطَّهارة؛ لتتربَّى على الطاعة والعبادة، وقد تعلَّمنا منذ أنْ كُنَّا صغارًا أنَّ الصدق منجاةٌ والكذب مهلكة، وأن الحسد مُحرَّم شرعًا، ويأكل قلبَ صاحبه وحسناتِه، كما تفعل النار بالحطب، وتعلَّمنا أن الخيانة ضلال، والأمانة هي خلق المسلم. وكما يتبين من ظاهر التربويَّات أن معالجةَ السلوك السيِّئ يكون باستبداله بالمقابل الخيِّر، فما لعلاج الكذب إلاَّ الصدق، وما للحسد إلا الدعوة بالبركة لصاحب النِّعمة. لكن نُريد هنا أن نقدم رُؤية جديدة للطبع أو السلوك السيئ، رُؤية تتعامل مع الطبع ذاتِه كسلاح ذي حَدَّين يُمكن أن يُستخدَم، فيكون خيرًا، ويُمكن أن نستخدمه نفسه، فيكون شرًّا. فالكذب: هو قول خبرٍ مُخالف للحقيقة. وقد يُعَدُّ هذا الاستخدام للخبر في غير حقيقته خيرًا، وقد يكون شرًّا. وقد أوحى لنا بهذه الرُّؤية ما كان من ظاهرِ تعارُض بين الأحاديث الشَّريفة عن هذه الصفة، وحاشا للنبي الكريم - وهو المعصوم - أن يَحمل تشريعه وكلامه تعارضًا؛ لذا فإن ظاهر التعارض ذاك سيتحول مع بعض التدبُّر إلى إتمامٍ لجوانب التشريع؛ بحيث تغدو الأحاديثُ كلها وَحدة واحدة تُحيل إلى منظومة تربوية كاملة في مُعالجة الطباع البشرية. والمجموعة الأولى من الأحاديث: 1 - يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجلُ يصدق، ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَبَ عند الله صدِّيقًا، وإيَّاكم والكذب، فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفُجُور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب، حتى يكتَب عند الله كذَّابًا))؛ رواه مسلم والترمذي وغيرهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه. 2 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما كان من خُلُقٍ أبغضَ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة، فما يزال في نفسه حتى يعلم أنَّه قد أحدث فيها توبة"؛ رواه أحمد والبزار وابن حبان في صحيحه ورواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. 3 - وقد سئل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أيكونُ المؤمن جبانًا؟ قال: ((نعم))، فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: ((نعم))، فقيل له: أيكون المؤمن كذَّابًا؟ فقال: ((لا)). أما المجموعة الثانية، ففيها حديثان وأَثَران عن أئمة السلف من التابعين: 1 - يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس الكذَّابُ الذي يصلح بين الناس فيَنْمي خيرًا، أو يقول خيرًا)). ونرى فيه استثناء لما قد يستخدَم فيه الكذب في الإصلاح بين الناس، دون أنْ يقترفَ صاحبُه إِثْمًا، أو يدخل في الطبع السلبي، مع أنَّ ماهيةَ الخبر غير الحقيقي تظلُّ هي هي، وقد تتوافق بنيته مع موقفٍ آخر تعدُّ في الأول كذبًا، وفي الثاني إصلاحًا. 2 - قال ابن شهاب: "ولم أسمع يُرخَّص في شيء مما يقول الناس كذبٌ، إلاَّ في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها". ويظهر هنا من ذلك أنَّ استخدام الخبر المكذوب في غرضِ الحرب والخِداع، أو الإصلاح بين الناس، أو من باب زيادة الحُبِّ بين الزَّوجين - هو مما يُشجِّع الإسلام عليه، ولا يعارضه، ولا يضع صاحبه في حَرَجٍ ديني. بل إنَّ الإمامَ النووي في كتاب "الأذكار" يقول: "قال العلماء: فإِنْ دعَت إلى ذلك - أي: الكذب - مصلحةٌ شرعيَّة راجحة على خِداع المخاطب، أو دَعَت إليه حاجة لا مندوحة عنها إلاَّ بالكذب - فلا بأسَ بالتعريض، فإنْ لَم تدعُ إليه مصلحة ولا حاجة، فهو مكروه وليس بحرام، فإن تُوصِّل به إلى أخذ باطل أو دفع حق، فيصير حينئذ حرامًا، وهذا ضابط الباب". وهنا يُبيِّن الإمام النووي بابَ "إنَّ لكم في المعاريض لمندوحة عن الكذب"، والمعاريض تعني أنْ تعرِّض بخبر تقصد به معنى ما، ويَفهم منه المستمعُ شيئًا آخر، تقصد بذلك تضليله، كأنْ تُخبر أحدًا بأن فلانًا نائم، تقصد بالنوم هنا الموت، وهو يقصد به نوم الدُّنيا، وقد يشبه باب التورية في البلاغة بأنْ يكون هناك معنيان: أحدهما ظاهر قريب للمتلقي، والآخر بعيد، وأنت تلقي بالكلمة وتعلم أنَّ المتلقي لن يفهم من قولك إلاَّ المعنى القريب، وتقصد أنت المعنى البعيد. لكنَّ الإمامَ النوويَّ يضع ضابطًا لذلك، وهو أن يكون ذلك لغرضٍ ما، لا على عواهنه كلما أراد المرءُ أن يمزح أو أن يكون هذا ديدنه على طول حياته. وجاء في شمائل الترمذي سنن البيهقي أنَّ عجوزًا أتت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: "ادعُ الله أن يدخلني الجنة"، فقال لها: ((يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز))، فبَكَت المرأةُ حيث فَهِمَت ظاهرَ الكلام، فأفهمها أنَّ الله - تعالى - يُعيدها شابَّة نَضِرَة تليق بالجنة التي أعدَّها الله للمتقين والصالحين من عباده، ثم تلا عليها قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾ [الواقعة: 35 - 37]. وإذا كانت بنية الكذب تقوم على اختلاق خبر غير حقيقي، أو لا أساسَ لوجوده، فإنَّ التوريةَ أو المعاريض تحمل وجهًا آخر للصِّدق مع وجه الكذب الظاهري، وقد تبين هذا فيما فعله النبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاستخدم البنية نفسَها في الخبر مازحًا، حسب الوجه الصادق الذي أراده. ولنعلمْ بعد ذلك أنَّ النبي الكريم والشرع الحكيم أعلمُ بتفصيلات النفس البشرية، ولذلك حَرَص النبي على استثمار كل ما هو خير للمسلم، حتى وإن كان ظاهرُه سيئًا، وتلك هي الفطرة السليمة التي تتولَّى توجيه الطبع والسلوك لاستثماره في الخير والشرِّ معًا، دون الحاجة للمواجهة الصَّارمة بين الحدَّين والتخلي عنه بالكلية. مع التذكير بأنَّ الأقومَ هو اتِّباع السلوك الواضح، الذي لا يَقبل مُراوغة، ولا السير على شعرة دقيقة بين الحقِّ والباطل؛ لنكون أزكى نفسًا، وأَسْمى خلقًا، وأقرب لرب العزة - تعالى - فالواحد لا يَملك نفسه من الزلل عن سَهوٍ أو ضعف. ويُمكن أن يكون هذا طريقًا لنبذ الطبع السيِّئ، والبُعد عن الحرام في ظلِّ التزكية القويمة والمنهج الإسلامي الحكيم. عبدالرحمن الإمام
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |