تأملات في سورة الأنعام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4457 - عددالزوار : 1224944 )           »          الفرح بالعيد مشاعر تتجدد وأمل يتجلى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          صفة النحر والذبح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          كل الأحاديث الصحيحة في دعاء يوم عرفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 47 )           »          الذكر والدعاء في يوم عرفة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          عيد الأضحى آداب وأحكام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 202 )           »          وقفاتٌ إيمانية وتربوية مع العيد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          مفهوم تعدد النيات في العمل الواحد: كيف تضاعف أجرك وثوابك؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          طريقة عمل فتة العيد فى وقت قصير.. لو عندك عزومة ومفيش وقت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أسرع طرق تنظيف الممبار.. 3 حيل ذكية توفر الجهد والوقت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14-12-2020, 10:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,388
الدولة : Egypt
افتراضي تأملات في سورة الأنعام

تأملات في سورة الأنعام
د. سعود بن غندور الميموني





الخطبة الأولى
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلى يوم الدين...أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ- ورَاقبُوه، وتُوبُوا إليهِ كلَّ وقتٍ واستَغفِرُوهُ، وانْظُروا إلى كَثرَةِ نِعَمِهِ عَليكُمْ، فاشْتغِلُوا بالثَّناءِ عَليهِ بعبادَتِهِ، وعَليكُمْ بالقرآنِ فتَدَبَّرُوهُ ففيهِ الموعِظةُ والشِّفَاءُ والهِدايةُ والرَّحمةُ ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57].


أيهَا الإخوةُ... إنَّ القُرآنَ مَا أُنزِلَ إلاَّ لنتَأَمَّلَهُ ونَتدبَّرَهُ ونعملَ بمَا فيهِ، قالَ تَعالَى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] وقَالَ سُبحانَه ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
وإنَّ مِنَ السُّوَرِ الجَدِيرةِ بالتَّأمُّلِ تِلكُمُ السُّورةُ التي تُمثِّلُ القرآنَ المَكِّيَّ في العقيدةِ، وهيَ مِن نَوادِرِ السُّوَرِ الطويلةِ التي نَزَلَتْ جُملةً واحِدَةً، نزلتْ هذهِ السورةُ يَحُفُّهَا سَبعونَ أَلفَ مَلكٍ لَهُمْ تَسْبيحٌ، والأرضُ تَرتَجُّ مِن هذا العَدَدِ الَّذِي نَزَلَ مِن المَلائِكةِ يَحُفُّ سُورةَ الأنعَامِ، السُّورةَ العظيمةَ الجَليلةَ...


رَوى أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: "نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ لَيْلًا، جُمْلَةً، وَنَزَلَ مَعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْأَرُونَ حَوْلَهَا بِالتَّسْبِيحِ".
سُمِّيتْ بسورةِ الأَنعامِ؛ لأنَّهَا أَكْثَرُ سُورةٍ فَصَّلَتْ مَوضوعَ الأَنعَامِ، والأَنعَامُ آيةٌ تَدلُّ على الخَالقِ جَل وعَلا من خِلالِ بَدِيعِ الصَّنْعَةِ والخِلْقَةِ، وحَتَّى يَعلمَ الناسُ نِعمَةَ اللهِ عَليهِمْ في المأكَلِ والمَركَبِ ﴿ وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 142].


يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَادِحًا نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، وَحَامِدًا لَهَا عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَرَارًا لِعِبَادِهِ، وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ مَنْفَعَةً لِعِبَادِهِ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ عِبَادِهِ، وَجَعَلُوا مَعَهُ شَرِيكًا وَنِدًّا، وَاتَّخَذُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ [الأنعام: 1].
وكَيفَ يَعبُدونَ غيرَهُ، وهو سبحانَه الخَالِقُ المبدِعُ الذي يَعلَمُ السِّرَّ وأَخفَى ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ [الأنعام: 2، 3].

أَلَيسَ للضُّلاَّلِ في أسْلافِهِمْ عِبرةٌ وآيةٌ، أَلمْ يَكُنْ هَلاكُ الظَّالمينَ مِنَ الأوَّلِينَ كَفِيلٌ بأنْ يَرْدَعَهُمْ عَن غَيِّهِمْ، لَكنَّ الشَّقِيَّ مَن لا يَتَّعِظُ إلاَّ بنَفْسِهِ ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 6].


ومِنْ دَلائِلِ رُبُوبِيَّتِهِ أنَّه مَالكُ كلِّ شَيءٍ والقَادرُ عَلَيهِ قَالَ تَعَالى: ﴿ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 13]، ولأنَّ الضُّلاَّلَ لا يَعرِفُونَ إلاَّ لُغَةَ المَادَّةِ قالَ تعَالى لَهُم: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 14] فإذَا كانَ سُبحَانَهُ لَه مَا سَكَنَ في اللَّيلِ والنَّهارِ، وهُو يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ، وهو سُبحانَهُ وحْدَهُ الذي يَكشِفُ الضُرَّ ويُجِيبُ المُضطَرَّ، قالَ تعَالى: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17] فَمَنِ المُسْتَحِقُّ للعبادةِ والخُضُوعِ؟! ومَنْ أَحَقُّ أنْ يُتَوَجَّهَ إليهِ بالذُّلِّ والخُشُوعِ؟! ومَنِ الأَوْلَى بالذِّكْرِ والثَّنَاءِ والإِنَابَةِ والرُّجُوعِ؟!


إنَّه اللهُ.. لَيسَ شَيءٌ أكبرَ مِنهُ ولاَ أَعظمَ مِنه سُبحانَه وتعَالى ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 19].
وحَذَّرَ سُبحانَهُ عِبادَهُ مِن الدُّنيا وإِيثَارِهَا علَى الآخِرَةِ فقالَ سُبحانَه ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 32].. ثُمَّ حَذَّرَ مِن نِسيَانِ مَوَاعِظِهِ وأَنَّ على الإِنسانِ أَنْ يَعملَ بِمَا ذُكِّرَ بهِ؛ ولِذَا قالَ سُبحَانَه ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 44، 45] فالدُّنيَا يُعطِيهَا اللهُ لِمَنْ يُحِبُّ ومَن لاَ يُحِبُّ، والمالُ لَيسَ عَلامةَ مَحَبَّةِ اللهِ...


فقَدْ تَرَى كَثِيرًا مِنَ الفَجَرَةِ يَتَمَرَّغُونَ في النَّعِيمِ ولَكنْ ﴿ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 82]، لَنْ تَنْفَعَهُمْ أمْوالُهُمْ وَلا أَولادُهُمْ عِندَ اللهِ، بَل لَو كَانَ مَعَهُم جِبالٌ مِن ذَهَبٍ، ولَو أَنَّ لَهُم مَا في الأرضِ جَميعًا لافْتَدُوا بهِ، ولَكنْ هَيْهَاتَ.
عبادَ اللهِ... إنَّ للهِ في كَونِهِ آياتٍ، وفي خَلقِهِ عِبرًا، فمنِ الذي شَقَّ سَمعَكَ وبصَرَكَ، ومَنِ الذي رَزَقَكَ العقلَ والقلبَ، وأنْعَمَ عليكَ بالإِدرَاكِ والفَهْمِ؟!! إنَّه اللهُ جَلَّ وعَلا.. أفَيُعصَى رَبُّنا بعدَ هذَا كُلِّهِ، أفَيُعصَى سُبحَانَهُ وهُو الْقَادِرُ أَنْ يَسْلِبَ فَلا يُنْعِمَ، وأَنْ يَمنَعَ فَلا يُعْطِي....


﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 46، 47].
هُو الذي يَمْلِكُ خَزَائِنَ السَّماواتِ والأرْضِ ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59] رَوَى الإمامُ البُخَارِيُّ مِن حَديثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ".


وَكَمَا أَنَّهُ سُبحانَه يَمْلكُ خَزَائِنَ السماواتِ والأرضِ وعِندَه مَفاتِحُ الغَيبِ، فهُوَ سُبحانَه الْقَادِرُ على كُلِّ شَيءٍ ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 65]، رَوَى الإمامُ البُخَارِيُّ مِنْ حَديثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾[الأنعام: 65]..


قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ»، قَالَ: ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65] قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» ﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا أَهْوَنُ، أَوْ هَذَا أَيْسَرُ».
أيهَا الإخوةُ... إنَّ الحياةَ مَهمَا طَالتْ فَهِي قَصِيرةٌ، ومَهمَا عَظُمَتْ فهِي حَقِيرةٌ، فَأَحْبِبْ مَا شِئتَ فإنَّكَ مُفَارِقُهُ، واجْمَعْ مَا شِئْتَ فإنَّهُ تَارِكُهُ؛ كَمْ في الدنيا مِن مُلُوكٍ جَمَعُوا وجَمَعُوا، ثُمَّ مَاتُوا ومَا مِنْ شَيءٍ أَخَذُوا، وصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقولُ: ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94].


عبادَ اللهِ... في هذِه السُّورةِ ذَكَرَ اللهُ قَوَاعِدَ عَظِيمةً في التَّعَامُلِ معَ البَشَرِ؛ مِنهَا أنَّ العِبرَةَ والمِيزَانَ لَيسَ أَبدًا بالْكَثْرَةِ، فكَمَا قالَ ابنُ مَسعُودٍ: "أنْتَ الجَمَاعَةَ وإنْ كُنتَ وحْدَكَ"، قالَ تَعَالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 116] فَلا تَغْتَرَّ بكَثرَةِ الهَالِكِينَ ولَكِنْ الْزَمْ طَرِيقَ الصَّالِحِينَ.


ومِنَ القَواعِدِ أَيضًا مَا ذَكَرَهُ اللهُ بقولِهِ: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123] فَهذِهِ سُنَّةٌ كَونِيَّةٌ أَنْ تَجِدَ الْمجْرِمِينَ والسُّفهاءَ والجَهَلةَ فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ، فَلْيحْذَرْ كُلُّ مُسْلِمٍ مِن سَفَهِهمْ وضَلالِهِمْ، ولْيعْلَمُوا هُمْ أَنَّهُمْ مَا يَجهَلُونَ ومَا يَمكُرُونَ إِلاَّ بأنْفُسِهِمْ، فَمَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ فَمَنِ الَّذِي يَغْلِبُهُ ويُحْزِنُهُ؟!


وقَبلَ أَنْ تَنتَهِي السُّورةُ ذَكَرَ اللهُ وصَايَا جَامِعَةً، تَجمَعُ خَيرَ الدُّنيَا والآخِرَةِ بَدَأَهَا اللهُ بقَولِهِ: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [الأنعام: 151] فنَهَى عَنِ الشِّركِ، ثُمَّ أَمَرَ بالإحسانِ إلى الوَالِدَيْنِ، ونَهَى سُبحانَهُ عَن قَتلِ الأولادِ مَخَافَةَ الرِّزقِ، وعَنِ الفَواحِشِ والقُربِ مِنهَا، وعَن قَتلِ النَّفسِ التي حَرَّمَ اللهُ، وعَن أَكلِ مَالِ اليَّتِيمِ، وأَمَرَ أيضا بالوفَاءِ في الكيلِ وبالعَدلِ في القَولِ والصِّدقِ مَع اللهِ جَلَّ وعَلا، وخَتَمَ الوصَايا بِقَولِهِ تعَالى:
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
اللهمَّ ارْزُقْنَا اتباعَ صِرَاطِكَ المستقيمِ، والسَّيرَ على النَّهْجِ القَويمِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.



الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَهُ الْحَمْدُ الْحَسَنُ وَالثَّناءُ الْجَمِيلُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا... أمَّا بَعْدُ:
أيها المسلمونَ... مِنَ القَضَايا الاجتمَاعِيَّةِ والفِكْريَّةِ التي عَالَجَتْهَا هَذهِ السُّورةُ: قَضِيَّةُ التَّحَزُّبِ والتَّشَرْذُمِ؛ فإنَّ الأصلَ في الأُمَّةِ أن تكونَ علَى قَلْبِ رَجلٍ وَاحِدٍ، وأنْ يَكونَ المجتمعُ مُتَماسِكًا كالبُنيانِ المرصُوصِ ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، وقَد نَهى اللهُ عَن التَّفَرُّقِ فقالَ جلَّ شأنُه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159]، فَعليكُم بالجَماعةِ فإنَّ يَدَ اللهِ معَ الجَمَاعةِ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنَمِ الْقَاصِيَةَ.


وفي السُّورةِ أيضًا مَا يَدُلُّ علَى كَرَمِ اللهِ وفَضْلِهِ ورَحمَتِهِ بعبَادِهِ؛ فَفيهَا يَقولُ رَبُّنَا ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 160].
ولَمْ تَنْسَ السورةُ قَضِيَّةَ الإِخلاصِ؛ إذ الإخلاصُ مِن أَعظَمِ الأُمُورِ، ولا تَصِحُّ الأَعمَالُ إلاَّ بِهِ، قالَ تعَالَى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 161 - 163].


تِلكَ هِيَ بَعضُ مَعَالِمِ السورةِ وهِيَ كَما قَالَ رَبُّنَا ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155].
نسألُ اللهَ أَن يَنفَعَنَا بالقرآنِ، وأنْ يَرزُقَنَا العملَ بهِ، إنه جَوَادٌ كَرِيمٌ.



اللَّهُمَّ انْصُرِ الإِسْلامَ وأَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْلِ بِفَضْلِكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ والدِّينِ، وَمَكِّنْ لِعِبَادِكَ الْمُوَحِّدِينَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والأَمْوَاتِ.. اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْزِيَ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ.. اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ.. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ وَعَافِهِمْ واعْفُ عَنْهُم.
اللهمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وتَرضَى، وخذْ بناصِيَتِه إلى البرِّ والتقوَى، وارزقه البطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخيرِ وتأمرُه بهِ.
اللهمَّ انْصُرْ جُنُودَنَا فِي الحَدِّ الجَنُوبِيِّ يَا ربِّ العَالَمِينَ..
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 65.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 63.82 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.55%)]