الحسبة والمحتسبون - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح صحيح البخاري كاملا الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 650 - عددالزوار : 74740 )           »          الحج والعمرة فضلهما ومنافعهما (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 58 )           »          ٣٧ حديث صحيح في الصلاة علي النبي ﷺ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 46 )           »          قوق الآباء للأبناء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          حقوق الأخوّة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 41 )           »          دفن البذور عند الشيخ ابن باديس -رحمه الله- (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 55 )           »          الاغتراب عن القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          آخر ساعة من يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          هاجر… يقين في وادٍ غير ذي زرع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 56 )           »          الغش ... آفة تهدم العلم والتعليم والمجتمعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 69 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25-11-2019, 03:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (1)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل





احتساب الأنبياء عليهم السلام

الحمد لله العليم الخبير؛ أمر بالإصلاح وأثنى على المصلحين، ونهى عن الفساد وذم المفسدين، نحمده على نعمه وإحسانه، ونشكره على فضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛أرسل الرسل مبشرين بدينه سبحانه وبرحمته وثوابه، ومنذرين عن مخالفة أمره، والوقوع في نهيه، ومحذرين من شدة انتقامه، وأليم عقابه {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.


أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فاتقوه حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى؛ فتلك وصية الرسل عليهم السلام إليكم {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يـا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.

أيها الناس: لما خلق الله تعالى البشر قسمهم إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} ولا وجود لفريق آخر غير هذين الفريقين.

وفريق الجنة هم الأنبياء وأتباعهم المؤمنون، وفريق السعير هم الشيطان وأتباعه الكافرون، وفريق الجنة يسعى في الأرض بالصلاح والإصلاح، وفريق السعير يسعى فيها بالفساد والإفساد؛ ولذا كان أكثر الناس صلاحا وإصلاحا الرسل عليهم السلام؛ لأنهم أفنوا أعمارهم في السعي بالصلاح، ومقاومة الفساد, وقد قال الله تعالى عن الصالحين من آل إبراهيم عليه السلام {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} وقال شعيب وهو يحتسب على قومه {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}.
وهؤلاء الصالحون من البشر الذين يحتسبون على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وفضح المفسدين، وبيان فسادهم؛ قد أُمرنا بالنظر في سيرتهم، واتباع هديهم، واقتفاء أثرهم في الاحتساب على الناس، والسعي بالإصلاح، والأخذ على أيدي المفسدين والمفسدات؛ وذلك حين ذكرهم الله تعالى مبينا فضلهم وصلاحهم، وما اختصوا به من النبوة والرسالة ثم أعقب سبحانه ذلك بقوله عز وجل {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}.
ومن قرأ القرآن بتدبر، واستقرأ أحوال الأنبياء فيه؛ علم أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا للاحتساب على الناس، ومراقبة أحوالهم، وتقويم سلوكهم وأخلاقهم، والأخذ بأيديهم إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال، وردهم عما يضرهم في الدنيا والآخرة.
والموضوعات التي احتسب فيها الرسل عليهم السلام على أقوامهم شاملة لما يصلح الدين والدنيا، ابتداء بتوحيد الله تعالى ونبذ الشرك، وانتهاء بتقويم سلوك الناس، وتصحيح معاملاتهم وأخلاقهم.
لقد أمروهم بكل معروف فيه صلاح أحوالهم في الدارين، ونهوهم عن كل منكر يضرهم في الدنيا والآخرة.
لقد احتسب الرسل على أقوامهم في مسألة التوحيد، وهي أعظم مسألة وأجلها، وحذروهم من الشرك وعاقبته، وهو أخطر معصية وأكبرها، وما من رسول منهم إلا قال لقومه {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
وكان احتسابهم شاملا لكبراء القوم وملئهم، كما شمل عامة الناس وضعفتهم؛ لأنهم يريدون صلاح الناس كلهم، ومثال ذلك من سيرتهم: إنكار إبراهيم عليه السلام على النمرود بن كنعان، ومناظرته إياه في الربوبية والألوهية، وأنكر موسى عليه السلام على فرعون ظلمه وتعبيده الناس له من دون الله تعالى .
وتحمل هذان النبيان الكريمان عليهما السلام في سبيل إنكارهما على الطاغيتين ما تحملا من الأذى في سبيل الله تعالى مما قصه الله تعالى في كتابه العزيز.
وأنكر موسى عليه السلام على قوم فرعون تزويرهم للحقائق، وتزويق الباطل، والدجل على الناس، وإضلال العامة فقال لهم {أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون}، وفي الآية الأخرى {قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى} فكان موسى عليه السلام قدوة لمن يتصدون لعلماء السوء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه لإرضاء البشر من دون الله تعالى، كما كان قدوة صالحة لمن يفضحون الكتاب والمفكرين والإعلاميين الذين يفترون الكذب، وينشرون الضلال، ويبثون الشبهات، ويدعون إلى الشهوات!! وكم يفترى في هذا العصر على الإسلام، وتؤول نصوصه لا لشيء إلا لموافقة مناهج المنحرفين المستكبرين!! وكم يفترى على المصلحين المحتسبين من أكاذيب كما افتري على الأنبياء من قبل؟!
وكما احتسب الرسل على كبراء الناس ورؤوسهم فإنهم قد احتسبوا على أهل بيوتهم وقرابتهم، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، وما كانوا عليهم السلام ليحتسبوا على الناس ويتركوا المقربين منهم!!
هذا نوح عليه السلام يخاطب ابنه وقد بدت بوادر العذاب لينقذه من الكفر إلى الإيمان فيقول له {يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين}.
واحتسب إبراهيم عليه السلام على أبيه فخصه بالخطاب، وأكثر القول عليه، حتى غضب أبوه منه وهمَّ برجمه، وأمر بهجره {واذكر في الكتـاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطـان إن الشيطـان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطـان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا}.
واحتسب إسماعيل عليه السلام على أهل بيته كما ذكر الله تعالى عنه ذلك بقوله {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة}.
واحتسب الرسل كذلك على عامة الناس، وأنكروا عليهم ما ساد فيهم من الشرك والمعاصي؛ فنوح عليه السلام أنكر على قومه شركهم، وإبراهيم عليه السلام أنكر على قومه اعتقادهم في النجوم وفي أصنامهم، وناظرهم في ذلك، فأبطل حجتهم، وبين ضلالهم وضلال آبائهم، وأتبع الإنكار بالقول الإنكار بالفعل، فكسر أصنامهم، وسفه أحلامهم، وهدم مذاهبهم {فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون} ولما جادلوه في ذلك أغلظ في الإنكار عليهم وقال لهم {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}.
وهود عليه السلام احتسب على قومه، فأنكر عليهم الشرك، كما أنكر عليهم اغترارهم بقوتهم، ومفاخرتهم بعمرانهم، وتباهيهم بأموالهم، وهم القائلون {من أشد منا قوة} فبين لهم عليه السلام أن الله تعالى أقوى منهم، وحذرهم من مغبة عبثهم، وقال منكرا عليهم{أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون}.
واحتسب صالح عليه السلام على قومه فأنكر عليهم شركهم، وسرفهم في العمران على سبيل الأشر والبطر والرفاهية والمفاخرة، فقال عليه السلام لهم {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعون}.كما أنكر عليهم طاعة أهل الفساد والانحراف، فقال لهم {ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}.
وأما قوم لوط عليه السلام فانتشرت فيهم الفواحش، وأعلنوا بها في الناس، وأظهروها في مجالسهم ونواديهم، مع شركهم بالله تعالى؛ فاحتسب لوط عليهم، وأنكر شركهم، وما يأتونه من الفواحش {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفـاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون} وكانوا يقطعون الطريق على الناس لنهبهم، ولفعل الفاحشة بهم، فأنكر لوط عليهم ذلك بقوله عليه السلام {إنكم لتأتون الفـاحشة ما سبقكم بها من أحد من العـالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر}.
وأما شعيب عليه السلام فمع إنكاره لشرك قومه أنكر عليهم كذلك غشهم في البيع والشراء، وبخس الناس حقوقهم، فقال عليه السلام لهم {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم} كما أنكر عليهم قطع الطريق لأخذ أموال المسافرين بالقوة فقال عليه السلام لهم {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} وفي الآية الأخرى {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون}.
وكما احتسبت الرسل عليهم السلام على أقوامهم فنهوهم عن هذه الموبقات؛ فإنهم احتسبوا عليهم في المعروف فأمروهم بكل ما يرضي الله تعالى، ويوصل إلى جنته..
أمروهم بشكر الله تعالى على نعمه، والإقرار بفضله، وإخلاص الدين له، فهذا هود وصالح عليهما السلام يقولان لأقوامهما {اذكروا آلاء الله}.
وموسى عليه السلام فعل ذلك أيضا {وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون}.
وأمروا أقوامهم بالتوبة والاستغفار؛ فهود وصالح عليهما السلام قالا لأقوامهما {استغفروه ثم توبوا إليه} وقال شعيب عليه السلام لقومه {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه}.
ومن احتساب الرسل على أقوامهم أنهم نهوهم عن متابعة المفسدين في فسادهم {وقال موسى لأخيه هـارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}.
وما أشد غضب الرسل عليهم السلام حين تنتهك حرمات الله تعالى..يغضبون غيرة على دين الله تعالى ولا يغضبون لأنفسهم أو دنياهم، فكم عذبوا وأوذوا فلم يغضبوا، فإذا رأوا المنكر في أقوامهم ظهرت غيرتهم على حرمات الله تعالى، واشتد غضبهم له سبحانه.
ولما أوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه إلا القليل الذي آمن معه دعا عليهم بالهلاك غيرة لله تعالى، وانتصارا لدينه {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكـافرين ديارا}.ولم يكن دعاؤه عليهم بالهلاك انتصارا لنفسه، أو انتقاما منهم لما لم يستجيبوا له، بدليل أنه علل دعاءه عليهم بقوله عليه السلام {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا}.
ولما عاد موسى عليه السلام من ميقات ربه، وتكليمه إياه وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل، فاحتملته الغيرة على التوحيد حتى رمى بالألواح وفيها كلام الله تعالى؛ غضبا لله تعالى أن يخلفه هذا المنكر العظيم في قومه {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} هكذا غضب كليم الرحمن لما رأى المنكر في قومه، وكم من منكرات في بلاد المسلمين لا تحرك قلوب أكثر الناس!! فالله المستعان.
والرسل عليهم السلام قضوا أعمارهم كلها في وظيفة الاحتساب والإصلاح، ومقاومة الفساد والإفساد، حتى مكث نوح عليه السلام محتسبا على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما. وليعلم من احتسب على الناس مرة أو مرتين، أو سنة أو سنتين ثم كف عن ذلك أن الرسل عليهم السلام ما توقفوا عن الاحتساب على الناس حتى فارقوا الدنيا.
ولقي الرسل عليهم السلام في سبيل احتسابهم أنواع الصدود والأذى؛ فنوح عليه السلام سخر منه قومه، ونبذوا أتباعه، وإبراهيم عليه السلام أُلقي في النار، ورمي هود عليه السلام بالجنون، واتهم موسى عليه السلام بالسحر، وطارده فرعون وجنده، وكاد شعيب عليه السلام أن يرجم لولا منعة قومه، وقتل زكريا ويحيا عليهما السلام، وطورد الرسل وأتباعهم بسبب احتسابهم على أقوامهم، فتلك سنة الله تعالى في المحتسبين أن ينالهم من الأذى على أيدي المفسدين والمستكبرين ما ينالهم.
ومن عادة المستكبرين والمفسدين محاولة إغراء المحتسبين بدنيا يبذلونها لهم مقابل إيقاف احتسابهم عليهم، وإخراس أصواتهم، وشراء أقلامهم، وما كان الرسل عليهم السلام ليقبلوا المساومة في دينهم، ولا تركوا الاحتساب لكمال دنياهم بنقص دينهم، وكان سليمان بن داود عليهما السلام قدوة للمحتسبين في ذلك؛ إذ رفض مصانعة ملكة سبأ له بالهدية مقابل الكف عن الاحتساب عليها وقومها {فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتـاني الله خير مما آتـاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صـاغرون}.
جعلنا الله تعالى من أتباع الرسل عليهم السلام، ووفقنا للصلاح والإصلاح،ورزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله تعالى لي ولكم....


الخطبة الثانية



الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
أيها المسلمون: أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء؛ لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.
ومن نظر في سير الأنبياء عليهم السلام ظهرت له تلك الحقيقة؛ إذ إن الأنبياء عليهم السلام وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس إلا.
قال نوح عليه السلام وهو يدعو قومه {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} وقال هود عليه السلام {وأنا لكم ناصح أمين} وقال صالح شعيب عليهما السلام {ونصحت لكم}.
وأغش الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويودون نشر الفاحشة؛ لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء، وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.
والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسبة تدخل فيما لا يعني، سبحان الله!! ما أضعف عقولهم، وما أشد ضلالهم وانحرافهم؛ إذ كيف تكون الحسبة تدخلا فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!
والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهوات؛ لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن أنواع الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.
وتلك الحجة السامجة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل عليهم السلام يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو نفعل في أموالنا ما نشاء} أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟ والمفسدون في هذا العصر يكررون تلك المقولة بصورة أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشاءون دون قيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!!
إنها نفس الحجة التي احتج بها الأقدمون فكانت سببا في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.
إن من نظر في سير الأنبياء عليهم السلام، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاص متنوعة، وإن كان الشرك موجودا في كل الأمم التي عذبت؛ ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك.وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضارة المعاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنكرات المجتمعة؛ رفعا للعذاب، وإصلاحا للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذا بجميعها؟!
ونجد أن كل مجال من مجالات المنكرات قد انتشر في أمة من الأمم السالفة دون الأخرى، فتصدى له نبي من أنبياء الله تعالى منكرا له، ومحتسبا على قومه فيه:
فَمَثَّلَ احتسابُ إبراهيم وموسى عليهما السلام على الطاغيتين المستكبرين مقاومة الفساد السياسي، ومكافحة الظلم والطغيان، والوقوف في وجوه الطغاة المتجبرين، سواء كانوا أفرادا أم دولا.
ومَثَّلَ احتسابُ هود وصالح عليهما السلام مقاومة الفساد العمراني والحضاري، والنهي عن الرفاهية والسرف في البنيان، والتباهي بالقوة، والبطش بالناس.
ومَثَّلَ احتساب لوط عليه السلام مقاومة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، والمحافظة على طهر الناس وعفافهم.
ومَثَّلَ احتساب شعيب عليه السلام مقاومة الفساد الاقتصادي، ومكافحة الغش في المعاملات، والسرقة بأي سبيل كان.
كما مَثَّلَ احتساب لوط وشعيب عليهما السلام مقاومة الفساد الأمني الذي هو سبب للخوف والجوع.
فمن قاوم في هذا العصر مجالات المفسدين كلها، فأنكر على الكفار كفرهم ودعاهم للإسلام، وأنكر على العاصين معصيتهم وأمرهم بالطاعة، وأنكر على الظلمة ظلمهم وأمرهم بالعدل، وأنكر على المسرفين إسرافهم، وعلى أهل الفساد المالي فسادهم، وعلى أصحاب الفواحش والمروجين لها فحشهم وفجورهم. وما من فساد إلا وله فيه إنكار بقول أو فعل فقد اقتدى بالأنبياء كلهم، وسار سيرتهم، وامتثل قول الله تعالى {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} وكفى بذلك شرفا وفضلا.
ومن اختار مجالا من مجالات الفساد، واحتسب على الناس فيه، ووقف في وجه المفسدين، وتحمل السخرية والأذى في سبيل ذلك، فقد اقتدى برسول من رسل الله تعالى، وشارك في حفظ المجتمع من الانحراف والعذاب.
ومن لم يكن هذا ولا ذاك، وليس له في مقاومة الفساد والمفسدين أي نصيب، فقد حرم خيرا كثيرا، وسيسأل يوم القيامة عن تقصيره وخذلانه.
وأقبح منه من سلَّ قلمه، وأطال لسانه بالكذب والتجني، والافتراء والتشفي في أهل الاحتساب، واختلق القصص عليهم، أو سمعها ثم روجها في المجالس وهو لا يعلم صدقها، ولربما زاد عليها من نفسه للإثارة وشدِّ الناس إليه، وكم من فرية سوِّدت بها الصحف، وضجت بها القنوات والإذاعات، على أهل الخير والاحتساب، وعند التتبع والتحقيق بان أنها محض افتراء واختلاق، أراد منه المفسدون تأليب العامة على أهل الصلاح والإصلاح!!
ومن روج الشائعات على أهل الاحتساب فليعلم أنه مشارك في نشر الفساد وإعانة المفسدين، وأنه قد سار من حيث يشعر أو لا يشعر سيرة المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وانحاز وهو يعلم أو لا يعلم إلى صف المنافقين والشهوانيين، ويخشى على دينه ولو كان في عداد المصلين.
فاعرفوا رحمكم الله تعالى مقام الحسبة من الدين، واعلموا أنها وظيفة المرسلين، فقوموا بها، وأعينوا أهلها، وخذوا على أيدي المفسدين، طاعة لله تعالى، وحفظا لمجتمعاتكم من البلاء والعقوبة. وصلوا وسلموا.....


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25-11-2019, 03:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (2)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




الحسبة فيصل بين الحق والباطل



الحمد لله العليم الحكيم؛ ابتلى عباده فجعل للحق منهم أنصارا، وجعل للباطل منهم أعوانا، وكتب الصراع بينهم فتنة لهم واختبارا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20] نحمده سبحانه على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كتب العز لمن نصر دينه، وقضى بالذل على من حارب شريعته {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ ختم الله تعالى به الرسالات، فلا دين إلا دينه إلى آخر الزمان، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.


أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإنها الأنيس في الغربة، والنجاة من الكربة، والجليس في القبر حين الوحشة {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطَّلاق:3].


أيها الناس: من حكمة الله تعالى في البشر تكليفهم بالشرائع، ومن رحمته تعالى بهم هدايتهم لها، ودلالتهم عليها بما أرسل لهم من الرسل، وما أنزل عليهم من الكتب، فأقام بها حجته عليهم، وقطع أعذارهم {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].

والرسل عليهم السلام جاءوا أقوامهم بما لم يعهدوا، ونهوهم عما تعودوا؛ ولذا أنكر المشركون ما جاءتهم به رسلهم، وقال قائلهم {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف:70] وأخبر الله تعالى عنهم أنهم قدَّموا ما توارثوه عن آبائهم على ما جاءتهم به رسلهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} [المائدة:104].
إن الظاهر من أحوال المشركين في كل الأمم السالفة أنهم ما رفضوا تنسك الأنبياء وتعبدهم، ولا أنكروا عليهم عدم مشاركتهم في شركهم، ولا ألزموهم بعبادة أصنامهم، وإنما أنكروا عليهم أمرهم بالمعروف الذي رأسه توحيد الله تعالى، ونهيهم عن المنكر الذي غايته شركهم بالله تعالى؛ مما يدل على أن ما يسمى في العصر الحاضر بالحرية الدينية كان موجودا عند المشركين، وهذا ما لا يفهمه كثير من الناس فيستغربونه وقد ينكرونه.

إن الرسل عليهم السلام ما نزلوا من السماء، ولا جاءوا إلى الأرض من غيرها، ولا نزحوا إلى قبائلهم من خارجها، بل هم من صليبة أقوامهم: ولدوا فيهم، وعاشوا بينهم، حتى أرسلهم الله تعالى إليهم، وقبل بعثهم أنبياء كانوا يرون أقوامهم على الشرك، وما كانت الرسل لتشرك بالله تعالى شيئا فقد عصمهم الله تعالى من الشرك قبل بعثتهم وبعدها، ولو قُدِّر وقوعُ الشرك منهم لاحتج به المشركون عليهم لما دعتهم رسلهم إلى التوحيد، ولقالوا لهم: أتنهوننا أن نعبد ما كنتم تعبدون معنا؟ ولما احتاج المشركون إلى إحالتهم على ما كان يعبد الآباء.

إن المشركين ما كان يجبرون الرسل قبل مبعثهم على عبادة أصنامهم وإلا لوجدت العداوة بين المشركين وبين الرسل قبل أن يبعثوا، ولنقل ذلك. بل ما حكاه القرآن يدل على أن الرسل كانوا على وفاق مع أقوامهم قبل أن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ومن أدلة ذلك قول قوم صالح عليه السلام {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62].
فهذه تزكية منهم لصالح عليه السلام، وثناء عليه إلى أن أمرهم ونهاهم، فرفضوه، وتنكروا له، وانقلبوا عليه.

ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام تحكي سيرته الخالدة أنه اجتنب المشركين وما يعبدون، وكان يتعبد لله تعالى في غار حراء، وما نُقل أن المشركين أنكروا ذلك عليه ، أو ضايقوه في عبادته، أو ألزموه بشركهم. بل كان عليه الصلاة والسلام محل إعجابهم وثنائهم، وموضع تقديرهم وثقتهم؛ حتى إنهم كانوا يستودعونه أماناتهم، ويُحكِّمونه بينهم، ولقبوه بالأمين.

وكان في مكة قبل المبعث بعض الحنفاء الذين بقوا على دين إبراهيم عليه السلام، ومنهم من تنصر وقرأ الإنجيل بالعبرانية كورقة بن نوفل، وما عُرف أن أهل الشرك من كبار قريش كانوا يؤذونهم، أو يجبرونهم على الشرك، أو يحولون بينهم وبين عبادتهم.

كل هذا يدل على أن المشركين كانوا يتحلَّون بما يسمى في هذا العصر بالحرية الدينية، وما نقموا على من يوحد الله تعالى أن يوحده إذا لم يأمرهم أو ينههم، كما يدل على أن الذي نقمه المشركون من رسلهم، وعارضوهم فيه، وآذوهم من أجله هو ما يسمى في هذا العصر بالتدخل في الخصوصيات، وهي التي أمر الشارع الحكيم رسله عليهم السلام أن يتدخلوا فيها بالأمر والنهي، فيأمروهم بكل معروف، وينهوهم عن كل منكر، وقد أنكر المشركون هذا الأمر والنهي بشدة، وحاربوا رسلهم من أجله، قال قوم شعيب عليه السلام له {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87].

فهم ما نقموا عليه إلا تدخله في خصوصياتهم، وتقييده لحرياتهم في عباداتهم وأموالهم، وهذا ما يرى المشركون أنه عين الإفساد لأقوامهم، كما قال فرعون أخزاه الله تعالى {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} [غافر:26].
إن الاحتساب على الناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هو دين الله تعالى الذي جاءت به الرسل، وهو سبب العداوة بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أن وجد على الأرض حق وباطل، وأهل الحسبة من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر في كل زمان ومكان هم أتباع الرسل ، والمعارضون للحسبة والأمر والنهي الشرعيين هم إما من أتباع المشركين، أعداء المرسلين، أو فيهم شبه منهم.

ومن نظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، واطلع على أوامره ونواهيه علم أنه إنما جاء بالاحتساب على الناس، وغرض احتسابه عليهم إصلاح أحوال معاشهم ومعادهم؛ وذلك بإصلاح عقائدهم وتطهيرها من أدران الشرك إلى التوحيد، وإصلاح عباداتهم بتنقيتها من أوضار البدع والخرافات، وإصلاح معاملاتهم وأخلاقهم بتخليصها من كل ما يوجب الظلم والفساد. وذلك لا يكون إلا بأمر ونهي وتدخل فيما يسمى بالخصوصيات، وذلك هو مقتضى كلمة التوحيد، ولازم شهادة الحق بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولا يكون الله تعالى معبودا للناس لا شريك له حتى يخضعوا لأمره ونهيه، ولا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام متبوعا إلا بطاعته في أمره ونهيه.


ورسولنا عليه الصلاة والسلام لم يجعل الاحتساب على الناس من انتهاك الخصوصيات، أو من التدخل فيما لا يعني، بل جعله من الدين ومن التدخل فيما يعني، وأخبرنا بما أُنزل عليه من الكتاب أن الاحتساب على الناس، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، هو من الخير الذي فضلت به هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران:110].

وأمرنا عليه الصلاة والسلام بذلك فقال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وعن قيس بن أبي حازم رحمه الله تعالى قال: قرأ أبو بكر الصديق هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] قال: إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه - أو قال: المنكر فلم يغيروه - عمهم الله بعقابه) رواه أحمد وصححه ابن حبان.
وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل يكون في قوم يُعمل فيهم بالمعاصي يَقْدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا) رواه أبو داود.

فهل نطيع في هذا الأمر العظيم ربنا جل جلاله، ونطيع رسولنا الذي أُمرنا باتباعه عليه الصلاة والسلام، أو نطيع سفلة من الإعلاميين والصحفيين تاريخهم حافل بترويج التخلف والانحلال والضياع، ومحاربة ما جاءت به الرسل عليهم السلام من الهدى والنور والرشاد؟! نسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرهم، وأن يشغلهم في أنفسهم، إنه سميع مجيب.

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين؛ وفق من شاء من عباده لفعل الخيرات وترك المنكرات، فكان سعيهم مشكورا، وعملهم مأجورا، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأخلصوا له دينكم، واستسلموا لأمره، واجتنبوا نهيه، واحذروا عقابه {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الأنفال:25].


أيها المسلمون: لا يستغرب على دعاة الفساد والإفساد والانحلال، وخفافيش التخلف والظلام والضياع في هذا العصر من المنافقين والشهوانيين؛ حملتهم المسعورة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة إبطاله في الأمة، وتقرير مذهب أئمة الشرك المتقدمين والمتأخرين في الحرية الدينية، ومطالبتهم بعدم التدخل فيما يسمونه الخصوصيات، مع سعييهم الجاد في نشر المنكرات بكل وسيلة، والأمر بها، والدعوة إليها، والنهي عن المعروف الذي جاءت به الرسل عليهم السلام من عند الله تعالى، وما هم إلا المذكورون في قول الله تعالى {المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [التوبة:67].


إن الواحد من المؤمنين لو أمر بمعروف أو نهى عن منكر لزلقوه بأبصارهم، وسلقوه بألسنتهم، ورموه بالتدخل فيما لا يعنيه، واحتجوا عليه بأن لهذه المهمة جهة مسئولة وهو ينتهك تخصصها، ويتدخل في عملها.


ثم إذا هم لم يحترموا هذه الجهة المسئولة، ولا يتركونها تقوم بعملها، بل يحاربونها سرا وعلانية، وينفرون الناس منها، ويفترون الكذب عليها، ويضخمون أخطاءها، ويظهرون معايبها، ويخفون محاسنها، وفي النهاية يطالبون بإلغائها، فبذلك علم ماذا يريدون؟ وإلى أي مدى سينتهون؟


إنهم يسعون جادين لإبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما حاول إبطاله أعداء الرسل من قبلهم، ومطلوبهم الأكبر من هذه الحملة الصليبية الليبرالية رأس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى امتدت رأفتهم وشفقتهم إلى قتلة الشباب من مروجي المخدرات، ولم يرحموا ضحايا هؤلاء المجرمين، فمن هو المفسد؟ ومن هو المصلح؟


إنها حملة إعلامية فاجرة تركز على بعض الأخطاء التي هي محل البحث والنظر لدى جهات التحقيق، وتتعامى عن سيل من المنجزات والإبداعات، في كشف شبكات ترويج الخمور والمخدرات والتزوير والدعارة وغيرها.


ويا ليت هذا التركيز على الأخطاء القليلة المحتملة كان بدافع الإصلاح، ورفع الضرر، وإحقاق الحق، ومحاسبة المخطئين والمقصرين، لو كان الأمر كذلك لكانوا محل الشكر والثناء والتأييد والمعونة ، ولكنهم قوم لا خلاق لهم قد تسلقوا على هذه الأخطاء المحتملة، التي يقع ما هو أكثر وأكبر منها في جهات أخرى؛ لتحقيق مآرب خسيسة، من نفوس خبيثة، تريد وأد الفضيلة، ونشر الرذيلة، وإغراق الناس في لجج من الفساد والانحلال والضياع!!


والعجب كل العجب من صفاقتهم ووقاحتهم حين جعلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجالا لتصويت الناس عليه، وأخذ رأيهم فيه، وهو شعيرة كبرى من شعائر الله تعالى، ورأس في دينه عز وجل!! يصوتون عليه في قنوات لو صُوِّت عليها في بلاد المسلمين لأغلقت في لحظتها؛ لأنها لا تمثلهم وإنما تمثل أعداءهم، وتروج لكل دين ونحلة خلا الإسلام، وتدافع عن جرائم الأعداء أكثر من دفاعها عن حقوق من تنطق بلسانهم، وتتسمى باسمهم.


يا له من فساد في العقول، وخلل في التفكير، وانحراف في الفطر من قوم ما عُرف عنهم إلا أنهم الآمرون بالمنكر، الناهون عن المعروف، وما لسانهم إلا لسان قوم لوط حين قالوا {أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].


العهر عندهم فضيلة، والآمرون به مطاعون ومقدسون، والطهر في مذهبهم رذيله، والآمرون بالطهر المحافظون عليه غير مرغوب فيهم؛ ولذا يريدون إغلاق مؤسستهم، كما نادى قوم لوط بإخراجه عليه السلام من قريتهم.


إن حقدهم على الفضيلة، وضغينتهم على الآمرين بها قد بلغ بهم حدا أغلق عقولهم وأسماعهم وأبصارهم، فجعلهم ينطقون بما لا يعقلون، ويهرفون بما لا يعرفون، وإلا هل ينادي عاقل بإغلاق جهاز الحسبة لأن أخطاء محتملة وقعت من بعض أفراده، لولا أن مطلوبهم الأكبرَ شعيرةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!!


ماذا لو أن بعض الأطباء أخطأوا فقتلوا بعض المرضى فكتب بعض الناس أن تُغلق المستشفيات، وتُلغى كليات الطب ووزارة الصحة؟ أليس حق المطالب بذلك أن يُحجر عليه ويعالج في مستشفيات الصحة النفسية، لا أن يُصَدَّر في وسائل الإعلام المختلفة؟! وقل مثل ذلك في كل الدوائر والمؤسسات والوزارات، تُلغى لأجل ما فيها من الأخطاء والتجاوزات، أيقول عقلاءٌ من البشر بذلك، فالحمد لله على نعمة العقل.


إنها -يا عباد الله- مواجهة بين أتباع الرسل الذين ينادون بالطهر والعفاف، ويحافظون على نقاء المجتمع وتماسكه وبين أعداء الرسل الذين يروجون للخنا والمواخير، ويحاولون جر الناس إلى الرذائل والموبقات، وليختر كل مسلم مع أي الفريقين يكون، وإلى أي الطائفتين ينحاز، أإلى أتباع الرسل، وأنصار الفضيلة أم إلى أتباع المشركين، وأنصار الرذيلة؟!

حمى الله بلادنا وبلاد المسلمين من شر الفاسدين المفسدين، وردهم على أعقابهم خاسرين، إنه سميع مجيب.


اللهم صل على محمد وعلى آل محمد....





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 25-11-2019, 03:48 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (3)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل







الحمد لله العليم الحكيم؛ شرع لعباده من الدين أحسنه، وهداهم إلى أقومه؛ ï´؟ صِبْغة اللَّهِ ومنْ أحْسنُ مِن اللَّهِ صِبْغةً ونحْنُ لهُ عابِدُون ï´¾ [البقرة: 138]، نحمده على وافر عطائه، ونشكره على جزيل إحسانه؛ فالخير بيديه، والشر ليس إليه، تبارك في مجده وعَليائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تمت نعمته على عباده فهداهم، وعظم حلمه على العاصين منهم فأمهلهم، ولو شاء لعذبهم؛ ï´؟ ولوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاس بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دابَّةٍ ولكِنْ يُؤخِّرُهُمْ إِلى أجلٍ مُسمًّى فإِذا جَاءَ أجلُهُمْ فإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبادِهِ بصِيرًا ï´¾ [فاطر: 45]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ هدى الله - تعالى - به البشريَّة، فأخرجهم من جهلهم، وأنار به قلوبهم، وعلَّمهم ما ينفعهم، وحذَّرهم مما يضرهم؛ ï´؟ رسُولًا يتْلُو عليْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِين آمنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ï´¾ [الطلاق: 11]، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.









أما بعد:


فأوصي نفسي وإيَّاكم بتقوى الله - تعالى - وطاعته؛ فإن الله - تعالى - غني عنكم، وأنتم فقراء إليه، أسراء بين يديه، تأكلون أرزاقكم، وتنتظرون آجالكم، ولا حول لكم ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم؛ ï´؟ يا أيُّها النّاسُ أنْتُمُ الْفُقراءُ إِلى اللَّهِ واللَّهُ هُو الْغنِيُّ الْحمِيدُ * إِنْ يشأْ يُذْهِبْكُمْ ويأْتِ بِخلْقٍ جدِيدٍ * وما ذلِك على اللَّهِ بِعزِيزٍ ï´¾ [فاطر: 15 - 17].





أيها الناس:


لا تصلح أحوال الناس، ولا تستقيم أمورهم، ولا يُقوَّم اعوجاجُهم، إلا في التناصح بينهم، وتعاونهم على البر والتقوى، وتناهيهم عن الإثم والعدوان، بحيث يحب الواحد منهم لأخيه ما يحب لنفسه، فينبِّهه على خَطئه، ويردعه عن غيِّه، ويقيم حجة الله - تعالى - عليه بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.





ولسان الإنسان عضو فاعل فيه، يتعدَّى خيره وشره صاحبه إلى غيره؛ لما جعل الله - تعالى - في القول من تأثير على بني آدم، وكم من كلمةٍ نقلت صاحبها من الحضيض إلى العلياء! وكم من كلمة أردت صاحبها إلى أسفل سافلين! والدخول في حظيرة الإيمان يكون بكلمة ينطقها اللسان، مع انعقاد القلب عليها، وأعمال العبد تُصدِّقُ ذلك أو تكذِّبه؛ مما يدل على أن خطر اللسان عظيم، ومهمته كبيرة، ولا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه إلا باستقامة لسانه.





ومن أعظم وظائف اللسان وعباداته تسخيره في الصدع بالحقِّ، ودحض الباطل، ونشر العلم، ورفع الجهل، والاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.





إن الاحتساب على الناس باللسان من أعظم العبادات التي تقرِّب إلى الله – تعالى - لأن فيه إشاعةً للمعروف بين الناس، وقمعًا للمنكر، وإظهارًا للدين، وإعزازًا لأهله، ومراغمة لأعدائه من الكُفَّار والمنافقين الذين ï´؟ يُرِيدُون أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْوَاهِهِمْ ï´¾ [التوبة: 32].





وأمضى سلاح يهتك سترهم، ويشتت أمرهم، ويقضي على خططهم: الاحتساب عليهم باللسان ببيان حقيقتهم للناس، ورد شُبهاتهم في الدين، وكم من لسانٍ صادقٍ ناصح درأ الله - تعالى - به عن الناس فتنةً عمياء، وأزال به شرًّا مستطيرًا، فأظهر الحق ناصعًا، ودحض الباطل وأهله!





إن إعمال اللسان في الاحتساب على الناس ببيان الحق لهم، ودعوتهم إليه، وتحذيرهم من الباطل وأهله - كان وظيفة عامة الأنبياء - عليهم السلام - فنوح - عليه السلام - مكث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا يحتسب عليهم بلسانه، وهكذا هود، وصالح، ولوط، وشعيب - عليهم السلام - إنما كان احتسابهم على أقوامهم بألسنتهم، فقالوا الحقَّ لهم، ودعوهم إليه، ونهوهم عن الشرك والعِصْيان، وحذَّروهم من عاقبة ذلك.





والخليل - عليه السلام - كان احتسابه على قومه بلسانه أكثر من احتسابه بيده؛ فقبل أن يكسر أصنامهم دحض حُججهم، واقرؤوا إن شئتم مناظرته في سورة البقرة للملك النمرود، ومجادلته لعُبَّاد الكواكب في الأنعام، ومناقشته لوالده في مريم، ونصيحته لقومه في الأنبياء.





وأما كليم الله - تعالى - موسى - عليه السلام - فلا يكاد قارئ القرآن يمرُّ بقصته مع فرعون إلا ويرى صدعه بالحقِّ أمامه، ومجادلته إياه في باطله، ومقارعته بالحُجة والبرهان، ويكفي دليلاً على احتساب موسى بلسانه أنه طلب من الله - تعالى - أن يعافيه من احتباس كلامه لا لشيء إلا ليحتسب به على فرعون ومَلَئِه؛ ï´؟ واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ï´¾ [طه: 27 - 28].





ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يحتسب فيها على قريش وكفرها إلا بلسانه فقط، ولما هاجر للمدينة كان احتسابه بلسانه على المشركين في شِرْكهم، وعلى اليهود في يهوديتهم، وعلى المنافقين في نفاقهم، وعلى المؤمنين في أخطائهم - أكثر بأضعاف مضاعفة من احتسابه عليهم بيده.





مما يدل على عظيم أمر الاحتساب باللسان، وأنه أساس وظيفة الأنبياء - عليهم السلام - وأنه سبب صلاح البشريَّة وهنائها في الدنيا والآخرة، وأن شعيرة الاحتساب باللسان أشد شيءٍ على أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين؛ ولذلك يريدون إخراس ألسنة المحتسبين، وتكميم أفواه الناطقين بالحقِّ؛ ليُشيعوا كفرهم ونفاقهم وفسوقهم في الناس.





إن الله - تعالى - قد حكم بالخسران على الناس، ولم يستثن منهم إلا من تواصوا بالحقِّ، وتواصوا بالصبر، بعد إيمانهم وعملهم الصالح، والاحتساب باللسان هو أبرح مجالات التواصي بالحقِّ، وأقواها حصنًا في حفظ الناس من الانحراف، وإحراز الدين من التبديل والتحريف.





والاحتساب باللسان مِن أعلى مقامات الجهاد؛ لأنه أكثر جهاد الأنبياء - عليهم السلام - ولأنه أشد شيءٍ على الكُفَّار والمنافقين، وقد قال الله - تعالى -: ï´؟ يَا أيُّهَا النّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّار والْمُنافِقِين واغْلُظْ عَليْهِمْ ï´¾ [التوبة: 73]، وجهادهم بالقرآن من أعظم الجهاد؛ لأن القرآن أقوى حقٍّ، وأعدل حُكمٍ، وأصدق خبر، قال الله - تعالى - في دحض حُجج الكفار بالقرآن: ï´؟ فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِين وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا كَبِيرًا ï´¾ [الفرقان: 52].





وكلما عسر الاحتساب باللسان، وثقل الصدع بالحقِّ أمام الخلق؛ لغلبة أهل الهوى وشدتهم وبطشهم، وضعف الحق وأهله - كان أجر الصدع بالحقِّ أعظم، وثواب الاحتساب باللسان أكثر؛ لأن صاحبه يخاطر بنفسه وماله في سبيل الله - تعالى - ولذا كان أجر الأنبياء - عليهم السلام - أعظم من غيرهم؛ لأنهم واجهوا الملأ من أقوامهم، وصدعوا بالحقِّ أمامهم، وتأملوا - رحمكم الله تعالى - صدع موسى - عليه السلام - بالحق أمام فرعون وجنده، مع قوة فرعون وجبروته وبطشه، وما هابه موسى في سبيل الله - تعالى - وقد جاء في الحديث عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الجهادِ كلِمةُ عدْلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ، أو أميرٍ جائرٍ))؛ رواه أهل السُّنَن إلا النسائي.





ومن فقد حياته بسبب احتسابه بلسانه وصدعه بالحقِّ لِمَن أمامه، فقد حاز فضل الشهادة، وكان من خير الشهداء؛ كما في حديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سيدُ الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجلٌ قال إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله))؛ رواه الحاكم، وصححه.





ومن عظيم أمر الاحتساب باللسان أنه من أحسن القول، ونجواه خير النجوى؛ لأنه من المعروف الذي يحبه الله - تعالى - ويرضاه؛ ï´؟ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ï´¾ [النساء: 114]، وفي آية أُخرى: ï´؟ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ï´¾ [فصلت: 33].





والاحتساب باللسان من أعظم الخير الذي أُمر المسلم أن ينطق به أو يسكت؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر، فلْيقُلْ خيْرًا أو لِيصْمُتْ))؛ رواه البخاري.





وفي الاحتساب باللسان قيام بفرض الكفاية، وحمل الواجب عن الأمة، وقطع العذر على أهل المنكرات، وإقامة الحُجة على الناس؛ كما أخبر الله - تعالى - عن الصالحين الأولين: ï´؟ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ï´¾ [الأعراف: 164].





كما أن الاحتساب باللسان سبب للنجاة من العذاب؛ ï´؟ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ï´¾ [الأعراف: 165].





فلا يفرط في هذه الشعيرة العظيمة إلا محروم، ولا يتقاعس عن القيام بها إلا مخذول، وإن ترك الاحتساب على الناس باللسان، وعدم بذل النصح لهم، ضعف في الحقِّ، وغش للخلق، ومن غش المسلمين فليس منهم.





أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ï´؟ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 104].





بارك الله لي ولكم...






الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.





أما بعد:


فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ï´؟ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [آل عمران: 131 - 132].





أيها الناس:


كم من كلمة خرجت من لسانٍ صادق، احتسب بها صاحبُها على ملك أو أمير أو وزير أو مدير؛ نصحًا لله - تعالى - ولأئمة المسلمين وعامتهم، فنفع الله - تعالى - بها نفعًا عظيمًا، ودفع بسببها شرًّا مستطيرًا.





كم من ناصح أمين حمل هموم أمته قبل هَمِّ نفسه، وقدَّم مصلحة البلاد والعِبَاد على مصالحه الخاصة، فقال كلمة خير فُتح بها على الناس أبواب خير في دينهم أو معايشهم، أو رُفع بها ظلم واقع، أو دُفع بها باطل نازل يكون، فكم لصاحب هذه الكلمة الاحتسابية من الأجور! وكم من دعوات صالحة تصل إليه وهو لا يعلم عنها! حين كان أمينًا في استشارته، صادقًا في نصحه، متجردًا لنصرة الحق ولو على حساب نفسه ومنصبه ووظيفته، والخير لا يزال في الأمة ما كان فيها هؤلاء الصادقون الناصحون، ولعل كلمةً احتسب بها صاحبها في دفع منكر، أو رفع ظلم، أو نصرة حق، تكون سببًا في نيل رضوان الله - تعالى - فلا يسخط على صاحبها أبدًا.





وكم من كلمةٍ شرِّيرة أطلقها صاحبها؛ ليزدلف بها عند كبير من كُبَراء الدنيا، أو لينال بها عرضًا زائلاً، ومتاعًا رخيصًا، فكان إثمها كبيرًا، وضررها عظيمًا، فيردى بها صاحبها، ويسخط الله - تعالى - عليه بسببها سخطًا لا يرضى عنه أبدًا.





وقد جاء في حديث بلال بن الحارث المُزَنِيِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - عز وجل - ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغتْ، يكْتُب الله - عز وجل - لهُ بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخطِ الله - عز وجل - ما يظُنُّ أن تبلغَ ما بلغتْ، يكْتُب الله - عز وجل - بها عليه سخطه إلى يوم القيامة))، قال الراوي: فكان عَلْقمةُ الليثي يقُولُ: كمْ مِن كلامٍ قد منعنِيه حديثُ بلال بن الحارث؛ رواه أحمد.





قال الحافظ ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى -: "لا أعلم خلافًا في قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة)): أنها الكلمة عند السلطان الجائر الظالم؛ ليرضيه بها فيما يسخط الله - عز وجل - ويزين له باطلاً يريده من إراقة دم أو ظلم مسلم، ونحو ذلك مما ينحط به في حبل هواه، فيبعد من الله وينال سخطه، وكذلك الكلمة التي يرضي بها الله - عز وجل - عند السلطان؛ ليصرفه عن هواه ويكفَّه عن معصية يريدها، يبلغ بها - أيضًا - من الله رضوانًا لا يحسبه، والله أعلم". ا هـ.





إن أكبر سببٍ لفشو المنكرات في المجتمعات، وضياع حقوق الناس، وظلم بعضهم لبعض - تعطيل شعيرة الاحتساب باللسان، وعدم بذل النصح، وبيان الحق، ودفع الظلم، وإنكار المنكر، رغم أن هذه الأمة إنما نالت الخيريَّة على الأمم السابقة بظهور شعيرة الحسبة فيها؛ ï´؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ï´¾ [آل عمران: 110]، فحققوا هذه الخيريَّة التي شرَّفكم الله - تعالى - بها بتفعيل شعيرة الحسبة بينكم، وبذل النصح لغيركم، وحمل هموم أمتكم، وتقديم المصالح العامة على حظوظ النفس وأهوائها، والسعي في مرضاة الله – تعالى - فإن من التمس رضا الله - تعالى - بسخط الناس، رَضِي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله - تعالى - سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.





وصلوا وسلموا...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 25-11-2019, 03:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (4)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




الحمد لله العليمِ الخبير، أرسلَ الرُّسل مُبشِّرين ومُنذرين، فبهم هَدَى عبادَه المؤمنين، وقطَعَ حُجج المخالفين، نحمدُه على هِدايته، ونشكرُه على رِعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، اصطفى الرُّسلَ من المؤمنين، وفضَّلهم على البشر أجمعين، فجعَلَهم حمَلَة دِينه، ومُبَلِّغي رسالاته، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، رفَعَ الله - تعالى - ذِكْرَه في العالمين، وجعَلَه حُجَّة على الأوَّلين والآخرين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتْباعه إلى يوم الدِّين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وعظِّموا حُرماته، وأحبُّوا له، وأبْغِضُوا له، ووَالُوا فيه، وعادُوا فيه، وأغضبوا له، فمن فعَلَ ذلك، فقد استكْمَلَ إيمانَه، واستحقَّ ولاية الله تعالى؛ ï´؟ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ï´¾ [المائدة: 55 - 56].

أيُّها الناس:
مِن أعلى المقامات الدينيَّة التي تدلُّ على حياة القلب وصلاحه الغضب لله - تعالى - والغَيرة على حُرماته، والخوف من نزول عذابِه، ولما بلَغَ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - شدةُ غَيرة سعد بن عبادة - رضي الله عنه - على حُرمته، قال لأصحابه: ((أَتَعْجبون من غَيْرَة سَعْدٍ! والله لأنا أَغْيَرُ منه، والله أَغْيَرُ منِّي، ومِن أجْل غَيْرَةِ الله حَرَّمَ الفواحشَ ما ظهَرَ منها ومَا بَطَنَ، ولا أحَدَ أَغْيَرُ مِن الله))؛ رواه الشيخان.

وإنَّما امتاز الأنبياء - عليهم السلام - على مَن سواهم مِن الناس - بعد اختصاصِهم بالرسالة - لأنَّهم أشدُّ الناس غضَبًا لله - تعالى - وأكثرُهم غَيْرة على حُرماته، يتحمَّلون مِن الأذى في سبيل غَيرتهم وغضبِهم لله - تعالى - ما لا يحتملُه غيرُهم، ومَن تأمَّل سِيَرهم مع أقوامهم، تبيَّنَ له ذلك.

دعا نوح - عليه السلام - قومَه إلى توحيد الله - تعالى - وطاعته قريبًا من ألف سنة، فصدُّوه وسَخِروا منه، وآذَوا أتْباعَه، وقابَلوه ومَن معه بأنواع الأذى، ولَمَّا دعا عليهم، اسْتُجيبَ له، فأُهْلِكوا، ولكنَّه ما دعا عليهم انتصارًا لنفْسه، ولا انتقامًا منهم لأنَّهم ردُّوه، ولا نُصرةً لأتْباعه؛ لأَنَّهم أُوذوا بسببِه، وإنَّما دعا عليهم؛ غضبًا لله - تعالى - أن يقيموا على كُفره، ويرفضوا دينه، ويُغْوُوا عباده؛ ï´؟ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ï´¾ [نوح: 26 - 27].

وأبْيَنُ دليلٍ على ذلك أنَّه - عليه السلام - ما دعا عليهم حال سُخْرِيَّتهم به، وصدِّهم لدعوته، وأذِيَّتهم لأتْباعه، بل صبَرَ عليهم صبرًا جميلاً، وإنَّما دعا عليهم حين أُخبرَ أنَّه لنْ يؤمنَ منهم أحدٌ غير مَن كانوا معه؛ ï´؟ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ï´¾ [هود: 36].

فالذي أغضبه أنَّهم لا يؤمنون، ويُقيمون على مَحارم الله - تعالى - فغَضِبَ الله - تعالى - لغضبِ نوح لَمَّا غضِبَ له، فأغْرَقهم ونجَّاه ومَن معه.

ودعا الخليل - عليه السلام - قومَه إلى توحيد الله - تعالى - ونبْذِ الأصنام، فلمَّا لم يستجيبوا له، غَضِبَ لله - تعالى - ï´؟ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ï´¾ [الصافات: 93]، ï´؟ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ï´¾[الأنبياء: 58].

وعرَّضَ نفسَه لأعظم عقوبةٍ يَقدرون عليها، وهي قَتْلُه حَرْقًا بالنار، ولَمَّا كان غضبُه لله - تعالى - نجَّاه الله - تعالى - مِن نارهم؛ ï´؟ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ï´¾ [الأنبياء: 69 - 70].

وكان من شِدَّة غضبِه لله - تعالى - أنَّه فارَقَهم واعتزلَهم وهم أهلُه وعشيرتُه، وما أعسرَ ذلك على النفوس، لولا الإيمان والغضب لله - تعالى - والحَميَّة لدينه، التي يَهون في سبيلها تحمُّلُ كلِّ عسيرٍ؛ ï´؟ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ï´¾ [مريم: 48].

فكُوفِئ على ذلك بذريَّة طيِّبة جاءَتْه على كِبرٍ؛ ï´؟ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ï´¾ [مريم: 49].

وكليمُ الرحمن موسى - عليه السلام - له مواقفُ عظيمة مشهورة في الغضب لله - تعالى - والانتصار لدينه؛ إذ أرْسَلَه الله - تعالى - إلى شرِّ البشر، وأخْبثهم، وأجْرَئهم عليه - سبحانه - حين عبَّد الناسَ لنفسه من دون الله - عزَّ وجلَّ - فناظَرَه في ربِّه - تبارك وتعالى - وما تهيَّبَ منه، ولم يخشَ جبروتَه، فلمَّا أصرَّ فرعون على عُلوِّه واستكباره، غضبَ موسى لله - تعالى - وصدَعَ بالحقِّ أمامَه يخوِّفه العذاب؛ ï´؟ قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ï´¾ [طه: 61].

وما غَضِبَ موسى - عليه السلام - من فرعون حين آذاه، وشتَمَه، وتنقَّصَه في نفسه، لكنَّه غَضِب لله - تعالى - حين ادَّعى فرعون أنَّ ما أُوتِي موسى من الآيات البيِّنات ما هو إلاَّ من قَبيل السِّحْر، فواجَهَه بحزمٍ وغضبٍ غيرَ هَيَّابٍ منه، ولا مِن بطْشِه، قائلاً له: ï´؟ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ï´¾ [الإسراء: 102].

فما أقواه في الحقِّ! وما أشدَّ غضبَه حين غَضِبَ لله تعالى!

وتأمَّلوا دعاءَ موسى حين دعا على فرعون، فكان ذلك الدعاء سببَ هلاكِ فرعون وجُنْدِه، دعاء ينضحُ بالإيمان والغضبِ لله - تعالى - والحَميَّة لدينه والغَيرة على حُرماته، ليس للنفْس فيه حظٌّ ولا انتصار ولا انتقام؛ ï´؟ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ï´¾ [يونس: 88].

فأخبرَ أنَّهم مع نِعَم الله - تعالى - ما ازدادوا إلاَّ ضلالاً وإضلالاً، وكما أنَّ نوحًا - عليه السلام - ما دعا على قومِه إلاَّ بعد أنْ أيقنَ أنَّه لن يؤمنَ منهم إلاَّ مَن قد آمَنَ، فكذلك موسى - عليه السلام - ما دعا على فرعونَ ومَلَئِه إلاَّ بعد يَقينه بأنَّهم لن يؤمنوا رغم تتابُع الآيات عليهم، ودليلُ ذلك قولهُم: ï´؟ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ï´¾ [الأعراف: 132].

فكان دعاؤه - عليه السلام - غضبًا لله - تعالى - ليس للنفْس فيه شيءٌ؛ ولذا استجابَه الله - تعالى - مكافأةً لموسى على صِدْقه في غضبه له؛ ï´؟ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ï´¾ [يونس: 89].

ومواقف موسى - عليه السلام - في الغضب لله - تعالى - كثيرة قبلَ هلاكِ فرعون وبعده، ومنها أنَّ الله - تعالى - لَمَّا نجَّى بني إسرائيل، وأهلَكَ فرعون وجُنْدَه، كاد بنو إسرائيل أن يقعوا في الشِّرْك؛ ï´؟ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ï´¾ [الأعراف: 138].

فغَضِب موسى عليهم، وأنْكَرَ قولَهم، وقال: ï´؟ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ï´¾ [الأعراف: 138 - 140].

وتأمَّلوا ذلك الموقفَ العظيم حين غابَ موسى عن قومِه لميقَات ربِّه - سبحانه - فعبدوا العِجْل في غَيبتِه، فمِن شِدَّة غضبِه رَمَى الألواحَ وفيها كلامُ الله - تعالى - ولم يشعرْ بذلك؛ غَيرةً لله - تعالى - وغَضبًا أنْ يُعبدَ غيرُه - سبحانه - وعاتَبَ أخاه عتابًا شديدًا؛ ï´؟ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ï´¾ [الأعراف: 150]، حتى قال هارون - عليه السلام -: ï´؟ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ï´¾ [طه: 94]، فما أعظمَ غَيرة موسى على الدِّين! وما أشدَّ غضبَه لله تعالى!

ويونس - عليه السلام - لَمَّا دعا قومَه، فلم يستجيبوا له، غَضِبَ عليهم لله - تعالى - ففارقَهم من شِدَّة غضبِه، ولم يصبرْ إلى أنْ يأذَنَ الله - تعالى - له، فابتلاه الله - تعالى - ببطنِ الحوت؛ ï´؟ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ï´¾ [الأنبياء: 87].

فاستجابَ الله - تعالى - له بصِدْقه في دعوته ودُعائه واحتسابه على قومِه؛ ï´؟ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [الأنبياء: 88].

وأما خاتمُ الرُّسلِ رسولُنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّه كانَ أشدَّ الناس غضبًا لله - تعالى - وحَميَّة لدينه، وغَيرة على حُرماته، فقد أُوذِي وضُرِب، وخُنِقَ وجُرِحَ، وقُوتِلَ واتُّهِم بالسِّحْر والجنون، والكهانة والكَذب، وعُذِّبِ أصحابُه أمامَه، وقُتِلوا في ذاتِ الله - تعالى - فنالَه من الأذى في الله - تعالى - ما لم يُؤذَ أحدٌ قبلَه ولا بعدَه مثل أذاه، ومع ذلك كلِّه لا يُحفظ له موقفٌ واحدٌ انتصَرَ فيه لنفسه، أو غَضِبَ حين نِيلَ منه، مع تعدُّد المؤْذين وتنوعِهم؛ من مُشركين ويهود ومُنافقين، وإنَّما كان يعاملُهم بالحِلم، فيصبر عليهم صبرًا جميلاً، ويصفح عنهم صفْحًا جميلاً، ومع ذلك حفظتْ سيرتُه العَطِرة مواقفَ كثيرة تمعَّر فيها وجْهُه، وتغيَّر لونُه، واحمرَّتْ وجْنَتَاه، وانتفختْ أوداجُه؛ غضبًا لله - تعالى - وغَيرة على دينه، ويكفي في ذلك وصْفُ زوجه عائشة - رضي الله عنها - حين قالت: "ما انْتَقَمَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِنَفْسه في شيءٍ قَطُّ، إلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ الله، فَيَنْتَقِمَ بها لله"؛ رواه الشيخان، وفي رواية للحميدي، قالتْ - رضي الله عنها -: "ما رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - منتصرًا من مَظْلمة ظُلِمَها قطُّ ما لم تُنْتَهكْ مَحارم الله، فإذا انْتُهِكَ مِن مَحارم الله شيءٌ، كان أشدَّهم في ذلك غضبًا".

فها هم أنبياءُ الله - تعالى - وأولو العَزْم من رُسله: نوح، وإبراهيم، وموسى، ومحمد - صلوات الله وسلامه عليهم - يغضبون لله - تعالى - ولا يغضبون لأنفسهم، ويجبُ أنْ نتأسَّى بهم في ذلك؛ فهم قدوتُنا وأئمَّتُنا؛ ï´؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ï´¾ [الأنعام: 90].

باركَ الله لي ولكم في القرآن.

الخطبة الثانية


الحمدُ لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مُبارَكًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهُداهم إلى يوم الدِّين.

أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ ï´؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ï´¾[البقرة: 281].

أيُّها الناس:
مَن عَرَفَ الله - تعالى - حقَّ المعرفة، وقَدره حقَّ قَدْره، وتأمَّل أسماءَه وصفاته وأفعاله، وعَلِم تعدُّدَ نِعَمه عليه - عظَّمه وعبَدَه؛ مَحبَّة وذُلاًّ، وخوفًا ورجاءً، وكلما كان العبدُ أعلمَ بالله - تعالى - كان له أشدَّ عبوديَّة وتعظيمًا ومَحبَّة، وذُلاًّ وخوفًا ورجاءً.

وإذا كانت الجمادات تغضبُ لله - تعالى - حين تُنْتَهك مَحارمُه، فالمؤمنون أولى أن يغضبوا له - سبحانه -: ï´؟ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ï´¾ [مريم: 90 - 91].

ذكَرَ بعضُ المفسِّرين أنْ السموات والأرض والجبال كادتْ أنْ تفعَلَ ذلك؛ غضبًا لله - تعالى - لَمَّا أُشرِكَ به، وادُّعِي له الولد.

وفي قوله - تعالى - في وصْف جهنَّمَ: ï´؟ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ï´¾ [الملك: 8]؛ قال ابن زيد: "التميُّز هو التفرُّق من الغيظ على أهْل المعاصي؛ غضبًا لله - تعالى - وانتقامًا له".

إنَّ تعظيمَ دينِ الله - تعالى - والغضبَ إذا انتُهِكتْ مَحارمُه لَيدلُّ على تعظيم الله - سبحانه - وإنَّ برودةَ الدِّين في القلب؛ بحيث لا يؤثِّر في صاحبه انتهاكُ الحُرُمات، ولا ينزعجُ من تدنيس المقدَّسات - لَيَدلُّ على موته أو مَرَضه بالنفاق، ومَن كان يغضبُ لحظوظ نفسه أو بخْس دُنياه، ولا يغضب لله - تعالى - فليتفقَّد قلبَه، وليُفَتِّش عن إيمانه.

إنَّ من أعظم ما يَسعى إليه الكفار والمنافقون قتْلَ الغضبِ لله - تعالى - في قلوب المؤمنين، ومحو حَميَّتهم لدينه، وإزالة الغَيرة على حُرماته، وتحويل دينهم إلى دينٍ باردٍ فاترٍ على غرار ما فعَلَ علمانيُّو أوروبا بقَساوِسة النصارى؛ إذ تُنْتَهك حُرُمات الدِّين النصراني، ويُشْتَم المسيح وأُمُّه - عليهما السلام - ولا تَطْرِف أعينُ الرُّهْبان غضبًا لمقدَّساتهم.

إنَّ نيلَ أهْلِ الكتاب من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والاستهزاءَ به، وتصويرَه بأبْشَع الصور، وتدنيسَ القرآن وإحراقَه، والطعْنَ في الإسلام، واتِّهامَه بشتَّى التُّهَم، وكذلك فِعْلُ المنافقين بالسخرية من دينِ الإسلام، وتصحيح كُفْر الكفَّار، وتفضيل الكافرِ على المسلم، مع الطعْنِ في شعائرِ الدِّين الظاهرة، والاستهزاء بأحْكامه الْمُحْكَمة المنزَّلة، وكذلك فِعْل المبتدعة في السُّخْرية من السُّنة النبويَّة، والنَّيْل من الصحابة - رضي الله عنهم - واتهام النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عِرْضه وزَوجه الطاهرة المطهَّرة، الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق - كلُّ هذه الأفعال العُدوانيَّة من قِبَل الكفار والمنافقين والمبتدعة - التي يفعلونها تحتَ شعارات حُريَّة الرأْي وادِّعاء الإصلاح - يُراد منها تحطيمُ المقدَّس في قلوب المسلمين، وتهوينُ الدِّين عندهم، وتحويلُ دينهم إلى دينٍ باردٍ فاترٍ مَيِّتٍ؛ كما هو دينُ النصارى لا يَعْدُو أن يكونَ شعائرَ تعبُّديَّة تخصُّ المرءَ ولا تتعدَّاه.

إنَّهم بهجومهم المتكرِّر على شعائر الإسلام، ورموزه وأحْكَامه - يريدون قتْلَ إحساسِ المسلمين، وإمَاتة غَيْرتهم تجاه دينهم؛ ليَسْهُلَ عليهم تحريفُه وصَرْفُهم عنه، وما كان أنبياءُ الله - تعالى - إلاَّ غِضَابًا لله - تعالى - غَيارَى على دِينه، وما أُرسلتِ الرُّسلُ إلاَّ لإيقادِ جَذوة الإيمان في القلوب، وغَرْس الغَيرة عليه في النفوس، وتربية الناس على الحَميَّة لدينهم، وهكذا كان الصحابةُ - رضي الله عنهم - كما روى ابنُ أبي شيبة عن أبي سَلَمة بن عبدالرحمن - رحمه الله تعالى - قال: "لم يكنْ أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُتَحزِّقين ولا متماوِتين، وكانوا يتناشدون الشعرَ في مجالسِهم، ويذكرون أمرَ جاهليَّتهم، فإذا أُريد أحدُهم على شيءٍ من دينه، دارتْ حماليقُ عَينيه كأنَّه مجنونٌ"؛ أي: من شدَّة الغضب لله - تعالى - والانتصار لدينه.

فإيَّاكم - يا عباد الله - أن يُطفِئ الكفَّار والمنافقون جَذوة الغضبِ لله - تعالى - من قلوبكم، والحَميَّة لدينه، والغَيرة على حُرُماته، بكثرة استفزازاتهم، وتعدِّيهم على الحُرُمات، وانتهاكِهم للمقدَّسات، فإن خيارَ البشر من الرُّسل وأتْباعهم كانوا أشدَّ الناسِ غضبًا لله - تعالى - وحَميَّة لدينه، وغَيرة على حُرُماته؛ فكونوا كما كانوا.

وصلُّوا وسلِّمُوا.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 25-11-2019, 03:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (5)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



عواقب تعطيل شعيرة الحِسبة


الحمدُ لله ربِّ العالمين، خلَق الخَلْق ودبَّرهم، وبطاعته أمرَهم، ونهاهم عن معصيته، فمَن أطاعه سعِد وفاز، ومَن عصاه خسِر وخاب، ولن يضرَّ الله - تعالى - شيئًا: ((يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أُوفِّيكم إياها، فمَن وجد خيرًا، فليحمدِ الله ومَن وجَدَ غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفْسَه))، نحمده حمدَ الشاكرين، ونستغفره استغفارَ المذنبين، ونسأله مِن فضله العظيم؛ فالخيرُ بيديه، والشرُّ ليس إليه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، خاتم النبيِّين، وإمام المحتسِبين، صدَع بالحقِّ في قومه، ودعَا إلى دِينِ ربِّه، وتحمَّل الأذَى في سبيلِه، وما لانَتْ عزيمتُه، ولا وَهَنَتْ شكيمتُه، ولا فَتَرَ في دعوته، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه وعلى آله وأصحابِه وأتْباعِه إلى يوم الدِّين.

أما بعدُ:
فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسَّكوا بدِينكم، وتزوَّدوا مِن الأعمال الصالحة ما يكون ذُخرًا لكم، وادْعوا إلى سبيلِ ربِّكم، واصْبِروا على أذى قَوْمِكم، فلا نجاةَ مِن الخسران إلا بذلك؛ ï´؟ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ï´¾ [العصر: 1 - 3].

أيها الناس:
جَعَل الله تعالى الاحتسابَ قيامًا للدِّين، بل لا قِيامَ للدِّين إلا به، فالأمرُ بالطاعات يقودُ إليها، ويُبقِي على هيبتها في القلوب، ويؤدِّي إلى إظهارِ شعائرِ الدِّين وعُلوِّها، والنهي عن المعاصي يُقلِّلها، ويُبقِي على حَرَجها في الصدور، وعيبها في النفوس، ورَفْضِها عندَ الناس، فلا يُقلَب المعروفُ إلى مُنْكَر، ولا المنكر إلى معروف.

ولذا كانتْ شعيرةُ الحِسبة من أجَلِّ الشعائر في الإسلام وأفضلِها، وما الجهادُ الذي هو ذِروةُ سَنامِ الإسلام إلا شُعْبة مِن شُعَبِها، ويترتَّب على التقصير فيها، أو ترْكها بالكلية ضياعُ الناس وضلالهم، وانتشارُ الجهل في أوساطِهم، واضمحلال الدِّين فيهم، وانطفاء جَذْوة نورِه مِن قلوبهم، فتركبهم الشياطينُ، وتُسيطِر عليهم الأهواء، وتنتشر فيهم الأدواء؛ ممَّا يُؤذِن بالهلاك في العاجِل، والعذاب في الآجِل.

بترْك الاحتسابِ على الناس تنزع الخيريَّة منهم؛ إذ خيريَّةُ هذه الأمة مشروطةٌ ببقاءِ شعيرة الحِسْبة فيهم، فإذا عطَّلها أهلُ الإجابة كانوا في هذا الجانبِ مِن الدِّين كغيرهم مِن أمَّة الدعوة؛ ï´؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 110]، فلا خيريةَ لأُمَّة الإجابة بلا إشاعةِ الأمر والنهي الشرعيَّين بين الناس.

وإذا عُطِّل الاحتسابُ على الناس - كما يُريد المنافقون - رُفِع العِلم، وعمَّ الجهل، وانتشرتِ الأهواء، كما جاء في الحديث: ((لا تقوم الساعةُ حتى يأخذَ الله شريطتَه مِن أهل الأرض، فيَبقَى فيها عَجَاجَةٌ لا يَعرِفون معروفًا، ولا يُنكرون مُنكرًا))؛ رواه أحمد.

وإذا انتشر الجهلُ فيهم، ورَكِبوا أهواءَهم ضعُف إيمانهم، وزالتِ التقوى مِن قلوبهم، فنُزعت خيراتُهم، ومُحقِتْ برَكة أرزاقهم، واستحقُّوا العذابَ بعِصيانهم، كما عُذِّب الذين كانوا مِن قبلهم؛ ï´؟ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ï´¾ [الأعراف: 96].

وإنْ دَعَوُا الله تعالى ليفرِّجَ كَرْبَهم، ويدفع العذابَ عنهم، فحَقِيقون بعدمِ الاستجابة لهم؛ لأنَّ ترْكَ الاحتساب على أربابِ المنكرات سببٌ لردِّ الدعاء وعدم استجابته، كما في حديثِ حُذَيفةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((والذي نفْسِي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يَبعثَ عليكم عقابًا مِن عنده، ثم لتدعُنَّه فلا يستجيبُ لكم))؛ رواه أحمد.

والإهلاك إنما يكون بسببِ كثرةِ الذنوب، والذنوبُ لا تَكثُر إلا إذا عُطِّلتْ شعيرة الأمر والنهي الشرعيَّين، وإلا فإنَّه إذا بقِي في الأُمَّة مَن يَصْدَع بالحق، ويأمر ويَنهى؛ فإنَّ الخيريَّة لا تُسلَب بكامِلها منها، ويكون الآمرون الناهون هم سببَ حِفْظِ البِلاد والعِباد مِن حلول الهلاك، ووجوب العَذاب؛ ï´؟ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ï´¾ [هود: 116]، وفي آية أخرى: ï´؟ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ï´¾ [هود: 117]، ولمَّا قالتْ زينب بنت جحش - رضي الله عنها -: ((يا رسولَ الله، أَنَهلِك وفينا الصالحون؟ قال: نَعَمْ، إذا كَثُر الخبَث))؛ رواه الشيخان.

وفيما قصَّه الله - تعالى - علينا مِن أخبار بَنِي إسرائيل أنَّه - سبحانه - لعَنَهم على ألسن رُسلهم - عليهم السلام - بسببِ عِصيانهم، وتعطيلهم شعيرةَ الحِسْبة فيما بينهم، فلا يَنهى أهلُ المنكر بعضُهم بعضًا عن مُنكرهم، وسَكَت علماؤهم وأحبارُهم عن أمرِهم ونهيهم؛ رغبةً في أموالهم، أو رهبةً مِن أذاهم، فذَمَّ الله - تعالى - صنيعَهم؛ ï´؟ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ï´¾ [المائدة: 62 - 63]، وفي آيات أخرى لعَنَهم بسببِ ذلك؛ ï´؟ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ï´¾ [المائدة: 78 - 79].

واللَّعْن هو أشدُّ ما يُعبِّر اللهُ - تعالى - به عن مَقْته وغضبه، فالملعونُ هو المحرومُ مِن لُطْفه وعنايته، البعيد عن هُبوط رأفتِه ورحمته، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "لُعِنوا بكلِّ لسان: على عهْد موسى في التوراة، ولُعِنوا على عهْد عيسى في الإنجيل، ولُعِنوا على عهدِ داود في الزَّبور، ولُعِنوا على عهْد محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القرآن، وإنما كان سببُ ذلك اللَّعْن مِن الله - تعالى - الذي استمرَّ هذا الاستمرار هو عِصيانهم له - عزَّ وجلَّ - واعتداءَهم الممتد المستمر، كما يدلُّ عليه قوله - تعالى -: ï´؟ وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ï´¾ [المائدة: 78].

وقدْ بيَّن - سبحانه - ذلك العِصيان وسبب استمرارِهم عليه بقوله: ï´؟ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ï´¾ [المائدة: 79]؛ أي: كانوا لا يَنْهَى بعضهم بعضًا عن مُنكر مِن المنكرات، مهما اشتدَّ قُبحها وعظم ضَرَرها، وإنَّما النهي عن المُنكر حِفاظ الدِّين، وسِياج الآداب والفضائل، فإذا تُرِك تَجرَّأ الفُسَّاق على إظهارِ فِسقِهم وفُجورهم، ومتَى صار الدهماءُ يَرَوْن المنكراتِ بأعينهم، ويسمعونها بآذانِهم، تزول وحشتُها وقُبْحُها مِن أنفسهم، ثم يتجرَّأ الكثيرون، أو الأكثرون على اقترافها، فبيَّن الله - تعالى - حالَهم للمؤمنين، وذمَّ أفعالَهم بقوله سبحانه: ï´؟ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ï´¾ [المائدة: 79].

وإنَّما بيَّنه الله تعالى لرسوله وللمؤمنين; عبرةً لهم، حتى لا يفعلوا فِعْلهم، فيكونوا مثلَهم، ويحلَّ بهم مِن لعنة الله وغضبِه ما حلَّ بهم.

وبنو إسرائيل حين لُعِنوا قد يكونون في غفلةٍ عن سببِ لعنتهم، وهو انتشارُ المنكرات فيهم وعدم إنكارها؛ ذلك أنَّ التفطُّنَ لأسباب العقوبة هو أوَّلُ درجات التوفيق، كما أنَّ الغفْلة عن أسبابِ العقوبة هي أوَّل دَرَكات الخذلان، ولا تزال النُّذُر تتابَع على المعذَّبين ولا يُدرِكون مغازيَها، حتى ينزلَ بهم العذابُ وهم في غفلة.

وتَعطيلُ شعيرة الاحتساب سببٌ لتباعد القلوب وتنافرها، ووقوع العداوة والبغضاء بيْن الناس، على عكسِ ما يُروِّج له أربابُ المنكرات، فإنَّهم يظنون أنَّ ترك الناس أحرارًا سببٌ لألفة القلوب واجتماعها؛ لأنَّ كلَّ واحد منهم يفعل ما يُريد بلا حسيبٍ ولا رقيب، وهذا مِن جَهلهم؛ فإنَّ الله تعالى قدْ نهانا أن نسير سيرةَ أهل الكتاب الذين فرَّقوا دِينهم، وحرَّفوا كتبهم، واختلفوا على أنبيائهم، بسببِ أنَّ أهواءهم متفرِّقة، وقد حاكموا كتبَهم إلى أهوائهم، ولو أنَّهم جعلوا أهواءَهم تبعًا لما في كتبهم، وبَلَّغتْه رُسلُهم لمَا اختلفوا، وفي هذا الشأن يقول الله تعالى: ï´؟ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 104]، ثم عقَّب - سبحانه - على الأمر بهذه الشعيرة العظيمةِ بقوله تعالى: ï´؟ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ï´¾ [آل عمران: 105]، ومشهورٌ عن بني إسرائيل أنَّهم ï´؟ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ï´¾ [المائدة: 79]، فعُلِم بذلك أنَّ ترْكَهم للتناهي أدَّى إلى تباغُضهم واختلافهم وافتراقِهم.

نعوذ بالله تعالى مِن فُجاءَة نِقمته، ومِن تحوُّل عافيته، ومِن جميع سَخطِه، ونسأله العافيةَ لنا وللمسلمين أجمعين، إنَّه سميعٌ مجيب.

وأقول قولي هذا...
الخطبة الثانية

الحمدُ لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهُداهم إلى يوم الدِّين.

أما بعد:
فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه؛ ï´؟ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [آل عمران: 131 - 132].

أيها المسلمون:
إنَّ وجودَ الحسِّ الاحتسابي عندَ الناس لدليلٌ على حياةِ قلوبهم بالإيمان، ممَّا يكون سببًا لأمْنِ البلاد والعباد؛ لأنَّ الله تعالى قد جعَل الحِسْبة دافعةً للعذاب، وسببًا للأرزاق والبرَكات، كما أنَّ الشعور بوجوبِ احتساب الأفراد بعضهم على بعضٍ ينمي رُوحَ الجماعة فيهم، ويُوقِظ حِسَّهم بمسؤوليتهم تُجاهَ غيرهم.

وفي زمننا يَكثُر الكلام عن الشفافيةِ والرقابة الذاتية، والمسؤولية الجماعية؛ مِن أجْلِ النُّهوض والتقدُّم، وأنَّ الرقابة المجتمعيَّة سببٌ للمحاسبة، وكف أيدي العابثين، وخوف المقصِّرين، والحسبة هي البوَّابة الكُبرى لذلك، فالذين يَدْعُون للشفافية والرُّوح الجماعيَّة، ثم يُحاربون الحِسبةَ والمحتسبين، فقدْ كذَّبتْ أفعالُهم دعاواهم؛ إذ إنَّهم يَنقُضون ما يَدْعون إليه، عَلِموا ذلك أم جَهِلوه.

إنَّ الاحتسابَ على الناس في أيِّ مجال مِن المجالات هو شعورٌ بمسؤوليَّة المحتسِب تُجاهَ إخوانه ومجتمعه وأمَّته، والأُمم التي فقدتْ هذا الشعور تختلُّ أركانُها، ويَضطرِبُ أَمْنُها عندَ غيابِ القانون، أو غَفْلة أجهزةِ الأمن.

وقد ألَّف المستشرق الأمريكي مايكل كوك موسوعةً ضخمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، افتَتَحها بحادثتَيْن مُعبِّرتَيْن يغلُب على الظن أنَّ مقارنته بينهما هي التي دعَتْه لتأليف موسوعته الضَّخْمة عنِ الاحتساب:
أمَّا الحادثة الأولى: فذَكَر فيها أنَّ امرأة اغتُصِبتْ في محطة قطار فرعية في شيكاغو أمامَ جمهرة الناس، فلم يتحرَّك أحدٌ لمساعدتِها، أو يَأْبَه لنداءاتِها، وهي تُصيح بأعْلى صوتها مستنجدةً بهم؛ حتى قضَى المغتصِبُ وطَرَه منها، ثُم انصرَف آمنًا.

ويُعلِّق مايكل على هذه الحادثة البَشِعة قائلاً: لدَيْنا فكرة واضحة عن واجبٍ لا يفرض علينا التصرُّفَ بنحو لائق إزاءَ الغير فقط، بل كذلك منْع الآخرين مِن فِعْل ما فيه تَعَدٍّ واضح على الناس، مع ذلك ليس لدينا في حياتنا اليوميَّة مصطلحٌ يشرح هذا الواجِبَ، كما ليستْ لدينا نظريةٌ عامَّة حول الأوضاع التي ينطبق عليها، والإرغامات التي تسقطه، يقدم الإسلام في المقابِل اسمًا ونظريةً لواجبٍ أخلاقي مِن هذا النوع واسِع المجال هو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

أما الحادثة الثانية: فذَكَر فيها قِصَّة احتساب إبراهيم بنِ ميمونٍ الصائغ - رحمه الله تعالى - على أبي مسلم الخُرَساني حتى قتَلَه مِن كثرةِ ما يُنكِر عليه من الظُّلم.

وأراد مايكل بِذِكْر هاتين الحادثتَيْن أن يقارنَ بيْن سلبية الفرْد الغربي تُجاهَ المجتمع في الموقف الأوَّل، وإيجابية الفَرْد المسلم تُجاهَ المجتمع في الموقِف الثاني بسببِ شعيرة الحِسْبة وقال: كان الصائغ رجلَ مبدأٍ في حياته كما في مماته، ومبادِئُه تلك هي التي تَهمُّنا هنا.

قام عملُه الأخير كما بدَا لعيون اللاحقين، وربَّما له هو نفْسه على مبدأِ فريضةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقدْ عُرِف بتفانيه في الأمْر بالمعروف.ا.هـ كلامه.

وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 25-11-2019, 03:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (6)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


صبر الأنبياء على الأذى


الحمد لله رب العالمين؛ أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وأقام حجته على الخلق أجمعين، فمن آمن به واتبع رسله كان من أهل النعيم، ومن كفر به فله عذاب الجحيم، نحمده على هدايته، ونشكره على عنايته ورعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَه سبحانه وتعالى، يَدَّعُونَ لَهُ الوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى للناس بشيرا ونذيرا، وجعله سراجا منيرا، فأوذي في الله تعالى أذى شديدا، فما وهنت عزيمته، ولا لانت شكيمته، ولا تخلى عن دعوته، حتى نصره الله تعالى على عدوه، وأظهر دينه على الدين كله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحفظوه يحفظكم، وانصروه ينصركم، وأعزوا دينه يعزكم، وتمسكوا بحبله ينجكم، واصبروا على الأذى في سبيله يرفعكم، واستعينوا على أذى المؤذين من الكفار والمنافقين والفاسقين بذكره سبحانه وعبادته وتسبيحه ï´؟ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ï´¾ [الإنسان:24-26].

أيها الناس: ما من عاقل إلا ويعيش لهدف يريد تحقيقه، وغاية يسعى لبلوغها. ويختلف الناس في أهدافهم وغاياتهم، فمن الناس من همته تربو على السحاب، ومنهم من همته في أسفل القاع.. من الناس من غايته بلوغ شهوة زائلة، ومنهم من غايته رضا الرحمن..

منهم من يرضى أن يكون عبدا لعبيد مثله، يسخر قلبه ومبدأه لراحة جسده، وملء بطنه، وإشباع شهوته، ومنهم من لا يستعبد لغير الله تعالى، ولا يذل ولا يخنع لسواه سبحانه، ولو مشط بأمشاط الحديد، ونشرت أعضاؤه بالمناشير، يبذل جسده لغايته وهدفه، ولا يحيد عن ذلك مهما كلفه الأمر.

والدعوة إلى الله تعالى، والاحتساب في نشر دينه، هدف هو أسمى الأهداف، وغاية هي أعلى الغايات؛ لأن فيها تعاملا مع خالق الخلق، ومدبر الأمر، وفيها سمو عن دنايا الدنيا إلى الملكوت الأعلى. وحقيق بمن كان هذا هو هدفه في الدنيا، وغايته التي تقصر دونها كل الغايات، أن ينال رضا الله تعالى، ويبلغ أعلى المنازل والدرجات.

ولكن هذه الغاية لا ينالها كل أحد؛ لأن طرقها محفوفة بالمكاره، محجوبة عن الشهوات، ممنوع أهلها من الراحة؛ فلا تصبر عليها إلا نفوس أبية، تحمل قلوبا بالحق موقنة، وهي على الأذى مصطبرة، فأهل المصالح الدنيئة، والحظوظ الرخيصة، والهمم المنحطة لا يتركون دعاة الحق يدعون إليه؛ ليقطعوا عنهم شهواتهم، وليحولوا بينهم وبين امتيازاتهم؛ فلا بد أن يقفوا في وجوههم، ويؤذوهم ويعذبوهم، ويبارزوهم بالبغضاء والعداوة، ويقذفوهم بالكذب والبهتان.

إن الأذى بسبب الدعوة والحسبة هو طريق المرسلين، وبصبرهم ويقينهم نصرهم الله تعالى في الدنيا، ورفع ذكرهم في الناس، وأعلى درجاتهم في الجنة..فنحن نذكرهم بخيرِ ما يذكرون به كما قد ذكرهم بذلك من كانوا قبلنا، وسيذكرهم به من كانوا بعدنا، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

أُرسل نوح عليه السلام إلى قومه فآذوه أذى شديدا، فصبر على أذاهم ألف سنة إلا خمسين عاما. اتهموه بالضلال وهو المحق وقالوا ï´؟ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ï´¾ [الأعراف:60] وآذوه في صحبته وأتباعه، ورموه بالكذب، وليس شيء أعسر على الصادق أن يرمى بالكذب، قالوا ï´؟ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ï´¾ [هود:27] ولأنهم عدوا من آمن معه من الأراذل فإنهم لم يتورعوا عن السخرية من نوح ومن معه ï´؟ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ï´¾ [هود:38] ورموه بالجنون وهو أكملهم عقلا، وأسدهم رأيا، وأكثرهم حلما فقالوا ï´؟ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ï´¾ [المؤمنون:25] وهددوه إن استمر في دعوته بالرجم ï´؟ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ ï´¾ [الشعراء:116].

ولكن رغم طول أمد دعوته، وقلة المستجيب له، وشدة الأذى عليه فإنه صبر فظفر.

وإذا تفكر الداعية المحتسب في صبر نوح على أذى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما هان عليه ما يصيبه من أذى في أربعين سنة فقط أو خمسين أو ستين.

وأوذي هود عليه السلام في الله تعالى، واتهمه قومه بالسفه في عقله، والكذب في قوله، فقالوا ï´؟ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ ï´¾ [الأعراف:66] وادعوا أن آلهتهم مسته بهذا الجنون ï´؟ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ ï´¾ [هود:54].

وأوذي صالح عليه السلام في الله تعالى فرماه قومه بالكذب فقالوا ï´؟ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ï´¾ [المؤمنون:38] وزعموا أنه مسحور ï´؟ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ ï´¾ [الشعراء:153] وأجمعوا قتله وأهله في ليل مظلم ولكن الله تعالى نجاه ï´؟ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ï´¾ [النمل:49].

وأوذي الخليل عليه السلام في الله تعالى، فهجره أبوه وهدد برجمه ï´؟ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ï´¾ [مريم:46] وعزم قومه على قتله وحرقه ï´؟ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ï´¾ [العنكبوت:24].

وأوذي لوط عليه السلام في الله تعالى، فتواصى قومه على طرده وتشريده بسبب طهارته من فواحشهم ï´؟ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ï´¾ [النمل:56] وآذوه في ضيفه بمحاولة الاعتداء السافر القذر عليهم، حتى علاه الهم، وركبه الكرب؛ ظنا منه أنهم بشر وهم ملائكة، وخشي عليهم فحش قومه ï´؟ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ï´¾ [هود:79] وبلغ من همه وكربه عليه السلام أن قال [لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ] [هود:80].

وأوذي شعيب عليه السلام في الله تعالى؛ فرماه قومه بالكذب، وزعموا أنه مسحور ï´؟ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الكَاذِبِينَ ï´¾ [الشعراء:185-186] وعزموا على إخراجه ومن معه، وهددوه بالرجم لولا تقديرهم لعشيرته ï´؟ قَالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ï´¾ [الأعراف:88] وفي آية أخرى ï´؟ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ï´¾ [هود:91].

وأوذي كليم الله موسى عليه السلام في الله تعالى أعظم الأذى؛ فاتهمه فرعون بالسحر لما جاءه بالآيات وقال ï´؟ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ï´¾ [الشعراء:34] ورماه بالجنون لما عرفه بالله تعالى وقال ï´؟ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ï´¾ [الشعراء:27]، وادعى أنه مسحور فقال ï´؟ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ï´¾ [الإسراء:101]. وزعم أنه في دعوته كذاب ï´؟ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ ï´¾ [القصص:38] واستصغر فرعون موسى عليه السلام وحقّر شأنه وعيره فقال ï´؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ï´¾ [الزُّخرف:52].

وبلغ الأذى بموسى ومن معه منتهاه حين توعدهم فرعون قائلا ï´؟ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ï´¾ [الأعراف:127] وموسى عليه السلام يثبتهم ويصبرهم ويعدهم بنصر الله تعالى فيقول ï´؟ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ï´¾ [الأعراف:128-129] وتآمروا على قتله قبل هجرته عليه السلام إلى مدين وبعد عودته منها بحجة أنه مفسد ï´؟ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ ï´¾ [غافر:26].

ورحم الله موسى فقد استمر أذى قومه له حتى بعد هلاك فرعون، بتعنت بني إسرائيل، وكثرة سؤالهم واختلافهم، وبطئهم في الامتثال، وعبادتهم للعجل، ورميهم موسى بالسخرية فقالوا ï´؟ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ ï´¾ [البقرة:67] وعصوه في الجهاد وقالواï´؟ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ï´¾ [المائدة:24] ومن صور أذاهم لموسى ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:«إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ، إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ: وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ الله، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ... فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ الله وَجِيهًا ï´¾ [الأحزاب:69] رواه البخاري. ولا عجب مع كثرة الأذى الذي ناله وقت فرعون وبعده أن يقول لقومه ï´؟ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ ï´¾ [الصَّف:5] ولا عجب أن يتمثل النبي صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام لما آذاه الأعرابي واتهمه بأنه لم يعدل في قسمة الغنائم فقال صلى الله عليه وسلم «رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» رواه البخاري.

وأوذي المسيح عليه السلام في الله تعالى فصبر.. أوذي في أمه وعرضها، وما أشد ذلك على النفوس ï´؟ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ï´¾ [النساء:156] وسعى اليهود في قتله، فاختبأ وطورد وأوذي حتى رفعه الله تعالى إليه، ونجاه من مكرهم.

تلك هي مواقف المرسلين، وصور من صبرهم على أذى المؤذين ï´؟ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ï´¾ [الأنعام:90], وأقول قولي هذا...


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ï´¾ [البقرة:281].

أيها المسلمون: أوذي محمد صلى الله عليه وسلم كما أوذي الرسل من قبله؛ فطورد وحورب وهُجِّر، وضرب وخنق وجرح، ووضع الأذى على ظهره وفي طريقه، وأجمعت قريش قتله ï´؟ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ï´¾ [الأنفال:30] ورموه بالشعر والجنون ï´؟ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ï´¾ [الصَّفات:36] وزعموا أنه مسحور ï´؟ وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ï´¾ [الفرقان:8].

إنها سنة الله تعالى في المرسلين، وسنته سبحانه في ورثتهم من المصلحين ï´؟ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمِينَ ï´¾ [الفرقان:31] ولا سلاح لهم إلا الصبر على أذى المؤذين، واليقين بأن وعد الله حق ï´؟ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ ï´¾ [الأنعام:34].

وفي زمننا هذا يشتد الأذى على أتباع الرسل من الدعاة والمصلحين، فيمكر بهم الكفار والمنافقون، ويسخرون منهم، ويتهمونهم بالجنون والكذب كما اتهم الرسل من قبلهم، ويصورون للناس أن المصلحين لهم مآرب في إصلاحهم غير هداية الناس كما قد اتهم الرسل بذلك ï´؟ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ï´¾ [يونس:78].

وواجب على الدعاة والمحتسبين التحلي بالصبر، والثبات على الحق مهما كلف الأمر، وكثرة العبادة والذكر؛ فإن لذلك تأثيرا عجيبا على ثبات القلب وقوته في الحق؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك في كثير من الآيات ï´؟ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ï´¾ [طه:130] ï´؟ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ï´¾ [غافر:55] ï´؟ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ï´¾ [الأحقاف:35].

فصبرا على الحق يا أهل الحق، فإن وعد الله حق، ومهما اشتد الأذى وعظم الكرب؛ فإن نصر الله تعالى قريب..

وصلوا وسلموا...

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 25-11-2019, 03:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (7)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



أذية المحتسبين


الحمد لله العلي الكبير؛ مالك الملك، ومدبر الأمر؛ فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو على كل شيء قدير، نحمده حمدا يليق بجلاله وعظمته، ونشكره شكرا يزيد نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق ودبرهم، وأحياهم ويميتهم، وإليه معادهم ومرجعهم، وعليه حسابهم وجزاؤهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ قدوة الناصحين المحتسبين، وإمام الأنبياء والمرسلين، وخير من أوذي في ذات رب العالمين؛ فشُج وجهه، وكُسرت رَباعيته، ووضع سلا الجزور على ظهره، وخُنق خنقا شديدا، ووُطئ على رقبته الشريفة حتى كادت عيناه تبرزان، وبُصق في وجهه، وحاول المشركون قتله غير مرة، فما فت ذلك في عضده، ولا رده عن دعوته، بل تحمل أذى قومه، وصبر على عشيرته، حتى بلغ رسالة ربه، واستنقذ من الضلال أمته، فهاهم ملايين المسلمين يعبدون الله تعالى في مشارق الأرض ومغاربها من أثر تبليغه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والتمسوا ما يرضيه، وجانبوا ما يسخطه، فوالوا أولياءه، وعادوا أعداءه، وأحبوا فيه، وأبغضوا فيه؛ فإن ولاية الله تعالى تنال بذلك ï´؟ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ï´¾ [المائدة: 55، 56].

أيها الناس:
أرسل الله تعالى الرسل إلى الناس ليأمروهم بعبادة الله تعالى وحده، فيخضعوا لأمره، ويستسلموا لحكمه، وينقادوا لشريعته، وينبذوا أهواء النفوس وشهواتها، فكان الناس فريقين: من عبد الله تعالى ونبذ هواه، ومن اتبع هواه واستكبر عن عبادة مولاه. والله تعالى سمى الهوى إلها يعبد فقال سبحانه ï´؟ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ï´¾ [الفرقان: 43]

إن الرسل عليهم السلام ما بعثوا إلا ليمنعوا الناس من أهوائهم، ويوجهوهم إلى عبادة الله تعالى وحده، واتباع أمره، ومجانبة نهيه.. ومن زعم أن الرسل قد جاءت بالحرية والتعددية فقد أعظم الفرية، وجهل حقيقة الرسالة.

إن أعداء الرسل ما عادوا المؤمنين لأنهم لا يعبدون إلا الله وحده، وإنما عادوهم لأنهم يأمرونهم بعبادة الله تعالى وحده، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان قبل بعثته يتعبد لله تعالى في غار حراء وما آذاه المشركون، بل كانوا يحترمونه ويوقرونه حتى سموه الأمين، وإنما عادوه لما احتسب عليه فأمرهم بعبادة الله تعالى ونبذ الأوثان.

إن جزيرة العرب وقت الجاهلية كان فيها يهود ونصارى وملاحدة وصابئة ومجوس ووثنيون، كما كان فيها حنفاء بقوا على دين الخليل عليه السلام، وكانوا متعايشين، وعلى كثرة حروب العرب في أمور تافهة فإنه لم يشتهر -وربما لا يعرف- أن حربا اشتعلت بسبب اختلاف أديانهم، فكانوا يقرون التعددية، ويطبقونها واقعا في مجتمعاتهم.

كانوا في سوق عكاظ ينشدون القصيد، ويلقون الخطب، فمنهم من ينكر البعث والنشور، ومنهم من يثبته، وكل واحد منهم حر فيما يعتقد وفيما يقول. وكان منهم من يمارس الزنا، ويشرب الخمر، ويتغنى بها، وينظم القصيد فيها، ومنهم من عف عن الزنا، وحرم الخمر على نفسه، ولم يوجب ذلك بينهم خلافا. وكانوا يتعاملون بالربا والميسر ومنهم من حرمهما على نفسه، ولم يوجب ذلك أيضا بينهم خلافا؛ لأن من حرموا على أنفسهم شيئا لم يحرموه على غيرهم. وحال المشركين آنذاك أشبه ما يكون بالنظام الدولي اليوم، وبإعلانات حقوق الإنسان التي لا تعترف بسلطان الله تعالى على الإنسان، وتجعل الإنسان حرا في أقواله وأفعاله ومعتقداته، وتمنع الاحتساب الديني عليه.

ولما بُعث النبي عليه الصلاة والسلام، وأمر بالبلاغ فبلغهم حاربوه أشد حرب، وعادوه كما لم يعادوا أحدا مثله؛ لأنه احتسب عليهم، وأراد إلغاء التعددية التي يمارسونها، وقالوا مستغربين ï´؟ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ï´¾ [ص: 5]

وكان الملأ من كل أمة هم أشد الناس حربا على الأنبياء؛ لأن الأنبياء باحتسابهم على أممهم يلغون امتيازات القلة المتنفذة، ويقضون على استغلالهم للأكثرية المضطهدة؛ ذلك أن للمتنفذين من أهل الباطل قديما وحديثا أهواء، واحتساب المحتسبين يحول بينهم وبين هذه الأهواء، فلا بد حينئذ من حربهم، وهكذا كانت الخصومة التاريخية بين المحتسبين وأعدائهم.

ولطالما عانى المحتسبون من أذية أعداء الحسبة فنالهم ما نالهم من السخرية واللمز والتهجير، وإلصاق التهم بهم، وبث الشائعات فيهم، ورميهم بما هم منه برءاء في دعايات فجة، وأكاذيب رخيصة، ومن أراد معرفة حقيقة أعداء الحسبة فليقرأ القرآن ولينظر ماذا فعلوا بالأنبياء، وما فعلوه بالأنبياء عليهم السلام سيفعلونه بالمحتسبين من بعدهم؛ فتلك سنة الله تعالى فيمن سعى بالإصلاح وكافح الفساد. ولا عجب في أن يتسمى أعداء الحسبة بالمصلحين، ويدعون الإصلاح فقد فعل المنافقون ذلك من قبل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ï´؟ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ï´¾ [البقرة: 11، 12] وكل تغيير لشريعة الله تعالى، أو فرض لمنكر، أو إشاعة لفاحشة فهو إفساد وإن ادعى مشرعوه ومشيعوه أنه إصلاح. ولا عجب أيضا أن يتهم المحتسبون بأنهم مفسدون فقد قال فرعون من قبل ï´؟ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ï´¾ [غافر: 26]. ولا عجب أيضا أن يتهم المحتسبون بأنهم يريدون باحتسابهم الشهرة أو الفتنة أو شيئا من أمور الدنيا، فقد اتهم فرعون موسى وهارون عليهما السلام بذلك ï´؟ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ï´¾ [يونس: 78].

وكان الملأ من قوم شعيب يمتصون بالغش أموال الضعفاء فلما احتسب عليهم في ذلك ï´؟ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ï´¾ [هود: 87]

لقد مثل جانب الاحتساب رسل الله تعالى وأتباعهم من العلماء والدعاة والمصلحين الناصحين في كل زمان ومكان، ومثل أعداء الحسبة الكفار والمنافقون وأرباب الشهوات والأهواء من المسلمين.

إن أعداء الحسبة قد رموا نوحا عليه السلام بالضلال وبالكذب وبالجنون، وسخروا منه، وهددوه بالرجم.

ورموا هودا عليه السلام بالسفه والكذب والجنون، ورموا صالحا بالكذب وادعوا أنه مسحور، وبيتوا قتله لكن الله تعالى نجاه.

وهددوا الخليل عليه السلام بالرجم، وأضرموا النار فقذفوه فيها فنجاه الله تعالى.

وتواصى أعداء الحسبة من قوم لوط على طرده وتهجيره، ورموا شعيبا عليه السلام بالكذب، وادعوا أنه مسحور، وهددوه بالطرد والرجم.

ولما احتسب موسى عليه السلام على فرعون رماه بالجنون، واتهمه بالسحر، وهدد أتباعه بالتقتيل والتصليب وتقطيع الأيدي والأرجل، وفعل ذلك بهم.

ورمى أعداء الحسبة عيسى عليه السلام في أمه العذراء البتول، وسعوا في قتله فرفعه الله تعالى إليه.

وقتل أعداء الحسبة زكريا ويحيى وجما غفيرا من الأنبياء والمصلحين؛ لأنهم احتسبوا عليهم في ترك أهوائهم، ودعوهم لإخلاص الدين والعبودية لله تعالى وحده، والخضوع لشريعته.

ورمى أعداء الحسبة من أهل مكة محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالسحر والكهانة والجنون، وتآمروا على قتله ï´؟ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ï´¾ [الأنفال: 30].

ورُمي مئات العلماء والدعاة والمصلحين بالتهم المكشوفة، والأكاذيب المفضوحة، ورُوجت في حقهم الشائعات القبيحة.. بل ونالهم على أيدي أعداء الحسبة، وعبر القرون المتطاولة، والبلدان المتباعدة، نالهم شديد الأذى من إهانة وضرب وسجن وطرد وتشريد، وقُتل عشرات منهم بسبب احتسابهم على أهل الأهواء والضلال والانحراف. فتلك سنة الله تعالى في المحتسبين: أن يبذلوا دماءهم، وتفرى أعراضهم، ويؤذون في أبدانهم بأنواع الأذى، ويحتملون ذلك في سبيل هداية الخلق إلى الحق، وحجز الناس عن أسباب العذاب، ورد الأمم والدول عن مواطن الهلاك. ï´؟ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ï´¾ [هود: 117].

فنسأل المولى جلت قدرته أن يُبقي المحتسبين المصلحين في هذه الأمة، وأن يكثر سوادهم، ويشد أركانهم، ويعلي أقدارهم، ويلين قلوب العباد لخطابهم، وأن يجزيهم عن المسلمين خير الجزاء؛ إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله..

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ï´¾ [الأنفال: 25].

أيها المسلمون:
أوجب الله تعالى الاحتساب على كل مؤمن، بشرط أن يكون عالما بما يأمر به، عالما بما ينهى عنه، وأن لا يخلف احتسابه منكرا أعظم من المنكر الذي يحتسب لتغييره.

ووظيفة المحتسبين هي وظيفة الأنبياء والمرسلين، وبعد أن ختم الله تعالى النبوة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه سبحانه أبقى في هذه الأمة شعيرة الحسبة إلى آخر الزمان؛ ليستمر الإصلاح في الناس، وليردع أهل الأهواء والفواحش والمنكرات عن غيهم وإفسادهم.

ومن قدر الله تعالى في ابتلائه لرسله عليهم السلام أن جعلهم يواجهون الملأ من كل قوم، وهم أهل الأهواء والشهوات والمنكرات، فكانوا أعداء للرسل عليهم السلام ï´؟ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ï´¾ [الفرقان: 31].

وجعل كذلك للمصلحين المحتسبين أعداء من المجرمين ï´؟ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ï´¾ [الأنعام: 123] فإذا بقي المحتسبون دُفع العذاب، وإذا غلب المجرمون عليهم فنشروا فسادهم رغما عنهم وأسكتوهم وآذوهم فقد حق العذاب ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [المائدة: 35].

ومن عظيم أمر المحتسبين عند الله تعالى أنه سبحانه لما ذم قتلة الأنبياء من بني إسرائيل عطف المحتسبين على الأنبياء؛ لأن المحتسبين يقومون بمهمة الأنبياء فقال سبحانه ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ï´¾ [آل عمران: 21] والمحتسبون هم ممن يأمر الناس بالقسط.

ولذا فإن من عادى المحتسبين وآذاهم فكأنما عادى الرسل وآذاهم، وبرهان ذلك: أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخاطب اليهود فقال سبحانه ï´؟ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ï´¾ [البقرة: 91] فوجه الخطاب إليهم بأنهم قتلة الأنبياء، مع أن قتلة الأنبياء كانوا أجدادهم، فلما كانوا على منهجهم في معاداة الرسل خوطبوا بأفعالهم، فكذلك من عادى من يقوم بما جاءت به الرسل من الاحتساب على الناس فيؤذي المحتسبين، ويسخر منهم، فكأنما عادى الرسل عليهم السلام، فليحذر المصلون من الوقوع في مثل ذلك؛ فإنه فعل شنيع، ومغبته عظيمة.

والله تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، لتحيى فريضة الاحتساب، ويبقى أثرها في الناس إلى آخر الزمان، فيُدفع بها إجرام المجرمين، وإفساد المفسدين ï´؟ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ï´¾ [الحديد: 25].

فأحيوا فريضة الحسبة فيكم، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وكونوا عونا للمحتسبين في قيامهم بأمر الله تعالى، وإياكم أن تكونوا عونا لأكابر المجرمين، من أعداء الحسبة والمحتسبين؛ فإن في عونهم إبطالا للحسبة، ومن سعى في إبطال الحسبة فإنما يريد أن يبطل دين محمد - صلى الله عليه وسلم -. ومن أعجبه ضعف الحسبة واندثارها فإنما يعجبه ضعف دين الإسلام واندثاره؛ فإنه لا بقاء للإسلام إلا بالاحتساب ï´؟ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ï´¾ [التوبة: 32، 33].


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 25-11-2019, 03:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (8)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
عاقبة محاربة الحسبة والمحتسبين


الحمد الله الملك الحق المبين؛ جعل المسلمين أمة واحدة؛ يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شرع الحسبة ركنا في الدين، وكلف بها المرسلين، وأمر بها المؤمنين، وأجزل ثواب المحتسبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين؛ أغراه المشركون بترك الاحتساب عليهم ووعدوه بالنساء والمال والملك فقال: «مَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، وَاللهِ إِنِّي لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الَّذِي بَعَثَنِي اللهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ» يعني: رقبته الشريفة. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأسلموا له قلوبكم، وأخلصوا في أعمالكم.. والوا أولياءه، وعادوا أعداءه، وأحبوا فيه، وأبغضوا فيه؛ فإن الولاء والبراء فيه من أوثق عرى الإيمان ï´؟ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ غ‍ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ï´¾ [المائدة: 55-56].

أيها الناس:
جعل الله تعالى بقاء دينه وانتشاره، وقيام شريعته وحياطتها باحتساب الناس بعضهم على بعض؛ وذلك ابتلاء لهم أجمعين، فهو ابتلاء للآمر والمأمور.. للمحتسب والمحتسب عليه؛ فهو ابتلاء للمحتسب أن يقوم بوظيفة الاحتساب، ويدعو إليها، ويصبر على الأذى فيها، وينهج المنهج النبوي في الأمر والنهي الشرعيين، ولا يجاوز ذلك باجتهاده فيقع في الخطأ، أو يستدرك على الشرع. وابتلاء للمحتسب عليه أن يذعن لأمر الله تعالى لما بلغه، فقد يكون جاهلا أمره فعُلِّمه، أو ناسيا له فذُكر به، أو غافلا عنه فنُبه إليه.

ومن شرف الحسبة أنها وظيفة الرسل عليهم السلام، وما من رسول إلا عاش طيلة حياته محتسبا على قومه، يصحح عقائدهم وعباداتهم، ويهذب أخلاقهم وسلوكهم، ويقوِّم علاقاتهم ومعاملاتهم، ويصلح ما فسد من أحوالهم. ومن عجيب تكريس قضية الاحتساب في وجدان المؤمن أن الله تعالى لم ينقل لنا في القرآن الكريم إلا القليل عن حياة الأنبياء ومعيشتهم وأسرهم وأماكنهم وأحوالهم وأخبارهم وسيرهم وأزمنة بعثهم، وكيفية وفاتهم، بل حتى عباداتهم لا نعلم عنها إلا القليل، وعن بعضهم لا عن جميعهم، وفي ذكر أسرهم وأولادهم لم يذكر لنا من أخبارهم إلا ما يتعلق بجوانب الحسبة فقط؛ فذكر سبحانه احتساب نوح على ابنه الكافر وغرقه، وذكر تعالى احتساب الخليل على أبيه واعتزاله إياه بسبب كفره، وذكر زوجتي نوح ولوط لأنهما خانتاهما في احتسابهما على أقوامهما. ولكن الله تعالى ذكر لنا في القرآن وبشكل مكثف ومفصل احتساب الأنبياء على أقوامهم، وطرائقهم في احتسابهم، ومناظراتهم لهم، وحواراتهم معهم، وأبدى في ذلك وأعاد، وكرره أكثر من مرة، وعرضه بأكثر من أسلوب، وأخبرنا عما لحقهم بسبب احتسابهم من أذى القول والفعل، ولا سيما في قصص نوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام.

وهذا يدلنا على أن الغاية العظمى، والأهمية الكبرى من ذكر أخبار الرسل في القرآن هي قضية الاحتساب على الناس، ويدلنا على أن أعداء الحسبة والمحتسبين هم أعداء الرسل عليهم السلام، وعلى أن قضية الاحتساب هي العنوان الأبرز، والقضية الأهم في دعوات الأنبياء كلهم، وأن الأرض إذا خلت من المحتسبين غشيها الفساد، وعمها الخراب، فحلت بها المثلات، ونزلت فيها العقوبات.

إن المحتسبين هم المصلحون، وإن أعداءهم هم المفسدون، ولا يعادي الحسبة والمحتسبين إلا من في قلبه مرض النفاق؛ فإن المؤمن العاصي لا يحب المعصية لغيره، ويستتر بمعصيته، ولكن المنافق هو من ينشر الفساد، ويشيع الفواحش، ويلبسها أثواب الإصلاح، وهو المفسد، ï´؟ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ï´¾ [البقرة: 220].

وكما شوهت صورة المحتسبين السابقين، من النبيين والصالحين؛ فإن المحتسبين في زمننا وفي كل زمن لا بد أن يقوم أهل الشقاق والنفاق، ومروجو الفواحش والمنكرات بتشويه صورتهم لدى الناس، وافتراء الأكاذيب عليهم، ورميهم بأدوائهم، وتنفير الناس منهم، حتى يرفضوا الحسبة. فإذا رفضوها حل بهم العذاب كما حل بمن كانوا قبلهم.

احتسب نوح عليه السلام على قومه فقال قومه له ï´؟ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ï´¾ [الأعراف: 60] فكانت عاقبة رفضهم نصحه ما قال الله تعالى ï´؟ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ï´¾ [الأعراف: 64].

واحتسب هود عليه السلام على قومه فقال قومه له ï´؟ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ï´¾ [الأعراف: 66] فكانت عاقبة قولهم ï´؟ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ï´¾ [الأعراف: 72].

واحتسب صالح عليه السلام على قومه فقال قومه له ï´؟ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ï´¾ [الأعراف: 77] فكانت نتيجة تمردهم على الله تعالى ورفضهم نصح رسولهم ï´؟ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ï´¾ [الأعراف: 78].

واحتسب لوط عليه السلام على قومه في كفرهم وفواحشهم فقال قومه ï´؟ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ï´¾ [النمل: 56] فكانت نتيجة هذا التمرد والبغي ï´؟ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ غ‍ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ï´¾ [النمل: 57- 58].

واحتسب شعيب عليه السلام على قومه في كفرهم وغشهم فقالوا له ï´؟ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ï´¾ [الأعراف: 88] وأخذوا يصدون الناس عن نصحه ودعوته وقالوا ï´؟ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ï´¾ [الأعراف: 90] فماذا كانت النتيجة؟! إنها في قول الله تعالى ï´؟ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ غ‍ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ غ‍فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ï´¾ [الأعراف: 91-93].

واحتسب موسى عليه السلام على فرعون فقال له فرعون ï´؟ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ï´¾ [الإسراء: 101] وخطب الناس فقال ï´؟ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ï´¾ [غافر: 26]. فكانت النتيجة الغرق والهلاك والعذاب الدائم ï´؟ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ غ‍ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ï´¾ [الزخرف: 55، 56].

يا لها من عبر وآيات نقرؤها ونسمعها ونمر بها، وربما نغفل عنها؛ فلنعلم أن أولئك المعذبين إنما عذبوا وأهلكوا في الدنيا، واستحقوا عذاب الآخرة لأنهم رفضوا الاحتساب عليهم، وسخروا من المحتسبين، وكرهوا الناصحين، وآذوهم واحتقروهم، وكذبوا عليهم، وألبوا العامة ضدهم، وادعوا أنهم أحرار يفعلون ما يشاءون.. وفي مجتمعات المسلمين اليوم من يفعل ذلك، فيا لخسارتنا إن اغتررنا بكلام المفسدين الأفاكين، وتركنا نصح الناصحين المحتسبين!!

ونبينا الناصح الأمين - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا باحتساب بعضنا على بعض، وإشاعة المناصحة فينا، وأخذ الصالحين منا على أيدي العصاة للنجاة من العذاب. فقال - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ" رواه مسلم. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ" رواه أحمد.

إن الأمة لا ينجيها صلاح الصالحين منها، ولا استقامتهم على أمر الله تعالى، ولا عكوفهم في المساجد، ولا لزومهم المصاحف إذا لم يكن فيها مصلحون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ لأن الله تعالى علق نجاة الناس من العذاب على وجود مصلحين فيهم ï´؟ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ï´¾ [هود: 117]. والأمة التي ترفض الاحتساب جديرة بالعذاب، والأمة التي تحارب المحتسبين يضعف فيها المصلحون، ويتكاثر المفسدون حتى تحل بها عقوبة الله تعالى ونقمته وغضبه.. فأحيوا -عباد الله- شعيرة الحسبة فيكم، وأعينوا المحتسبين منكم، وخذوا على أيدي المفسدين؛ لئلا يحل بنا ما حل بالسابقين ï´؟ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ï´¾ [هود: 116].

بارك الله لي ولكم في القرآن...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ï´؟ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ï´¾ [البقرة: 123].

أيها المسلمون: تستقبلون بعد يوم أو يومين أفضل أيام السنة على الإطلاق، وقد جمع الله تعالى فيها أمهات العبادات، وحث فيها النبي عليه الصلاة والسلام على الإكثار من العمل الصالح؛ لأنه فيها أفضل منه في غيرها فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فيها أَحَبُّ إلى الله من هذه الْأَيَّامِ - يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْر -، قالوا: يا رَسُولَ الله، ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ» رواه أبو داود، وفي رواية للدارمي: «ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله عز وجل ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعمله في عَشْرِ الْأَضْحَى.....قال الراوي: وكان سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ إذا دخل أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حتى ما يَكَادُ يَقْدِرُ عليه».

وفي حديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ الله وَلاَ أَحَبُّ إليه الْعَمَلُ فِيهِنَّ من هذه الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ والتحميد». رواه أحمد. «وكان ابنُ عُمَرَ وأبو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أَيَّامِ الْعَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ الناس بِتَكْبِيرِهِمَا». رواه البخاري معلقا.

وشرعت الأضحية في خاتمتها وتاجها يوم العيد، حتى سمي يوم النحر؛ لكثرة ما ينهر فيه من الدماء تقربا إلى الله تعالى.

ومن كان في نيته أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره من أول ليالي العشر؛ لما جاء في حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دَخَلَتْ الْعَشْرُ وَأَرَادَ أَحَدُكُم أَنْ يُضَحِّيَ فلا يَمَسَّ من شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شيئا». وفي رواية «فلا يَأْخُذَنَّ شَعْرًا ولا يَقْلِمَنَّ ظُفُرًا». رواه مسلم.

فاعملوا خيرا، وأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا تجدوا خيرا، ï´؟ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ï´¾ [البقرة: 110].

وصلوا وسلموا على نبيكم...

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 25-11-2019, 03:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,743
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحسبة والمحتسبون

الحسبة والمحتسبون (9)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



تحصين القلوب من المنكر


الحمد لله العليم الحكيم، الولي الحميد، الكريم المجيد؛ باسط الخيرات، وكاشف الكربات، ودافع النقم والعقوبات، يطاع فيثيب ويشكر، ويعصى فيحلم ويغفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل التدافع بين الخير والشر سنة دائمة، وقضى لأهل الصبر والتقوى واليقين بالعاقبة، فغاية أهل الشهوات العاجلة، ولأحبابه سبحانه رضاه والدار الآخرة ï´؟ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ï´¾ [الأعلى: 16، 17] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله؛ أمضى حياته كلها في الاحتساب على الناس؛ يأمرهم بما ينفعهم، وينهاهم عما يضرهم، ويأخذ على أيديهم، ويقيم حكم الله تعالى فيهم، فما فارقهم إلا بعد أن رسَّخ فيهم شعيرة الحسبة، ورباهم على التواصي بالحق والصبر طاعة وقربة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن مقام أحدكم في الدنيا كساعة من نهار، أو كعشية وضحاها، واعتبروا بما مضى من أعماركم.. كم تقيسونه بالزمن؟ وهل تشعرون بطوله الآن؟ وهل تحسون بما مضى من أفراحكم وأحزانكم؟ مرت كأنها لم تكن، فاعتبروا بما مضى من أعماركم لما بقي منها لكم، وجدوا في بناء آخرتكم؛ فإن الدنيا متاع، ولكنها متاع الغرور ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ï´¾ [فاطر: 5].

أيها الناس:
جعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قطب الدين ورحاه، وببقائه ميَّز هذه الأمة على سائر الأمم، فلا يندثر فيها الاحتساب على الناس إلى آخر الزمان؛ لبقاء طائفة منها على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.

وأمة الإسلام نالت الخيرية بالاحتساب بنص القرآن ï´؟ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ï´¾ [آل عمران: 110] وتبقى خيريتها ما بقي الاحتساب فيها، وتنزع الخيرية من أفرادها ومجتمعاتها بقدر ما عطلوا من شعيرة الاحتساب، وكلما كانت شعيرة الاحتساب قوية فيها كان ذلك أكثر لخيريتها، وأقوى لركنها، وأظهر لعزها؛ لأن تعطيل الحسبة سبب الذلة.

والمنكر إذا دهم الناس وجب على الناس رده ورفضه، وتعطيله وإبطاله، ووعظ من يفرضه ويشيعه وينشره. فإن كان واقعا لا بد سعى أهل الإيمان في تخفيفه وتقليل آثاره ومفاسده، وتحذير الناس من ركوبه وشهوده، فأمحضوا لهم النصح، واجتهدوا في الوعظ؛ إقامة للحجة، وقطعا للمعذرة؛ وليعلم أهل المنكر أنهم على منكر؛ فلأن يأتي العبد منكرا وهو مقرٌّ بأنه منكر خير من أن يقارفه وهو مستحل له، ولن يقع الاستحلال للمنكرات على وجه عام إلا إذا غلب الجهل على الناس، وما عادوا يعرفون المعروف من المنكر، وهذا لا يكون إلا باليأس، وتعطيل الحسبة، والتقصير في الوعظ والتذكير والنصيحة؛ فإن المؤمن يجب أن يكون أنصح الناس للناس، وأوفاهم لهم، وأصدقهم معهم. والنصح والصدق والوفاء تقتضي تحذير الناس مما يضرهم؛ ولذا وصف النبي عليه الصلاة والسلام نفسه بأنه النذير العريان، الذي ينذر الناس عدوهم.

ولا عدو أشد على الناس من الشيطان، ولا سلاح له أقوى من ترويض القلوب على المنكرات، حتى تألفها القلوب، وينشأ عليها النشء، ويعتادها الناس، فلا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا. وقصة أول شرك وقع في الأرض كانت بسبب ذلك، حين صورت صور الصالحين، ثم عبدت من دون الله تعالى، حتى نشأت أجيال على الشرك، فلما بعث فيها نوح عليه السلام أنفوا من التوحيد ورفضوه؛ لأنهم ألفوا الشرك واعتادوه... وكل المنكرات إذا وطنت بين الناس فلم ينكرها أحد منهم ألفوها واعتادوها.

إن تحصين القلوب ضد المنكرات من أوجب الواجبات؛ لأن به صلاح القلوب وحياتها، وتمييزها بين ما يضرها وما ينفعها، وإذا فقدت هذه الحصانة صار المعروف منكرا والمنكر معروفا، وهو ما يقع فيه كثير من الناس في آخر الزمن.

والقلب الذي لا ينكر المنكر قلب خال من الإيمان بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». وفي حديث آخر «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ». رواهما مسلم.

وبقاء الإيمان مع ضعفه خير من زوال الإيمان كله. ولا مقارنة. وإنكار القلب ليس له مئونة، ولا من ورائه أي تبعات؛ لأن القلوب لا يملكها ولا يعلم ما فيها إلا الله تعالى.

قِيلَ لِحُذَيْفَةَ رضي الله عنه: «ما مَيِّتُ الأَحْيَاءِ؟ قال: من لم يَعْرِفْ الْمَعْرُوفَ بِقَلْبِهِ، وَيُنْكِرْ الْمُنْكَرَ بِقَلْبِهِ. وفي رواية قال: لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه».

وساق الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى جملة من الأحاديث في ذلك ثم قال: فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه. وأما إنكاره بالقلب فلا بد منه، فمن لم ينكر قلبه المنكر دل على ذهاب الإيمان من قلبه. اهـ.

وقَالَ عَلِيٌّ رِضْي اللَّه عَنه "مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَلْبُهُ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرْ قَلْبُهُ الْمُنْكَرَ نُكِسَ فَجَعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ".

وَسَمِعَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ:" هَلَكَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَلَكَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِهِ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ". يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَحَدٍ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ هَلَكَ. وَأَمَّا الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ وَالْيَدِ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.

ويحدث ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عن زمن تغلب فيه المنكرات، ويقوى أهل الباطل فيقول: "يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَرَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ فِيهِ غَيْرَ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِهٌ".

وكل هذه النصوص والآثار تدل على أهمية تحصين القلوب من قبول المنكرات وإلفها واعتيادها، ولن يكون ذلك إلا بوعظ الناس ونصحهم، وبيان الحق لهم، والاحتساب عليهم، وتكثير الخير فيهم، قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: «إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق».

بل إن ترك الاحتساب على الناس يغير قلب صاحبه ولو كان يظن أنه لا يقع في المنكر؛ لعلمه بأنه منكر، وفي هذا المعنى قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَدْخُلُ الْمَدْخَلَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ لِلَّهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ، فَلَا يَعُودُ قَلْبُهُ إِلَى مَا كَانَ أَبَدًا».

وتوطين المنكرات وفرضها سبب لإلفها إذا لم تنكرها القلوب، ولم يتواص الناس بإنكارها، حتى إن أهل البيت الواحد يقع من أحدهم المنكر فلا ينكره بقيتهم فيسري فيهم جميعا.

ومع عظم حق الوالدين، فإنه لا يسقط الاحتساب عليهما إن وقع المنكر منهما، ولكن ليس الإنكار عليهما كالإنكار على غيرهما، قال سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ قُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، " الرَّجُلُ يَأْمُرُ وَالِدَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: يَأْمُرُهُمَا إِنْ قَبِلَا، وَإِنْ كَرِهَا سَكَتَ عَنْهُمَا".

وقَالَ الإمام أَحْمَدُ رحمه الله تعالى: "يَأْمُرُ أَبَوَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَا عَنْ الْمُنْكَرِ". وَقَالَ أيضا:" إذَا رَأَى أَبَاهُ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ يُعْلِمُهُ بِغَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إسَاءَةٍ، وَلَا يُغْلِظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ، وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَلَيْسَ الْأَبُ كَالْأَجْنَبِيِّ". وَقَالَ أيضا: "إذَا كَانَ أَبَوَاهُ يَبِيعَانِ الْخَمْرَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمْ وَخَرَجَ عَنْهُمْ".

وفيمن تأمره أمه بالمقام في موضع فيه مناكير، قال المروذي لأحمد: فإن كان يرى المنكر ولا يقدر أن يغيره، قال: يستأذنها، فإن أذنت له خرج.

تأملوا عباد الله:
يأمر أبويه وينهاهما برفق، فإن رفضا احتسابه عليهما لم يحضرهما في منكرهما، وإن بقي وجوب بره بهما.. لماذا؟ حتى لا يستوطن المنكر قلبه، ولا تتطبع نفسه عليه، فيألفه فيهلك.

هذا هو تحصين القلوب من إلف المنكرات واعتيادها، فإن بني إسرائيل هلكوا بإلف المنكرات واعتيادها، وعدم تحرك قلوبهم لها ï´؟ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ï´¾ {المائدة:78-79}.

بارك الله لي ولكم...

الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ï´¾ [الأنفال: 20، 21].

أيها المسلمون:
من تأمل القرآن الكريم، يجد أن مفارقة مواقع المنكرات سبب لحصانة القلوب من الشبهات والشهوات، وأن الله تعالى حين يأمر عباده بمفارقتها إنما هو لحماية قلوبهم من الزيغ؛ ولئلا يحل العذاب بهم وهو معهم، يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ï´؟ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ ï´¾ [الأنعام: 68] ثم أكد الله تعالى هذا الأمر بقوله سبحانه ï´؟ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ï´¾ [النساء: 140]. وهذا أصل في مفارقة المنكر ومكانه.

وَلو دعي إلى وليمة وعلم أَنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْوَلِيمَةِ مُنْكَرًا، لَا يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُهُ، لِكَوْنِهِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَوْضِعِ الطَّعَامِ، أَوْ يُخْفُونَهُ وَقْتَ حُضُورِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْضُرَ وله أن يغيب، قَالَ الإمام أحمد: أَرْجُو أَنْ لَا يَأْثَمَ إنْ لَمْ يُجِبْ، وَإِنْ أَجَابَ فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا.

قال ابن قدامة: "فَأَسْقَطَ الْوُجُوبَ؛ لِإِسْقَاطِ الدَّاعِي حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِاِتِّخَاذِ الْمُنْكَرِ، وَلَمْ يَمْنَعْ الْإِجَابَةَ؛ لِكَوْنِ الْمُجِيبِ لَا يَرَى مُنْكَرًا وَلَا يَسْمَعُهُ".

والصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا رأوا المنكر أنكروا على صاحبه، فإن بقي المنكر فارقوا محله. أنكر المسور بن مخرمة رضي الله عنه على فتى لم يحسن الصلاة، وألزمه بإعادتها ثم قال: "والله لا تعصون الله ونحن ننظر ما استطعناه» وحضر أبو أيوب رضي الله عنه وليمة فرأى ما يكره فأنكر على صاحبها قائلا: "وَاللَّهِ لا أطعم لكم طَعَامًا وَلَا أَدْخُلُ لَكُمْ بَيْتًا، ثُمَّ خَرَجَ".

وميزان القلب الحي الذي يغار على حرمات الله تعالى هو من يضيق صدره لمنكر رآه، ويعلوه هم وكرب، ويكون أشد عليه من فوات شيء كثير من الدنيا، قال سُفْيَان الثوري رحمه الله تعالى: " إِنِّيْ لأَرَى الشَّيْءَ يَجبُ عَلَيَّ أَنْ أَتكلَّمَ فِيْهِ فَلاَ أَفْعَلُ فَأَبُولُ دَماً".

ألا فاتقوا الله ربكم، وتفقدوا قلوبكم، واملؤوها بالغيرة على حرمات الله تعالى؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يغضب لشيء أشد من غضبه لحرمة لله تعالى تنتهك قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

وصلوا وسلموا على نبيكم...

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 225.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 219.84 كيلو بايت... تم توفير 5.36 كيلو بايت...بمعدل (2.38%)]