|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() مساواة صحيح البخاري بالقرآن الكريم د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر الحمد لله؛ أما بعد: فمما يُثير أشدَّ العجب والاستنكار أن يُطبع في ديار المسلمين، بل ويُنشر إلكترونيًّا مجانًا، كتابٌ يتضمن مثل هذا الكلام المريب، ونصه: "الخطأ الفادح والجملة الخاطئة التي لا أتخيل أن يقبلها مسلم، وهي أن (كتاب البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله)، جملة فيها اعتداء صارخ وفاجر على كتاب الله تعالى، الذي لا يجب أن يُوضع معه أي كتاب آخر على وجه الأرض في جملة واحدة، إن كتاب الله تعالى أصدق وأدق، وأرقى وأحكم وأروع كتابٍ في الوجود، فلا يوجد كتاب على الأرض يقترب منه، ولو من مسافة خمسين ألف سنة ضوئية، هل يجرؤ مسلم أن يقول فلان الشيخ الصالح هو أصدق كائن بعد الله تعالى؟ بالتأكيد لا يجرؤ مسلم على هذا القول الأشد كذبًا على الإطلاق، فمن المستحيل المقارنة بين صدقِ شخصٍ مهما كان، وصدق رب العالمين، ولا بين أي صفة لله تعالى وصفة لأيِّ بشرٍ مهما كان، ومن ثَم فهذه جملة خبيثة تجعل من يسمعها يعتقد أن كتاب البخاري له من القدسية مثل كتاب الله تعالى، فيقبله بما فيه على أنه يمثل مراد الله ورسوله، بلا قدرة على نقاش ما يتناقض فيه مع كتاب الله عز وجل وفِعل رسوله الأمين، ولم يقل البخاري نفسه هذا عن كتابه قط، بدليل أن تلميذه الإمام مسلمًا خالفه في الحكم على بعض الأحاديث، وألَّف كتابه في وجود الإمام البخاري، فلو كان لكتابه هذه القدسية، ما استطاع الإمام مسلم أن يخالفه ويؤلف كتابه في حياة البخاري، ثم توالت الكتب من بعدهما، للنسائي وأبي داود، وابن ماجه والترمذي، والطبراني وابن حبان، كلٌّ اجتهد وقدَّم ما وصل إليه، حتى لو كان مخالفًا لِما جاء بالبخاري ومسلم"؛ ا.هـ. من أشد ما يبعث على الذهول والاستنكار أن ترى كلامًا كهذا يُساق مطبوعًا في بلاد المسلمين، ويُبذَل إلكترونيًّا للناس بلا ثمن، الحماقة من أدواء الشعوب والأفراد وهو داء عضال، ثماره الفشل، والخذلان، وداء الحمق داء قديم، ولقد حذر العلماء من مصاحبة الأحمق، والاقتراب منه، وبيَّنوا أن داءه ليس له علاج حتى قيل: لكل داءٍ دواءٌ يستطبُّ به ![]() إلا الحماقة أعيت من يداويها ![]() ![]() ![]() ولقد عجز الحكماء والمصلحون من إيجاد طريق يصحِّحون فيه فهم الأحمق، وتبين لهم أن كل شيء قابل للتصحيح والإصلاح عدا الحمق، وهذا معلوم من قديم الزمان؛ فلقد قرأنا في كتب المتقدمين قول أبي إسحاق: "إذا بلغك أن غنيًّا افتقر فصدِّق، وإذ بلغك أن فقيرًا استغنى فصدق، وإذا بلغك أن حيًّا مات فصدق، وإذا بلغك أن أحمق استفاد عقلًا فلا تصدق"، قال بعض الحكماء: من أخلاق الحمق، العجَلة، والخِفة، والجفاء، والغرور، والفجور، والسَّفه، والجهل؛ وذلك لأن الحمق حائل دون تعلُّم العلوم النافعة، والعلم هو ما يهذِّب العقل، ويصقل النفس، فالأحمق يتكلم بما يخطر على قلبه، ويتوهم أنه أعقل الناس؛ قال أبو حاتم ابن حيان: "علامة الحمق سرعة الجواب، وترك التثبت، والإفراط في الضحك، وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار". وقد أجاب د. علي بن محمد العمران حفظه الله عن مضمون هذه الشبهة في كتابه الماتع «إعلاء صحيح البخاري» (175)؛ فقال: من الشُّبهات التي أُثيرت حول صحيح البخاري قول أحدهم: إذا كان البخاري صحيحًا فإننا بذلك قد ساويناه بالقرآن، والناظر في هذه الشبهة يجدها مغالطةً واضحةً، يلبس بها على الناس بألفاظ مجملة دون تبيين: فما معنى أن صحيح البخاري مثل القرآن؟ هل هو من جهة فضله؟ أم من جهة تواتره؟ أم من جهة حُجيته؟ أم من جهة العمل به؟ وكل هذه الجهات لها أحكامها الخاصة، واختزالها في نصف سطر للتشكيك في صحيح البخاري يتنافى مع أصول البحث العلمي. تفنيد هذه الشبهة: هذه الشبهة يعتمد مثيرها على ألفاظ مُجملة ليصل في النهاية إلى نفي الصحة عن صحيح البخاري، فالقول بأن البخاري ليس مثل القرآن قول مجمل، والصحيح أنه لا يُقال بإطلاق: هو مثله أو ليس بمثله، والتفصيل والبيان هو الواجب في مثل هذا المقام، أما الإجمال فهو مجرد تلبيس وإضلال، وببيان أوجه الشَّبه والاختلاف يتبين أن القرآن صحیح ثابت ويجب العمل به، والأحاديث الواردة في صحيح البخاري صحيحة ثابتة ويجب العمل بها، ولا يلزم من هذا أن صحيح البخاري مثل القرآن من كل وجه. وشَبَهُ صحيح البخاري بالقرآن له حيثيات عديدة نبينها في الآتي: أولًا: من حيث الفضل: فصحيح البخاري ليس مثل القرآن من حیث الفضل، ولم يقل أحد بذلك، فلا شكَّ أن فضل القرآن أعظم من فضل السنة عمومًا، وفضله يظهر في الأجر العظيم المترتب على تعلمه؛ كما في الحديث الذي أخرجه البخاري في «صحيحه» (5027): ((خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه))، ويظهر في التعبد بتلاوته كما في الحديث الذي أخرجه مسلم في «صحيحه» (804): ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو: كأنهما غيايتان، أو: كأنهما فِرقانِ من طيرٍ صوافَّ - تُحاجَّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البَطَلَة)). ثانيًا: من حيث كون الألفاظ والمعاني من الله جل جلاله: فصحيح البخاري ليس مثل القرآن من هذه الحيثية أيضًا، فالقرآن ألفاظه ومعانيه من الله سبحانه وتعالى، والأحاديث ليست كذلك؛ إلا الأحاديث القدسية، ففيها خلاف معروف. ثالثًا: من حيث الإعجاز: فصحيح البخاري ليس مثل القرآن في الإعجاز، فالقرآن معجز، ومتحدًّى به؛ كما قال الله تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [هود: 13]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 23]، والأحاديث ليست كذلك من حیث التحدي، وكونه خارج قدرة البشر. رابعًا: من حيث الثبوت: وهنا أيضًا صحيح البخاري في مجموعه أقل درجة من القرآن، فإن القرآن كله منقول إلينا نقلًا متواترًا، أما صحيح البخاري فليس كذلك، فليست كل الأحاديث فيه متواترة. خامسًا: من حيث إنه وحيٌ: فالأحاديث في صحيح البخاري والقرآن تتشابه من هذه الحيثية، فكلاهما وحي من عند الله سبحانه وتعالى؛ ومن أصرح الآيات التي تدل على أن السنة وحي من الله سبحانه وتعالى قوله تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4]، فإن الضمير راجع إلى المنطوق، فكل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم وحيٌ، وكل الآيات التي تتحدث عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه تنصبُّ في هذا الجانب؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، وقوله تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80]. ومن الأدلة أيضًا: عطف الحكمة على الكتاب في مثل قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 34]؛ يقول الطبري في تفسير هذه الآية: "وعنى بقوله: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [الأحزاب: 34]: واذكرن ما يُقرأ في بيوتكن من آيات كتاب الله والحكمة، ويعني بالحكمة: ما أُوحِيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله، ولم ينزل به قرآن، وذلك السُّنة". وهذا ما فهمه السلف الكرام رحمهم الله؛ يقول حسان بن عطية: "كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن". ولأن السنة وحي كما أن القرآن وحي، فهي محفوظة بحفظ الله؛ كما يقول ابن حزم: "قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ ﴾ [الأنبياء: 45]، فأخبر تعالى - كما قدمنا - أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحيٌ، والوحي بلا خلاف ذِكر، والذكر محفوظ بنص القرآن، فصحَّ بذلك أن كلامه وحي كله، محفوظ بحفظ الله جل جلاله، مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدًا". سادسًا: من حيث حُجيته ووجوب العمل به: فصحيح البخاري مثل القرآن من هذه الحيثية أيضًا، فما ثبت من الحدیث وکان صحیحًا، وجب الاحتجاج والعمل به؛ وذلك لأنهما - أي: القرآن وصحيح البخاري - مشتركان في الوصف الذي يجعلهما حجة، فالقرآن نقول بحجيته لأنه وحي، وكذلك الحديث الصحيح - مثل صحيح البخاري - نقول بحجيته لأنه وحي، فالعِبرة بالوصف الجامع بينهما وهو كونهما وحيًا، ومقتضاه: وجوب العمل بهما، وما دام أن القرآن وصحيح البخاري قد اشتركا في هذا الوصف، وجب أن يشتركا في مقتضاه. وإلى هذا المعنى أشار ابن حزم بقوله: "جاء النص - ثم لم يختلف فیه مسلمان - في أن ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاله ففرضٌ اتباعه، وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن، وبيان لمجمله... فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين: خبر تواتر، وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به، وفي أنه حق مقطوع على غيبه؛ لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة، وعدد الصلوات، وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة، وغير ذلك مما لم يبين في القرآن... القسم الثاني من الأخبار: ما نقله الواحد عن الواحد، فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب العمل به، ووجب العلم بصحته أيضًا"، فسواء كان الحديث متواترًا أو آحادًا فإن العبرة بثبوته، فإذا ثبت ذلك وصح - كما هو الشأن في صحيح البخاري - فإنه یجب العمل به كما يجب العمل بالقرآن. وأخيرًا: هذه محاولة للوصول إلى إسقاط حجية صحيح البخاري ووجوب العمل به، من خلال التلبيس والتعمية، وهي شبهة قائمة على توهُّم المماثلة بين شيئين مماثلةً كاملةً، بمجرد وجود أوجه شبه مشتركة بينهما، وقد بيَّنَّا أن صحيح البخاري يشبه القرآن من أوجه، ولا يشبهه من أوجه أخرى، ولا يلزم من الاشتراك في بعض الأوجه أن يكون صحيحُ البخاري مثلَ القرآن في كل شيء، كما يصوره بعض من يُلقي هذه الشبهات، لكن الحق أبلج بفضل الله، ودينه محفوظ بحفظه، وظاهر بنصره وتأيیده. والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |