|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الهجرة إلى الحبشة: دروس وعبر (1) عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت سلسلة (3): سلسلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من البعثة إلى الهجرة (15) الخطبة: 44 من السيرة النبوية الْهِجرَةُ إلى الْحَبَشَةِ: دروسٌ وعِبَرٌ (1) الْخُطْبَةُ اَلْأُولَى إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسُوله، نحمدكَ ربَّنا على ما أنعمت به علينا من نِعَمك العظيمة، وآلائك الجَسيمة؛ حيث أرسلتَ إلينا أفضلَ رُسلك، وأنزلت علينا خيرَ كُتُبِك، وشرعت لنا أفضل شرائِع دِينك، فاللَّهم لك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا؛ أما بعدُ:أيُّها الإخوة المؤمنون، تحدَّثنا في الخُطبة المَاضية عن صورٍ من إيذاء المؤمنين وبعض الدروس والعِبر المستفادة من ذلك، فلمَّا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما يتعرَّض له أصحابه من الأذى أمَرهم بالهِجرة إلى الحَبشة فقال لهم: "لَوْ خَرَجْتُمْ إلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ[1]"، فما أحداث هذه الهجرةِ؟ وما الدروس والعِبَر المُستنبطة مِنها؟ موضُوع حَديثنا في هذه الخُطبة والخُطب اللَّاحقة بإذن الله. عِبَادَ اللَّهِ،لمَّا اشتدَّ الأذى بالصَّحابة المُستضعفِين أمَرهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الحَبَشَة (تقع بالجانب الغربي من بلاد اليَمَن وهي اليوم دولة أثيوبيا)، فكانت هجرتهم الأولى، وكان ذلك في شهر رَجبٍ من سنة خمسٍ للبعثة، وكان عددُهم خمسةَ عشر: عشرة من الرجال، وخمس نسوة، منهم: عثمان بن عفان وزوجتُه رقيَّة بنت الرسولصلى الله عليه وسلم، وأبُو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة، وعَامر بن ربيعة وزوجتُه ليلى بنت أبِي حَثمة وغيرهم رضي الله عن الجميع، ولم تدم هذه الرِّحلة الأولى مدَّة طويلة؛ فقد خرجوا في رجَب فأقاموا شَعبان ورمضان وقدموا في شوَّال سَنة خمس، وسَببُ رجُوعهم ما تناهى إلى سَمعهم من الأخبار الواقِعة في مكة. الأول: إسلام حَمزة رضي الله عنه عمِّ النبيصلى الله عليه وسلم. الثاني: إسلام عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعزَّ الإسلام بإسلامِه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنَّا نقدر على أن نُصلِّي عندَ الكَعبة حتى أسلَم عُمر. الثالث: وصُولُ الأخبار إليهم أنَّ أهلَ مكَّة أسلَموا، والخبرُ غير صَحيح، وإنَّما الذي وقع أنَّ النبيَّصلى الله عليه وسلم حينما نزلت عليه سُورة النَّجم قرأها على جمعٍ من المُسلمين والمُشركين، فلمَّا بلغ آخرَها حيث يقول الله تعالى: ﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾ [النجم: 59 - 62] سَجدَ النبي صلى الله عليه وسلم، وسَجد معه جميعُ مَن حضر من المُسلمين والمُشركين[2]إلا رجُلين اثنين: أميَّة بن خلف، والمُطلب بن ودَاعة. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ.[3]". وعَنْ عبدالله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ (وَالنَّجْمِ) قَالَ: فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ، إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَف.[4]". تضافرت الأسبابُ الثلاث مُجتمعة في وصُول الأخبار إلى أهل الحَبشة عن إسلام وسجود أهل مكَّة، وكان هذا الخبر كاذبًا، فرجعوا ولكن ما كادوا يَصلون مكةَ حتى اكتشفوا أن الخبرَ غيرُ صحيح، فمنهم من دخل في جوارٍ، ومنهم من رجَع. وفي هذا القدر ممَّا ذكرنا نخرج بالدروسِ الاتيةِ: الدرس الأول: عزَّة الاسلام بكثرةِ أتباعه: فهمنا هذا بإعزاز جانب المسلمين بإسلام حمزة وعُمر رضي الله عنهما، فلم يعُد باستطاعة المُشركين النيل من المُسلمين بنفس الدرجة قبل إسلامِهما، فوجَب علينا العمل على تكثير جُنْد الإسلام وأتباعِه ممَّن يحملون همَّ تبليغهِ ونشره بين الناس، فالمُؤمن قوي بأخيه ضعيفٌ بنفسه، وذلك بالدَّعوة إلى الله وتبليغه إلى الآفاق واستعمال كل الوسائل المُتاحة ما دَامت مشروعة. فهذا رسول الله قاليَومَ خَيْبَرَ: ((لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ))، فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذلكَ أيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا وكُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَى، فَقالَ: ((أيْنَ عَلِيٌّ؟))، فقِيلَ: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فأمَرَ، فَدُعِيَ له، فَبَصَقَ في عَيْنَيْهِ، فَبَرَأَ مَكَانَهُ حتَّى كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ به شيءٌ، فَقالَ: نُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: ((علَى رِسْلِكَ، حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بكَ رَجُلٌ واحِدٌ خَيْرٌ لكَ مِن حُمْرِ النَّعَمِ.[5]". الدرس الثاني: الحذر من الإشاعات الباطلة وضرورة تحرِّي الخبر: فهمنا هذا فيما وصل إلى المهاجرين من أخبار مكذوبة ومنها إسلام أهل مكة؛ ممَّا سبَّب لهم الأذى حيث مشقة الطريق والسفر، وزيادة الأذى والتعذيب لهم بعد رجُوعهم من الهجرة الأولى، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6] والناس في هذا الزمان تجاه الإشاعة ثلاثة أصناف: الصِّنف الأول: ينتجُ الإشَاعَة: وساعده في ذلك يُسْر التواصل بانتشار وسَائله المختلفة (كالواتساب والفيسبوك أو حتى في بعض القنوات...) وهم أشبه بمن نشر شائعة مقتل عثمان في صلح الحديبية، أو نشر شائعة إسلام أهل مكة في قصَّتنا، ألا فليتقوا الله وليتوبوا إليه من هذا الفِسق المُبين، قال تعالى: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ﴾، فسمَّى الله المُنشِر للإشاعة بالفاسق؛ وهو الشخص غير الموثوق بخبره. الصِّنف الثاني: يُصدِّق الإشاعَة دون تثبت مع نشرِها: فهؤلاء مُعرضُون عن هدي القرآن، والواجبُ عليهم التَّبيُّن من صِدق الخبر أو كذبه؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾، وفي نشرهم لها سيحصُل للنَّاس ولهم ما قَاله تعالى: ﴿ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾، وكم حصَل من النَّدم بعد تبيُّن الحَقيقة. الصِّنف الثالث: يتأكَّد من الخبر: وهو الصِّنف المَحمود المُختار، فلا يتسرَّع ويتأكد من الخبر، عملًا بالآية الكريمة، وله مَسلكان بعد ذلك: المَسلك الأول: نشرُ الخبر بعد تأكد صحته إذا كان في نشرِه مَصلحة، أو الإحجَام عن نشره ولو كانَ صَحيحًا إذا كانت مفسدة نشره رَاجِحة. المَسلك الثاني: نشر تكذيب الخبر بعد تأكُّد كَذبه لتقلِيل مفاسد الإشاعة ما أمكن. فاللَّهم اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وآخر دَعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الحمد لله وكفى، وصلى الله على عَبده المصطفى وآله وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:عباد الله، من الدُّروس والعِبَر المستفادة. الدرس الثالث: سِحْر القرآن وتأثيره في النفوس: فهِمنا هذا من سُجود المشركِين في ختام قِراءة النبيصلى الله عليه وسلم لسُورة النَّجم؛ وهذا لعِظَم تأثُّرهم بالقرآن، وقِصص تأثرهم بالقرآن كَثيرة مِنها: • إجابَة النبيصلى الله عليه وسلم لعُتبة بنِ رَبيعة بالقرآن لمَّا فرغ من مَقالته وإغراءاته، فأسمَعه آياتٍ من سورة فصِّلت، من بداية السورة حتى انتهى إلى السجدة منها، ولشدَّة تأثره بما يَسمع، ألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، وبداعي الفِطرة بعد أن سمِع تغيَّر وجهُه لمَّا رجع إلى أصحابه ليقينه بالحق، وفنَّد أمامهم كل الاتهامات الموجَّهة للنبيصلى الله عليه وسلم فقال: "سَمِعْتُ قَوْلًا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فاعتزلوه، فو الله لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ"[6]، ولكن مع الأسَف اتَّبعَ هَواه ولم يُصْغِ لنداءِ الفِطرة فيه﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]. • ومنها أنَّ كفَّار قُريش يستَرقُون سماع القرآن: ذكر ابن إسحَاق أنَّ: "أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ، خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إذَا كَانَت اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمْ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ أَلَّا نَعُودَ: فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا"[7]، ثم غدا الأخنس إلى أبي سفيان، وإلى أبي جهل يسألهما عن مَعاني ما سَمعوا، فأمَّا أبو سُفيان فاعترف أنَّه يعرِف أشياء وما يُرادُ بها، ويُنكر أشياءَ، وأمَّا أبو جَهلٍ فقال: "والله إني لأعلَم أن مَا يقول حَق"[8] ولكن داعِي الكِبر والحَسد منعه من إدراك الحقِّ. فهل نكُونُ ممِّن يَتأثر بمَواعِظ وزوَاجِر القرآن، أم أنَّ قلُوبَنا أقسَى مِن الجَبَل الذي ضَرب الله لنَا المثَل بِه، فقال:﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21]. فاللَّهم اجعَلنا من أهل القرآن المُنتفعين بِه، آمين. (تَتِمَّة الدُّعَاءِ). ![]() [1] سيرة ابن هشام: 1/ 321-322. [2] حادثة سجود المشركين ثابتة في الصحيح لكن الخلاف في السبب: ذهب الكثير من المفسرين إلى أن السبب هو أن الشيطان ألقى في قراءة النبيصلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد المشركون فيما عُرف بقصة الغرانيق، وفنَّدها الكثير من العلماء منهم ابن كثير في تفسيره: 5/ 441، وللألباني رسالة في تفنيدها سماها: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، وذكر فيها كلام مجموعة من الأئمة طعنوا فيها منهم ابن العربي، والقاضي عياض والشوكاني والألوسي، وردَّ فيها على ابن حجر، انظر الصفحات:37-47 وما بعدها، ورجَّح ما ذهب إليه الألوسي أن سَبب سجود المشركين هو أنه: "يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة "؛ انظر روح المعاني: 9/ 174. [3] رواه البخاري، برقم:1071. [4] رواه البخاري، برقم:3972. [5] رواه البخاري، برقم:2942. [6] سيرة ابن هشام: 1/ 293-294. الروض الأُنُف: 3/ 61. [7] المرجع السابق: 1/ 315. [8] سيرة ابن إسحاق: 210.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الهجرة إلى الحبشة: دروس وعبر (2) عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت سلسلة (3): سلسلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من البعثة إلى الهجرة (16) الخطبة: 45 من السيرة النبوية الْهِجرَةُ إلى الْحَبَشَةِ: دروسٌ وعِبَرٌ (2) الْخُطْبَةُ الْأُولَى إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّه، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغفِرهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا وَمَنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نَحْمَدُكَ رَبَّنَا عَلَى مَا أنعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ نِعَمِكَ العَظِيمَةِ، وآلائِكَ الْجَسِيمَةِ حَيْثُ أرْسَلتَ إلَيْنَا أَفْضَلَ رُسُلِكَ، وأنْزَلْتَ عَلَينَا خَيْرَ كُتُبِكَ، وشَرَعْتَ لَنَا أَفْضَلَ شَرائِعِ دِينِكَ، فَاللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى، وَلَكَ الْحَمْدُ إذَا رَضِيتَ، وَلَكَ اَلْحَمْدُ بَعْدَ الرِّضا، أَمَّا بَعْدُ:أيُّهَا الإخْوَةُ المُؤْمِنُونَ، تحدَّثنا في الخُطبة المَاضية عَن الهِجرة الأولى إلى الحَبشةِ، واستفدنا فيها -من الدروس والعِبر- الحِرصَ على تكثير سَوادِ المُسلمين، والحذر من خطر الإشاعة والكذب، وأثر القرآن وسِحره في التأثير على النفوس. ولمَّا رجع المُهاجرة الأولى ازدادَ أذى المُشركين فأمَرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة ثانيةً إلى الحَبشة للسَّبب السَّالف الذِّكر بكونِ مَلِكها مَلِكًا عَادِلًا، فخرجُوا تِباعًا، وكان عَددُهم ثلاثة وثمانين رجلًا، وإذا احتسبنا نساءَهم فالعددُ يفوق مِئة. عِبَاد الله، تُحدِّثُنا أمُّ سَلمةَ رضي الله عَنها عن هذه الرِّحلة قائلةً: "لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى لَا نُؤْذَى، وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الْأُدْمُ [الْجُلُود]، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عبدالله بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إلى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمَا إلى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلَاهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلَّا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، وَقَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إنَّهُ قَدْ ضَوَى [لَجأ] إلى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْنَا وَلَا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا [أبْصَر بِهم]، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إنَّهُمَا قَدَّمَا هَدَايَاهُمَا إلى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلى عبدالله بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو ابْن الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ النَّجَاشِيُّ. قَالَتْ: فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إلى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَتْ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ، إذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ، حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا، وَرَدَدْتُهُمْ إلى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي"[1]. عِبَادَ اَللَّهِ،في هذا القَدر مِن الحَدث نخرج بدروسٍ وعِبرٍ نجملُها في دَرسَين: الدرس الأول: العدلُ أساسُ المُلك: العِلَّة من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الصَّحابة للحبشةِ هو عَدلُ مَلِكها النَّجاشي، ومن مظاهر ذلك: • الأمن على الدِّين وضمان الحُريَّة الدينية للصَّحابة رضوان الله عليهم، وهذه الحريَّة مفقودة في مكة. • عدم الإذايةِ لهم ايذاءً معنويًّا أو جَسديًّا، وفي مكة أذاقوهم صُنوفًا من العذاب. • رفضُ تسليمِهم حتى يسمع مِنهم، وهذا مقتضى العدل فيجبُ على الحَاكِم والقاضي الاستماع مِن الطرَفين. وفي مكة يرفضون الاستماع للقرآن ويمنعُون أي أحَد من أن يَسمع للنبي صلى الله عليه وسلم. • في نهاية القصَّة رفَضَ النَّجاشي تسلِيم الصَّحابة؛ لأنَّ الحقَّ معَهم، وردَّ الهدية التي قدَّمها مبعوثا قريش؛ لأنَّها رشوة. ومن ثمارِ وبركةِ عدلِ النَّجاشي: أن نَصَرَهُ اللهُ على خَصْمِه الذي نَازعَه المُلك. فالعدلُ سببٌ في دَوام الملكِ وعَدمُ زوالِه، كَما أنَّه سَببٌ في تَحقيق النَّصرِ. وَقادَه ذلك إلى التَّمييز بينَ الحَقِّ والبَاطلِ، والدخول في الإسلام. وقد ضربَ النبي صلى الله عليه وسلم أروعَ الأمثلةِ للعدلِ من خلالِ سِيرتِهِ العَطرةِ، ومن ذلك: ما رُوي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ المَرْأَةِ المَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ"، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[2]. وسَجَّل الخلفاءُ الرَّاشدونَ أرْوَعَ الأمثلةِ في العَدلِ تأسِّيًا بالنبيِ صلى الله عليه وسلم؛ فهذا أبو بكرٍ الصديق رضِي الله تعالى عنهُ لمَّا ولِي الخِلافةَ قال: "الضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حتى أرجع عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ"[3]. فالحقُّ أعطى الضعيف قوةً، والحقُّ حطَّ من قوةِ القوي حتى يتعادلا ويتساويَا في الحُقوقِ وفي الحُكمِ. وفي زمنِ عُمرَ رضي الله عنه كان جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ مَلك غسَّان يطوف بالكَعبة، فوطئ رجلٌ فِزارِيٌّ إزارَه فغضِب فلطَمَه وهشم أنفَه، فرفع أمرَه إلى عُمر فاستدعَاه فقال جَبَلَةُ: وطئ إزاري فلطمتُه، فقال عُمر: قد أقررتَ على نفسِك، فلا بدَّ من القِصَاص. فقال جَبَلَةُ: كيف وهو سُوقةٌ وأنا مَلِك؟! قال عُمر: الإسلامُ سوَّى بينكمَا. فمَا كان مِنه إلا أن طَلبَ مُهلةً فهرَب وتنَصَّرَ. فخسِر الدنيَا والآخرَة[4]. فإيَّاكم إخواني والظلم فإنَّه قَاصِمةُ الظهرِ لِلأفرادِ والأمَمِ، قَال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102][5]. لَمَّا رَجَعَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُهَاجِرَةُ الْحبشةِ، قَالَ: «أَلَا تُحَدِّثُونِي بِأَعَاجِيبِ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟» قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا، قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَتْ، صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ؟» [6]. لا تَظلِمَنَّ إذا ما كُنتَ مُقتدِرًا ![]() فَالظلمُ تَرجِعُ عُقبَاهُ إلى النَّدمِ ![]() تَنامُ عَيناكَ والمَظلومُ مُنتَبِهٌ ![]() يَدعُو عَليكَ وعَينُ اللهِ لَمْ تنمِ ![]() فاللَّهم إنا نعُوذ بك أن نَظلِمَ أو نُظلَم، وآخِر دَعوانَا أنِ الحَمدُ لله رَبِّ العَالمين. الْخُطْبَةُ الثانية الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَن اقْتَفَى.الدرس الثاني: الرشوة بين أهل الحقِّ وأهلِ البَاطِل: النَّجاشي رفض الرشوة وردَّها إليهم، وقال مُستعملًا القياس: "رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلَا حَاجَةَ لي بهَا، فو الله مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ"[7]. وهذا هو صَنيع أهلِ الحق، لا يقبضون رشوةً على أعمالِهم التي كُلِّفوا بإنجازهَا، ولايقبضونَ رشوةً أو يُعطونها لقلبِ المَوازينِ والقوانينِ وإبطالِ حقٍّ، أو إحقاقِ باطلٍ، أو ظلمِ أحدٍ، كما فَعل بَطَارقتُه الذين قبضُوا رشوة وإن غلِّفت في صُورة هَديَّة أو غيرهَا من الأسماءِ كـ: (الحلاوة)، فلا يُغيِّر من حقيقتها شَيئًا. فقالوا: "صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إلى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ". قال صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ"[8]، واللَّعن هو الطَّرد والإبعادُ من رحمةِ الله. الرَّاشي: هو الذي يرشي المَسؤولين والعمَّال والوجَهاء ليحصُل على حقٍّ ليس لَه، أويَصرفُ حقًّا عن صَاحبِه، فمن دفعَ رَشوة لمَسؤولٍ، أو لِعاملٍ، أو لِولي أمرٍ من وُلاة المُسلمين، فهو مَلعونٌ، ومثالُه في قصَّتنا؛ ما فعَلته قريش، فهم الرُّشَاة، وعبدالله بنُ ربيعة وعمرو بن العاص، وسطَاء، وقد ورد في بعض الروايات – رغم ضعفِها [9]- "لعن الرَّائِش" وهو الواسطةُ في الرشوة - لكنَّهما نَجَا من اللَّعن بِسببِ إسلامِهما، والإسلامُ يَجُبُّ (يمحُو) ما قَبلَه - ومَن قَبِلَها فهو مَلعُونٌ وهو المُرتشي، ومِثاله في قصَّتِنا: بطارقَة النَّجاشي. فالواجِبُ إخواني التَّوبةُ من الرشوة وعدم الإضرارِ بأحَد، وكفَّارتُها أن يتُوب المُرتشي إلى الله سُبحَانه وتعالى، وأن يأخذَ هذا المَال ليُنفقَه في أحد الوجُوه، ولا يدخِله عَليه ولا علَى أبنَائِه فيُؤْكِلَهُم السُّحْت وَالحَرام، ثم لا يعودُ مرة ثانية إليها، وقد قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 70، 71]. فاللَّهم احفظنا بالإسلام قَائِمين، واحفظنَا بالإسلامِ قَاعِدين، ولا تُشمِّت بنَا عَدوًّا ولاحَاسِدًا، آمين. (تتمة الدُّعاءِ). ![]() [1] سيرة ابن هشام: 1/ 335-336. [2] رواه البخاري برقم: 3475. [3] البداية والنهاية لابن كثير: 6/ 301. [4] انظر تاريخ ابن الوردي: 1/ 139، والبداية والنهاية لابن كثير: 8/ 69. [5] رواه البخاري برقم: 4686. [6] رواه ابن ماجه برقم:4010. وصحَّحَه شعيب الأرنؤوط ومن معه في تحقيقه لسنن ابن ماجه. [7] سيرة ابن هشام: 1/ 338. [8] رواه أحمد في المسند برقم: 9031، وصحَّحه شعيب الأرنؤوط. [9] عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ»؛ رواه الحاكم في المستدرك برقم: 2101. قال الألباني: "ذكر ليث في هذا الحديث زيادة لم يروِها غيره؛ وهي "الرائش"كما ذكر البزار، فهي زيادة منكرة لتفرُّد ليث بها، وهو ضعيف لاختلاطه". انظر السلسة الضعيفة: 3/ 381. لكن يبدو أن معنى الزيادة صحيح؛ لثبوت نفس العلة في الرائش؛ وهي التعاون على الإثم والعدوان في إلحاق الضرر بالغير. والله أعلم.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الهجرة إلى الحبشة: دروس وعبر (3) عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت سلسلة (3): سلسلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من البعثة إلى الهجرة (17) الخطبة: 46 من السيرة النبوية الْهِجرَةُ إلى الْحَبَشَةِ: دروسٌ وعِبَرٌ (3) الخُطْبَةُ الْأُولَى إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّه، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغفِرهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا وَمَنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نَحْمَدُكَ رَبَّنَا عَلَى مَا أنعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ نِعَمِكَ العَظِيمَةِ، وآلائِكَ الْجَسِيمَةِ حَيْثُ أرْسَلتَ إلَيْنَا أَفْضَلَ رُسُلِكَ، وأنْزَلْتَ عَلَينَا خَيْرَ كُتُبِكَ، وشَرَعْتَ لَنَا أَفْضَلَ شَرائِعِ دِينِكَ، فَاللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى، وَلَكَ الْحَمْدُ إذَا رَضِيتَ، وَلَكَ الْحَمْدُ بَعْدَ الرِّضَا؛ أَمَّا بَعْدُ:أيُّهَا الإخْوَةُ المُؤْمِنُونَ، تحدَّثنا في الخُطبة المَاضية عَن الهِجرة الثانية إلى الحَبشةِ، وحديث أمِّ سَلمة رضي الله عنها عن هذه الهجرة، واستفدنا فيما ذكرناه من الدروس والعِبر أنَّ العدل أساسُ المُلك، واستفدنَا هذا من عدلِ النَّجاشي ورفضِه تسلِيمَ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستمِع منهم، وردِّه لِرشوة قريش المغلَّفة في صُورة الهَديَّة. ويستمر بنا الحديث في هذه الخُطبة عن حديث أمِّ سَلمة رضي الله عنها، وخاصةً حديثها عن: إِحْضَار النَّجَاشِيِّ للمهاجرين، وَسُؤَاله لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَجَوَابهمْ عَنْ ذَلِكَ. عِبَاد الله، تقولُ أمُّ سَلمةَ رضِي الله عَنها بعد حدِيثها عن ردِّ النَّجاشي لهدايا قُريش: "ثُمَّ أَرْسَلَ إلى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ: وَاَللَّهِ مَا عَلِمْنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا جَاءُوا، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ[1]، فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إلى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِن الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَن الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَن الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ- قَالَتْ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ- فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِن اللَّهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لِيَرُدُّونَا إلى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِن الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إلى بِلَادِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، وَرَجَوْنَا أَلَّا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ"[2]. عِبَادَ اللَّهِ، في هذا القَدر مِن الحَدث نخرُج بدروسٍ وعِبَرٍ نجملُها في دَرسَين: الدرس الأول: الاعْتصَامُ بالكِتاب والسُّنةِ حَبلُ النَّجَاةِ: لمَّا حَار المسلِمون في الذي ينبغي فِعلُه للردِّ على النجاشِي، جاء الحلُّ سَريعًا نتيجة سَلامة الفِطرة عِندهُم، فقَالُوا: "نَقُولُ: وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ"، وقال جعفر: "وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا"، فَلم يقولوا: نتحايل حتَّى ننجُو من بَطشِ النجاشِي، ولم يَكذِبوا، ولم يُنافِقوا، ولم يُدَاهِنوا، ولم يحرِّموا ما أحلَّ الله، ولم يُحِلوا ما حرَّمه الله، فلمَّا تمسَّكوا بالأصْلِ جَعلَ اللهُ لهُم فَرَجًا ومَخرجًا مِمَّا هُم فِيه ونستفيدُ مِن هذا لِواقِعنا ما يَلي: • عدمُ التفريط في الكتابِ والسُّنةِ والاجتهاد في فهمِهمَا والعمل بهما، قالَ تَعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، قال ابْنُ عَوْنٍ: ثَلَاثٌ أُحِبُّهَا لِنَفْسِي وَإِخْوَانِي: هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أن يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ وَيَدَعُوا النَّاسَ إلَّا مِنْ خَيْرٍ[3]. وقيل للإمام مالك: ما النجاةُ؟ قال: السُّنة سَفينةُ نوحٍ من ركبَ فيها نجَا، ومن تخلَّف عنها هَلك. • الحذرُ من دُعاة الفِتنة الذين يحكِّمون عُقولَهم فقط في نُصوصِ الكتابِ والسنة. فالحق عندهم ما وافق عُقولَهم وما عداه فهو بَاطلٌ يجبُ تركُه، كما يجبُ الحذر مِمَّن يُسمُّونَ أنفُسَهم زُورًا وبُهتانًا بالقُرآنِيين، والقُرآنُ مِنهم بَراءُ، فهؤلاءِ حذَّرنا مِنهم النبي صلى الله عليه وسلم بِقوله: "أَلا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ. وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ"[4]. وصدقَ رسُولُ الله، رِجالٌ قعَدوا على كَراسِيهِم في بيُوتهم أو مُحاضَراتهم أو في مواقِعهم على وسَائل التواصل وأمام الكَاميرات، يردُّون أحاديثَ المُصطفى ويقدَحونَ في الأحاديثِ الصَّحيحة مِمَّا رواه الأئِمة الثقاة عِند المُسلمين قَاطبةً. • أنَّ الاعتصام بالكتاب والسنة حبلُ النجاة، قالَ تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، قيل في حبلِ الله تفسيراتٌ، منها: أنَّه القرآن. وقالصلى الله عليه وسلم عن سُنَّتِه: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"[5]. الدرس الثاني: التَّخلِيةُ قَبلَ التَّحلِيةِ: إذا تأملنا خِطَاب جَعفر رَضي الله عنه أمام النَّجاشي أنَّه ذَكَر أولًا ما يَنهى عَنه النبي صلى الله عليه وسلم من مَسَاوِئ الجَاهِلية، ثم ثنَّى بالأوامِر، وهذا تنبيهٌ للمُصلحين والدعاة في كلِّ مكان وزمان؛ أنَّ التخلية قبلَ التَحلِية. فأنتَ إذا أردتَ أن تملأ كأسًا بالمَاء أو الشاي وهو متسخٌ، تقوم أولًا بإزالة الوسخِ قبل مَلئِه. فعلينا أن نجتَهِد في ترك المنهِيات أولًا قبل الاجتهاد في الطَّاعات. ومن جُملة ما ذكرَه جَعفر مِمَّا يفعلونه في الجَاهلية وينهَاهم عَنهُ النبي صلى الله عليه وسلم: عِبادةُ الأصنام، وأكل المَيتة، وفِعل الفواحش، وقطع الأرحام، وإساءة الجِوار، وقول الزُّور، وظُلم القوي للضَّعِيف. ولنَا أن نسأل في جاهِليتنا المُعاصِرة: • ألَسنَا نَعبدُ أهواءَنا وشَهَواتِنا ونعشَقُها إلى حدِّ التفريطِ في الكَثير من الوَاجِبات، ومُباريات كُرةِ القدم خيرُ شاهدٍ. • أليس فِينا من يستحِلُّ أَكل المَيتةِ بدون ذكاةٍ (ذبحٍ)، ومِنَّا من أعمَاهُ الرِّبح المَادي والطَّمع فيُطعِم زبائنه في المَطاعِم لُحوم الحَمِير والكِلابِ أو الدَّجاج الميِّت. وكثيرٌ من الوقائع المتواترة خير شاهِدٍ. • وأمَّا الفواحشُ القَولِية والفِعلية وكثرتها؛ فهي أشهَرُ من أن يستدلَّ لها، وقد أخبرنِي بعضُ جيران مؤسسةٍ تعليمية عن الانحطاطِ الأخلاقي للتلاميذ الذين يتجمَّعون حذاء بيتِه؛ فَيسمعُ مِنهم الكلامَ السَّاقط، ومنهم من عَرض بيتَه للبيع للفِرار من جِوار مُؤسسة يُفترض فيها أن تكون تَربوية بالأسَاسِ، وهذا نداءٌ للمسؤولين على الشأن التعليمي بضرورة خلقِ فضاءات تثقيفية داخل المؤسَّسات التعليمية لإيوائِه التلاميذ في حالِ غيابِ أستاذ أو مَا أشبه ذلك. • أليس الكثيرُ منَّا يشتَكِي من أقارِبهِ وجيرانِه ويشتَكِي مِنَ الجَفَاء الذي يَجدُه مِنهم. • ألسناَ نَعِيش حوادثَ تدلُّ على أكلِ القويِّ للضعيفِ، ومنها انتشار السَّرقةِ تحتَ التهديدِ، والرشوة لأكلِ حقِّ الغير، واستِغلال المُناسَبات للزيادة في أثمنةِ السِّلعِ وتذاكِر النَّقل وهلُمَّ جرًّا من الأمثلةِ. فاللَّهم إنَّا نعوذ بِك من مَساوئِ الأخلاقِ، واصرفْ عنَّا سيِّئهَا، وآخِر دَعوانَا أن الحَمدُ لله رَبِّ العَالمين. الْخُطْبَةُ الثانية الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَن اقْتَفَى.بعد ذِكر جَعفر لأمورِ الجَاهِلية، ذكر ما يُضادها مِمَّا ينبغِي التحلِّي والعمل بِه، ومن ذلكَ: • توحيدُ الله عز وجلَّ الذي يضادُّ الشِّركَ به وعبادة الأصنامِ واتباع سُنَّة الآباء كما يَفعلُ أهلُ الجَاهليَّة. • الأمرُ بصِدقِ الحَديث؛ ومن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»[6]. • الأمرُ بأداءِ الأمانةِ؛ ومن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم:«أَدِّ الْأَمَانَةَ إلى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»[7]. • الأمرُ بصِلةِ الرَّحمِ؛ ومن ذلكَ قولُه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ »[8]. • الأمرُ بحُسنِ الجوارِ؛ ومن ذلكَ قولُه صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ»[9]. • الأمرُ بالكفِّ عن سَائِر المَحارِم؛ كقتلِ الأنفسِ المَعصُومَة، والفَواحِش ما ظهر منهَا وما بطَن، وقول الزور واتهام النَّاس بمَا لم يَفعلُوه، وأكلِ أموَال اليتامَى، وقذف المُحصَناتِ المؤمناتِ في أعْراضِهنَّ بما لَم يفعَلنَ. • الأمر بجُملة من الأوامرِ والعِباداتِ التي يجبُ الحفاظ عليها؛ كالصَّلاة والزكاة والصِّيام؛ لأنها غايةُ الخلق، قال تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. فاللَّهم إنَّا نسألُك فِعل الخَيراتِ وتَرك المُنكراتِ، واتِّباع هَديِ نَبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم آمين. (تتمة الدُّعاءِ). ![]() [1] الأساقفة: عُلَمَاء النَّصَارَى الَّذين يُقِيمُونَ لَهُم دينهم، واحدهم أَسْقُف. [2] سيرة ابن هشام: 1/ 335-337. [3] فتاوى ابن السبكي: 1/ 265. [4] رواه الترمذي برقم: 2664، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ. [5] صحيح الجامع، برقم:2549. [6] رواه مسلم، برقم: 2607. [7] رواه الترمذي، برقم: 1264، وقال: حسن غريب. [8] رواه البخاري، برقم: 2076. [9] رواه البخاري، برقم: 5185.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() الهجرة إلى الحبشة: دروس وعبر (4) عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت سلسلة (3): سلسلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم من البعثة إلى الهجرة (18) الخطبة: 47 من السيرة النبوية الْهِجرَةُ إلى الْحَبَشَةِ: دروسٌ وعِبَرٌ (4) الخُطْبَةُ الأُولَى إِنَّ الحَمْدَ لِلَّه، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغفِرهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا وَمَنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، نَحْمَدُكَ رَبَّنَا عَلَى مَا أنعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا مِنْ نِعَمِكَ العَظِيمَةِ، وآلائِكَ الْجَسِيمَةِ؛ حَيْثُ أرْسَلتَ إلَيْنَا أَفْضَلَ رُسُلِكَ، وأنْزَلْتَ عَلَينَا خَيْرَ كُتُبِكَ وشَرَعْتَ لَنَا أَفْضَلَ شَرائِعِ دِينِكَ، فَاللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى، وَلَكَ الْحَمْدُ إذَا رَضِيتَ، وَلَكَ اَلْحَمْدُ بَعْدَ الرِّضَا؛ أَمَّا بَعْدُ:أيُّهَا الإخْوَةُ المُؤْمِنُونَ، تحدَّثنا في الخُطبة المَاضِية عَن استدعاء النَّجاشي للصَّحابة لِيسمَع مِنهم، فقالُوا ما عَلموه مِن الحقِّ، وذكر له جعفر سَببَ مجيئِهم إلى الحَبشةِ، ونُتَفًا مِمَّا يَنهى عنه النَّبِي صلى الله عليه وسلم من مَساوئ الأخلاقِ، وما يأمُر بِه من مَكارمِ الأخلاقِ. ويَستمر بِنا الحديث في هذه الخُطبة[1] عن حَديث أُمِّ سَلمة رضي الله عَنها، وخاصَّةً حديثَهَا عن: بُكاء النجاشي وأسَاقِفته بعد سَماعِهم للقرآن وَمَقَالة الْمُهَاجِرِينَ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ. عِبَاد الله، تقول أمُّ سَلمةَ رضي الله عَنها بعد حَديثها عن خُطبة جَعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَن اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَر: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، قَالَتْ: فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ: «كهيعص» (أي من سُورة مَريم)، قَالَتْ: فَبَكَى وَاَللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ [ابتلَّت] لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلوا مَصَاحِفَهُمْ، حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ النَّجَاشِيُّ: إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ [2] وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فَلَا وَاللَّهِ، لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا، وَلَا يُكَادُونَ". عِبَادَ اللَّهِ، في هذا القَدر مِن الحَدث نخرُج بدرسٍ وفائدةٍ وهو: الدرس الأول: القرآن مُهيمنٌ على الكُتب السَّماوية كلِّها، وكَاشفٌ لعِللِهَا بعد التَّحريف: فهِمنا هذا من قولِ النَّجَاشي: "إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ، وَاحِدَةٍ"؛ لأنَّ أصلَ الكتب السَّماويَة كلِّها من عِند الله، واللاحق يصدِّق السَّابق قبلَ التحريف، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 48] فالإنجيلُ مصدِّق ومؤيدٌ للتوراة، والقرآنُ الكريم مصدِّقٌ ومؤيدٌ للتوراةِ والإنجيلِ، ومعنَى ﴿ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾؛ أي: إنَّ القرآنَ أمِينٌ وشَهيدٌ ورَقيبٌ على تِلك الكتبِ، فمَا وافَقَه مِنها فهو حقٌّ، وما خالَفه مِنها فهو باطلٌ. ومن مَظاهر هَيمنَة القرآنِ على الكُتُبِ السَّماوية: 1- إخبارُه بأنَّه قد طَالَها التَّحريفُ والتَّبدِيلُ والتَّغيير: فلم تَعُد كَما أنزلَها الله؛ بل أخبرَ أنَّهم كتبوا الكُتب بأيديهم ونسَبوها إلى الله زُورًا وبُهتانًا؛ قال تَعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79]. 2- أخبر عن بعضِ المَسائلِ التي طَالَها التَّحريف، ومن ذلك: ما صرَّحت به الأنَاجِيل من قتلِ عيسى عَليه السلام وصَلبِه، والله عز وجل يقولُ: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157]. 3- أنَّه كشفَ بعض ما يُخفِيه أهلُ الكتابِ؛ كتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في إخفائهم آيةَ الرَّجم [3]، وكإخفائِهم ما يتَّصِل بخاتَم الرُّسل من بشائِر ونُعوت وتحريفهم لها بالحذف أو بالتأويلِ الفاسدِ، فجاء القرآنُ بالحقِّ في ذلك كلِّه، قال تَعالى: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]. 4- أنَّه أنهى العملَ بالكتب السَّماوية السَّابقة: فلا اعتبارَ لها بجانِبه؛ لأنه شغل الفراغ كلّه بتشريعِه الجديدِ، وليس لأحد أن يركنَ إلى ما جَاء بها بعد أن تسرَّبَ الباطلُ إليهَا، ولَعبت الأيدي الأثيمة بها، قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]؛ ولذلك غضِب النبي صلى الله عليه وسلم مِن عُمر رضي الله عَنه الذي أتَى بصَحِيفةٍ من أهلِ الكتابِ فقرأهَا عليهِ فقال: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا بْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي"[4]، والعَجبُ من بعضِ جَاليتنا الذين تُوزَّع عليهم الأنَاجيل فيأتون بِها، فلا ينبغي لهم أخذها ولا الترويج لها، يكفيهم كتابُ ربِّهم. ولِفرط مَعرفةِ النجاشي وأساقفته بالحقِّ بَكَوا؛ قال تَعالى: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 83]. فاللَّهم أرِنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنَا الباطلَ باطلًا وارزقنَا اجتنابَه، وآخِر دَعوانَا أن الحَمدُ لله رَبِّ العَالمين. الْخُطْبَةُ الثانية الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَن اقْتَفَى. بعدَ خسارةِ مبعوثَي قريشٍ، قالت أمُّ سَلمة رضي الله عَنها: "فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاَللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا عَنْهُمْ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ [أي: شجرتهم الَّتِي مِنْهَا تفرعوا]، قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عبدالله بْنُ أَبِي ربيعَة، وَكَانَ أتقى الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا نَفْعَلُ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا، قَالَ: وَاَللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثُمَّ غَدا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ. قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا قَطُّ. فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ إذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاَللَّهِ مَا قَالَ اللَّهُ، وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: هُوَ عبدالله وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ إلى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا عَدَا عِيسَى بن مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ، قَالَتْ: فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاَللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي- وَالشُّيُومُ: الْآمِنُونَ- مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبَرًا[أي جبلًا] مِنْ ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ... قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، مَعَ خَيْرِ جَارٍ". نستفيد من هذا الحدَث دَرسَين وهما: الدرس الثاني: الاعتقاد الصحيح في عيسى عليه السلام: قال جعفر: "هُوَ عبدالله وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ"، ومعنى العذراءُ البَتُول؛ أي: المُنقطعةُ عن الرِّجال، فلخص جعفَر المعتقدَ الصَّحيح في عِيسى عليه السَّلام كما ورد في القرآنِ الكريمِ؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ﴾ [النساء: 171]. ويتلخَّصُ معتقدُ المُسلمينَ عُمومًا في المَسيحِ عليه السلام أنه ابن مريم الصدِّيقة، وُلد بمُعجزة إلَهيَّة من غير تدخلٍ بَشري، وقد ابتعثَه الله رسُولًا إلى بَني إسرَائيل، يدعو إلى توحيد الله، ويبشِّر بمقدم خَاتم النَّبيين، وأيَّده بالمُعجِزات العَظيمة، فاستمر في دَعوته، مُراغمًا لِليهود الذين أرادُوا قتلَه، على عَادتِهم في قتلِ الأنبياءِ، لكن الله أنجَاه من مَكْر اليَهودِ ومُؤامرَتِهم لقتلِه، ورفَعَه إلى سَماواته، وسَيعودُ قُبيل قِيام السَّاعة، داعية إلى الله من جَديد، ومطبِّقًا لشرعِه، مُنكِّسًا للصَّليب، ورَافعًا لأعلامِ التوحيد. بخلاف المعتقدات الباطلة للنصارى في القول بأنَّه ابن الله، أو أنَّه إلَهٌ، قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 30، 31]، وبهذا أثبتوا عقيدة التثليت: الابن والأب ورُوح القدس التي يَحارُ العقل في فهمِها، قال القس أنيس شروش: "واحدٌ في ثلاثة وثلاثةٌ في واحد، ليسَ عليكم أن تفهَموه، بل عليكم أن تتقبلُوه"، قال الله عز وجل في الردِّ عليهم: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171]. الدرس الثالث: التمسك بالدِّين في بلاد المَهجر: قال المُهاجرون لمَّا أرسل إليهم النجاشي لِمعرفة قولِهم في عيسى عليه السلام: "نَقُولُ وَاَللَّهِ مَا قَالَ اللَّهُ، وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ"، فأجمَعوا على قولِ كلمةِ الحقِّ وعدمُ التفريط في مُعتقدهِم رغم ضُعفِهم وغُربتِهم. فنستفيدُ من هذا لجَاليتنا ضرورةَ التمسُّكِ بعقيدتهم وإظهار شَعائر دِينِهم، والسَّعي لِتأسيس مَساجد ومدارسَ ومؤسَّسات، بها يُحافظونَ على لُغة القرآن وإقامةِ الشَّعائر الدينية ومكان لاجتماعِهم والتداول في شُؤونهم، وحمايةً لأنفسِهم وأبنَائهم من الذَّوبَان في المُجتمعات الغربية. فإيَّاك أخي المؤمن التفريط -إذا ماقُدِّر لَك أن تهاجر إلى بلادِ غير المُسلمين- في عِباداتك وأخلاقِ الإسلام، وإيَّاكِ -أيتها الأخت المؤمنة- أن تفرِّطِي في حِجابك، وإيَّاكم أن تفرطوا في تربية أبنائكم على أصُول الإسلام، فإن خَشيت على دِينك فالقَرارُ في بَلدِك أفضلُ لك، فقد تفقدُ المَالَ، وتفقدُ المَنصب؛ لكن إن فقدتَ دِينك فليس هُناك من مُصيبة أعظمُ منهَا؛ لأنَّه سَبيلُ نَجَاتِكَ. وهكذا إخوانِي عاشَ المُهاجرون في أمنٍ وأمَانٍ، ورجعُوا في فَتراتٍ مختلفة، حتَّى لحِق آخِرُهُم بالنَّبِي صلى الله عليه وسلم في المَدينةِ سنة سَبعٍ من الهجرةِ. فاللَّهم احفظ لنَا دِيننَا الذي هُو عِصمةُ أمرِنَا، واحفظْ لنَا دُنيانَا التي فيهَا مَعاشُنَا، واحفظْ لنا آخرتَنا التي إليهَا معادُنا، واجعلِ الحياة زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعلِ المَوت راحةً لنَا من كلِّ شرٍّ، آمين (تتمة الدُّعاءِ). ![]() [1] مراجع الخطبة: القرآن الكريم. المصادر الحديثية (انظرها في تخريج الأحاديث). سيرة ابن هشام: 1 /336-337. تصديق القرآن للكتب السماوية وهيمنته عليها، إبراهيم عبدالحميد سلامة، ص:85-88. الله جَلَّ جلالَهُ واحد أم ثلاثة؟ منقذ بن محمود السقار، ص:7. [2] الْمشكاة: الكوة غير النافذة، أَرَادَ أَن الْقُرْآن وَالْإِنْجِيل كَلَام الله تَعَالَى، وأنهما من شَيْء وَاحِد. [3] عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ»، فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى المَرْأَةِ يَقِيهَا الحِجَارَةَ "؛ رواه البخاري، برقم: 3635. [4] رواه أحمد في المسند برقم: 15156، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف لضعف مجالد.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |