انتشار الكذب في هذا الزمان - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الصحبة الصالحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 118 )           »          فوائد من قصة يونس عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 93 )           »          ثمرات الابتلاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 78 )           »          نهي العقلاء عن السخرية والاستهزاء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 61 )           »          فتنة المسيح الدجال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 65 )           »          معجزة الإسراء والمعراج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 59 )           »          كيف أتعامل مع ابني المدخن؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          حقوق الأخوة في الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          الأقصى: فضائل وأحداث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          الشباب أمل وألم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 23-09-2023, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,210
الدولة : Egypt
افتراضي انتشار الكذب في هذا الزمان

انتشار الكذب في هذا الزمان
يحيى بن حسن حترش

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله، من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102 ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن خير الحديث، كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أيها المسلمون عباد الله: لا يخفى علينا ما نعيشه في هذه الأزمنة المتأخرة، من ظهور كثير من الخصال النكرة، وانتشار الأخلاق المنكرة، والتي هي من جملة العلامات المنذرة التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها تدل على زوال هذه الدنيا، واقتراب الدار الآخرة.


وسأقف معكم في هذا اليوم مع خصلة سيئة، ابتلي بها كثير من الناس حتى أصبحت جزءًا من حياتهم ومعاملاتهم، ووسيلة لإنفاق تجارتهم، وتغرير الناس بهم، وهذه البلوى هي من جملة ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من العلامات الصغرى، فلقد روى الإمام أحمد في مسنده، وصححه الألباني رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن، ويكثر الكذب»[1].

وقال فيما رواه مسلم رحمه الله عن جابر بن سلمة رضي الله عنه: «إن بين يدي الساعة كذابين؛ فاحذروهم!»[2].


أيها المسلمون، أظن أن كثيرًا من الحاضرين، وممن يستمعون لكلامنا في هذا اليوم العظيم لا يتعاملون مع كثير من الناس إلا وهم يرون الكذب بجميع صوره؛ من أيمان فاجرة، ومواعيد مطاطة ومطالة، وأخبار ونقولات كاذبة.


فلقد انتشر الكذب في هذا الزمان وقلَّ أن يخلو منه مكان، ولعله لا يوجد زمان انتشر فيه الكذب بصورة عجيبة كما انتشر في هذه العصور الأخيرة الغريبة!

ولو تدبَّرنا جميعا أحوال الناس في هذه الساعة بصورة دقيقة، ونظرنا في تعاملهم وفي شؤون حياتهم نظرة فاحصة؛ لوجدنا أنها كذبٌ في كذب.

نعم انتشر الكذب في هذا الزمان انتشارًا كبيرًا وعجيبًا!

تاجر يكذب على زبائنه، ووالد يكذب على أولاده، وولد يكذب على والده ووالدته، صاحب عمل يكذب على عماله، وعامل يكذب في أعماله، جماعة تكذب في وصف نفسها، وقبيلة تبالغ في نسبتها وأصلها، فما أكثر الكذابين في هذا الزمان! والله المستعان.


أيها المسلمون عباد الله، لقبح هذا الخلق وشناعته؛ حرمه الله في كتابه ورسوله في سنته؛ فلقد ورد تحريمه في كتاب الله فيما يقرب من مائتين وثمانين آية، وهذا يدل على قبحه وشناعته، وعظيم جرمه وبشاعته، فلقد لعن الله الكاذبين، ووصفهم بالظالمين والمفترين، وأنهم ليسوا بالعاقلين، ولا بالمفلحين، ولا بالمؤمنين، وأعظم من ذلك كله: ألا لعنة الله على الكاذبين!


ولابد أن يُعلم أن من يكذب فهو يعبر بكذبه على خسته ودناءته، وقلة حيائه ومهانته.
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو عادة السوء أومن قلة الأدب




فالرجل الذي يعتز برجولته، وبكيانه ومكانته، هو الذي لا يكذب أبدا.

لهذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحذر أمته بما فيهم أهل بيته من هذا الخلق الدنيء، فلقد صح عنه أنه كان إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة، لم يزل معرضا عنه حتى يحدث توبة.

وتقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كما روى البيهقي، وصححه الألباني -رحمهما الله - قالت: «كان أبغض الخلق إلى رسول الله الكذب»[3].


بل وصل من عنايته وشدة تحذيره من الكذب، أنه ضمن بيتا في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحا؛ فلقد روى الإمام أبو داود في سننه وحسنه الألباني رحمهما الله عن أبى أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم-أي: ضامن- ببيت في ربض الجنة- أي: في وسطها- لمن ترك الكذب ولو كان مازحًا»[4].

وروى الإمام أبو داود، وحسنه الألباني رحمهما الله عن بهز بن حكيم رضي الله عنه قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويلٌ للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له، ثم ويل له!». نسأل الله السلامة والعافية!

وترتجف القلوب، وتقشعر الأجسام إذا ما سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يحكم على الكذاب بالنفاق وإن صلى وصام؛ فلقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، واذا اؤتمن خان» [5]، نعوذ بالله من النفاق، ومن كل علامات النفاق!

وتزداد الجلود قشعريرة، إذا ما علمنا بمصير الكذاب في البرزخ والدار الآخرة؛ فلنسمع إلى ما رواه البخاري في صحيحه، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فيقص عليه من شاء أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: «أتاني الليلة آتيان، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما......»، ثم ذكر الحديث وفيه: «فأتينا على رجل مستلقٍ على قفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شِقَّي وجهه؛ فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به ما فعل في الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب، ثم يعود إليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى قال: قلت سبحان الله! ما هذان؟! قال: قالا لي: انطلق! انطلق! فانطلقنا» إلى آخر الحديث..، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فقلت لهما: فإني رأيت الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: أما إنَّا سنخبرك....» ثم قال: «وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه؛ فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة، تبلغ الآفاق»[6].

وفي رواية: «الذي رأيته يشرشر شدقه فكذاب يحدث بالكذبة، فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة»[7].

قال الحافظ بن حجر رحمه الله كما في فتح الباري: «استحق الكذاب هذا التعذيب؛ لما ينشأ عن تلك الكذبة من المفاسد وهو فيها مختار غير مكره ولا ملجأ»[8].

قال ابن هبيرة رحمه الله: «لما كان الكذب يساعده أنفه وعينه ولسانه على الكذب بترويج باطله، وقعت المشاركة بينهم في العقوبة» [9].
فسبحان الله العظيم! أي زجر، وأية عقوبة أعدها الله لصاحب هذا الخلق الذميم! فماذا يقول المسلم بعد هذا الوعيد، وبعد هذا الزجر الشديد، ماذا يقول الذي يكذب الكذبات وينقص منها ويزيد؟! لماذا الكذب أيها الناس؟! لماذا الكذب أيها التجار؟! لماذا الكذب أيها العمال؟! لماذا الكذب أيتها النساء، وأيها الرجال؟! لماذا أصبح الكذب من ضروريات حياة كثير من الناس في هذا الزمان؟! والله المستعان!

فلو تأملنا ونظرنا في تعامل كثير من الناس في هذه الأيام، لوجدنا أن جلها كذب في كذب.

قف وتأمل من حين أن تصبح، ومن حين أن تفتح عينيك، وتسمع بأذنيك في وسائل الإعلام، مقروءة كانت، أو مسموعة، أو مرئية، ترى فيها الكذب بجميع صوره، والخداع من أوسع أبوابه؛ من المبالغات والتهويل، وقلب الحقائق والتزوير، وإشعال الفتنة بين الكبير والصغير، كل ذلك بدوافع حقيرة، ومطامع صغيرة كانت أو كبيرة.

قد يكذب الإعلاميون لغرض حب السمعة والاشتهار، أو بدافع التعصب لبعض الأحزاب والأفكار، قد يكون الكذب من أجل الريالات والدولارات، أو لسد الفراغ الذي يكون في بعض القنوات لغرض؛ تتبع الأحداث والمستجدات.

ألا فلتتقوا الله أيها الإعلاميون، ولتعلموا أن الله سيسألكم عن كل ما تقولون وتفعلون. هذا من جهة الإعلام وما أكثر خطره، وأعظم ضرره.

أما كذب كثير من الناس فيما بينهم في وعودهم وأيمانهم، وأخبارهم ومعاملاتهم، فيجف الحلق بذكرها، وعدِّ صورها.

انظر إلى كثير من التجار في تجاراتهم كيف ينفقونها، ويروجون لها بطرق خادعة وماكرة، وأيمان كاذبة وفاجرة، انظر إلى ذلك التاجر كيف يعرض بضاعته ويصفها على غير حقيقتها، ويخفي عيوبها التي فيها.

بالله عليكم ألسنا نرى تجارًا يكذبون - كما يقال - بقدر ما يتنفسون، يكذبون في كلامهم، ويكذبون في شعاراتهم، وعروضهم، كم هم أولئك الذين يكتبون على محلاتهم قاهر الأسعار، أو أسعار بالخيال، أو تخفيضات لا تخطر لك ببال، وكل ذلك كذب في كذب، لكنه فعل ذلك ليَغُرَّ الآخرين، ويكذب على المساكين، وما درى أنه لا يأتيه من رزقه إلا ما قسمه له رب العالمين، وأن هذه الأساليب التي يحسبها جاذبة ونافعة، قد يجعلها الله سببًا بأن يكون من المفلسين الخاسرين.

قل مثل ذلك في أصحاب المحلات، والذين يبسطون في الشوارع والطرقات، ويكتبون على اللائحات، أو يصيحون بالأصوات والمكبرات، أن كل قطعة بكذا وكذا، أن كل قطعة بألف ريال، ثم إذا دخلت إليها، واقتربت منها وجدت أن لكل قطعة سعرها، وأنه ما فعل ذلك إلا ليجعل الناس يقتربون منها.

ألا لعنة الله على الكاذبين، وقاتل الله من يظن أن الأرزاق تأتي بالحيل، والكذب على المسلمين!

ومنهم من يكذب ويكتب على بضاعته، ويصفها بالصناعات الأصلية، أو بالجودة العالية، وآخر يكتب على لوحة مطعمه لجميع الوجبات الطازجة والشهية، وحين تشتري منه لم تجدها أصلية، ولا طازجة ولا شهية، ألا لعنة الله على الكاذبين!

أما الكذب في المعاملات وفي الأخبار والنقولات، والوعود والمماطلات، فحدث عنها، وقل ما شئت فيها. فكم هي الأخبار الكاذبة التي ينشرها الكذابون- خاصة في وسائل التواصل- كم هي الأرقام الغريبة التي تعلن عن عروض مغرية وعجيبة؟!

إما بسفريات خارجية، أو بمنح دراسية، أو برؤى منامية خرافية، وهكذا يتناقل الناس هذه الأكاذيب على جوالاتهم، ووسائل تواصلهم، حتى تبلغ هذه الكذبات الآفاق، وكلها مصدرها ممن ليس لهم عند الله من خلاق، وإذا لم تستحي أيها الكذاب فاصنع ما شئت، ألا لعنة الله على الكاذبين!

أما الكذب في الوعود، والمواعيد فحدث عنها، وابدأ بما شئت منها، ابدأ بأصحاب الديون الذين يستدينون ولا يقضون، ويعدون ولا يوفون، ترى كثيرًا منهم يستدين من جيرانه، أو بعض أرحامه، وإخوانه، ويعدونهم بقضائها إلى وقت ما، ويحلفون على ذلك، وهم يعرفون أنهم لن يستطيعوا القضاء، ولن يلتزموا بالوفاء بالوقت الذي حددوه ووعدوا به.

يتصل بعض من يريدون عملا بأحد العمال فيجيبه بأنه سيأتيه بعد نصف ساعة أو ساعة، وتمر ساعة وساعات، بل أيام متتابعات، فلا هو جاء في ساعته، ولا هو اعتذر لصاحبه من ساعته.

يذهب الواحد منا إلى صاحب ورشة أو نجارة؛ ليفصل له بابًا أو نافذة، فيقول بعض هؤلاء الكذابين الذين قد عرف كذبهم للناس أجمعين: سأُجهزه لك إلى يوم السبت، أو إلى مثل هذا اليوم، فتأتي إليه على حسب موعده في ذلك اليوم وقد تكلفت عناء الطريق مشيًا على قدميك، وتركت أعمالًا مهمة لديك، ولعلك جئته من داخل قريتك، وجئته بعمالك وسيارتك بناء على موعدك، وإذا به يستقبلك بأيمان فاجرة، ويعدك بمواعيد أخرى كاذبة، وهكذا وعود وأيمان، وكذب واستهتار، وربما هذه معاملته لغيرك من قديم الزمان، ألا لعنة الله على الكاذبين! ولعلك لا تأخذ بابك إلا وقد فتحت معه أبوابًا من المشاكل والخصام، وكرَّه إليك عملك من كثرة المواعيد، وكثرة الكلام، ألا لعنة الله على الكاذبين!


أما أصحاب القات، قاتل الأموال والأجساد والأوقات، فقل ما شئت فيهم، من الأيمان والكذب الذي ليس عند غيرهم!
وإذا أردت أن تعرفهم على حقيقتهم، وأن ما قلناه ليس مبالغة فيهم، فاجلس بجوار أحدهم، واسمع كم أيمانًا فاجرة، وكلمات كاذبة تخرج من أفواههم، ويا ليتهم يحلفون بالله تعالى، وإنما حرام وطلاق، حرام وطلاق ما أديت رأس المال، حرام وطلاق أن على هذا القرطاس ألفين ريال، ثم يبيعه بسبعمائة ريال.
حرام وطلاق أني بعته بخسارة، حرام وطلاق، حرام وطلاق... وهكذا يطلق الواحد من هؤلاء امرأته في اليوم أكثر من مائة مرة، نسأل الله السلامة والعافية!
فلماذا الكذب؟ لماذا الكذب أيها المسلمون؟ لماذا انعدمت الثقة بين الناس؟ لماذا يدنس الواحد سمعته بكذبه، ويقتل ثقته وسيرته، وشخصيته بيده؟

لماذا نرى بعض الصادقين الأوفياء، والمخلصين الأتقياء؛ الناس يأتون إليهم لأماناتهم، وصدقهم وضبط مواعيدهم، وبعضهم كالحيوان الأجرب، لا يحلب ولا يُركب.

أما يعلم الكذاب أن من استحلى رضاع الكذب عسر فطامه كما يقول الحكماء، وقد قال أحد الشعراء:
عود لسانك قول الصدق تحظ به
إن اللسان لما عودت معتادُ




أما يعلم الكذاب أنه إذا اشتهر بالكذب كذَّبه الناس حتى ولو صدق في يوم من الأيام.
إذا عُرف الانسان بالكِذْب لم يزل
لدى الناس كذابًا ولو كان صادقًا
فإن قال لا تصغي له جلساؤه
ولم يسمعوا منه ولو كان ناطقًا


كتب أعرابي لابنه وقد سمعه يكذب: «يا بني، عجبت من الكذاب المشيد بكذبه. وإنما يدل على عيبه ويتعرض للعقاب من ربه، فالآثام له عادة، والأخبار عنه متضادة، إن قال حقًّا لم يصدق، وإن أراد خيرًا لم يوفق؛ فهو الجاني على نفسه بفعاله، والدال على فضيحته بمقاله ما صح من صِدقه نُسب إلى غيره، وما صح من كذب غيره نسب إليه، فالصدق بر ونجاة، والكذب شَينٌ وهلكة».

هكذا قال بعض العلماء، وهكذا قال بعض العقلاء الحكماء.

لذلك أدرك السلف الكرام أن الكذب من صفات السفلة اللئام، فكانوا لا يكذبون ولو بالمزاح، وكانوا يترفعون عنه، ويستثقلونه ولو كان مباحًا.

يقول عمر عبد العزيز رحمه الله: «ما كذبت منذ علمت أن الكذب شين على أهله»[10].

ولمَّا دخل الإمام الزهري رحمه الله: على هشام بن عبد الملك، وكان يدَّعي زورًا وبهتانًا أن الذي تولى كبره في حادثة الإفك هو علي بن أبي طالب، وحاشاه رضي الله عنه وأرضاه، فقال هشام لسليمان بن يسار: من الذي تولى كبره في حادثة الإفك؟ قال سليمان بن أبي: قال هشام: كذبت، هو علي بن أبي طالب! فقال سليمان: الأمير أعلم، ثم قال للآخر مثله، فأجابه، ثم كذبه، ثم وصل الدور إلى الإمام الزهري رحمه الله، فقال له هشام: من الذي تولَّى كبره في حادثة الإفك؟ فقال الزهري: هو ابن أُبي، عليه من الله ما يستحق! قال هشام الخليفة: كذبت فانتفض الإمام الزهري وقال - بعزة العالم المؤمن الذي لا تأخذه في الله لومة لائم -: أنا أكذب لا أبا لك، والذي لا إله إلا هو لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت، والذي لا إله إلا هو لقد حدثني سعيدٌ، وعروة، وعبيدة، وعلقمة عن عائشة رضي الله عنها بأن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أُبي! فارتعد هشام وانتفض، وقال: هيجناك يا إمام، سامحنا سامحنا!

سبحان ربي العظيم! من خاف الله خوف الله منه كل شيء.

فتجنبوا واحذروا الكذب يا عباد الله؛ فهو خسة ودناءة، ودليل على ضعف الشخصية والرجولة.

نسأل الله أن يجنِّبنا هذا الخلق الذميم! أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

(الخطبة الثانية)
الحمد لله العلي العظيم، وأصلي وأسلم على الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها المسلمون عباد الله:
لقد تعددت صور الكذب في هذا الزمان، وكثُرت أنواعه، حتى أصبحنا نراها في كل مكان، ولكثرة صور الكذب في هذا الزمان، فإن عرضها لا يسمح به قِصَرُ وقت هذا المقام، لكنَّا سنذكر فيما بقي لنا من وقتنا أهمها وأعظمها، فمنها ومن أعظمها، بل هو أعظمها على الإطلاق:

الكذب على الله رب العالمين، وعلى رسوله الصادق الأمين، فلا أعظم، ولا أظلم ممن كذب على الله: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ [الزمر: 32]، وقال: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 144].

فأعظم الكذب هو الكذب على الله تعالى، كأن ينسب الإنسان إلى الله شيئًا، أو يثبت له حكمًا، أو أمرًا أو نهيًا، وليس معه برهان أو سلطان على ذلك، ومن ذلك تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، وما أكثر هذا الصنف في هذا الزمان ممن فتنوا بالمناصب والأموال، واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فبئس ما يشترون!

كذلك الكذب على رسوله، وأصحاب رسوله، فكم هي الشبهات التي تبث في هذا الزمان، وتطعن بسنة خير الأنام عليه الصلاة والسلام فتحذف منها ما تشاء، وتثبت ما تشاء، بل تشكك في مرجعيتها وحجيتها، وتطعن في نقالها وحملتها! ألا لعنة الله على الكاذبين! ومن كذب على رسول الله متعمدا فليتبوأ مقعده من النار!

ومن صور الكذب المنتشرة في هذا الزمان: الكذب على حملة هذا الدين بما في ذلك أصحاب رسول رب العالمين، عليهم صلوات ربي أجمعين، فكم نسمع بين الحين والآخر من حملة شرسة، وطائفة نجسة تطعن في أحد الصحابة، أو أحد أصحاب الكتب الصحيحة المعتمدة، وذلك بإلقاء الشبه على كتابه، أو الطعن في دينه وأمانته، كل ذلك لغرض إنكار، أو إضعاف حجية السنة المطهرة من قبل بعض اللئام الكفرة الفجرة، ألا لعنة الله على الكاذبين!


ومن صور الكذب المنتشرة في هذا الزمان: ما يحصل بين الناس في معاملاتهم، وهي كثيرة ومتنوعة، فمن ذلك: الكذب في الحديث الذي هو علامة من علامات النفاق، كما تقدم في بداية الحديث.


فكثير من الناس في هذا الزمان قد أصبح الكذب على لسانه، وفي أغلب أحيانه، يكذب في وعده ووعيده، وفي جده وهزله، وفي بيعه وشرائه، وفي رخائه وشدته، هكذا بعض الناس حياته كلها ممزوجة بالكذب.

إذا تحدث عن نفسه كذب، يكذب في نسبه، فتراه ينتسب إلى لغير أصله، ويلحق نفسه بقبيلة غير قبيلته، لأغراض دنيئة لا تزيده إلا خسة ودناءة، يكذب في سنه، وينقص سنواتٍ من عمره، وكأن الموت بيد غيره، أو له علاقة بطول أو قصر حياته، يكذب في ترجمته لشخصه، ويبالغ في تعداد مناقب قبيلته وأقاربه، وإذا تحدث عن أخبار يرويها، أوعن قضية شهدها، فلا تدري ما تصدق منها، فتراه يحدث بكل ما سمع، ينقص ما شاء منها، ويزيد ما شاء عليها، وإذا دعي ليشهد في مشكلة، أو قضية حضرها، تراه يحرف مشاهدها، ويزيد عليها ما لم يحصل فيها، ويقلب الحقائق؛ لأجل مصالح وأغراض يبتغيها.

ألا فليسمع هؤلاء قول رسول الله وزجره لمن يتكلم بكل ما يسمع، وينشر كل ما يقرأ، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع!»[11].

ومن هنا نوجه رسالة فيما يحصل في بعض وسائل التواصل في هذا الزمان، لمن هو مشغول ومشغوف بالنسخ، واللصق، فإذا ما سمع، أو قرأ حديثًا نشره بلمسة يده، دون تأكد من ضعفه أو صحته، وإذا وصلت إليه أخبار سياسية، أو قصة وعظيه أو فكاهية، بادر إلى إرسالها دون نظر في حقيقتها، وإن كانت المبالغة ظاهرة على مشاهدها وأحداثها، وكم، وكم هي القصص المكتوبة، والأخبار المزورة المكذوبة التي تنشر بلا عد ولا حد، والسبب هي هذه الآفة، وهذه المصيبة، وهذا المنكر، وهذه البلية؛ ألا وهي التحدث بكل ما نسمع، ونقرأ، وخاصة مع وجود وسائل التواصل بشتى أنواعها، ألا لعنة الله على الكاذبين!
من صور الكذب هو التزلف، والتصنع للوجهاء والأمراء بمدحهم بصفات ليست فيهم، أو إنزالهم غير منازلهم؛ وذلك طمعًا في عطاياهم والقرب منهم، ويكثر هذا في الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، كما قال ابن الرومي وقد مدح أميرًا بخيلًا؛ فلم يعطه قليلًا ولا كثيرًا:
إن لم يكن منكم فضل لذي أدبِ
فأجرة الخط أو كفارة الكذب




ألا لعنة الله على الكاذبين!
من صور الكذب -أيضًا-: الكذب من أجل إضحاك الآخرين؛ كما هو دأب العاطلين البطالين ممن لا ليس لهم هم إلا قتل أوقاتهم، أو السخرية بأعراض المسلمين، فقد روى الإمام أبو داود، وصححه الألباني رحمهما الله عن معاوية ابن حيدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلٌ للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم! ويلٌ له ثم ويلٌ له!» [12].

وهذه رسالة وتذكير، ووعد ونذير للممثلين، والمهرجين الذين يُضحكون الآخرين، ويعرضون أنفسهم لسخط رب العالمين!

ألا فلنتق الله جميعًا باجتناب هذا الخلق الذميم، فهو عند الله عظيم؛ كما قال سبحانه في كتابه الكريم، ألا لعنة الله على الكاذبين، لنعلم أن هذا الخلق يحمل المفاسد والشرور، ويوصل صاحبه إلى المهالك، والفجور، ثم إلى النار.

ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.

كذلك يمحق هذا الخلق بركة الأرزاق، كما روى الشيخان عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإن صدَقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحِقت بركة بيعهما»[13].


ومن عظيم قبح هذا الخلق الذميم؛ أن صاحبه لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه، وله عذاب اليم؛ فلقد روى الشيخان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم». قال: فقرأها رسول الله مرارًا، فقال أبو ذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟! قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»[14].
نعوذ بالله من سخط الله وعذابه! فاجتنبوا رحمكم الله ما يكرهه، وما يسخطه ويغضبه، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين كما أمركم رب العالمين.

واعلموا أنه لا داء أدوأ من الكذب، واعلموا إن رأيتم في الصدق الهلكة؛ فإن فيه النجاة، وإن حقيقة الصدق -كما قال الجنيد رحمه الله «أن تصدق في مواطن تظن أنه لا ينجيك منها إلا الكذب، وأن حقيقة الصدق أن تصدق في موطن تظن أنه لا ينجيك منه إلا الكذب».

الزَم الصدق يا عبد الله، ولا تصحب إلا الصادقين؛ فالقرين بالمقارن يقتدي:
ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبًا
إن الكذوب لبئس خل يُصحب




ختام الكلام يا أمة الإسلام، ويا أحباب محمد عليه الصلاة والسلام إن الكذب آفة الآفات، ورأس المصائب والبليات، فكم سفكت الدماء بسبب الكذب، وكم انتهكت أعراض بسبب الكذب، وكم دمرت بيوت بسبب الكذب، وطلقت نساء بسبب الكذب؟! وهدمت دول وأبيدت أمم، ووراء ذلك كله الكذب، فالكذب كما قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة-: «الكذب متضمن لفساد، ونظام العالم، ولا يمكن قيام العالم عليه، لا في معاشهم، ولا في معادهم، فكم أُزيلت بالكذب من دول، وممالك، وفسدت به مصالح، وغرست به عداوات، وقطعت به مودات، وافتقر به غني، وذُل به عزيز، وهتكت به مصونة، ورميت به محصنة، وخلت به دور وقصور، وعمرت به قبور، وأزيل به أُنس، واستجلبت به وحشة، وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وهل مُلئت الجحيم إلا بأهل الكذب والكذابين على الله، وعلى رسوله، وعلى دينه وأوليائه؟!»[15]؛ انتهى كلامه رحمه الله.

اللهم طهر ألسنتنا من الكذب يا رب العالمين، اللهم جنِّبنا الكذب عليك، وعلى رسولك، وعلى الناس أجمعين! اللهم أجعلنا من الصادقين.......

[1] رواه أحمد في مسنده (10724).

[2] رواه مسلم (1822).

[3] شعب الإيمان (4475).

[4] رواه أبو داود في سننه (4800).

[5] رواه مسلم (59).

[6] رواه البخاري (7047).

[7] مختصر صحيح البخاري (4/ 268).

[8]فتح الباري شرح صحيح البخاري (12/ 445).

[9] فتح الباري شرح صحيح البخاري (12/ 445).

[10] حلية الأولياء (5/ 343)، والصمت لابن أبي الدنيا (525).

[11] رواه مسلم في صحيحه (1/ 10) (5)، ورواه أبو داود في سننه (4992)، والحاكم في مستدركه (381).

[12] رواه أبو داود في سننه (4990).

[13] رواه البخاري (2079) ومسلم (1532).

[14] رواه البخاري، ومسلم (106).

[15] مفتاح دار السعادة (2/ 73).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 72.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 70.46 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.32%)]