|
الطب الباطني قسم يشرف عليه الدكتور احمد محمد باذيب , ليجيب على اسئلتكم واستفساراتكم حول ما يختص بالطب الباطني |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() التوازن والدوار على طرفي العمر د. غنية عبدالرحمن النحلاوي إضاءةٌ حول معجزة التوازن وخللها عند الكبار والصغار! مقدمة: هل يمكن أن يُصاب الطفل بالدُّوار؟! إذا تأمَّلت الطفلَ الصغيرَ وهو يتدرَّج في تعلُّم الوقوف مستندًا، ثم القيام منفردًا، ثم المشي متهاديًا مضطربًا يقع ويقوم، ثم أخيرًا وهو يمشي بثباتٍ - أدركتَ نعمةَ الله تعالى الذي ﴿ عَلَّمَ الْإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 5]! وربما جعلَنا الإلفُ والعادةُ نغفُلُ عن التفكُّر في هذه الآلاء، وتأتي الإصابة بالدوار (Vertigo) - وهو شكلٌ خاصٌّ من "الدوخة" - لتُذكِّرنا بها مع خصوصيتها على طرفي العمر[1]. وعندما خلقنا الله تعالى جعَل لنا الموجات الصوتية لنتواصلَ بها مع الكون والكائنات؛ بالاستماع والإدراك والانفعال، ولكنه سبحانه جعل للأُذُن دورًا ثانيًا لا يقلُّ أهمية، هو دورها في معجزة "التوازن"، والذي يتطوَّر خلال أول سنتين من العمر، وكلٌّ منا عندما بدأ يَعِي وجَد نفسه يقف ويمشي متوازنًا بحمد الله، ثم ليجد بعد السبعين أنه يلزمه المزيد مِن الحذر والجهد ليحافظَ على توازنه، وفي الحالتين ما يلزم حقًّا الحدب والدعم المعنوي والمادي من المحيطين، وسبحانه القائل: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54]. أهمية التوازن وتنظيمه: لأن التوازن والثبات مُكوِّن أساسي من الصحة البدنية والنفسية للإنسان في جميع الأحوال والأعمار، ولا يكاد يَحسن عملٌ بدونه - فقد سخَّر الله تعالى لتنظيمه والمحافظة عليه مجموعةَ أجهزةٍ وأعضاء تعمل بدقَّة واتِّساقٍ مُدهشينِ، وهي مُبرمَجة لحفظ التوازن وَفْقًا لتعليمات المُبدِع عزَّ وجل، وبما يصلح به شأن عباده، وهي تتآزَرُ في منظومة عالية الدقة، يُشبِّهها العلماء بغرفة عمليات قسمها المركزي، يُشرِف عليه ويعمل فيه الجهاز العصبي المركزي، مُمثلًا في المنطقة الحركية في المخ والمخيخ وجذع الدماغ، والفريق المحيطي: وهو كوَكالةِ أنباء تتصدَّرها الأُذُن والعين والجلد وأوتار العضلات والمفاصل، وتقوم الأُذُن بالدور الأكبر، وتحديدًا قسمها الداخلي بجزئه المسمى الدهليز أو التِّيه، دون أن ننسى دورَ شبكة الأعصاب التي تمتدُّ مهمَّة المنظومة عبرَها لكافة أنسجة الجسم تقريبًا إرسالًا واستقبالًا، بقسميها: الأعصاب الحسية والحركية، والأعصاب الودية ونظيرة الودية (المعصبة للأعضاء اللاإرادية كالمَعِدَة والقلب)، فيما نسمِّيه "الجهاز المستقل أو الذاتي"، وهذا يُعلِّل ترافق الدُّوار بالغثيان أو القيء، ولكلٍّ دورُه؛ من أهم جهاز وحتى أصغر جزءٍ في الخليَّة، مرورًا بالأعضاء والنسج وارتباطاتها، وحمايتها وتمنيعها من الأذى والطوارئ، وترويتها وأكسجتها، والهدفُ إبقاءُ الإنسان قائمًا ثابتًا في وقوفِه وجلوسه ومشيِه، وفي نفس الوقت تأمينُ الحسِّ بالاستقرار أثناء الحركات حتى أبسطها، والذي ينعكس إيجابًا على حياتنا. والمُعجِزُ في هذه المنظومة ليس أنها تعمَلُ على مدار الساعة، ولكن أنها تعمَلُ بأجزاء الثانية! في كل جزء من الثانية تصعد المعلومات من الفريق المحيطي ليتمَّ تحليلُها بالمركز، وتحديد وضع الإنسان ضمن محيطه، ووضع هذا المحيط مِن حيث الحركةُ والسكون (كالمِصعَد والقطار...)، وتصاغ الأوامرُ في المركز، وتُمرَّر عبر المخيخ الذي يُحدد بدقةٍ المدى الحركيَّ المطلوب؛ بحيثُ يضمنُ مثلًا ألا ننكفِئَ حين نجلس، ولا نسقُط حين نقف ونسير، في كل جزء من الثانية! فسبحان الله العظيم! ولأنه يلزم لبسطها أبحاثٌ، فنكتفي هنا بالقسم المحيطي: مراكز الرصد المحيطي في منظومة التوازن: وهي تتوزع في العين، والأذن، والعضلات، وتقوم بالتقاط المنبِّهات والمعلومات آنيًّا وترجمتها، وهي تتعاون بانسجامٍ مع الدماغ لتحقيقِ الهدف (التوازُن). ومثالُها القريب عملُ العين؛ إذ تقوم بدورِها بالرؤية المباشرة، فانطباعُ المرئيات على الشبكية بالوضع المتوازن يكون ثابتًا، وأي اهتزازٍ أو ارتجاج يُولِّد إحساسًا بالانزعاج وعدم الوضوح، وتستقي عينُنا المعلومات مِن كل أنحاء جسمنا المُتحرِّك، وترفع تقريرَها عبر شبكة الأعصاب للمراكز العليا بأن التوازن سويٌّ؛ مثلًا: كل شيء على ما يُرام، أو أنها ترصدُ اضطرابًا في التوازن؛ لأن الرؤية مهتزَّة، فتُحلِّلها المراكز العليا وتعطي الأوامرَ عبر المخيخ: • لكرة العين؛ إذ تؤمر بالتحرُّك حركة لطيفة بحيث تُثَبَّت المرئياتُ على شبكيَّتها، بالرغم من حركة الرأس بما يضمن وضوحَ الصور المشاهَدَة وزوال التشويش والانزعاج. • وللأعصاب المحرِّكة للأوتار والعضلات والمفاصل؛ لتفادي السقوط. أما دور الأذن، فهو أكثر تعقيدًا، ويُؤدِّيه دهليز الأذن الباطنة (أو التيه) المؤلَّف مِن ثلاث قنيَّات نصف دائرية، تنفتح على جزء مركزي، ومن حاويتين (القُرَيْبَة والكُيَيْس)، وتتعامَد تلك الأقنية الهلالية وَفْق الأبعاد الفراغية الثلاثة، وهي ممتلئةٌ بسائل خاص يتحرَّك مع دوران الرأس، وتسبح فيه خلايا عصبية تتنبَّه وتتفعَّل بالحركة، فتُرسِل تقريرَها للمركز مع أبعاد حركات الرأس خلال الدوران، ومِن كافَّة الزوايا؛ نظرًا لتعامُدِها الثلاثي، بينما تلتقط القُرَيْبَة والكُيَيْس الحركات الخطيَّةَ، بما فيها الحركة باتجاه الجاذبية، وتحوي - كالأقنية - السائل والنهايات العصبية، التي تتوضَّع عليها بلورات حجرية تسمى الرمال السمعية، ويتغير الوزن الضاغط للرمال بتغيُّر وضعية الرأس، أو عند التحرك بشكل خطِّي؛ كما في ركوب المِصعَد، وهذه التغيرات في الثِّقل هي المُنبِّهات التي تُرسِل أطراف الأعصاب وَفْقَها تقريرَها للمركز عن صفات الحركة الخطية للجسم، وتجتمع الإيعازات العصبية في فرع العصب الدهليزي، وتنقل للدماغ ليُرسِلَ أوامره لاتخاذ الوضع المناسب؛ (كالميل للأمام، أو توسيع قاعدة المشية، أو السكون، والتمسك). خصوصية طرفَي العمر: وهو مصطلح علمي طرفه الأول: الطفولة الأولى[2]، والثاني: مرحلة الشيخوخة. أولًا: معجزة التوازن عند الطفل: معلومٌ أن جهاز التوازُن المذكور موجودٌ تشريحيًّا منذ الولادة، ولكنه غيرُ فعَّالٍ، ويبدأُ المولود بتخزينِ الخبرات والمعلومات اللازمة لتفعيله بعد الخروج مِن جوِّ الرَّحِم إلى السُّطوح المستوية والثابتة (وهذه هي المعلومة الأولى)، ويتكامَلُ التدريبُ والنضج خلال سنتين وربما أقل، ولا شك أن هذا التأخير هو لحكمةٍ؛ فسبحان الله! إذ لو شاء الله لجعلَ الطفل يُولَد وجهازُه مُبرمَج ومفعَّل وجاهز مباشرة للتوازن، وأحدُ أوجهِ تلك الحكمة - كما بدا لي والله أعلم - أن البرمجة والتفعيل ثم التدريب التالي يتم - بفضل الله تعالى - وَفْق وضع الطفل وبيئته، فطفلُ ساكني المرتَفَعات غيرُ طفل الوادي، وابنُ الساحل والبحر ليس كابنِ البراري، والتدرُّب على المشي عند طفل الإسكيمو ليس كالمشي في الصحراء، وخاصة أن تدريب الطفل على التوازن لا بد أن يتم حافيًا، فسبحان الله! ومهما تقارَبْنا اليوم لكننا ما زِلْنا نعمر أنحاء البسيطة، كذلك تتحرَّض تعديلات لجهاز التوازن والاستعداد لها مُودَعٌ فينا بفضل الله؛ مثل: حفظ التوازن في المصاعد، وخلال السير على حبل، وحفظه بغياب الجاذبية (روَّاد الفضاء)، وما إليه. وصايا للأهل: يتطوَّر جهاز التوازن عند الطفل كردٍّ على المنبهات الخارجية؛ لذلك يجب أن نحفِّزه بتحريك الطفل في وضعيات مختلفة مما يجعل المُستقبِلات المحيطية التي ذكرناها تُرسِلُ تحذيرًا للدماغ بالتغيُّر الطارئ عما كان الحال عليه في الرحم، وقد يُدهش الأمَّ أن أول تمرينٍ ضروري لتحفيز التوازن هو حمل الطفل وعدم تركه مضطجعًا، فيشعر بتغيُّر حالة رأسه في المحيط، وهذا هو التحذير الأول من خطر السقوط، ويردُّ الدماغُ عليه بالأمر بتقليص العضلات المناسبة للتفادي، وتتطوَّر تلك المهارات بالتَّكرار؛ لذلك فإن حملَ الطفلِ المتكرر منذ الأسابيع الأولى من عمرِه، وبوضعيات مختلفة، هو ضرورةٌ وليس عملًا خاطئًا كما يُظَنُّ، كما أن هذا الحملَ سلوكٌ فطريٌّ للأم، وتلقائي للمحيطين بالرضيع، قبل أن يعرف العلم هذا. ومِن مُحرِّضات التوازن الأرجحة باليد أو بالأُرجوحةِ القماشية المنزلية، أو بكُرْسِي الرضيع المُتحرِّك، كما يبتكر الأهلُ المزيد، مع النصح بالاعتدال لتجنُّب فرط الحركة والتنبه الزائد عند بعض الأطفال، وعندما يبدأ الطفل فعلًا بالوقوف والمشي مستندًا (وهذا غير المشي الذاتي الذي يزول بعد الشهر الثالث من العمر)، فليكن حافيًا (بدون جواربَ ولا حذاءً)؛ لأن هذا يُحفِّز وينشط مُستقبِلات حسِّ الوضعة والحسِّ العميق، مما يُسرِّع تطوُّر التوازن، ويُقوِّي التوافق العصبي العضلي الذي تظهر بوادره منذ الشهر السادس بتعلم الجلوس والتقلب والحَبْو، وأغلب الأطفال عندما يمشون في الشهر العاشر بالمساعدة يَبْدُون جذلين وهم يتمايلون ويوشكون على السقوط وكأنهم يلعبون، فسبحان الله! وببلوغِه العام يتمكَّن الطفلُ غالبًا من السير منفردًا، ولكن يبقى مضطربَ التوازن لفترة (1 - 6) أشهر بعد أن يمشي، ويستقر التوازن تمامًا - بإذن الله تعالى - بعمر سنتين، (فأقصى سنٍّ للمشي عمر سنة ونصف)، وخلال ذلك يُتقِن الطفلُ بالتدريج الجلوسَ مِن وضعية الوقوف، والانحناء لالتقاط شيء، وجلوس القُرْفُصاء دون أن يقع، وغيرها من المهارات الأكثر تعقيدًا. شعور الأطفال بالدُّوار: يصعُبُ تشخيصُ الدُّوار عند الطفل الصغير، ما لم نتوقَّعه كسبب لغرابة سلوكه، فهو لا يُعبر عنه بالقول، بل بالارتباك أو البكاء، وربما وُصِف بأنه أخرق (لا يُحسِن ما يقوم به)، كما يتظاهر الدُّوار لديهم بالتلَعْثُم، والتعثُّر، والسقوط، والتقيؤ، أما الأطفال في سن المدرسة وما قبلها بقليل، فقد يَعطُون وصفًا لِمَا يشعرون به يكون مُوحيًا إلى حد ما كـ (الشعور أنه يكاد يقع، أو أنه يدور، أو ما حوله يدور). ثانيًا: التوازن والدُّوار مع تقدُّم العمر: قد يتقهقر أداءُ منظومةِ التوازن؛ إذ تشيخ النسج، ويتناقص نشاطُ الأعضاء العاملة فيها مركزيًّا ومحيطيًّا، (وإن كان هذا ليس حتمًا مقضيًّا)، وفي عصرنا صارت الشيخوخةُ أبكر مما خلا، ولكن لم تُحَدَّد قطعيًّا سنُّ بَدْئِها؛ وأُنوِّه إلى أنه في مختلف مراحل العمر يبقى التوازنُ معجزةً والدُّوارُ مشكلةً، إلا أنَّ "المشكلة" أكبر أهمية عند المسنِّين، فالدُّوار لديهم أسوأُ بحدِّ ذاته وبنتائجه، وغالبًا فإن أمراضَ جهاز التوازن التي تحدث في كافة الأعمار تكون لديهم أشد، وتترافق بجميع أشكال خلله؛ مثل: "الدوخة" dizziness، والدوار vertigo، واختلال التوازن disequilibrium، وقد تحرضها حركات يومية عادية (مثل البحث في رف مرتفع)، وكثيرًا ما يليها حوادث السقوط والكسور الخَطِرة، التي تُبيِّن أن الدُّوار هو المسؤول الأول عنها فوق عمر 65 عامًا؛ ولئلا نستخفَّ بهذه الاضطرابات خاصةً بتطور تدابير مناسبة لها نذكر بأنَّ حوادثَ السقوط هي ثاني أهم سببٍ لوفاة كبار السنِّ بعد الحوادث القلبية الوعائية، ومقابل إحاطة الطفل بالرعاية والدعم فإن المُسنَّ لا يَحْظَى بذلك خاصةً في مجتمعِ سيطرةِ المادَّة، ففي ذروةِ التطوُّر الحضاري منذ عقود كانتِ الحياةُ المادية لا تأبَهُ كثيرًا للذين لا يُنتِجون في سوق المال والأعمال، ثم مع التحلُّل الاجتماعي وتفكُّك الروابط الأسرية في الغرب لدرجة العقوق - تطوَّر هذا الإعراض عن المسنين إلى التذمُّر منهم والتبرُّم بهم، ومِن ثَمَّ إهمالهم لدرجةِ إيذائهم عاطفيًّا دون غضاضةٍ، وربما ماديًّا! وترافقت العزلةُ التي تُفرَض عليهم بارتفاع نسبةِ الخَرَف الشديد أو التفكير في الانتحار بينهم، وكانتِ الأوضاعُ في دُور العَجَزَة مُزْرِيةً، وهنالك بدأت الجهودُ العلمية والاجتماعية في دُوَل الحضارة لإصلاح المشهد السيِّئ الذي تجاوزنا - (وكلُّ مَن تبِعهم شِبرًا بشِبْر) - أعتابَه إلا مَن رحِم ربي المتفضِّل علينا بنعمة الإسلام، واليومَ ينتشر عالَميًّا التخلِّي عن المسؤولية تجاه المُسنِّين لأبعد حدٍّ، (رغم الجهود المبذولة لكبحه)، وتستمر معاناتُهم في الغرب المتحضِّر! وترصدُها البحوث الإحصائية والتحقيقات الصحفية وتقارير المنظمات الدولية، وحديثًا جدًّا اعتبرت منظمةُ الصحة العالَمية الوقوف بوجه ما سمَّتْه: "السلبية والتمييز ضد المسنين على أساس السن وتأثيره الضار عليهم" تحديًا عالَميًّا[3]، ويبرز سوءُ حالهم المتزايد في مجتمعاتنا في تقليد بعض ناشئتنا للغرب (باسم الغزو الثقافي أو الانبهار بالأقوى)! وهذا بدورِه يُرسِّخ خللًا في "التوازن الإنساني"، إن صح التعبير! ولكن دعونا نرجِع لـ"التوازن الجسمي" وأسقامِه - أوجز بعضها - مبينة بإذن الله ما قد يميز المسنَّ والطفل. ما الدوار: يُعرِّفونه بأنه: الشعور الوهمي بالحركة بين المصاب والمحيط، وعندما جئتُ لأكتب عنه "على طرفي العمر"، وجدتُ أن التعريف الأدقَّ أنه الحركة الوهمية بين المصاب والمحيط، فالطفل الصغير لن يُخبِرك بشيءٍ، والمسن قد يخونه التعبير! والدُّوار (أو الدوخة الدورانية) عَرَضٌ شديدُ الشيوع باختلاف الأمراض والحالات، وينتج عن خلَلٍ في آلية التوازن، أو في الأعضاء المسؤولة عنه، أو في تناسُقها؛ مثل نقص التوافُق بين العين والدهليز والحسِّ العميق، وهو يحدُثُ مع الحركة من السكون؛ كالتقلُّب بالسرير، أو النهوض المفاجئ منه، فيشعر المصاب بالدنيا تدور، وأنه بحاجة للتمسُّك بشيء، أو عندما يُعدِّل وضعه فيلتَفِت بجسمِه كله فيَدُور المكان. أما الدوخة[4] فهي كلمةٌ أقلُّ دقَّةً تشمَلُ كُلًّا مِن: الدوار المذكور، وخفة الرأس (اضطراب التوجه أو التأقلم)، وتحدُثُ الأخيرةُ بدون حركة، وبحالة الوقوف أو الجلوس. ويُرافِقُ خفَّة الرأسِ شعور بالوَهَن وشبه الإغماء، وهي تتحسَّن تلقائيًّا، أو تُعالج بسهولة ما لم تكن عَرضًا لمشاكل أخرى. وللدوار أشكال؛ منها: وهم بدوران المحيط بك، أو بدورانك حول نفسك، أو كأنك على قاربٍ: صعود الجسم وهبوطه، ومنها الشعور بمَيْلِ السُّطوح المستوية؛ كالطاولة والأرض، فتضطرب المشْيَة وهو الرَّنْح، أو الهَزَع (أتاكسيا)، ومنها ببساطة مجرَّدُ إحساسك أنك لا تستطيع الوقوف بشكل صحيح، وستسقط ما لم تستَنِدْ، وهذا يُسمَّى: خلل التوازن، ويُفضَّل فصلُه عن الدُّوار، وربما ترافَق أيٌّ مِن الأشكال مع تشوُّش البصر، والتقيُّؤ، وطنين في الأُذُنين، وضعف السمع، والطنين أكثرُها إزعاجًا وهو مِنطَقة تقاطع بين: وظيفة السمع وتأثرها بالضجيج، ومهمَّة التوازن واضطرابها بالدُّوار، وهو صوت مزعج يُسمَع في الأذن وفي الرأس بأشكال مختلفة (صفير، أو نبضان، أو أزيز، أو هدير...، إلخ). أسباب الدوار كثيرةُ، ويبقى ثُلُث الحالات تقريبًا لا يُشخَّص سببُها! نذكُر منها: الاضطراب غير المَرَضي للتوازن، دُوَار الحركة: ومثاله: الجلوس في غرفةٍ مُغلَقة داخل سفينة، فتُرسِل العين معلوماتٍ أن الغرفة ثابتة، بينما الأُذُن تُؤكِّد وجودَ الحركة، (فهي تملك جهازًا فائقَ الحساسية للحركة كما ذكرنا)، وهذا التعارُض في المعلومات يُؤدِّي لدُوار البحر، وهناك دُوار المرتَفَعات، والدُّوار خلال رُكُوب جسمٍ مُتحرِّك كالألعاب الدائرة (القطار الحلزوني والدوامات و...)، ويحدُثُ دُوار السفر عمومًا عندما يكون الشخص متحركًا ويراقب شيئًا ثابتًا؛ كالقراءة في الطائرة أو السيارة، والأسوأُ مُشاهَدة عُروض الشاشات الكبيرة، ونصيحة المختصِّين هنا إغماضُ العينَيْن، وفي تلك الحالات وأمثالها فإن "الدوخة" - كما يُطلَق عليها غالبًا - هي ردَّةُ فعلٍ سليمةٌ يصدرُها جهاز التوازن وتخفُّ مع زوال التحفيز أو تعديله، وإن منظومةَ التوازن بفضل الله مُؤهَّلة للتأقلم عند مُعظَمنا، والدماغُ مُسخَّر لكشف مُسبِّب الدُّوار ومعالجته بآلية المعاوَضة والتعديل للمعلومات الناقصة أو المتضاربة. الدُّوار المَرَضي الدهليزي: وينجم عن وجود مُحفِّز غير اعتيادي لجهاز التوازن الدهليزي، أو مرض مُعيَّن فيه، أو في الأجهزة التي تدعمه مثل جهاز المناعة والدورة الدموية، وكما علمنا، فدهليزُ الأُذُن الباطنة أساسيٌّ للرصد المحيطي، ويعزى 85 - 95 % مِن حالات الدُّوار لعِلَله. التهاب الأذن الباطنة: منه الالتهاب المناعي، ومنه مجهول السبب، ولكن يرجح المنشأ الفيروسي أو الجرثومي بوجود أكثر من إصابة في نفس التجمع البشري، وقد يُسمَّى الدُّوار الوبائي (Epidemic Vertigo)، ويستمرُّ حتى شفاء الالتهاب وغالبًا يسبِقُه الزُّكام، ومِن الفيروسات الأخرى التي تُحدِثه: فيروس الحصبة، والحصبة الألمانية، والعقبول البسيط (الهربس)، وهو يتظاهر بنوبات دُوار قد تكون مفاجِئةً مع غثيان وتقيُّؤ، وشحوب وخفقان وتعرق، وقد يترافق باضطراب سمعٍ، وتشتدُّ الحالة عند المُدخِّن والمُسنِّ، والمصاب بالسُّكري، وقد تتناوب النوبات الخفيفة والشديدة لدى نَفْس الشخص. والمشكلة في هذا الدُّوار أن مَن يُصاب به مرةً يُصبِح مهيَّأً ليصابَ ثانيةً (وجود الاستعداد)، ويجب أن يعرِفَ المرءُ ذلك الاحتمالَ ويَطْمئنُّ لكونِ الحالة تبقى "سليمةً" لن تترك عقابيل عصبية دائمة ولا تُذهب السمع بإذن الله. التدبير: يُشفَى الالتهاب خلال أيام، ونادرًا أسابيع، ويُنصَح بتخفيف حركةِ الرأس أو التغيُّرات المفاجئة في الوضعيَّة أثناء الهجمة، للحدِّ مِن تفاقُمِ الأعراض، وبالدعم النفسي لمنع النكس أو رُهاب الدُّوار، وأهمُّ ما يجب فعلُه أثناء النوبة عدم قيادة السيارة، أو صعود المرتفعات، وعلى المصاب أن يقف فورًا في مكانِه ويُثبِّت رأسه، وإذا كان في المنزل فيتمدَّد على ظهرِه ويتجنَّب الأضواء البرَّاقة والتلفزيون والقراءة، حتى تخفَّ الأعراض، بينما خارج النوبات فإن التحرك الحذر المدروس والمبكر ما أمكن أفضلُ مِن ملازمة السرير التي تُطيل مدة اضطراب التوازن، وبعدَ التحسُّن يستعاد النشاط العادي بالتدريج، فقد تُمثِّل نوبةٌ مفاجئة خطرًا خلال بعض الأنشطة، ولذلك لا بدَّ من الانتظار أسبوعًا بعد انصراف نوبةٍ شديدة من الدُّوار، قبلَ صعود السلالم، أو القيادة، أو تشغيل الآلات الثقيلة، وتلزم الناقهَ مِن إصابة طويلة تمارين لتحريض الدهليز؛ كي يعود لوظيفته ونشاطه وتشمل حركات الرأس والجذع. وهنالك علاجٌ دوائي، وهو مُلطِّف يضمُّ مضادَّات الغثيان ومُثبِّطات الدهليز، وأدوية تُحسِّن جريان الدم في الأذن الداخلية، والتي تفيد نسبيًّا. خصوصيته عند المُسنِّين: قد يُؤدِّي التهابُ الأُذُن الباطنة لدُوار شديدٍ جدًّا لدى المسنين؛ لأسباب عدة؛ منها: التهميش العاطفي والاجتماعي، والتوتر النفسي، وكلها تُنقِص مناعةَ الجسم فيشتدُّ الفيروس شراسةً وتسوء حالُهم لدرجةِ عدم المقدرة على المشي والحركة لعدة أيام، وبوجود التقيؤات الشديدة يُحتِّم الرعايةَ في المشفى، وإعطاء المحاليل الوريدية، وقد تطول الأعراضُ لأسابيعَ، ونادرًا أشهر مما يزيد الضغطَ النفسي ويُدخِلهم في حَلْقة مُفرَّغة لا يكسرها إلا دعمهم عاطفيًّا ونفسيًّا وروحيًّا، وإعادة الثقة بالنفس، فهم قلما يستفيدون من جلسات العلاج الفيزيائيِّ التقليدية، وبغضِّ النظر عن الحُجَج والعوائق لا بد مِن الرفق بالمسن ومرافقتِه ليمشي في مكانٍ آمن، ومساعدته على زيادة نشاطه بالتدريج، وهم مُعرَّضون أكثر مِن غيرهم لدوار نفسي المنشأ، وهذا الدُّوار يكثُرُ مبدئيًّا عند مَن خبر الدوارَ الحقيقي في أي عمرٍ بسبب الخوف من النوبة الثانية "رُهاب الدُّوار"، وسواء في وجود أو غياب اضطراب نفسي سابق عند المسن، فالدوارُ النفسي يستلزم بشدةٍ الدعمَ الصادق والرعايةَ بمودَّة مِن المحيطين، وأن يطمئنَّ المريض بعد الفحص، ويُنصَح بتجاهل الحالة قدر الإمكان وبتخفيفِ الحركة العنيفة السريعة وتوقُّفِها المفاجئ، ونادرًا ما يضطرُّ الطبيب لوصف بعض المُهدِّئات النفسية. الدُّوار السليم الانتيابي (أو النوبي) عند الأطفال: وهو شكلٌ شائع وقد وصف لأول مرَّة عام 1964 في دراسة شمِلَت 17 طفلًا وطفلةً، تحت عمر أربع سنوات، والسبب غامضٌ، ويتَّصِف بنوبات قصيرة (15 ثانية - لدقائق)، ومُحرِّضة بالحركة المفاجئة للرأس أو بحركته باتجاهات معينة، وصعوبة هذه الحالة تكمُنُ في بَدْئها بأعمار مُبكِّرة من (1 - 3) سنوات؛ حيث لا يستطيع الطفلُ التعبير، ويبدو خلال النوبة مذعورًا وشاحبًا، مِشيَتُه مضطربة بشدة يتمايل وقد يقع؛ لأن العضلات لا تستطيع العمل متناسقةً، والصعوبةُ الكبرى تشخيُصه في الأطفال الذين لم يمشُوا بعدُ، ويمكن أن تترافق النوبة مع غثيان وتقيُّؤ وتعرُّق، لكن لا يضطربُ خلالها الوعيُ ولا القدرة على الكلام، ولا يليها نُعاس أو إرهاق، مما يُميِّزها عن الصَّرَع. ومِن الصعوبات الأخرى أن النوبات تختلفُ بشدتها وبتواترها، فهي تتكرَّر يوميًّا إلى شهريًّا، وأسوأ الأشكال هي التي تكون فيها النوبات متراكبةً (أو عنقودية كما تسمى)، ويمكن للأطفال الأكبر التعبير عن الشعور بالدُّوار، وهؤلاء مُعرَّضون لبعض الاضطرابات المستقبلية كصداع الشقيقة، ما عدا ذلك فالحالة سليمة بحمد الله، باستثناء الاختبار الذي يدل على خلل في وظيفة الدهليز، فيكون الفحص السريري والتحريات المخبرية والشعاعية ضمن السواء. دوار اعتلال التيه وتكلس الأقنية الهلالية: وأكثر مَن يصاب به المسنون، ولكنه قد يحدُثُ دونَ الستِّين لاسيما بوجود تصلُّب شرايين، وفرط ضغط الدم والسكري، (وقد يرافقه نقص سمع)، ويتظاهر بدُوار الوضعة: إذ يُشعر بالدُّوار عند الجلوس بوضعية معينة فقط، ويزول هذا الشعور مع الوقت بتجنُّب الجلوسِ بهذه الوضعية، أما سببه فهو غالبًا التكلُّس في القناة الهلالية الموافقة للوضعية. دُوار منتصف العمر "داء مينيير[5]: وفيه يزيد ضغط السائل المالئ لأقنية التيه الهلالية، مُحدثًا نوبات مزعجةً تستمر الواحدة من 20 دقيقة حتى 24 ساعة، وتتحسَّن لتعاود بعد عدة أيام في موجات تتواتر كل بضعة أشهر لبضع سنوات، وهو يتميز بين أمراض التيه باجتماع الطنين، والدُّوار، وخلل السمع، وأشيَعُه فَقْد السمع المؤقَّت (خلال النَّوبة)، بينما كلٌّ مِن هذه الظواهر الثلاثِ تتصدَّر بمفردها غالبًا أحد أمراض الأذن الباطنة، كما يتميَّز بشعور بامتلاء الأذن! وبحمد الله أنه يأخذ بالزوال تلقائيًّا في سن الشيخوخة. الدوار المرتبط بأسباب عامة مثل: • الدوار التالي لرضوض الرأس والعنق: وقد يطول بقاؤه بوجود اختلاطات؛ (مثل النزف والارتجاج: concussion)، هنا يستمرُّ الدُّوار لسنوات أو يكون دائمًا، أما الرضوض غير المختلطة، فدُوارها عادةً يذهب مِن نفسه بدون علاج. • الدُّوار المرتبِط بأمراض القلب وارتفاع أو هبوط ضغط الدم، وفقر الدم: يُفسَّر بتأثُّر تدفُّق الدم للأذن في هذه الأمراض، ومِن ثَمَّ قصورها في حفظ التوازن، ويجب التفكير بسوء التغذية (فقر دم، نقص السكر) لدى اضطراب التوازن على طرفَي العمر، وبقصورِ القلب في كل دُوار عند المسنين حتى يثبت العكس، وقد شدَّدت الرابطة الألمانية لمساعدة كبار السن على ضرورة استشارة الطبيب في حال تَكرار الدُّوار لديهم، فقد يكون مؤشرًا على اضطرابِ نُظُم القلب أو قصوره. • أمراض العيون؛ مثل: وجود سوءِ انكسار، أو قِصَر النظر، أو خلل في عضلات العين، أو وضع نظارة طبية غير مناسبة. • وفي الختام: أُشِيرُ إلى أنه مِن الملاحظ تزايدُ حدوثِ الدُّوار المَرَضي في السنوات الأخيرة، وفي جميع الأعمار، ولا شكَّ أن لهذا عَلاقةً بالعوامل البيئيَّة التي اقتحمت حياتَنا بشدة، بصورة واسعة الانتشار، منها يضعف - فيما يضعف من البدن - المراكز العصبية وبِنْية التِّيه في الأذن الباطنة؛ بحيث تتمكَّن منه تلك الفيروسات المُحدِثة لالتهاب الدهليز (على سبيل المثال)، والتي لم تكن تقوى على ذلك مِن قبلُ - والله أعلم - بهذه الصورة الوبائية؛ كما سمَّاها العلماء. وتلك العوامل البيئية - المستجَدَّة نسبيًّا - ما تزال مراكزُ الأبحاث لم تُوفِّها حقَّها من الدراسة، ربما للضغوط المادية من المُستفِيدين من غضِّ الطرف عنها، وأخصُّ بالذِّكْر أثرَ حقولِ الأشعة الكهرومغناطيسية الضار، وأشَيْعُ مثال عليها من حيث الانتشارُ: الهواتفُ النقَّالة (الجوال أو الموبايل)، التي أثبتت الدراساتُ مِن آثارها المسيئة: الصداع، بُطْء الإنجاز، العقم عند الذكور، التأثير المُسَرْطن لا سيما دون العشرين سنةً مِن العمر... إلخ، وإحداث "الدوخة" أو الدُّوار (موضوع بحثنا)، وكلما أساء الإنسانُ لتلك الأجهزة النبيلة عاليةِ الدقة في جسمه (عن قصد أو عن غير قصد)، والتي متَّعه الله تعالى بها وسخَّرها له - حصد مرَّ الثمرات، فسبحان الله. رُحماك ربَّنا ولك الحمد [1] المصطلح - وهو كذلك بالإنكليزية: the extremes of age" - هو مصطلح طبي يقصد به المسنون والأطفال، ويُستَعمَل للدلالة على سِمات طبية معينة، يشترك فيها الشيخ الكبير والطفل الصغير. [2] الطفولة المبكرة لها 3 مراحل: الرضاعة حتى السنتين. مرحلة الدارجين حتى الثالثة. وتنتهي الطفولة المبكرة في السابعة أو الثامنة. وبالنسبة للطرف الثاني تجدُ في موقع منظمة الصحة العالمية: "حتى الآن لا يوجد معيارٌ عالَمي رَقْمي يُصنِّف المُسنِّين، ولكن هيئة الأمم وافقت على اعتبار (60 عامًا) رَقْمًا مرجعيًّا عامًّا لسكان العالَم المُسنِّين. وفي تفسير ابن كثير: "﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5]، رُوِي عن علي رضي الله عنه: (أرذل العمر)، قال: خمس وسبعون سنة". [3] بيَّنت منظمةُ الصحة العالَميَّةُ "أن دعم المسنين يُشكِّل مُعضِلة اجتماعية اقتصادية وأخلاقية، يحتاج تجاوزُها إلى إرادةٍ سياسية حقيقية"، وجعلت موضوع اليوم الدوليِّ للمسنين لعام 2016 بعنوان: (اتخذ موقفًا حيال التمييز ضد المسنين). [4] تُذكر الدوخة dizziness أكثر في مَعرِض الإغماء أو الغشي، والذي قد أتناوله في مقال منفصل أو الدوار spinning. [5] Meniere disease والاسم للطبيب الفَرنسي الذي وصفه في القرن التاسع عشر.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |