العارية: فضائلها وأحكامها - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4877 - عددالزوار : 1871024 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4445 - عددالزوار : 1206830 )           »          القواعد والضوابط الفقهية في الأعمال الخيرية والوقفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 25 - عددالزوار : 9755 )           »          قناديل على الدرب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 3496 )           »          الخوارج أوصافهم وأخلاقهم.. وذكر التعريف الصحيح لهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 129 - عددالزوار : 65133 )           »          الملك القدوس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          حديقة الأدب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 98 - عددالزوار : 29677 )           »          الوصايا النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 21 - عددالزوار : 4640 )           »          عون المعبود شرح سنن أبي داود- الشيخ/ سعيد السواح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 449 - عددالزوار : 86063 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 17-08-2020, 04:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,816
الدولة : Egypt
افتراضي العارية: فضائلها وأحكامها

العارية: فضائلها وأحكامها


أحمد الجوهري عبد الجواد










إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.


أما بعد فيا أيها الأحبة!


ما أروع هذا الدين! وما أنسب شرائعه للعالمين! وكيف لا؟ وهو دين الحكيم العليم! ولذا نجد في الإسلام من التشريعات والأحكام ما يحتاج إليه النّاس في كلّ زمان ومكان، ومن ذلك تشريعات تحضّ النّاس على التعاون على الخير والبرّ والمعروف كما قال الله سبحانه: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2].




أيها الأحبّة! إنّ "مسائل الحياة أكثر من أن تستوعبها موهبة واحدة، فأنت حين تبني بيتاً تحتاج إلى من يحفر الأساس ويبني الجدران، ومن يصنع الطوب، ومن يصنع الاسمنت، ومن يصنع الحديد.




ولا يستطيع إنسان واحد أن يتعلم كل هذه الحرف ليبني بيتاً، لكن التعاون خصص لكل إنسان عملًا يقوم به، فهناك متخصص في كل جزئية يحتاج إليها الإنسان؛ في حياكة الملابس، والطب، والصيدلة، وغيرها من أوجه احتياجات الحياة، والحقّ - سبحانه - يأمر: « وتعاونوا » ليسير دولاب الحياة ويستفيد الإنسان من كل المواهب لقاء إخلاصه في أداء عمله.




و« تعاونوا » هي أن تأتي بشيء فيه تفاعل ما، ومعنى الشيء الذي فيه تفاعل أنه يوجد «مُعين» و «مُعان».




ولكن المعين لا يظل دائماً معينًا، بل سينقلب في يوم ما إلى أن يكون مُعانًا، والمعان لا يظل مُعانًا، بل سيأتي وقت يصير فيه مُعينًا، وهذا هو التفاعل الذي تحتاج إليه أقضية الحياة التي شاءها الله للإنسانِ الخليفةِ في الأرض والمطالَب أن يعبد الله الذي لا شريك له، وأن يعمر هذه الأرض، ولا تتأتى عمارة الأرض إلا بالحركة فيها، والحركة في الأرض أوسع من أن تتحملها الطاقة النفسية لفردٍ واحدٍ، بل لا بد أن تتكاتف الطاقات كلها لإنشاء هذه العمارة.




إذن فالتعاون أمر ضروري للاستخلاف في الحياة، ومادام الاستخلاف في الحياة يقتضي من الإنسان عمارة هذه الحياة، وعمارة الحياة تقتضي ألا نفسد الشيء الصالح بل نزيده صلاحًا، وحين يقول الحق: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] أي أنه يريد كوناً عامراً لا كوناً خرباً، والشيء الصالح في ذاته يبقيه على صلاحه، إذن فعمارة الحياة تتطلب منا أن نتعاون على الخير لا على الإثم. [1]




بهذا أمرنا الله في دينه الذي جاء ليسير حركة الحياة.




وأيضًا يحتاج الناس إلى استعارة أدوات بعضهم واستلاف الوسائل التي يستعملونها في أشغالهم وأعمالهم؛ لأنه ما كلّ إنسانٍ يستطيع أن يتملك كلّ شيء، وكذلك ربما لا يملك مالاً ليدفع أجرتها، ومن هنا شرع الإسلامُ العاريَّة قضاء لحاجة المستعير، وقد عرفنا أنهم كلّ الناس فأنت مرة يستعير منك الناس الأشياء ومرّو تستعير أنت منهم الأشياء!




﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2] منهج حياة يتعاون بها الناس في الأشغال والأعمال ويعير بعضهم بعضًا الوسائل والأدوات.




ومن هنا أيها الكرام حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على العارية كنوعٍ من تحقيق هذا المبدأ الإسلامي العظيم: "مبدأ التعاون على البر والتقوى".




فما هي العاريّة؟

وما هو فضلها؟

وما هو حكمها؟

وما هي أحكامها؟




وللجواب على هذه الأسئلة أرجو - آبائي وإخواني - أن تعيروني قلوبكم وأسماعكم، آملين أن يجعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هدى الله وأولئك هم أولوا الألباب.




أيها الأحبة الكرام!

ما هي العارية؟

العاريّة هي "إباحة المالك منافعَ ملكِه لغيره بلا عِوَض".




فمن كان يملك شيئًا واحتاج أخوه إليه ليقضي به عملًا، فاستأذنه أن يعطيَه إيَّاه لبعض الوقت، يقضي به هذا العمل ثم يعيده إليه مرة ثانية، فليعطه له، وله الأجر الوفير على ذلك من الله تعالى، ألم تر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: « مَن نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبة من كُرَب الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنه كُربة من كُرَب يوم القيامة، ومن يَسَّرَ على مُعْسِر، يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسلِما سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيا والآخِرَةِ، واللهُ في عَونِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عَونِ أَخيهِ ». [2]




وذلك كأن يستعير أخوك - أيها المسلم - سيارتك؛ ليسافر بها ثم يعيدها إليك، أو تستعير جارتكِ منكِ - أيتها المسلمة - ثوبًا أو شيئًا من الأواني والقدور وأدوات التنظيف؛ فتستعملها لبعض الوقت، ثمّ تردها إليكِ.




في هذه العارية تنفيس لكربة أخيك المسلم.

وفيها تيسير عليه في وقت عسره.

وفيها معونة له على شدّته وحاجته.




والجزاء لك على ذلك من الله تعالى- أيها المسلم المعير والمعين لأخيك -: هو أن ينفّس الله عنك، وأن ييسر الله عليك، وأن يكون الله في عونك، وقتما تحتاج إليه؛ فالجزاء من جنس العمل، والله خير وأوفى!




وهكذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم العاريةَ من أسس تقوية الأخوّة وعوامل تماسكها وشدتها،وفي العارية إحسان المعاملة، وقضاء الحاجات، وتأليف القلوب، وحثّ المجتمع على أن يكون فيما بين أفراده تراحم وتوادّ وتعاطف، فإنّ: "مَثَل الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَ تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌمِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ"، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.[3]




ولهذه الأهداف الغالية أيها الكرام شرع الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم العارية، وحضّ عليها، وأكّد على الالتزام بها.




ولنسمع معًا إلى حديث أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه، الذي يقول فيه: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصرِفُ بَصَرَهُ يَميناً وَشِمَالاً، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَليَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ " يقول أبو سعيد: فَذَكَرَ مِنْ أصْنَافِ المالِ مَا ذكر حَتَّى رَأيْنَا أنَّهُ لاَ حَقَّ لأحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ.[4]




وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فَقَالَ:« يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ إِنَّ مِنْ إِخْوَانِكُمْ قَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ وَلاَ عَشِيرَةٌ فَلْيَضُمَّ أَحَدُكُمْ إِلَيْهِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الثَّلاَثَةَ فَمَا لأَحَدِنَا مِنْ ظَهْرِ جَمَلٍ إِلاَّ عُقْبَةً كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ ». قَالَ: فَضَمَمْتُ إِلَىَّ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً مَا لِى إِلاَّ عُقْبَةٌ كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ». [5]





والعارية كما يقول الفقهاء - رفع الله قدرهم -: مستحبة؛ أحبها وحببها إلى عباده وأحبّها رسول الله وحبّبها إلى أمته، ونلمس في الحديث السابق التأكيدَ الشديدَ عليها، حتى إنّ الصحابيَّ الذي سمع ذلك التأكيدَ منه صلى الله عليه وسلم ليقول: "حتى رأينا أنه لا حق لأحد منّا في فضل".




فبالله عليكم! ماذا يقول من كان معه مكان لأربعة أنفس في سيارته وهو يركب وحده ولا يُركب أحدًا من إخوانه معه، وربّما كانوا زملاءه في العمل؟!




وماذا يقول من كان يملك كتابًا فرَغ من مدراسته ومذاكرته ولم يعد بحاجة ماسّة إليه، بل ربما اشترى لنفسه نسختين ويستأذنه بعض طلاب العلم من إخوانه في استعارته مدّة قراءته فقط ويُعيده إليه فلا يرضى صاحب الكتاب؟!




وماذا يقول من ملك محراثًا أو ماكينة أو عربة واحتاجها جاره لفلاحة أرضه فمنعه ولم يعطه؟!




وماذا يقول عمومًا الذين يمنعون الماعون، أيًّا كان اسمه أو استعماله لمن يثق بأنهم سيحافطون عليه وسيؤدونه بعد انتهائهم إليه؟!




ماذا تقول المرأة تمنع جارتها الشيءَ تحتاجه لصناعةِ طعامٍ أو تنظيفِ أثاث أو أيِّ شيء من إعدادت واحتياجات المنزل؟ وربما تكون أختها!




سبحان الله!

ماذا يقول هذا؟

وماذا تقول هذه؟

ماذا يقولون؟!




ألا ما أقسى قلوب هؤلاء؛ إذ يكرهون ما يحبّه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويرفضون تحبيب الله ورسوله لهما في هذا البرّ والمعروف.




ولهذا جاء الوعيد في القرآن الكريم لأمثال هؤلاء القساة كما في قوله تعالى: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [سورة الماعون]




فذمّ الله تبارك وتعالى هؤلاء؛ لأنهم "يمنعون إعارة ما لا تضرّ إعارته من الآنية وغيرها، فلا هم أحسنوا عبادة ربهم، ولا هم أحسنوا إلى خلقه".[6] بإعارة ما يستعان به على قضاء الحوائج، من إناء، أو فأس، أو نار، أو ما يشبه ذلك.




فانظروا أحبتي ها هو منع الخير والمعروف والبرّ عن الناس قد توعّد الله صاحبه بهلاك شديد، وعذاب عظيم.






أيها الأحبة!

إنّ الإعارة ليست نوعًا من الشحاذة أو التسوّل كما يتصوّر بعض الناس! كيف وقد عمل بها خيرة الناس؟! رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما في الحديث عن أنس رضي الله عنه: «أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعار فرساً من أبي طلحة رضي الله عنه».[7].




بل الإعارة مظهرٌ من مظاهر تعاون المجتمع وتكافله واتّحاده؛ وأنت اليوم معير وغدًا مستعير، فهي تبادل مصالح ومنافع؛ ولون من ألوان تبادل الأملاك رغبة فيما هو أغلى وأعلى ألا وهو ترابط النفوس وتآلف القلوب، وأغلى من ذلك نيلُ رضى علام الغيوب - سبحانه -.




فمتى ما أعار الإنسانُ العاقلُ الراشدُ الشيءَ الذي يملكه؛ لينتفع به أخوه المسلم فيما أحلّه الله، ثم يقوم بردّه إليه بعدما يقضي حاجته، كانت تلك قربة من أعظم القرب إلى الله عز وجلّ.




وقد يتعلّل أولئك الذين يفعلون هذا بأنّهم يخافون على أموالهم من التلف ويخشَون على أشيائهم من الضّياع، والإسلام لم يُغفل هذا، بل جعل المستعيرَ مؤتمنًا على ما يأخذه من أموال النّاس، يضمنه إذا هلك بتفريط منه، فقد استعار النبي - صلى الله عليه وسلم- عدةً للحرب أثناء غزوة حنين من الصحابي صفوانَ بنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه فعن صفوان قال: إنّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ: «اسْتَعَارَ أَدْرَاعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: لاَ، بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ»[8]




وزاد الإمام أحمدُ وغيرُه: قال: «فَضَاعَ بَعْضُهَا فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ، قَالَ: أَنَا اليَوْمَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي الإِسْلاَمِ أَرْغَبُ»[9]




فإذا أراد المرء أن يضمن رجوعَ حاجته ممن أعاره فليضمّنها له؛ ليقل لمن استعارها منه: اضمنها؛ فإما أن تعيدها إليّ إذا كانت باقية سليمة، وإذا تلفت عليك أن تعيد إلىّ ثمنها.




فعن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنهما قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلى فأعطهم ثلاثين درعًا، وثلاثين بعيرًا، قال: فقلت يا رسول الله، أعارية مضمونة، أو عارية مؤداة؟ قال: بل مؤداة". [10]




والفرق بينهما كما قال العلماء - رحمهم الله -:

" المضمونة: التي تضمن إن تلفت بالقيمة.
والمؤداة: التي تجب تأديتها مع بقاء عينها، فإن تلفت لم تضمن بالقيمة.
قال: والحديث دليل لمن ذهب إلى أنّ العارية لا تُضمن إلا بالتضمين "[11]





ومعنى ذلك أيها الكرام! - أنّ الشيء الذي تعيره لأخيك المسلم إذا تلف في يده بغير تعدٍّ منه ولا تفريط فليس عليه عهدة، ولا يجب عليه ضمان؛ لأنها تلفت حين تلفت بقدَر الله ولو كانت في يدك لتلفت أيضًا؛ لأنّ لها ميعادها ووقتها، هذا قدرها، أمّا إن كان تلفها بتفريطٍ من الذي استعارها فلا شك أنه يضمنها ويغرّم بثمنها لصاحبها.




لكن إذا قلت له: هب في ضمانك فإما أن يؤديها أو يدفع ثمنها إذا تلفت، في كلّ الأحوال حصل ذلك بتفريط منه أو من غير تفريط.




وكلمة إلى الذي أخذ لينتفع بها، نقول له: العارية في يدك - أيها المستعير! - أمانة، فحافظ عليها واتق الله فيها كمالك تمامًا، وتذكر دومًا قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، فحافظ على حاجة أخيك كما تحافظ على حاجتك، بل أشد مما تحافظ على مالك وحاجتك، وأدّها إليه في موعدها؛ كما أدّاها إليك حين طلبتها.




وتقتضي المروءة أيضًا أن تردّها إلى صاحبها إذا قضيتَ غرضَك منها وانتهيت من احتياجها، أو إذا طلبها قبل أن تقضيَها؛ فإنّ المرء أولى بحاجته، ولأنّ صاحبَها أحسن إليك، والله - تعالى - يقول: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60].




والنّبي - صلى الله عليه وسلم يقول: "أدّ الأمانةَ إلى من ائتمنََك" [12].




نسأل الله تعالى أن يوسّع على المسلمين من فضله، وأن يربط على قلوبهم، ويوحّد صفّهم، ويؤلّف بينهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد، فأيها الأحبة الكرام!




هذه تشريعات ربنا للحياة، فالحمدلله الذي تعبّدنا بدينٍ يساير خطواتنا في الدنيا، ويبقى معنا أينما كنّا، لا يجامعنا في مكان ويفارقنا في آخر! إذ لو كان كذلك لكانت مشقّة نفسيّة لا يقدِر على ما تخلقه من أزمة في النفس وضيق في الروح أحدٌ!




فمن منا يستطيع أن يكون نصف عبد لجهة ونصف عبد لجهة أخرى؟!

إن كان في المسجد تعبد الله بما شرع، وتقرّب إلى الله بما أحبّ، فإذا خرج إلى ساحِ الحياة المختلفة أطلق لنفسه العنان، وترك أموره لهواها، تفعل به ما تشاء، فيكون قد عاش نصف عبدٍ، فلا هو عبد لله خالصًا، ولا هو عبد لنفسه وهواه خالصًا!




أيّ مشقّة تلك؟ وأي عذابٍ هذا؟

ولهذا - أيها الإخوة! - كان التوحيد هو أعظم معاني الحرّيّة ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 161 - 165]




فمن أعظم فضائل التوحيد أنه يحرِّر العبد من رقِّ المخلوقين والتعلّق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، ومن رقّ النّفس الأمّارة بالسوء، وهذا هو العزُّ الحقيقيُّ والشرفُ العالي، ويكون مع ذلك متألهًا متعبدًا لله، لا يرجو سواه، ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه. [13]




ولهذا قيل عن المشركين:

هربوا من الرقّ الذي له خلقوا ♦♦♦ فبلوا برقّ النفس والشيطانِ [14]




فاللهم حرّرنا بالعبوديّة لك، وأعزّنا بالذّلّ بين يديك، واملأ حياتنا بعبادتك، وأنعم علينا بجميل معرفتك، ودوام محبتك، يا ذا المَنِّ والعَطاء! يا مَن لا يُعجِزْهُ شيءٌ في الأَرضِ ولا في السَّماء!






[1] تفسير الشعراوي (ص 2008)، بتصرف.

[2] أخرجه مسلم (2699).

[3] أخرجه مسلم (2586).

[4] أخرجه مسلم ( 1728).

[5] أخرجه أبو داود (2534)، والحاكم (2451)، وصححه الألباني.

[6] التفسير الميسر (11/ 77)، مجموعة من العلماء - عدد من أساتذة التفسير تحت إشراف الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي، الشاملة.

[7] أخرجه البخاري (2747)، ومسلم (4266)

[8] أخرجه أبو داود (٣٥٦٢)، وغيره، وصححه الألباني في «الإرواء»: (٥/ ٣٤٦).


[9] أخرجه أحمد: (١٤٨٧٨)، وهو في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٢٠٧).

[10] أخرجه أبو داود (٣٥٦٦)، وأحمد: (١٧٤٩٠)،وصححه الألباني في «الإرواء»: (١٥١٥).

[11] سبل السلام (69/ 3).

[12] أخرجه الترمذي (1264) وصححه الألباني فيه.

[13] القول السديد (ص 26)، للسعدي.

[14] القصيدة النونيّة، لشيخ الإسلام ابن قيم الجوزيّة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 78.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 76.91 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.13%)]