|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الزكاة المفروضة (1) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل تطهرهم وتزكيهم بها الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله... ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102] ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أيها الناس: من رحمة الله تعالى بعباده أنه لما خلقهم وكلفهم هداهم لدينه، وبَيَّن لهم الطريق إليه، وأقام الحجة عليهم، وقطع أعذارهم، ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [يونس:108]. والشرائع التي أوجبها الله تعالى على العباد، وألزمهم بها، هي لمنافعهم ومصالحهم، فالتزامهم بها ينفعهم ولا ينفع الله تعالى شيئا، ورفضهم لها يضرهم ولا يضر الله تعالى شيئا، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) رواه مسلم. هذا؛ ومن أعظم ما فرض الله تعالى على عباده من الفرائض فريضة الزكاة، فهي عبادة المال، وركن الإسلام الثالث بعد الشهادتين والصلاة. تكرر ذكرها في القرآن كثيرا، وقُرن ذكرها بذكر الصلاة في أكثر الآيات ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة:43]. فالصلاة تعصم الدم، والزكاة تعصم المال. ولولا ما فيها من المنافع للعباد في معاشهم ومعادهم، وفيما يخصهم أفرادا وجماعات ودولا وأمما؛ لما كانت عناية الشريعة بها كذلك؛ إذ إن الله تعالى لا يشرع لعباده إلا ما يصلحهم في الدنيا والآخرة. والزكاة دليل صدق العبد في إيمانه، وتسليمه لربه، وثقته في موعوده؛ ولذلك يبذل أغلى ما يملك عن طيب نفس ورضا، ومن هذا القبيل أُطْلق على الزكاة لفظ الصدقة، وهو مأخوذ من الصدق في مساواة الفعل للقول والاعتقاد؛ كما ذكر ذلك العلامة أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى. وهذا الفهم لمعنى الزكاة يرتكز على مفهوم التلازم بين الفعل والقول والاعتقاد في الإسلام، فلا يكمل الاعتقاد بلا قول، كما لا يكمل القول بدون فعل، فالتلازم بين هذه الأمور الثلاثة لحمة عقيدة الإسلام ومرتكزها. إن ارتباط الزكاة بالعقيدة، وكونها جزءاً أساساً لا يكتمل الإيمان إلا بها يدل عليه ما ورد من آيات عن الزكاة في العهد المكي، حيث لم تتكون بعد دولة الإسلام، ولم تتحدد أنواع الأموال والمقادير الواجب إخراجها، إنما كانت الإشارة إلى الزكاة في هذه الفترة باعتبار أنها جزء من الاعتقاد، مما يدل على مدى التلازم بين الإيمان بالله تعالى والعبودية التي هي أقوال وأفعال تبرهن على صدق الإيمان، كما يبين هذا التبكير في الخطاب بالزكاة قبل قيام دولة الإسلام ما يجب على الفرد تجاه إخوانه ومجتمعه وأمته. إن الزكاة تعني الطهارة والنماء والبركة، يقول ابن قتيبة رحمه الله تعالى: الزكاة من الزكاء والنماء والزيادة، سميت بذلك لأنها تثمر المال وتنميه، يقال: زكا الزرع إذا كثر ريعه، وزكت النفقة إذا بورك فيها اهـ. ومن عجيب التشريع الرباني أن الزكاة أَخْذٌ، والأخذ في الأصل نقص من المال، وهذا هو المستقر عند البشر؛ ولذلك يشح أكثرهم ببذل المال خوفا من نقصه، ولكن الشارع الحكيم أخبرنا أن الزكاة وإن كانت إخراج جزء من المال فهي طهارة ونماء للمال، على عكس ما هو مستقر عند البشر، وقد تواردت النصوص على هذا المعنى العظيم الذي لا يدركه أكثر الناس، يقول الله تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة:103] والتطهير والتزكية من أعظم مطلوبات أصحاب النفوس السامية، والهمم السامقة، وتطهير الزكاة عام يشمل المزكي، وآخذ الزكاة، والمال المزكى، والمجتمع بأسره. أما المزكي فتطهره الزكاة من البخل والشح والأثرة والأنانية كما تطهره من عبودية المال، وكم من صاحب مال يملكه المال ويُسَيِّرُه حتى يكون عبدا له، فيوالي في المال، ويُعادي فيه، ويحب فيه، ويبغض فيه، ويشقى في جمعه ولا ينتفع به، ويخشى فواته أكثر من خشيته على دينه أو نفسه أو ولده، ولربما هلك بسبب خسارته، فهذا عبدٌ لماله وإن ملكه. ومخرج الزكاة يتحرر بإذن الله تعالى من هذه العبودية إلى عبودية الله تعالى وحده، ويتطهر من شح نفسه، وفقر قلبه. وهذا من أعظم ما ينفع العبد عاجلا وآجلا، وقد أثنى الله تعالى على من كان كذلك، ووصفه بالفلاح ﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [التغابن:16]. وقال سبحانه ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون:1] ثم ذكر سبحانه سببا من أسباب فلاحهم فقال سبحانه ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ﴾ [المؤمنون:4]. وذم النبي عليه الصلاة والسلام من لم يتطهر قلبه من الشح والأثرة، ودعا عليه فقال عليه الصلاة والسلام ![]() والزكاة سبب لطهارة قلوب الفقراء والمساكين من الحقد على الأغنياء، وحسدهم على ما آتاهم الله تعالى من فضله؛ إذ يرون أن الأغنياء قد أحسوا بهم، وشاركوهم في مصابهم، وتلمسوا حاجاتهم، وواسوهم بأموالهم. فالزكاة أعظم صلة بين الفقراء والأغنياء، وفيها إزالة للحواجز المصطنعة بينهم، وتقريب بعضهم من بعض حتى يكونوا إخوة متآلفين، متحابين في الله تعالى، متعاونين على البر والتقوى. والفقراء إذا ما علموا أن لهم حظا في أموال الأغنياء قد فرضه الله تعالى لهم، وقام الأغنياء بواجبهم فيه؛ فإنهم حينئذ سيتمنون زيادة أموال الأغنياء، ويفرحون بربحهم في تجاراتهم، ويدعون لهم بذلك، ويُبَرِّكون على ما يرون من عظيم أموالهم، ولا يتمنون زوالها أو تلفها؛ لعلمهم أن حقهم من الزكاة يزيد مع زيادة رؤوس أموال الأغنياء وأرباحهم. وقد ثبت أن النصر والرزق يُستجلب بالفقراء والضعفاء؛ وذلك ببركة صلاحهم ودعائهم، كما جاء في حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما قال: (رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) رواه البخاري وفي رواية للنسائي: (إنما ينصر اللهُ هذه الأمةَ بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). ومهما عمل البشر من الوسائل والأساليب، ومهما قاموا به من البحوث والدراسات والدورات للتقريب بين الفقراء والأغنياء، وتآلفهم واجتماع قلوبهم فلن يجدوا للزكاة مثيلا في ذلك، فسبحان من شرع فأحسن، وأمر فأحكم!! والزكاة طهارة للمال مما علق به من الشبهات أو غفلة صاحبه عن حرام في تحصيله، أو تقصيره في أداء واجب على استحقاقه، أو نحو ذلك مما هو من غفلة الإنسان ونقصه؛ ولذلك سمى النبي عليه الصلاة والسلام الزكاةَ: أوساخَ الناس؛ كما جاء في حديث عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ![]() ![]() قال النووي رحمه الله تعالى: ومعنى أوساخ الناس: أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة:103] فهي كغسالة الأوساخ. والزكاة طهارة للمجتمع من مشاكل الفقر، واكتناز الثروات، وفشو الطبقية، وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وكثير من المشكلات الاقتصادية إنما يقضى عليها بهذه الشعيرة العظيمة التي فرضها الله تعالى حقا للفقراء في أموال الأغنياء. وينتج عنها أيضا تطهير المجتمع من جرائم السرقة والنهب والنشل والغصب وقطع الطريق، وغير ذلك من أوجه الاستيلاء على الأموال بغير حق؛ فإن المحتاجين إن جاءهم المال من الأوجه المشروعة، لم يحتاجوا إلى تحصيله بطرق محرمة. وأما التزكية فهي الطاعة والإخلاص كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ فالزكاة دليل الطاعة، وعنوان الإخلاص، ولا يخرجها سخية بها نفسه إلا مؤمن بالله تعالى، صادق في إيمانه، مخلص لدينه؛ ولذا نفى الله تعالى عن أهل الشرك أداء الزكاة، فأخبر عز وجل أنهم لا يؤتون الزكاة؛ لفقدهم الإيمان والإخلاص، ﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [فصِّلت:7]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والزكاة تتضمن الطهارة؛ فإن فيها معنى ترك السيئات، ومعنى فعل الحسنات؛ ولهذا تفسر تارة بالطهارة وتارة بالزيادة والنماء ومعناها يتضمن الأمرين.... فالصدقة توجب الطهارة من الذنوب وتوجب الزكاة التي هي العمل الصالح. اهـ. أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه، والعمل به، وأن يقينا شح أنفسنا، وأن يجعل غنانا في قلوبنا، إنه سميع مجيب. أقول ما تسمعون.... الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة:223]. أيها الناس: من نظر في واقع المسلمين وجد أنهم قد قصروا كثيرا تجاه هذا الركن الركين من دين الإسلام، فشحت نفوس كثير منهم عن أداء حق الله تعالى في أموالهم، فعوقبوا بكثير من المشكلات الاقتصادية التي يبحثون لها عن حلول فلا يجدون أي حل. انظروا -رحمكم الله تعالى- إلى كثرة الأسواق والمحلات التجارية في بلاد المسلمين، واحسبوا أعداد الشركات والمؤسسات تجدوا أنها أكثر عددا من الأسر الفقيرة في المجتمعات، ثم انظروا إلى حسابات كبار التجار، وأباطرة المال تجدوا أنها تقارب موازنات دول كاملة، فلو أخرج هؤلاء وأولئك ما أوجب الله تعالى في أموالهم من زكاة لما بقي في الناس فقير ولا محتاج؟! ومن نظر في أحوال كل بلد من البلدان، أو قرية من القرى، أو قبيلة من القبائل، أو أسرة من الأسر؛ وجد أن فيها أغنياء وفقراء، وأن زكاة أغنيائهم تسد حاجة فقرائهم في الغالب، فلو رَدُّوا صدقاتهم عليهم لكانت صدقة وصلة، ولأغنوهم عن الحاجة إلى غيرهم، ولكان كل قريب وجار كفيلا بقريبه وجاره. والعجيب أنه كلما ازدهر الاقتصاد، وتحركت أسواق المال والأعمال، وكثرت مصادر الدخل، واكتشفت الدول منابع أخرى للثروة؛ ازداد الفقر في الناس، وانضم أناس جدد إلى قوائم الفقراء، مع أنه في الحسابات البشرية يجب أن يكون الحال بعكس ذلك، ولكن السنن الربانية، والنواميس الكونية لا تختل ولا تخطئ؛ فإن تلوث الأموال بالكسب الخبيث نزع البركة منها، وجعل عاقبتها إلى محق وقلة. وإن التقاعس عن إخراج زكاتها أوقف نماءها وزيادتها، وزاد من محقها وقلتها وإن بدا للناس في الظاهر أنها تنمو وتزداد، وقد أخبرنا الله تعالى عن ذلك في قوله سبحانه ﴿ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ الله وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ ﴾ [الرُّوم:39] فتضعيف المال وبركته إنما تكون بتطهيره مما حرم الله تعالى، وتزكيته بالزكاة الواجبة، والصدقة المندوبة، وما نقصت صدقة من مال بل تزده بل تزده. والخلل في أداء الزكاة وقع مركبا من جهتين، وهذا أدى إلى ضعف وظيفتها التي شرعت الزكاة من أجلها، فلا أغنت الفقراء رغم كثرة الأغنياء، ولا رفعت الضائقات الاقتصادية عن الناس: أما الجهة الأولى: فكثير من مُلاَّك الأموال لا يُخرجون زكاة أموالهم، ويتحايلون لإسقاطها بشتى الطرق والوسائل، فما نفعت أموالهم مجتمعاتهم، ولا سدَّت حاجات فقرائهم. وأما الجهة الثانية: فإن من أخرجوا صدقاتهم لم يضعوها في أيدي من يستحقونها، بل جاملوا من يعرفون بها، أو دفعوها إلى أقرب سائل تخلصا منها، فانبرى لذلك تجار يتاجرون بالزكاة، ويتلمسونها عند الأغنياء والكبراء، وهم ليسوا من أهل الاستحقاق. وبعض من وكِّلوا بالزكاة من قبل الأغنياء والكبراء رأوا أنها باب من أبواب الشرف والعز والجاه فساروا فيها سيرة ذوي الجاه، وطلبوا بحق الله تعالى شرفا وجاها لم يحصلوه بأنفسهم، فأحبوا أن يطأ الناس أعقابهم، وأن يزدحموا على أبوابهم؛ لتحصيل ما يحصلونه منهم من زكاة هم وكلاء فيها، وسيسألهم الله تعالى عنها، فازدحم على أبوابهم من اتخذوا من جمع الصدقات حرفة وتجارة، وعفَّ عنهم أهل العفاف والحياء الذي لا يسألون الناس إلحافا. وواجب على من آتاه الله تعالى مالا، وعلى من كان وكيلا في الزكاة أن يبحثوا هم عن المحتاجين بأنفسهم، ولا ينتظرون أن يأتيهم من اتخذوا من السؤال حرفة وتجارة. ومن كان عاجزا عن ذلك فليدفع زكاته إلى ثقة أمين يضعها حيث أمر الله تعالى، ولا يبتغي بها شرفا ولا جاها. ومن عجز عن تلمس المحتاجين المتعففين فلا يجعل من نفسه وكيلا على زكاة لا يقدر على إيصالها إلى من يستحقها، ويدفعها إلى غني عنها، إما مجاملة له، أو كسلا في البحث عن مدى حاجته واستحقاقه لها. وصلوا وسلموا....
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الزكاة المفروضة (3) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل من فوائدها على الجماعة الحمد لله ذي الفضل والنعمة، والإحسان والمنّة؛ هدانا لدينه وما كنَّا لنهتديَ له لولا أنْ هدانا، وعلَّمَنا ما يُقرِّبُنا إليه لنعملَ به، وما يُباعدُنا عنه لنجتنبَه؛ ï´؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ï´¾ [البقرة: 239]، نحمدُه حمدًا كثيرًا، ونشكرُه شكرًا مزيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ دلَّتْ شريعتُه على ربوبيته وألوهيَّتِه، كما دلَّت مخلوقاتُه على عظمته وحسن صنعه؛ ï´؟ صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ï´¾ [البقرة: 138]. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ ((كان أجْوَدَ الناس، وكان أجْوَدَ ما يكون في رمضانَ حين يَلقاهُ جبريلُ، وكان جبريلُ يَلْقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيُدارِسُه القرآنَ، فلَرَسُولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين يلقاه جبريلُ أجْودُ بالخير من الرِّيح المُرسَلة))، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله ربَّكم وأطيعوه، واعْمُروا أوقاتَكم بما يُقرِّبُكم إليه؛ فإنه - سبحانه - أقربُ إليكم من حبل الوريد، يحب طاعتَكم، ويَكره المعصيةَ منكم، وهو - عزَّ وجلَّ - أسرعُ إليكم منكم؛ يقول - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي: ((أنا عنْدَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرني، فإِنْ ذكرني في نفسِه ذكرْتُه في نفسِي، وإِن ذكرنِي في ملأ ذكرتُه في ملأ خيرٍٍ منهم، وإنْ تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبْتُ إليه ذراعًا، وإنْ تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإنْ أتاني يمشي أتيْتُه هَرْولةً))؛ متفق عليه، ونحن - يا عبادَ الله - في شهر الله المبارك، يزداد فيه عفوُه، وتتَّسع رحمتُه، ويكثُرُ عُتقاؤه من النار، فأَرُوا اللهَ - تعالى - من أنفسكم خيرًا، واجتهدوا في العبادة، واتبعوا السنة، وأخلصوا النية؛ فلعل نفحةً من نفحات الباري - سبحانه - تُصيب أهلَ المساجد وأنتم فيها، فتسعدون بها سعادةً لا شقاءَ بعدها أبدًا، ولا يُفرِّط في التماس ذلك إلاَّ محروم، نعوذ بالله - تعالى - من الخذلان والحرمان. أيُّها الناس: الزكاة ركنُ الإسلام الثالث، وهي قرينةُ الصلاة في كثير من آيات القرآن، توعَّد الله - تعالى - مَن لم يُؤدِّها بأن يُعذَّب بماله الذي جمعه، وقاتل الصديق - رضي الله تعالى - الممتنعين عن أدائها؛ فاستحلَّ بمنعهم إيَّاها دماءَهم وأموالَهم، وأجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على مُوافقة الصديق - رضي الله عنه - في ذلك، وإذا عُدَّتْ مناقبُ الصديق - رضي الله عنه - فمِن أهمِّها: قتالُّه المرتدين ومانعي الزكاة، واشتهرتْ في العالمين كلمتُه العظيمة حين قال - رضي الله عنه -: ((والله لأُقاتلنَّ مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاةَ حقُّ المال، والله لو منَعُونِي عَنَاقًا كانوا يُؤَدُّونها إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقاتلْتُهم على منْعِها))؛ متفق عليه. وما شرع الله - تعالى - الزكاة إلاَّ لمصالح العباد، وإلاَّ فهو - سبحانه - غنيٌّ عنهم وعن أموالهم، أوجَبَها لتحقيق مصالحهم، ودرْءِ المفاسد والفتن، ورفعِ العقوبات عنهم، ونزولِ البركات عليهم؛ ذلك أن الجماعة التي يؤدِّي أفرادُها زكاةَ أموالهم تحظَى بمحبة الله – تعالى - ورضوانه؛ لانقيادها لدينه وشرعه، كما أن الجماعة التي يمنع أفرادُها زكاة أموالهم يَحُلُّ بها سخطُ الله - تعالى - ونقمته؛ وقد جاء في الحديث: ((ولم يمنعوا زكاةَ أموالهم إلاَّ مُنِعوا القَطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَرُوا))؛ رواه ابن ماجه. وأداء الزكاة سببٌ من أسباب التمكين والاستخلاف في الأرض؛ إذْ أخبر الله - سبحانه - عمن يستحقون النصر والتمكين بأنهم يؤتون الزكاة؛ ï´؟ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ï´¾ [الحج: 41]. وفي أداء الزكاة تطهيرٌ للجماعة ولأموالهم، ونماءٌ لها، وبركةٌ تلحقها بسبب أداء هذا الركن من الإسلام؛ ï´؟ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ï´¾ [التوبة: 103]، وإذا طهَّر كلُّ واحد مالَه بالزكاة، وباركه بأدائها، عمَّتِ البركةُ في الناس، فكفتهم أرزاقَهم، ورُفع الجوع والفقر والخوف عنهم، والله - تعالى - توعَّد المُنْفِقين بالخلف عليهم فيما أنفقوا؛ ï´؟ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ï´¾ [سبأ: 39]. إن هاجس الفقر والجوع بات يطرق أبواب الدول والأمم، وإنَّ أهمَّ سببَيْن لتردِّي أحوال الاقتصاد العالمي، ومحْقِ بركة الأموال - هما الربا ومنع الزكاة، ولا بركةَ تلحق أموالَ الأفراد والدول والأمم إلاِّ بمنع المحرمات في الاقتصاد، ومباركة الأموال بالزكاة، وهو ما يُنادي به بعض علماء الاقتصاد في الغرب؛ لمعالجة الأزمة المالية الحالية، وإنقاذ التجارة من الكساد، وإنعاش الاقتصاد قبل الانهيار. والبركة إذا طُرحتْ في شيء تكاثر بإذن الله - تعالى - وإنْ بدا للناس قليلاً، وإذا نُزِعت من شيء مُحِق، وإن بدا للناس كثيرًا، وما أحوجَ الناس في هذا الزمن إلى استجلاب البركة إلى أرزاقهم وأموالهم التي باتت لا تكفيهم، وأعظمُ ما يُبارِك الأموالَ إخراجُ حقِّ الله - تعالى - منها فريضةً وتطوعًا، ونبيُّنا محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما نَقَصتْ صدقةٌ من مَالٍ))؛ رواه مسلم. وفي الزكاة تدويرٌ للمال، وتوسيعٌ لنطاقه أخذًا وعطاءً؛ حتى لا يكون دُولَةً بين الأغنياء، ويُحرَم منه الفقراء. إن من أهم أسباب توطيد الأمن، وإزالة الخوف، ومكافحة الجريمة: أداءَ الزكاة؛ لأنها تقرِّب المسافة بين الفقراء والأغنياء، وتُسبب الألفة والمودة بينهم، وتَغسل قلوبَ الفقراء من الأحقاد والضغائن على الأغنياء، وكثيرٌ من الثورات التي سُعِّرت في التاريخ البشري إنما سعَّرها الفقر والجوع؛ ولذلك تَعْمَد الدول الحديثة إلى تقليص الهُوَّة بين الفقراء والأغنياء؛ بفرض الضرائب على الواجدين، وتشريع الضمان للمُعْدَمِين، وشتَّان ما بين الزكاة والضريبة؛ فالزكاة تُبارِك المالَ وصاحبه، وتُبارك اقتصاد البلد الذي تُخرَج فيه، والأمة التي يبارك الله - تعالى - اقتصادَها فلن تُعاني ندرةً أو قلة، ولن يشكوَ أفرادُها فقرًا أو حاجة. إن أكثر جرائم السرقة والنُهبة، والغصب والحرابة، والغش والتزوير، إنما قام أصحابها بها أول مرة من حاجة في الغالب حتى تأصَّل الإجرام في نفوسهم. والجرائم الأخلاقية كالزنا وغيره تكون - أول ما تكون - بسبب الفقر والجوع، إلى أن يألفَها أهلها فتكون حرفتَهم، والزكاة تَسُدُّ هذا الباب العريض من الجرائم والفساد؛ لو أدَّاها أرباب الأموال كما أمرهم الله - تعالى - بها، ولكنَّ شحَّ النفس يَجني عليهم وعلى غيرهم؛ فإنَّ الخوف إنْ نزل بالناس عمَّ فقراءَهم وأغنياءَهم، نسأل الله - تعالى - العافية والسلامة. وفي أداء الزكاة نشرٌ لأخلاق التراحم والتعاضد بين أبناء البلد الواحد، والأمة الواحدة، فيُحسُّ بعضهم بحاجة بعض، بخلاف المجتمعات المادية التي لا يأبَهُ الفرد فيها إلاَّ بنفسه وتجارته ولو هلك الناس أجمعون، والمجتمع المتراحم موعود برحمة الله - تعالى - كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما يَرحَم الله من عبادِه الرُّحماء))، وفي رواية: ((لا يَرحَم الله من عباده إلاَّ الرحماء))؛ رواه الشيخان، وفي حديث آخر قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الراحمون يَرحمُهم الرحمنُ، ارحموا مَن في الأرض يرحَمْكم مَن في السماء))؛ رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وكل جماعة نالوا رحمة الله - عز وجل - بسبب تراحمهم، فإن العقوبات تُرفَع عنهم. وحريٌّ بكل مسلم أن يشكر الله - تعالى - على ما هداه للإسلام، وما أعطاه من المال بأن يؤدي حق الله - تعالى - فيه، فيباركه في الدنيا، ويجد أجره مدَّخرًا له في الآخرة أضعافًا مضاعفة؛ ï´؟ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ï´¾ [البقرة: 245]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ï´؟ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ ï´¾ [الرُّوم: 39]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يُحب ربنُّا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه - صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه؛ï´؟ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ï´¾ [آل عمران:131-132]. أيُّها المسلمون: ضعْفُ الصلة بين الأغنياء والفقراء، وقلَّةُ الواسطةِ الأمين الذي يسعى بينهما - أدَّى إلى أن تقع زكاةُ كثيرٍ من الأغنياء في أيدي أغنياء، ويُحرَم منها الفقراء؛ فإن أناسًا من ضِعَاف النفوس، والمتثاقلين عن العمل والكسب وجدوا في الزكاة تجارةً وربحًا لا يكلفهم إلاَّ دفق ماء وجوههم، فصاروا يتعرَّضون للأغنياء في مساجدهم وطُرُقهم، ويرابطون عند مكاتبهم ومنازلهم يشتكون الفقر، ويتصنعون الحاجة، وبعضهم يمثلون أحوال ذوي العاهة؛ ليرقَّ الناس لهم، ويجزلوا عطاءَهم، ومنهم محتاجون ولكنهم يسألون فوق حاجتهم، وقد اعتادوا السؤال. وحقيقة الفقراء الذين يستحقون الزكاة، ويجب أن يَلتفت الأغنياء لهم هم أهل هذا الوصف؛ ï´؟ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ï´¾ [البقرة: 273]، وقال الصحابة - رضي الله عنهم - للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما المسكينُ يا رسولَ الله؟ قال: الذي لا يجِدُ غِنًى يُغْنيه، ولا يُفْطَنُ له فيُتَصَدَّقَ عليه، ولا يَسْأَلُ الناس شيئًا))؛ رواه الشيخان. ولو أن الأغنياء تلمَّسوا الفقراء بأنفسهم أو عن طريق الثقات من وكلائهم، لقُضِي على كثير من مظاهر التسول التي انتشرت في هذا الزمن، وتزداد كلَّ عام في رمضان؛ بسبب أن كثيرًا من الأغنياء يدفعون صدقاتهم الواجبة والمندوبة لأقرب سائل، فوجد المتسولون مَن يعطيهم دون تثبُّت أو سؤال عن حقيقة أحوالهم. وبعض الوكلاء عن الأغنياء وجدوا في وكالتهم على الزكاة فرصة لإشباع نقصهم، وتقمص مظاهر ذوي الجاه، فيحبون ازدحام السائلين على أبوابهم، ويعطون من الزكاة مَن يَذِلُّون لهم، ولا يلتمسون أهلها المستحقين بأنفسهم، وبعضهم قد يتمادَى في غيِّه فيحابي بها قرابته أو معارفه وليسوا مستحقين، لينالَ حُظوةً عندهم، ووجاهةً في أوساطهم. وواجب على مَن عنده زكاة أو هو وكيل عليها أن يتقوا الله - تعالى - في الفقراء المتعففين، وأن يبذلوا جهدهم في الوصول إليهم؛ فإن الزكاة لا تُحقِّق مقصودها الذي أراده الشارع الحكيم - جلَّ وعلا - بفرضها، ولا تبرأ ذمَّتُهم منها إلاَّ بسعيهم واجتهادهم في إيصال حق الله - تعالى - لمستحقيه، ومَن أخلص النية في ذلك، وبذل جهده وطاقته، أعانه الله – تعالى - ويسَّر له الوصول للمستحقين المتعففين، وسيجد في هذا السعي لذةً لا يعدلها لذة، يعرف معها لِمَ شرُعِت الزكاة؟ ولِمَ كانت من فرائض الله – تعالى - ومن أركان الإسلام العظام؟ ألاَ وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() الزكاة المفروضة (4) الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل (من أسباب منعها) الحمد لله الغني الكريم، الجواد الرحيم؛ غمر عباده بوافر بره، وأغدق عليهم من خزائنه، فهم منذ خلقوا يقتاتون من رزقه، ويغرفون من بحر جوده، وفي الملمات يلوذون بركنه، ومن آوى إليه فقد آوى إلى ركن شديد؛ نحمده فهو أهل الحمد، ولا أحد أولى بالحمد منه، فنحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يرزق بغير حساب، ويعطي عطاء غير مجذوذ، ويجزل بأجر غير ممنون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان أكثر جوده في رمضان، بسبب مدارسته للقرآن؛ فهو بالخير أجود من الريح المرسلة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتزودوا من حياتكم لموتكم، واستعدوا بالعمل الصالح لما أمامكم، واعمروا ما بقي من شهركم؛ فإنه راحل عنكم؛ فمحصل أجرا وحامل وزرا، فكونوا من أهل الأجور لا الأوزار، القائمين بالليل الظامئين بالنهار، فإن لهم من الجنة باب الريانï´؟ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ï´¾ [الإنسان:5-6]. أيها الناس: ثمة تلازم وثيق بين رمضان والإنفاق.. بين الصيام والزكاة، فكلاهما من أركان الإسلام، وفي رمضان حض شرعي على الإنفاق؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، وفي رمضان يكثر إطعام الطعام، وتنتشر موائد تفطير الصوام؛ ابتغاء الأجر من الله تعالى في مظهر من التلاحم والتأخي يأسر النفوس، ويحرك القلوب. إن الزكاة جاءت قرينة للصلاة في كثير من الآيات، وتنزل وعيد شديد على تركها أو التباطؤ عن إيتائها، ويعذب كانز المال بماله في قبره ويوم نشره؛ فإن كان مالا صامتا ذهبا أو فضة أو دراهم كويت به أجزاء جسده، وإن كان ماله من بهيمة الأنعام تطؤه بأظلافها وحوافرها. وبعض المسلمين يتساهلون في إيتاء الزكاة، ويتثاقلون عن إخراجها؛ حتى يعطل الواحد منهم هذا الركن من الإسلام، ولا يحس أنه أتى أمرا عظيما بسبب الجهل والغفلة. إي والله.. تجده من المصلين الصائمين القارئين للقرآن، وربما تصدق على الفقراء، وأطعم الجياع، لكنه لا يؤتي الزكاة، فيفعل النوافل ويذر الفرائض.. مع أن الله تعالى جعل منع الزكاة من صفات الكافرين الذين يكفرون نعمه سبحانه ï´؟ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ï´¾ [فصِّلت:6-7]. إن من الناس من يحبس البخل يده عن أداء الزكاة، ومنهم من يحتال على ربه سبحانه ليسقطها بأن يتخلص من سائل ماله قبل حلول الزكاة بشراء عقار ونحوه، والله تعالى أعلم بما في قلبه، ومن مكر بالله تعالى ليمنع حق الفقراء في ماله فجدير أن يمكر الله تعالى به فيخسر كل ماله. إن البخل هو أهم سبب لمنع الزكاة، ولا سيما عند أصحاب الأموال الطائلة، فينظر صاحب المال الطائل إلى مقدار الزكاة في ماله فيجده كثيرا، ولا ينظر إلى كثرة ماله، والزكاة ليست إلا جزء واحدا من أربعين جزء من ماله، ويستحضر كده وتعبه في جمعه، ولا يستحضر توفيق الله تعالى له في كسبه، فكم كد غيره وتعب ولم يربح كما ربح. وقد بين الله تعالى في كتابه العزيز أن البخل يمنع الإنفاق، وتوعد البخلاء الذين يمنعون حقوق الله تعالى في أموالهم بالعذاب ï´؟ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ ï´¾ [آل عمران: 180]. ومن الناس من يذوق حلاوة المال بعد مرارة الحرمان، ويجد عز الغنى بعد ذل الفقر، وكان أيام فقره وحرمانه يتمنى المال لينفقه في وجوه الخير، فيكفل الأرامل والأيتام، ويسد حاجة الفقراء، ويعين المنكوبين على نوائبهم، ويعد نفسه بالوعود، ويمنيها بالأماني، وما إن سال المال في يده، وامتلأ به جيبه إلا وتنكر لوعوده، ونسي أمانيه، وطوى صفحة الماضي، يظن أنه قد جاوزها بغناه، فيمنع حقوق الله تعالى في ماله، فهذا ينغمس في النفاق وهو لا يشعر؛ لأنه أنكر فضل الله تعالى عليه حين انتشله من الفقر إلى الغنى، ونكث بوعوده وعهوده ï´؟ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ï´¾ [التوبة:75-77] وهذه الآية دليل على أن منع الزكاة يورث النفاق في القلب. ومن أسباب منع الزكاة: الجهل، ولو كان مانعها من كبار المتعلمين؛ وذلك بأن يكون من مستوري الحال أو متوسطي الدخل، فيظن أن الزكاة خاصة بالأغنياء، أو يكون عليه دين طائل لا سداد عنده له فيستحق الزكاة لأجله، لكن عنده مدخرات من المال لحاجته ومن يعول، فيظن أنه لما استحق الزكاة لغرمه لا تجب عليه في ماله، فيمنع الزكاة جهلا، والرجل قد يجتمع فيه استحقاقه للزكاة، ووجوبها عليه في ماله، ولا تعارض بين الأمرين. ودواء الجهل السؤال والعلم؛ فإن أمر الزكاة عظيم، وهي من أركان الإسلام، ومن ضرورات الدين، فلا يعذر الإنسان بجهله في منعها، وهو يستطيع أن يعلم ويسأل. ومن أسباب منع الزكاة: التسويف في إخراجها؛ فإن بعض الناس لكثرة أعماله ومشاريعه، وتعدد مصادر أمواله يحتاج إلى وقت ليحسب زكاته، فيؤجل ويسوف حتى يمضي عليه الحول والحولان والثلاثة وهو لم يخرج زكاة أمواله، ولو أنه حرص على دينه حرصه على دنياه، واهتم للزكاة اهتمامه بمشاريعه لخصها بموظفين يحسبونها ويخرجونها. ومن الناس من يمنعه من أداء الزكاة عدم وصوله للمستحقين بيسر وسرعة؛ فيرى كثرة المتصنعين للفقر، ويسمع أن الزكاة لا بد فيها من التحري والسؤال، فيؤخرها لأجل أن يبحث بنفسه عن المستحقين، فيتمادى به الوقت وهو لم يخرجها. ومن كان هذا حاله وجب عليه أن يتصل بالثقات من معارفه ويوكلهم على زكاته، وتبرأ ذمته بذلك. ومن الناس من يؤدي الزكاة لكنه لم يؤدها على الحقيقة، وهم أصناف في الناس كثيرة: فمنهم من يقيمها مقام النفقة، فيوسع بها على أولاده المتزوجين بحجة أنهم محتاجون ومستقلون عنه في منازلهم، مع أن زكاته لا تجوز لهم. ومنهم من يكون ذا شأن في قومه، وتتوجه إليه أبصارهم في رمضان، فيبني جاهه عندهم بزكاة ماله وهم ليسوا من أهل الزكاة، يظنونها هبة منه، وهو يحسبها من زكاته. ومنهم من اعتاد أن يدفع زكاته لقرابته الفقراء، وألفوا ذلك منه في كل رمضان، ثم أغناهم الله تعالى بعد الفقر، فيستحي أن يقطع عنهم عادتهم، ويشح أن يبذلها لهم من ماله، ويجترئ على حق الله تعالى فيجعله لهم، ويمنع منه الفقراء. ومنهم من يكسل عن الوصول إلى الفقراء في مواطنهم، فيدفعها لأقرب سائل تخلصا منها، وقد يغلب على ظنه أنه غير محتاج، فلا تبرأ ذمته بما دفع. ومنهم من يكون حييا فيبتلى بسائل صفيق لا يبارحه حتى يعطيه مالا، فيدفعه إليه وينويه من الزكاة، وهو يظن أنه إنما سأل تكثرا، ويجعل ذلك في ذمة السائل، وهذا لا يصح.. فهؤلاء كلهم قد آتوا الزكاة لكنهم لم يضعوها في مواضعها مع قدرتهم على وضعها في مواضعها فكأنهم لم يؤتوها. والسبب الذي يجمع هذه الأسباب كلها هو ضعف الإيمان؛ فإن صاحب الإيمان القوي يبحث عما يرضي الله تعالى، ويتعلم فرائضه، ويتحرى في أداء حقوقه، ولا يستكثر شيئا من ماله لله تعالى مهما كان عظيما. هذا؛ ووضع الزكاة في غير مصرفها كأداء الصيام الواجب في غير وقته، وهو كالصلاة في غير وقتها؛ فإن إيتاء الزكاة إلى غير أهلها المنصوص عليهم في الآية مع علم المزكي بذلك لا يصح أن يسمى زكاة ï´؟ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ï´¾ [التوبة:60]. بارك الله لي ولكم في القرآن... الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتهدوا في طاعة الله تعالى؛ فإنكم أمضيتم شطر شهركم، وبقي شطره، وما بقي خير مما مضى؛ إذ فيما بقي عشر مباركة خصت بليلة القدر ï´؟ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ ï´¾ [القدر:2-5] فالتمسوها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسها، وذلك بإحياء العشر كلها، قالت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ" رواه الشيخان. فأروا الله تعالى من أنفسكم فيها خيرا يؤتكم خيرا. أيها المسلمون: وقَّت كثير من الناس رمضان موعدا لإخراج زكاة أموالهم؛ طلبا للزمن الفاضل، وسدا لحاجات الفقراء في رمضان والعيد. ولأجل إقبال الناس على الصدقة والإنفاق يكثر التسول في هذا الشهر ممن يمتهنون هذه المهنة الرديئة وليسوا محتاجين، ويتعرضون للناس في المساجد والأسواق والطرقات، ودفع الزكاة إلى من يغلب على الظن أنه ليس من أهلها لا يسقط الوجوب، ولا سيما مع كثرة الكذب وتصنع الفقر، وتحول السؤال إلى مجال للكسب والثراء.. وما تفشت هذه الظاهرة السيئة في بلاد المسلمين إلا بسبب تقصير مخرجي الزكاة في الوصول للمستحقين، والتخلص منها بإلقائها في أيدي السائلين.. وإلا ففي البيوت المستورة فقراء ومحاويج، وفيها أرامل وأيتام، وفيها من أقعدتهم الأمراض عن العمل والاكتساب، وفي السجون غارمون يحرم أهلهم وأولادهم فرحة العيد بهم بسبب ديونهم، وأسر المسجونين غالبا ما تكون في حاجة شديدة لغياب المكتسب المعيل. ولو تحرى الإنسان في زكاته فوضعها في مصرفها الصحيح لفرج بها كربا، وأزال هما، وأسعد أسرا؛ ولوجد لذة عظيمة في أداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام.. ولو أدى الأثرياء زكاة أموالهم، ووصلت لمستحقيها لما بقي في الناس محتاج، لكن بعضهم يمنعونها، ومن يؤتونها من الناس يقصر كثير منهم في الوصول إلى مستحقيها.. والواجب أن يضع المسلم فريضة الزكاة في موضعها اللائق بها، ويتعامل معها تعامله مع ركن من أركان الإسلام، ويستحضر هذا المعنى العظيم عند أداء زكاته، لا أن يعدها مالا زائدا وجب عليه أن يتخلص منه بأي طريق كان؛ فإن الله تعالى قد ذكر الزكاة في كثير من الآيات، وجعلها قرينة للصلاة، وما ذاك إلا لأهميتها في دينه سبحانه، وعظيم منزلتها عنده عز وجل؛ حتى نطق بها المسيح عليه السلام في مهده، وأخبر أنها وصية الله تعالى له ï´؟ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ï´¾ [مريم:31]. وصلوا وسلموا على نبيكم..
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |