المحكم والمتشابه في الشريعة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         طريقة عمل البطاطس المحشية باللحمة المفرومة.. سهلة وبتشبع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          4 خطوات لتنفيذ المكياج التركى موضة 2025.. هتبقى شبه "توركان سوراى" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          طريقة عمل كيك الحرنكش.. مشبعة وطعمها حلو (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          نباتات وزهور يمكن وضعها في مطبخك للتخلص من الروائح المزعجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          لو خلص ومش عارفة تعملى إيه.. 6 خطوات لعمل الفاونديشن في البيت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          6 نصائح لحماية الطفل من الاعتداء البدنى والتحرش (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          مكياج ثابت في وجه العاصفة.. 10حيل للحفاظ على جمالك رغم تقلبات الطقس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          7 أنواع كيك لذيذة مثالية للفطار.. من الجزر للزبادى والفواكه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          لو عندك مناسبة.. 6 تسريحات شعر لطفلتك هتخليها أميرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          بيخسس ويجدد خلايا البشرة.. اعرفى فوائد الحرنكش لجمالك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-03-2020, 04:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,167
الدولة : Egypt
افتراضي المحكم والمتشابه في الشريعة

المحكم والمتشابه في الشريعة (1)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل





الحمد لله العليم الحكيم؛ خَلَق فأتقن، وشرع فأحكم، وابتلى العباد بشريعته، فمنهم المهتدون، ومنهم الضالون؛ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، نحمده على آلائِه، ونشكره على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرَّد بالخلْق والحُكم، فالخلْقُ خلقُه، والأمرُ أمرُه، لا ينازعه فيه إلا جاهلٌ معانِد؛ {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].



وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ بَعَثَهُ الله - تعالى - ابتلاء للعباد، فمَن أطاعه أفلح وفاز، ومَن عصاه خسر وخاب، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين.

أما بعدُ:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، واستَمْسِكوا بدينكم؛ فإنه الحقُّ مِن ربِّكم، ولا يغلبنكم عليه أهلُ الأهواء؛ فإنهم دُعاة على أبواب جهنَّم، مَن أجابهم قذَفُوه فيها؛ {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].


أيها الناس:
خلَق الله - تعالى - البشر، فابتلاهم بدينه، وأرسل إليهم رسلَه، وأنزل عليهم كُتبَه، وأقام فيهم حجته، فلا يَضل بعد بلوغ الحجة إلا مستكبرٌ معاندٌ؛ {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].


ومن حكمته - سبحانه - أنْ جعل البشر يَفتن بعضهم بعضًا عن الحق، ويُضِل بعضهم بعضًا، كما يهدي بعضهم بعضًا؛ فدعاةٌ إلى الجنة، ودعاةٌ إلى النار؛ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]؛ أي: جعلتُ بعضكم لبعض بلاءً؛ لتَصْبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتَّبعوا الهدى بغَيْر شيءٍ من الدنيا، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالَفون، لفعلْتُ، ولكنِّي قد أردتُ أن أَبتَلِيَ العباد بكم، وأبتليكم بهم؛ لأرى أيصبرون على الحق؟ أم لا يصبرون؟

وفي الحديث القدسي، قال الله - تعالى - لنبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بعثْتك لأبْتَليَك، وأبتلي بك))؛ رواه مسلم.

إن الله - تعالى - حين ابتلى العباد بدينه، وأَمَرَهُم بشرائعه، أحكمها لهم، وفصَّل حلالها وحرامها، وبيَّن حدودها ومعالمها، وجلَّى أوامرها ونواهيها، وأنزلها في كتابٍ محفوظ مُحكَمٍ؛ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42].

ولأجل ذلك لَم يكن في القرآن اختلافٌ، ولا نقْص ولا زيادة، ولا تناقُض ولا باطل، كما كان في كلام البشَر؛ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وكانت الشريعةُ التي جاء بها أحسن الشرائع وأتمّها؛ {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138]، وفي آية أخرى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

ومع هذا الإحكام والتفصيل والبيان للشريعة الربانية، فإنَّ الله - تعالى - جعل فيها مُتشابهات، وهذه المتشابهات منها ما لا يعلمه إلا الله - تعالى - ومنها ما يعلمه بعضُ الناس دون بعض، بحسب ما لديهم من علم بالشريعة، وفِقْه في الدِّين؛ {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ من الناس))؛ رواه الشيخان.

إن الله - تعالى - قادِرٌ على أن ينزِّل شريعة، ليس في نُصُوصها ولا أحكامها أيُّ اشتباه، فلا يقع فيها التِباس، ولا يحدث بسببها خلاف، كما أنَّه - سبحانه - قادر على أن يهدي الناس أو يضلهم، بلا رسول، ولا كتاب، ولا دعوة، ولا بيان، وهو - تعالى - قادر على أن يُنَعِّمَ من شاء من عباده، ويُعذِّبَ من شاء منهم، بلا ابتلاء، ولا امتحان، ولكنَّه - سبحانه - ابتلى العباد بشريعته، ثم جعل فيها ما يشتبه على الناس، فيقع فيه اختلاف بينهم؛ ولهذه الإرادة الربانية حِكَمٌ باهِرة، وله - سبحانه - فيها حُجج بالغة، وأسرار عجيبة، لا يملك مَن أدرك بعضها إلا أن يكبِّرَ الله - تعالى - ويُسَبحه ويحمده، ويسأله الهداية لما اختلف فيه من الحق بإذْنِه؛ فهو يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.

إن من الحِكَم العظيمة المنصوص عليها لهذا الاشتباه في بعض الشريعة: امتحانَ البشر، وابتلاءَهم بذلك؛ ليبينَ الموقن من المُذَبْذب، وليظهرَ الصادق منَ الكاذب، وليميز الورع المتقي من المتخوض في الشبُهات، التي تقود إلى الحرام، فالفريقُ الأول لا يَثْبُتون أمام الشبهات؛ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ)).

وأما الفريق الثاني: فهم الموقنون بإيمانهم، الثابتون على دينهم؛ {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((فَمَن اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ)).

فالمُوَفَّقون للحق يتَّقون الشبُهات، ويؤمنون بالمتشابهات، فلا تميد بهم الأهواءُ، ولا تسيرهم الشهوات، وليس في قلوبهم إلا التسليم والانقياد؛ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].

وأما أهلُ الزيغ: فهم الذين يضربون المحكَمات بالمتشابهات، ويتكِئُون على المشتبه لإباحة المحرَّم؛ من أجل دنيا يُصيبونها، أو بَشَر يرضونهم من دون الله - تعالى -: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62].

فيا لله العظيم، ما أعظمها من علة! وما أجلَّها مِن حكمة! وما أشده من امتحان! ابتلاء على ابتلاء، ابتُلي البشر بأصل الدين؛ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، ثم ابتلي المؤمنون بالمتشابهات؛ فمنهم من فُتن، ومنهم مَن رسخ؛ ولذا ناسَب أن تُختم هذه الآية بقول الله - تعالى -: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ}، ويعقبها هذا الدعاء المبارَك؛ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، نسأل الله - تعالى - أن يجعلَنا منَ الموقنين، وأن يجنِّبنا طرُق الزَّيغ والفتنة.

ومنَ الحكَم العظيمة للمُتشابه في الشريعة، إظهارُ عجْز البشر، وافتقارهم لله - تعالى - في كلِّ أحوالهم وأُمُورهم، التي أعظمها أمور الاعتقاد، والتعبُّد لربِّ العالَمين؛ ليعلموا أنَّ فوق كلِّ ذي علمٍ عليمًا، وليوقنوا أنهم مهما تَزَوَّدوا من العلم، فلم يُؤتوا منه إلا قليلاً، فتتطامن نفوسُهم عن الكبرياء، وتخنع عن كثرة الادِّعاء، ويكون حالُهم كحال الملائكة حين قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [البقرة: 32].

ولذا كان من العلماء مَن يستعين بالاستغفار والتسبيح، والذِّكر والدعاء، على ما اشتبه عليهم من النصوص، وما أغلق عنهم من المسائل، فكان بَعْضُ السَّلَفِ يقول عند الإفتاء: "{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ}".

وكان مكحول يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وكان الإمام مالك يقول: "ما شاء الله، لا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وقال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة: "ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسألُ الله الفَهْم، وأقول: يا مُعَلِّم آدم وإبراهيم علِّمني، وكنتُ أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب، وأسأل الله وأقول: يا مُعَلِّم إبراهيم فهمني"، فلولا هذا الاشتباه في بعض النصوص والأحكام، لما ظهر هذا الافتقار من جلة العلماء.

وبوجود المتشابه في الشريعة، تتحرَّك العقول للفكر، والتدبُّر، والاستنباط، وتنهض الهمَم للجمع والمقارنة والترجيح؛ فيكون في ذلك إعمالٌ للعقول، وتنشيطٌ لها، كما يكون فيه مزية للراسخين في العلم على غيرهم، وما فُضِّل العلماء على غيرهم إلا لأنهم يهتدون إلى الحق بعلْمِهم، ويهدون إليه غيرهم بدعوتهم، فكانوا هم أهل الهداية والخَشْية والرِّفعة؛ حتى ورثوا الأنبياء فيما ورثوا من النور والهدى.

ولو لَم يوجَد الاشتباه في الشريعة، أو هُدي الناسُ كلُّهم لفَهْمِها وإدراكها، لكان أهلُ العلم سواسيةً مع غيرهم، ولذبلت العقولُ عن النظَر والتفكُّر الذي رُتِّب عليهما عظيمُ الأجْر والثواب، وكلما كانت المسائلُ أعسر، احتاجتْ نظرًا أطول، وتفكُّرًا أكثر، وبحثًا أشق؛ فزاد العلمُ، واتسع الفهمُ، وعظم الأجرُ.
إنها شريعة أحكم الحاكمين، أحكمها وأنزلها، وجعل فيها من المتشابه ما يكون فتنةً للزائغين، وثباتًا للموقنين، فمَن أخلص لله - تعالى - في حملها وأدائها، هداه وكفاه وجازاه، ومن تحملها لدنيا، أو بلَّغها لدنيا، أو حرَّفها لدنيا، حمل من الوزر بقدر ما فعل؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].


بارك الله لي ولكم.



الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يُحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين.

أما بعدُ:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وعظِّموا أمره فلا تعصوه، ولا تتركوا شيئًا من دينه فتضلوا؛ {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ} [المائدة: 92].


أيها المسلمون:
لقد كان المتشابه منَ النصوص فتنةً للذين زاغوا عن الحق، ومالوا إلى الباطل، وغالبًا ما يكون دافع ذلك هو إرضاء البشر، واتِّباع الهوى، وفي القرون الأولى من الإسلام بُهِر بعضُ المسلمين بفلسفات اليونان لَمَّا تُرجِمَت إلى العربية، فتشربها أقوامٌ حتى امتلأتْ قلوبُهم بزَيْغِها وضلالها، فعارضتْ محكمات القرآن في توحيد الربِّ - سبحانه - وأسمائه وصفاته، فعمدوا إلى المتشابه من آي القرآن؛ ليضربوا به المحكَم المعارض؛ لِمَا في قلوبهم من زَيْغٍ، فقضوا حياتَهم في شكٍّ وقلق واضطراب، فمنهم مَن مات على ذلك، ومنهم من أدركتْهُ رحمةُ الله - تعالى - قبل موته، فتاب مِنْ زَيْغِه وضلاله.


وقبل قرنَيْن من الزمان، بدأ نُهُوض الحضارة الغربية المعاصرة، وكانت علمانية فردية إباحية نفعية في كل شيء، فَفُتِن أقوامٌ من المسلمين بقوانينها وأنظمتها، ولا سيما فيما يخصُّ المرأة وحريتها واستقلالها عن الرجل، وتكرَّر ما وقع قبل قرون؛ إذ انبَرى من المسلمين مَن جعلوا حضارة الغرب هي الأصل الذي تحاكم الشريعة إليه، وراحوا يبْحَثُون عن المتشابه منَ النصوص؛ ليَضْرِبُوا به المحكم، ويستخرجوا ما يتواءَم مع أفكار الغرب، كما فَعَل السابقون مع أفكار اليونان.

وغاب عنهم أنَّ أحكام الإسلام في شُؤون الأسرة والمرأة مجافية كليًّا، لِمَا قُرِّر في الفكر الغربي؛ إذ في الإسلام:
• تغْطية المرأة وحجبها، وفي الحضارة الغربية كشْفها وتعْرِيتها.
• وفي الإسلام كان الأصلُ قرارها في المنزل، وعدم خلْطها بالرجال، وكان الأصلُ عند الغرب خُرُوجها وخلْطها بالرجال.
• وفي الإسلامِ يكون الرجلُ قوَّامًا عليها، وعند الغرب تقوم هي بنفسها.


فلماذا كل هذا الاختلاف؟
الجواب يرجع إلى أصل مهم: هو أن الزنا مُحرَّمٌ في الإسلام، مباح عند الغرب، فغاب هذا الأصلُ العظيم عمن حاولوا تقريب شريعة الإسلام من الفكر الغربي، فلجَؤُوا إلى التحريف والتأويل والانتقاء، وضرَبُوا المحكمَات بالمتشابهات.


إنَّ مَن تأمل الشريعة، وقرأ النصوص، أيْقَن أن الإسلام أوصد كل طريق موصلة إلى الزنا، فأمر بِغَضِّ البصر، وحرَّم الخُلْوة والاختلاط، ومنع سفر المرأة بلا مَحْرم، وأوجبَ الحجابَ، ومنع المرأة من إبداء زينتها للأجانب عنها؛ ليَتَحَقَّق الأصل، وهو تحريم الزنا؛ {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32].

بينما فتح الفكر الغربي كل الطرُق المؤدِّية إلى الزنا؛ لأنه يُبيحه، فمَن أراد استنساخ النظام الأُسَري من الغرب، أو أراد تقريب المسلمين منه؛ فلا بد أن يَجْنِيَ على الأصل الذي باين فيه الإسلامُ الفكرَ الغربي، وهو تحريم الزنا، فلا يأتي مُتَهَوِّك يجتر متشابهًا ليضرب به محكمًا، ويُغمض عينه عن الأصل الذي لأجله باعَد الإسلامُ بين الرجل والمرأة، وإلا كان زائغًا عن الحقِّ، محرِّفًا للكلِم، يلبس الحق بالباطل، ويجني على أصول الإسلام؛ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]؛ قال نبيَّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا رَأَيْت الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه، فَأُولَئِك الَّذِينَ سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ))؛ رواه الشيخان.

نعوذ بالله من الزيغ والهوى، ومن مُضلاَّت الفتَن، ما ظهر منها وما بطن، ونسأله الموافاة على الإيمان والهدى.

وصلوا وسلموا...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-03-2020, 04:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,167
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المحكم والمتشابه في الشريعة

المحكم والمتشابه في الشريعة (2)



الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل

خطر اتباع المتشابه وترك المحكَم


الحمدُ لله العليم الحكيم؛ أنزل آياتِه وأحكمَها، وبيَّن شريعتَه وفصَّلها، وألْزم عباده بها، وجعل الثوابَ والعِقاب عليها، نحمده على وافرِ نِعمه، ونشكره على جزيلِ عطاياه؛ ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ﴾ [النحل: 53]، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحْده لا شريكَ له؛ ابتلى عبادَه بكتابه ونبيِّه ودِينه؛ فمن الناس مصدِّق مُذعِن، ومنهم مكذِّب مستكبر، ومنهم مُذبْذَب يأخذ ما يَهوَى، ويترك ما لا يَهوَى، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ عظمتْ برسالته مِحنة العباد، وبها تمايز المؤمنون من الكفَّار، والأبرار من الفجَّار؛ قال الله تعالى له: ((إنما بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وأبتلىَ بِكَ))، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يومِ الدِّين.

أما بعد:
فاتَّقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنَّ الشيطان يُسلِّط أهلَ الأهواء والشُّبهات على عباده؛ فيَقذفون الشُّبهَ في دِينهم، ويُحلُّون لهم ما حرَّم ربُّهم، ويُسقطون ما أوجب عليهم، فهم دُعاةٌ على أبواب جهنمَ، مَن أجابهم قذفوه فيها، ولا نجاةَ إلا بالإيمان بالشريعة كلِّها، وردِّ متشابهها إلى مُحْكَمها، ومجانبة أهل الأهواء وما يقولون، ولزوم الرَّاسخين في العِلم، والصدور عنهم؛ ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 7 - 8].

أيُّها الناس:
حين أنزل الله - تعالى - القرآن على عباده ليهتدوا به، وفرَض عليهم شريعتَه ليعملوا بها، فإنَّه سبحانه أحْكَمها وفصَّلها؛ ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]، ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [فصِّلت: 3]؛ وذلك لأنَّه كتابٌ ﴿ لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصِّلت: 42].

فالإحكام هو صِفةُ القرآن، وما جاء به مِن أحكام، فلا تناقضَ فيه ولا اختلاف؛ ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، بخلاف كلام البشَر وتشريعاتهم وأنظمتِهم وأحكامهم، ففيها من التناقُض والاختلاف ما فيها؛ ﴿ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ﴾ [الذاريات: 8 - 9].

والقرآن تتشابه آياتُه وأحكامه، فيُؤيِّد بعضُها بعضًا، وهذا ما يُسمَّى بالتشابه العام في القرآن؛ لأنَّ آياتِه وأحكامَه متناسبة، مؤتلفة متصادقة، فلا تعارضَ بينها ولا تناقضَ ولا تنافر، ومِن هذا المعنى قولُ الله - تعالى -: ﴿ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ﴾ [الزُّمر: 23].

ومِن آيات القرآن وأحكام الشريعة ما يقع فيه الاشتباهُ على بعض الناس بسبب الجَهْل أو الهوى، فيتركون المُحكَمَ المفصَّل ويتبعون المتشابهَ المُجْمل؛ ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7].

وكم يقع مِن الفِتْنة والبَلْبلة في الناس بسبب شُبهاتهم التي يقذفونها لهم في دِينهم، فيسقطون بها الواجبات، أو يحلُّون بها المحرَّمات، وقد أخبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن المتشابهات في الأحكام بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وإِِنَّ الحرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ من الناس))؛ رواه الشيخان.

فهذه المشتبهات لا يعلم حُكمَها كثيرٌ من الناس، فيركبهم صاحبُ هوًى أو جهل، فيلبس عليهم بها، ويأتيهم بما لم يَعرفوا مِن قبل، وذلك مِصْداقُ ما أخبر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((سيكون في آخِرِ الزمان ناسٌ من أمَّتي يُحدِّثونكم بما لم تَسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإيَّاكم وإيَّاهم))؛ رواه أبو يعلى وصحَّحه الحاكم.

وقد وَقَع هذا الخبرُ النبوي الغَيْبي، ورأيناه رأيَ العين، وسمعْنا مَن يُحدِّث الناس في أمر دينهم بما لم يَعرفوا هم ولا آباؤهم، فيُحلُّون لهم المحرَّمات، ويُسقطون عنهم الواجباتِ، ويبخسون الشريعةَ، وينقصون منها بحسب طلب أهل الأهواء منهم، وتأمَّلوا نُصْح النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين أخبر عنهم، فقال محذرًا: ((فإيَّاكم وإيَّاهم))؛ أي: اجتنبوا مجالسَهم، فلا تستمعوا لما يقولون، ولا تقرؤوا ما يكتُبون، سواء كان ذلك بخطابٍ مباشر، أو عبر إذاعة أو فضائيَّة أو صحيفة أو مجلَّة.

وسببُ أمْر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - باجتنابهم حِفظُ القلوب لئلاَّ يُداخلَها شيء من الزَّيْغ والضلال والباطل بسبب شُبهاتهم؛ لأنَّهم قوم يُقرِّرون أحكامًا في رؤوسهم تُوافق هوى مَن يُحرِّكونهم، ثم يعمدون إلى الكتاب والسُّنة وتراث الأمَّة لاستخراج ما يؤيِّد أهواءهم، فيأخذون المشتبهَ، ويضربون به المُحكَم.

ومَن ترَك محكمات الشريعة واستخرج متشابهاتِها، استطاع أن يستدلَّ على إسقاط الواجبات بأدلَّةٍ من الكتاب والسُّنة، كما يستطيع أن يُبيحَ المحرَّماتِ بأدلة من الكتاب والسُّنة أيضًا، ولا عَجبَ في ذلك أبدًا؛ إذ إنَّ ما هو أعظم مِن ذلك يمكن أن يقع؛ فيستطيع صاحبُ الشُّبهة أن يُبيح الكفر للناس، ويَشْرَع لهم الشِّرْك بالله تعالى، ويستطيع أن يجعلَ الإيمان والكُفر سواءً، معتمدًا على قول الله - سبحانه -: ﴿ وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29] فيزعم أنَّ الله - تعالى - خَيَّر الناس بيْن الإيمان والكفر، والتخيير بينهما يقتضي استواءهما، ويغضُّ الطَّرْف عن الآيات الكثيرة التي تتوعَّد الكافر بالنار، ومنها آخِرُ هذه الآية التي يستدلُّ بها على فساد قوله، فهي في سياق التهديد والوعيد، وليس فيها تخيير ﴿ وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ [الكهف: 29].

بل يستطيع مُتَّبِع المتشابهات أن يحكمَ بالجنة لأصحاب الدِّيانات الأخرى ممن كَفروا بالإسلام مستدلاًّ بقول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 62]، متعاميًا عن معنى الآية وهو: مَن آمن منهم برسوله قبلَ بعثة محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومات على إيمانه، ويترك هذا الملبِّسُ مئاتِ الآيات والأحاديث التي تحكم بالنار لكلِّ مَن لم يتبع دِينَ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.

وأعجبُ من ذلك - أيها الإخوة -: أنَّ النصرانيَّ يستطيع أن يستدلَّ على عقيدة التثليث، وعلى بُنوة المسيح لله تعالى بالقرآن الكريم، مع أنَّها شِرْك أكبر، وقدْح في الله تعالى؛ وذلك حين يأتي النَّصراني إلى الآيات التي فيها أنَّ عيسى - عليه السلام - يُبرِئ الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى، ويخبر ببعض الغَيْب، فيستدل بها على ألوهية عيسى - عليه السلام - باعتبار أنَّ هذه الأفعال التي قام بها عيسى من خصائص الله تعالى، ويَعْمَى عن الآيات التي تُثبِت بشريتَه، وأنَّه مخلوق لله تعالى، وأنَّ الله تعالى أجرى عليه يديه هذه الخصائصَ معجزةً تُثبت صِدْقه - عليه السلام - ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59].

ثم يأتي إلى الآيات التي تُثبت أنَّ عيسى ولدٌ بلا أبٍ، فيستدل بها على بنوته لله تعالى، ويَعْمَى عن الآيات الكثيرة التي تنفي الولدَ عن الله تعالى، والآياتِ التي تَذكُر قصة ولادة عيسى - عليه السلام.

ثم يأتي إلى الآيات القرآنية التي فيها كلامُ الله تعالى عن نفسه بصِيَغ جمْع العَظَمة، نحو قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا ﴾ [يس: 12]، فيدَّعِي أنَّ الله تعالى متعدِّد وليس واحدًا، ويَعْمى عن الآيات التي فيها إثباتُ وحدانية الله - تعالى - وبُطلان عقيدة التثليث والآلهة المتعدِّدة، نحو قول الله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [المائدة: 73].

وقد روى أئمَّةُ التفسير وأهلُ السِّيَر: أنَّ نصارى نجران احتجُّوا على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهذه الحُجج، زاعمين ألوهيةَ عيسى - عليه السلام - وبُنوته لله تعالى، فأنزل الله تعالى صدرَ سورة آل عمران في دحْض حُجَجهم.

وإذا كان بإمكان مُتَّبِع المتشابه أن يُصحِّح العقائد الزائفة، ويُساوي الكفرَ بالإيمان، ويحكم لأصناف الكفَّار بالجنَّة، ويَستدل لما يقول بنصوص يَنتقيها مِن القرآن، ويُعرِض عن غيرها على طريقة أهل الكتاب في إيمانهم ببعض الكتاب وكُفْرهم ببعضه، فإنَّه يستطيع مِن باب أَوْلى أن يُبيح ما دون الشِّرْك والكفر مِن المحرَّمات، كالاختلاط والخلوة بالأجنبية، وسَفَر المرأة بلا مَحْرَم وغير ذلك، ويستدلّ لِمَا يريد بنصوص مشتبهة، ويترك المُحكَم الواضح.

وإذا كان يستطيع أن يُبطِلَ التوحيد بنصوصٍ ينتقيها من القرآن، فلن يعجزَ عن إبطال ما هو دون التوحيد مِن الواجبات، كصلاة الجماعة، وحجاب المرأة ووجوب المَحْرم لها، وغير ذلك.

نعوذ بالله العليِّ الأعلى مِن الضلال بعدَ الهُدى، ومِن سُبل أهل الزَّيْغ والانتكاس والرَّدى، ونسأله العِصمةَ والثبات على الحق والهُدى؛ ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8].

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.


الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرْضى، وأشهد ألاَّ إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدِّين.

أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله ربَّكم، واستمسكوا بدِينكم، واعملوا بالمُحكَم من شريعتكم، وردُّوا المتشابهَ إلى المحكَم منها، واحذروا أهلَ الأهواء، فإنَّهم يضلُّون مَن استمع إليهم؛ ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 50].

أيُّها الناس:
اتِّباع المتشابه مِن القرآن والسُّنة، وضَرْب نصوص الشريعة بعضها ببعض، قد أخبر الصادقُ المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن وقوعه في هذه الأمَّة؛ كما في حديث مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((...سَيَخْرُجُ في أمَّتي أَقْوامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الأَهْواءُ كما يَتَجَارَى الكَلَبُ بِصاحِبِه، لا يَبْقَى منه عِرْقٌ وَلاَ مَفْصِلٌ إلاَّ دَخَلَهُ..))؛ رواه أبو داود.

و(الكَلَب): داء يعرِض للكلب، فإذا عضَّ حيوانًا عَرَض له أعراض رديئة فاسِدة قاتلة، فإذا تجَارى بالإنسان وتمادَى هَلَك، والمعنى: يتواقعون في الأهواء الفاسِدة، ويتداعون فيها، فتفسد قلوبُهم بها، ويَهلِكون بسببها.

وكان سَلَفُنا الصالح يَنهَوْن عن اتِّباع المتشابه من النصوص، ولا يُجالسون أصحابَه، ولا يستمعون لأقوالهم خشيةَ الزيغ والفِتْنة؛ لأنَّ اتِّباع المتشابه يؤدِّي إلى تصغير الشريعة ونصوصها في القلوب، وتقديمِ الأهواء عليها، فيُعاقَب فاعلُ ذلك بزَيْغ قلبه، وصدوده عن الحق ومحاربته.

وجاء عن عمر - رضي الله عنه -: أنَّه كان يُعاقِب مَن يراه يسأل عن المتشابه؛ كما روى سُلَيْمَانُ بن يَسَارٍ - رحمه الله تعالى -: "أنَّ رجلاً يُقال له: صَبِيغ، قدِم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمرُ - وقد أعدَّ له عراجين النخل - فقال: مَن أنت؟ قال: أنا عبدُ الله صبيغ، فأخذ عمرُ عُرجونًا من تلك العراجين فضَربَه، وقال: أنا عبدُ الله عمر، فجعل له ضربًا حتى دَمِيَ رأسُه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، حسبُك قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي"؛ رواه الدارمي، وجاء في روايةٍ أخرى: أنَّ عمر - رضي الله عنه - نهى عن مجالسته، فهجره الناس حتى اشتدتْ عليه الوَحْدة، فتاب وحسُنَتْ توبتُه، فأذن عمر - رضي الله عنه - بمجالسته.

وكم في عصْرنا هذا مِن رؤوس داخلَها الهوى، فتتبَّعت المتشابه لتضلَّ الناس به، فتُسقط عنهم الواجبات، وتُحِلُّ لهم المحرَّمات، فما أحوجَها إلى عراجين عمر - رضي الله عنه - حتى يخرجَ الهوى منها، فتردّ المتشابه إلى المُحكَم.

إنَّ على مَن يُريد الحِفاظَ على قلْبه من الزَّيْغ، ودِينه من التحريف، أن يُجانب الاستماعَ لمن يتَّتبعون المتشابه، ويلزم غَرْزَ العلماء الربَّانيِّين الذين شابتْ ذوائبهم في مجالس العلم، وعليه ألا يحفلَ بأغرار يَنثرون شُبهاتِهم على الناس عبرَ الإعلام المفسِد؛ فإنَّ الشبهة إذا تمكَّنت من القلْب فتَكَت به، قال التابعي الجليل أبو قلابة - رحمه الله تعالى -: "لا تُجالسوا أصحابَ الأهواء، فإنِّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعضَ ما تعرفون".


وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 77.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 75.71 كيلو بايت... تم توفير 2.13 كيلو بايت...بمعدل (2.74%)]