|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() بيان خطأ تفويض معاني آيات وأحاديث الصفات محمد بن علي بن جميل المطري محمــد بـن علــي بـن جـمـيــل المـطــري دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن - جامعة المدينة العالمية - ماليزيا
الهدايات القرآنية في قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى}، مائة آية في فضل الصحابة، اثنا عشر دليلا من القرآن على إثبات عذاب القبر، الرياحين اليمانية في العقيدة، الإرشاد إلى سعة الصدر في مسائل الاجتهاد، فقه الخلع، إتحاف الطلاب بأحكام الطلاق، سيرة أبي هريرة والأحاديث الصحيحة التي تفرد بروايتها، قصة نشأة المذاهب الفقهية، التذكرة التاريخية الميسرة، بداية المحدِّث، فصول مهمة في السنة النبوية. ملخص البحث من أعظم ما يجب علينا تدبره وفهمه: آيات وأحاديث أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لأنها تدل على عظمة الله سبحانه، واستحقاقه للعبادة وحده دون ما سواه، والقول بأن معانيها مجهولة، قول باطل، ويلزم منه إشكالات كثيرة، وادعاء أن مذهب السلف هو تفويض معاني الصفات نسبة خاطئة. موضوع البحث: بيان خطأ تفويض معاني آيات وأحاديث الصفات. أهداف البحث: بيان وجوب الإيمان بمعاني صفات الله، وبيان معنى التفويض، وأنواعه، وبطلان تفويض معاني الصفات، ومخالفته لمذهب السلف الصالح. أهم نتائج البحث:
الاعتناء بكتب العقيدة الصحيحة التي تبين مذهب السلف الصالح. الكلمات المفتاحية: التفويض – آيات – أحاديث - الصفات - الأسماء الحسنى – مذهب المقدمة الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد: فإنَّ القرآن الكريم كتاب هداية، وقد أمرنا الله بتدبر آياته لنهتدي به في جميع أمورنا، كما قال تعالى: {{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} } [ص: 29]. ومن أعظم ما في القرآن مما أمرنا الله بتدبره: الآيات التي فيها أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، التي عرفنا الله فيها بنفسه، فيجب معرفة معانيها؛ لأنها تدل على عظمة الله سبحانه، واستحقاقه للعبادة وحده دون ما سواه، وكذلك يجب معرفة معاني أحاديث الصفات التي أخبرنا بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق. وقد كان الصحابة ومن اتبعهم بإحسان يتمسكون بكتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويؤمنون بآيات وأحاديث الصفات، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، ونحن مأمورون أن نتبع سبيلهم، كما قال الله تعالى: {{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}} [التوبة: 100]، وقال سبحانه: {{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا}} [البقرة: 137]. وقد تواترت النصوص عن السلف الصالح بإمرارهم آيات وأحاديث الصفات على ظاهرها اللائق بالله سبحانه، وأنهم كانوا يؤمنون بمعانيها؛ ولذلك أنكروا على الذين يصرفون معانيها بالتأويل إلى المجاز بلا دليل، وقد صنف أهل العلم كتبا كثيرة في إبطال تأويل الصفات، والرد على الجهمية وغيرهم من المتكلمين الذين يتجرؤون على آيات وأحاديث الصفات بالتأويل. وقد أخطأ خطأ عظيما من زعم أن الصحابة رضي الله عنهم ومن اتبعهم من أئمة المسلمين كانوا يفوضون معاني الصفات، وأنهم كانوا يجهلون معانيها، وأنهم كانوا لا يفرقون مثلا بين صفات الرحمة والغضب والرضا، وأنهم لا يعلمون معنى الاستواء على العرش، ولا يعلمون معنى مجيء الله سبحانه يوم القيامة لفصل القضاء، وأنهم كانوا يقرءون نصوص الصفات كما يقرءون الحروف المقطعة، ولا يعلمون شيئا من معانيها! وفي هذا البحث بيان بطلان مذهب أهل التفويض، ومخالفته لما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن اتبعهم بإحسان، فإن من آمن بمثل ما آمن به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد اهتدى، ومن خالف كتاب الله وسنة رسوله، وخالف ما كان عليه سلف الأمة فقد ضل وغوى. وهذه الخلافات قد أخبرنا الله ورسوله بها، فهي من جملة الابتلاء الذي ابتلى الله الناس بها، ليتبين الصادق من الكاذب، والمتبع للحق من المتبع للهوى، قال الله سبحانه: {{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} } [هود: 118، 119]، وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))([1]). أسباب اختيار الموضوع: يعود اختيار هذا الموضوع للأسباب الآتية:
كتب العقيدة المتنوعة فيها بيان مذهب السلف الصالح في مسائل الاعتقاد، وبيان بطلان المذاهب المخالفة لها، ولكن قل من أفرد الرد على أهل التفويض بالبحث والتأليف، وما أقل من صنف من العلماء في بطلان مذهب المفوضة وتناقضهم واضطرابهم، حتى أن بعض الفضلاء المنتسبين إلى السنة أخذوا بمذهب التفويض ظنا منهم أنه مذهب السلف الصالح. أسئلة البحث:
يمكن إجمال أهمية البحث في هذا الموضوع فيما يأتي:
المنهج المتبع في البحث هو المنهج التحليلي الوصفي المتضمن العرض والوصف والتحليل، مع الالتزام بضوابط البحث العلمي. إجراءات البحث: اتَّبع الباحث مجموعة من الخطوات الإجرائية، من أهمها:
يتكون البحث من مقدمة، وأربعة مباحث، وخاتمة، وفهارس، كما يأتي:
المبحث الأول: وجوب الإيمان بصفات الله سبحانه بلا تعطيل ولا تمثيل التصديق بما أخبر الله في كتابه وأخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى هو من الإيمان بالله ورسوله، ومن الإيمان بكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فمن صدق بما أخبر الله به ورسوله فقد اهتدى، ومن كذب بشيء مما جاء في كتاب الله أو سنة رسوله الصحيحة فقد ضل وغوى. ومعرفة كمال الله وما يجب له من أسمائه الحسنى من تمام التوحيد الواجب؛ لأن كمال الذات بأسمائها الحسنى، وصفاتها الشريفة، ولا كمال لذات لا اسم لها ولا صفة([2]). وكل اسم من أسماء الله الحسنى يتضمن صفة من صفاته، كالعليم يتضمن صفة العلم، والسميع يتضمن صفة السمع، والبصير يتضمن صفة البصر، والرحمن الرحيم يتضمنان صفة الرحمة، وهكذا، فأسماء الله سبحانه تدل على كمال صفاته وعظمته، وتنزهه عن شوائب النقص([3]). والإيمان بأسماء الله وصفاته يزيد الإيمان، ويحث الإنسان على تقوى الله، والاجتهاد في عبادته، وطلب مرضاته([4]). وكثرة أسماء الله الحسنى تدل على عظمته سبحانه، وكمال ذاته وصفاته، وتفيد أن الكمال المطلق له سبحانه وحده دون ما سواه([5]). وإنَّ من أسباب الضلال والغفلة: الجهل بأسماء الله وصفاته، فالعلم بأسماء الله وصفاته من أعظم ما يعصم العبد من الضلال والغفلة؛ لأنها تثمر تعظيم الله، والمعرفة باطلاعه على عباده، وقدرته عليهم([6]). ولهذا يجب على المسلم أن يؤمن بأسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، فإن الله أخبرنا بها في كتابه ليعرفنا بنفسه، ولنؤمن بها، ومن أنكرها أو ألحد فيها فقد توعده الله بالعذاب الأليم، قال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. ومن الإلحاد في أسماء الله: الميل بها عن معانيها الصحيحة اللائقة بالله بالتشبيه أو بتعطيلها عن صفات الكمال وإنكارها أو إنكار معانيها، أو بتسمية الله بغير ما سمى به نفسه، أو بتسمية بعض عباده بأسمائه الخاصة به أو باشتقاق أسماء منها للأصنام أو بإشراك غير الله في معاني أسمائه الخاصة به كمن يدعون غير الله ويتوسلون بهم([7]). وقد تواترت النصوص عن السلف الصالح بإمرارهم آيات وأحاديث الصفات على ظاهرها اللائق بالله سبحانه، ومنعهم من تأويل معانيها، وإنكارهم على الذين يصرفونها بالتأويل إلى المجاز بلا دليل، وقد صنف أهل العلم كتبا كثيرة في إبطال تأويل الصفات، والرد على الجهمية وغيرهم من المتكلمين الذين يتجرؤون على آيات وأحاديث الصفات بالتأويل([8]). قال محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: (اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تغيير ولا وصف ولا تشبيه, فمن فسر اليوم شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفارق الجماعة, فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا, ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا, فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء!)([9]). وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: (فإن قال لنا قائل: فما الصواب من القول في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله عز وجل ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: الصواب من هذا القول عندنا أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه جل ثناؤه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فيقال: الله سميع بصير، له سمع وبصر؛ إذ لا يعقل مسمى سميعا بصيرا في لغة ولا عقل في النشوء والعادة والمتعارف إلا من له سمع وبصر ... فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتنزيل على ما يعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه؛ فنقول: يسمع جل ثناؤه الأصوات، لا بخرق في أذن، ولا جارحة كجوارح بني آدم. وكذلك يبصر الأشخاص ببصر لا يشبه أبصار بني آدم التي هي جوارح لهم. وله يدان ويمين وأصابع، وليست جارحة، ولكن يدان مبسوطتان بالنعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير. ووجه لا كجوارح الخلق التي من لحم ودم. ونقول: يضحك إلى من شاء من خلقه. ولا نقول: إن ذلك كشر عن أسنان)([10]). وقال ابن عبد البر المالكي: (أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة)([11]). وقال محيي السنة البغوي الشافعي في آخر كتابه (شرح السنة): (كل ما جاء من هذا القبيل في الكتاب أو السنة كاليد والإصبع والعين والمجيء والإتيان، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكِر معطِّل، والمكيِّف مُشبِّه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا)([12]). والاتفاق الذي نقله محمد بن الحسن الشيباني وابن عبد البر في إمرار نصوص الصفات كما جاءت على الوجه الذي يليق بعظمة الله سبحانه من غير تأويل لها هو منهج أئمة السلف وأتباعهم، وهذا هو الأصل في نصوص الصفات، وإن كان قد يرد التأويل عن بعض العلماء في بعض النصوص، وقد يكون ذلك التأويل صحيحا لدليل صحيح يدل عليه، وقد يتنازع العلماء في صحته، وإن ثبت التأويل فهو في الحقيقة تفسير وبيان، وليس صرفا للفظ عن ظاهره، فإنه لا يمكن أن يكون ظاهر القرآن والحديث باطلا وضلالا([13]). فمن التأويل الصحيح الذي لا شك في صحته: قوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فقد فسرها العلماء بالعلم، ويدل على ذلك سياق الآية كاملة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، ومثل ذلك قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، فقد بُدِئت الآية بالعلم، وخُتِمت بالعلم، فدل على أن المعنى أن الله سبحانه مع عباده بعلمه، فهذا التأويل صحيح لا نزاع فيه، وهو في الحقيقة تفسير وبيان، وليس صرفا للكلام عن ظاهره بالتأويل، ولا مشاحاة في الاصطلاح، وقد قال بعض العلماء: (تأويل السلف إن صدر من الصحابة فهو مقبول؛ لأنهم سمعوه من الرسول، وإن صدر من غيرهم وتابعهم عليه الأئمة قبلناه، وإن تفرد نبذناه وأعرضنا عنه إعراضنا عن تأويل الخلف)([14]). ومن التأويل الذي وقع فيه نزاع بين العلماء: صفة النزول، قال ابن رجب الحنبلي في بيان خلاف أهل الحديث في إثبات صفة النزول: (الفرقة الثانية : تقول: إن النزول إنما هو نزول الرحمة، ومنهم من يقول: هو إقبال الله على عباده، وإفاضة الرحمة والإحسان عليهم، ولكن يرد ذلك تخصيصه بالسماء الدنيا، وهذا نوع من التأويل لأحاديث الصفات، وقد مال إليه في حديث النزول خاصة طائفة من أهل الحديث، منهم: ابن قتيبة والخطابي وابن عبد البر، وقد تقدم عن مالك، وفي صحته عنه نظر، وقد ذهب إليه طائفة ممن يميل إلى الكلام من أصحابنا)([15]). فالأصل في نصوص الصفات أجراؤها على ظاهرها اللائق بعظمة الله سبحانه، وعدم تأويلها، وقد يقع نزاع بين العلماء في بعضها، قال ابن تيمية: (الصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بإجرائها على ظاهرها اللائق بجلال الله كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه فوق عرشه، وتعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، دلالة لا تحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)([16]). فيُفهم من كلام ابن تيمية السابق أن بعض نصوص الصفات يسوغ الخلاف فيها لعدم القطع فيها بأنها من نصوص الصفات، فقد نجد نصا يؤوله السلف الصالح لكونه ليس عندهم من نصوص الصفات، وإن كان بعضهم يراه من نصوص الصفات، مثل قوله سبحانه: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فأكثر السلف من الصحابة والتابعين على أن هذه الآية ليست من نصوص الصفات، وأن المعنى: يكشف الله يوم القيامة عن شدة وأهوال([17]). قال ابن قتيبة، وهو من أهل السنة المثبتين للصفات: (من الاستعارة في كتاب الله قوله عز وجل: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: عن شدة من الأمر، ... وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه - شمَّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة)([18]). وذهب بعض المفسرين إلى أنها من آيات الصفات، ورجحه ابن تيمية وابن القيم([19]). وقال ابن عثيمين: (يحتمل أن يُراد بذلك ساق الله، ويحتمل أن يُراد بالساق الشدة، وقد قال السلف بهذين القولين)([20]). وقد بين هذا ابن عثيمين بيانا شافيا فقال: (مسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة، وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه، فقد يكون الدليلان متجاذبين عند شخص، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقا؛ لأنه قد اتضح عنده أن هذا له وجه، وهذا له وجه، فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسألة، بل عنده يقين، وأما الأول فيكون عنده إشكال، وإذا رجح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن؛ ولهذا لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم، ومما لا خلاف فيه؛ لأن الواقع خلاف ذلك، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده. إذًا هذه الكلمة التي نسمعها بأن مسائل العقيدة لا خلاف فيها، ليس على إطلاقها؛ لأن الواقع يخالف ذلك. كذلك مسألة العقيدة بحسب اعتقاد الإنسان، فليس كل مسائل العقيدة مما يجزم فيه الإنسان جزما لا احتمال فيه، فهناك بعض المسائل - أحاديث أو آيات - قد يشك الإنسان فيها، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، هذه من مسائل العقيدة، وقد اختلف فيها السلف؛ هل المراد ساقه عز وجل أو المراد الشدة؟)([21]). ومن النصوص التي لا حرج في تأويلها: حديث إضافة المشي والهرولة لله سبحانه، قال الترمذي في سننه: (يُروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديث: ((من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا))([22]) يعني: بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث، قالوا: إنما معناه يقول: إذا تقرب إليَّ العبد بطاعتي، وبما أمرت، تسارع إليه مغفرتي ورحمتي)([23]). وهذا هو القول المشهور عند العلماء المتقدمين في شرح الحديث، فقد نقله الترمذي مقرا له عن الأعمش وهو من التابعين، وعن بعض أهل العلم غير الأعمش، ولم يذكر الترمذي قولا غيره، ونقله ابن بطال القرطبي عن محمد بن جرير الطبري([24]). قال الطوفي الحنبلي عن هذا الحديث: (الحديث مؤول عندنا على التقرب بالرحمة واللطف والإكرام، كما يقال: فلان قريب من السلطان، والأمير قريب من فلان، يعني: تقارب القلوب والمنزلة، وأنا وإن كنت أثريا في آيات الصفات وأخبارها، إلا أن المجاز عندي في هذا الحديث ظاهر غالب، فلا يتوقف في تأويله إلا جامد. وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن النصوص في الصفات من حيث السند على ثلاث طبقات: صحيح مجمع على صحته بين أهل النقل، وضعيف متفق على ضعفه، ومختلف في صحته، فالأول مما تُثبت به الصفات، والآخرين لا يعول عليهما في ذلك، في وقت من الأوقات. ثم الحديث المجمع على صحته من حيث دلالة المتن على ثلاث طبقات: ما ترجح فيه إرادة الحقيقة، وما ترجح فيه إرادة المجاز، وما استوى فيه الأمران)([25]). وقال المباركفوري في شرح هذا الحديث، وهو من أهل السنة المثبتين للصفات: (قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهره، ومعناه: من تقرَّب إليَّ بطاعتي تقرَّبت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة أو إن زاد زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي: صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد أن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقربه انتهى. وكذا قال الطيبي والحافظ والعيني وابن بطال وابن التين وصاحب المشارق والراغب وغيرهم من العلماء" انتهى كلام المباركفوري، وهو من العلماء المثبتين للصفات على منهج السلف الصالح، لكنه لم يثبت هذه الصفة من هذا الحديث الصحيح لعدم وضوح دلالته على الصفة)([26]). وقد أثبت بعض أهل العلم رحمهم الله صفة المشي والهرولة لورود ذلك في هذا الحديث، إثباتا يليق بجلال الله سبحانه من غير تمثيل ولا تشبيه([27]). ولا شك أن الأصل هو الاحتياط العظيم في إثبات صفات الله رب العالمين أو نفيها، خوفا من أن نقول على الله ما لا نعلم، فلا ننفي صفات الله العُليا، الثابتة بالنصوص الصحيحة الصريحة، الواضحة الدلالة، والمشهورة عند العلماء، ولا نعد من صفات الله سبحانه ما كان في ثبوت دليله نظر أو في دلالته احتمال معتبر، لا سيما إذا كان لا يُعرف إثباتها عن السلف الصالح رحمهم الله، الذين هم أعلم منا وأتقى. المبحث الثاني: معنى التفويض وأنواعه قال النسفي: (التفويض هو التسليم، وهو ترك المنازعة والمضايقة)([28]). وقال المناوي: (التفويض: رد الأمر إلى الله والتبرؤ من الحول والقوة، وأصله لغة: رد الأمر إلى الغير لينظر فيه)([29]). وقال الكفوي: (مسلك الأوائل أن يؤمنوا بالمتشابهات، ويفوضوا معرفتها إلى الله ورسوله؛ ولذلك سموا بالمفوضة، ومسلك الأواخر أن يؤولوها بما ترتضيه العقول؛ ولذلك سموا بالمؤولة)([30]). يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |