|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#71
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثالث صـ 361 الى صـ 365 الحلقة (71) قال العلامة ابن القيم رحمه الله في " شرح المنازل " في باب التوبة: أما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله تعالى، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولذا قالوا لآلهتهم في النار: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين مع إقرارهم بأن الله تعالى وحده خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تميت ولا تحيي، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم..! بل كلهم يحبون معبوديهم، ويعظمونها، ويوادونها من دون الله تعالى..! وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم [ ص: 361 ] أعظم من محبة الله تعالى..! ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله تعالى..! ويغضبون بتنقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم ما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين..! وإذا انتقصت حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث أو الكلب..! وإذا انتهكت حرمات الله تعالى لم يغضبوا لها. بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تنكر له قلوبهم..! قد شاهدنا نحن وغيرنا هذا منهم.. انتهى. وقال الإمام تقي الدين أحمد بن علي المقريزي رحمه الله: ومن أجل الشرك، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الآية، فأخبر سبحانه أن من أحب مع الله شيئا غيره، كما يحبه، فقد اتخذ ندا من دونه! وهذا على أصح القولين في الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون والمعنى على أصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم قطعا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونهم خالقيهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرين بأن الله تعالى وحده هو ربهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه رب السماوات ورب [ ص: 362 ] العرش العظيم، وأنه هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه.... وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة والعبادة، فمن أحب غير الله تعالى، وخافه، ورجاه، وذل له كما يحب الله ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى...! فعياذا بالله! من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحد...! وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه: والمتخذ إلهه هواه، له محبة كمحبة المشركين لآلهتهم، ومحبة عباد العجل له، وهذه محبة مع الله لا محبة لله! وهذه محبة أهل الشرك...! والنفوس قد تدعي محبة الله، وتكون في نفس الأمر محبة شرك تحب ما تهواه، وقد أشركته في الحب مع الله! وقد يخفى الهوى على النفس، فإن حبك الشيء يعمي ويصم..! وهكذا الأعمال التي يظن الإنسان أنه يعملها لله وفي نفسه شرك قد خفي عليه وهو يعلمه، إما لحب رياسة، وإما لحب مال، وإما لحب صورة...!. ولهذا قالوا: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله...! فلما صار كثير من الصوفية النساك المتأخرين يدعون المحبة - ولم يزنوها بميزان العلم والكتاب والسنة - دخل فيها نوع من الشرك واتباع الأهواء، والله تعالى قد جعل محبته موجبة لاتباع رسوله ؛ فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ ص: 363 ] ، وهذا، لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله، وليس شيء يحبه الله إلا والرسول يدعو إليه...! وليس شيء يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه...! فصار محبوب الرب ومدعو الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته، وإن تنوعت الصفات...! انتهى. ولو يرى الذين ظلموا أي: باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود: إذ يرون العذاب المعد لهم يوم القيامة: أن القوة لله جميعا أي: القدرة كلها لله، على كل شيء، من العقاب والثواب، دون أندادهم: وأن الله شديد العذاب أي: العقاب للظالمين. وفائدة عطفها على ما قبلها: المبالغة في تهويل الخطب، وتفظيع الأمر ؛ فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب، لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه. وجواب لو: محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، إما لعدم الإحاطة بكنهه، وإما لضيق العبارة عنه، وإما لإيجاب ذكره ما لا يستطيعه المعبر أو المستمع من الضجر والتفجع عليه ؛ أي: لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم. ونظيره - في حذف الجواب - قوله تعالى: ولو ترى إذ وقفوا وقولهم: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه. وقرئ: ( ولو ترى ) بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب ; أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما في الفظاعة والهول. [ ص: 364 ] القول في تأويل قوله تعالى: [166] إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب إذ تبرأ الذين اتبعوا بدل من: إذ يرون أي: تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء الآمرون باتخاذ الأنداد وكل ما عبد من دونه تعالى: من الذين اتبعوا من الأتباع، بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا لهم، أو يدعونهم إليه من فنون الكفر والضلال، واعتزلوا عن مخالطتهم، وقابلوهم باللعن. وقرئ الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول، أي: تبرأ الأتباع من الرؤساء: ورأوا العذاب الواو للحال، أي: تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب: وتقطعت بهم الأسباب أي: الوصل التي كانت بينهم، من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب، والمحاب، والاتباع، والاستتباع. القول في تأويل قوله تعالى: [167] وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار وقال الذين اتبعوا حين عاينوا تبرؤ الرؤساء منهم، وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا: لو أن لنا كرة أي: ليت لنا رجعة إلى الدنيا: فنتبرأ منهم هناك، ومن عبادتهم، ونعبده تعالى وحده: كما تبرءوا منا اليوم. وهم كاذبون في هذا، بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، كما أخبر تعالى عنهم بذلك: كذلك أي: مثل تلك الإراءة الفظيعة: يريهم الله أعمالهم حسرات ندمات شديدة: عليهم أي: تذهب وتضمحل، كما قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ ص: 365 ] وقال تعالى: مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف الآية، وقال تعالى: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء الآية: وما هم بخارجين من النار ونظير هذه الآية قوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ؟ وقال تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا ![]()
__________________
|
#72
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثالث صـ 366 الى صـ 370 الحلقة (72) [ ص: 366 ] وقال الخليل لقومه: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين وقالت الملائكة: تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون ويقولون: سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون وقال تعالى: ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم [ ص: 367 ] القول في تأويل قوله تعالى: [168] يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا حال أو مفعول، وهو ما انتفى عنه حكم التحريم: طيبا أي: مستطابا في نفسه، غير ضار للأبدان ولا للعقول. وقد روى الحافظ أبو بكر بن مردويه بسنده عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا فقام سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة! فقال: « يا سعد! أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده! إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به...! » : ولا تتبعوا خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها... مما زينه لهم في جاهليتهم، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « يقول الله تعالى: إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال » . وفيه: « وإني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم » . [ ص: 368 ] ومما يدخل في خطوات الشيطان: كل معصية لله، ومنها: النذور في المعاصي كما قاله بعض السلف في الآية. قال الشعبي: نذر رجل أن ينحر ابنه، فأفتاه مسروق بذبح كبش، وقال: هذا من خطوات الشيطان! قال أبو الضحى عن مسروق: أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح، فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم، فقال ابن مسعود: ناولوا صاحبكم، فقال: لا أريده. فقال: أصائم أنت؟ قال: لا..! قال: فما شأنك؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا...! فقال ابن مسعود: هذا من خطوات الشيطان، فأطعم وكفر عن يمينك..! رواه ابن أبي حاتم. وروي أيضا عن أبي رافع قال: غضبت يوما على امرأتي، فقالت: هي يوما يهودية [ ص: 369 ] ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك..! فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من خطوات الشيطان..! وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة - وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة - وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك. وروى عبد بن حميد عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في غضب، فهو من خطوات الشيطان، وكفارته كفارة يمين! نقله الإمام ابن كثير الدمشقي. إنه لكم عدو مبين تعليل للنهي، للتنفير عنه والتحذير منه كما قال: إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى: أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا القول في تأويل قوله تعالى: [169] إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون إنما يأمركم بالسوء والفحشاء استئناف لبيان كيفية عداوته، وتفصيل لفنون شره وإفساده. والسوء: يشكل جميع المعاصي، سواء كانت من أعمال الجوارح، أو أفعال القلوب. و: والفحشاء ما تجاوز الحد في القبح من العظائم وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون أي: بأن تفتروا عليه تعالى بأنه حرم هذا وذاك بغير علم. فمعنى: ما لا تعلمون ما لا تعلمون أن الله تعالى أمر به. [ ص: 370 ] قال البقاعي: ولقد أبلغ سبحانه في هذه الآية في حسن الدعاء لعباده إليه، لطفا بهم ورحمة لهم، بتذكيرهم في سياق الاستدلال على وحدانيته، بما أنعم عليهم، بخلقه لهم أولا، وبجعله ملائما لهم ثانيا وإباحته لهم ثالثا، وتحذيره لهم من العدو رابعا.... إلى غير ذلك من دقائق الألطاف وجلائل المنن...!اهـ. قال الرازي: قوله تعالى: وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون يتناول جميع المذاهب الفاسدة، بل يتناول مقلد الحق...! لأنه - وإن كان مقلدا للحق - لكنه قال ما لا يعلمه، فصار مستحقا للذم لاندراجه تحت الذم في هذه الآية.! انتهى. وقال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقعين ": القول على الله بلا علم يعم القول عليه سبحانه في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقد جعله الله تعالى من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وقال تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم ! فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام. ولما لم يحله: هذا حلال. وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه. وقال بعض السلف: ليتق أحدكم أن يقول لما لا يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه: أحله الله وحرمه، لمجرد التقليد أو بالتأويل. ![]()
__________________
|
#73
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثالث صـ 371 الى صـ 375 الحلقة (73) وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح، أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم، على حكم الله، وقال: « فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا....؟ ولكن [ ص: 372 ] أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك..... » فتأمل، كيف فرق بين حكم الله وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله. ومن هذالما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به فقال: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا. ولكن قل هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وقال مالك: لم يكن من أمر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به، يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام. وما كانوا يجترئون على ذلك. وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسنا. ولما نهاهم سبحانه عن متابعة العدو، ذمهم بمتابعته، مع أنه عدو، من غير حجة، بل بمجرد التقليد للجهلة، فقال: القول في تأويل قوله تعالى: [170] وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنـزل الله على رسوله واجتهدوا في تكليف أنفسكم الرد عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان: قالوا بل نتبع ما ألفينا أي: وجدنا: عليه آباءنا أي: من عبادة الأصنام والأنداد. فقال مبكتا لهم: أولو أي: أيتبعون آباءهم ولو: كان آباؤهم لا يعقلون شيئا أي: من الدين: ولا يهتدون للصواب إذ جهلوه؟ قال الحرالي: فيه إشعار بأن عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوة الدين، ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم. [ ص: 373 ] قال الرازي: معنى الآية: إن الله تعالى أمرهم بأن يتبعوا ما أنزل الله من الدلائل الباهرة. فهم قالوا: لا نتبع ذلك وإنما نتبع آباءنا وأسلافنا. فكأنهم عارضوا الدلالة بالتقليد، وأجاب الله تعالى عنهم بقوله: أولو كان آباؤهم إلى آخره. ثم قال: تقرير هذا الجواب من وجوه: أحدها: أن يقال للمقلد: هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقا أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقا، فكيف عرفت أنه محق؟ وإن عرفته بتقليد آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذاك كاف، فلا حاجة إلى التقليد...! وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقا... فإذن قد جوزت تقليده وإن كان مبطلا..! فإذن أنت - على تقليدك - لا تعلم أنك محق أو مبطل...! وثانيها: هب أن ذلك المتقدم كان عالما بهذا الشيء، إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالما بذلك الشيء قط، وما اختار فيه البتة مذهبا، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه، كان لا بد من العدول إلى النظر، فكذا ههنا. وثالثها: أنك إذا قلدت من قبلك، فذلك المتقدم كيف عرفته؟ أعرفته بتقليد أم لا بتقليد؟ فإن عرفته بتقليد، لزم إما الدور وإما التسلسل. وإن عرفته لا بتقليد، بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم، وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد ; لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل - مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد - كنت مخالفا له. فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه، فيكون باطلا. ثم قال الرازي عليه الرحمة: إنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان، تنبيها على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه [ ص: 374 ] أقوى دليل، على وجوب النظر والاستدلال وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل. وقال الإمام الراغب: ذمهم الله بأنهم أبطلوا ما خص الله به الإنسان من الفكر والروية، وركب فيه من المعارف، وذلك أن الله ميز الإنسان بالفكر ليعرف به الحق من الباطل في الاعتقاد، والصدق من الكذب في الأقوال، والجميل من القبيح في الفعل، ليتحرى الحق والصدق والجميل، ويتجنب أضدادها، وجعل له من نور العقل ما يستغني به. فيدله على معرفة مطلوبه. فلما حث الناس على تناول الحلال الطيب، ونهاهم عن متابعة الشيطان، بين حال الكفار في تركهم الرشاد، واتباعهم الآباء والأجداد ليحذر الاقتداء بهم، تاركين استعمال الفكر الذي هو صورة الإنسان وحقيقته، ثم قال: أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا أي: أيتبعونهم وإن كانوا جهلة؟ تنبيها على أنه محال اتباع من لا عقل له ولا اهتداء. إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: ( يعقلون ) و: ( يهتدون ) وأحدهما يغني عن الآخر؟ قيل: قد تقدم أن العاقل يقال على ضربين: أحدهما لمن يحصل له القوة التي بها يصح التكليف، والثاني لمن يحصل العلوم المكتسبة وهو المقصود ههنا. والمهتدي قد يقال لمن اقتدى في أفعاله بالعالم وإن لم يكن مثله في العلم، فبين أنهم لا يعقلون ولا يهتدون، ووجه آخر: وهو أن يعقل ويهتدي، وإن كان كثيرا ما يتلازمان، فإن العقل يقال بالإضافة إلى المعرفة، والاهتداء بالإضافة إلى العمل، فكأنه قيل: لا علم لهم صحيح ولا مستقيم. ثم ضرب تعالى للكافرين مثلا فظيعا كما قال سبحانه: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء فقال: [ ص: 375 ] القول في تأويل قوله تعالى: [171] ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق أي: يصيح، يقال: نعق الراعي بغنمه: صاح بها وزجرها. وقوله تعالى: بما لا يسمع إلا دعاء ونداء أي: بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه - الذي هو تصويت بها، وزجر لها - ولا تفقه شيئا آخر، ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون. وقد أفهم هذا الإيجاز البليغ تمثيلين في مثل واحد. فكأن وفاء اللفظ: مثل الذين كفروا ومثل داعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم. وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب، ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين، يقتصر على تأويله بمثل واحد، فيقدر في الكلام: ومثل داعي الذين كفروا. أشار لذلك الحرالي فيما نقله البقاعي عنه. وقال الفراء: أضاف تعالى المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي ولم يقل كالغنم. والمعنى والله أعلم: مثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فأضاف التشبيه إلى الراعي والمعنى في المرعي. قال: ومثله في الكلام: فلان يخافك كخوف الأسد. المعنى كخوفه الأسد، لأن الأسد معروف أنه المخوف. وقيل: أريد تشبيه حال الكافر في دعائه الصنم بحال من ينعق بما لا يسمعه. والمعنى: مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثل الناعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء. وكذلك المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء. ![]()
__________________
|
#74
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثالث صـ 376 الى صـ 380 الحلقة (74) وقال ابن القيم في " أعلام الموقعين ": ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركب، وأن تجعله من التشبيه المفرق. فإن جعلته من المركب: كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء. وإن جعلته من التشبيه المفرق: فالذين كفروا بمنزلة البهائم، ودعاء داعيهم إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق، وإدراكهم مجرد الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرد صوت الناعق. والله أعلم. قال الرازي: اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله، تركوا النظر والتدبر، وأخلدوا إلى التقليد، وقالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، ضرب لهم هذا المثل تنبيها للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه: بسبب ترك الإصغاء، وقلة الاهتمام بالدين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام...! ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك، فيكون كسرا لقلبه، وتضييقا لصدره حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد. ثم زاد في تبكيتهم فقال: صم بكم عمي فهم لا يعقلون فهم بمنزلة الصم: في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه، وبمنزلة البكم: في أنهم لم يستجيبوا لما دعوا إليه، وبمنزلة العمي: من حيث إنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها. ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة، فلما أعرضوا عنها، فقدوا العقل المكتسب. ولهذا قيل: من فقد حسا فقد علما..! [ ص: 377 ] القول في تأويل قوله تعالى: [172] يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم أي: ما أخلصناه لكم من الشبه، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحله المشركون من المحرمات، ولا تحرموا ما أحلوا منها من السائبة وما معها: واشكروا لله الذي رزقكم هذه النعم: إن كنتم إياه أي: وحده: تعبدون أي: إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرون أنه سبحانه هو المنعم لا غير. قال الإمام ابن تيمية في " جواب أهل الإيمان ": الطيبات التي أباحها هي المطاعم النافعة للعقول والأخلاق، والخبائث هي الضارة في العقول والأخلاق، كما أن الخمر أم الخبائث لأنها تفسد العقول والأخلاق. فأباح الله الطيبات للمتقين التي يستعينون بها على عبادة ربهم التي خلقوا لها. وحرم عليهم الخبائث التي تضرهم في المقصود الذي خلقوا له، وأمرهم مع أكلها بالشكر، ونهاهم عن تحريمها، فمن أكلها ولم يشكر ترك ما أمر الله به واستحق العقوبة، ومن حرمها كالرهبان فقد تعدى حدود الله فاستحق العقوبة. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها » . وفي حديث آخر: « الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر » . [ ص: 378 ] وقال تعالى: لتسألن يومئذ عن النعيم أي: عن شكره ; فإنه لا يبيح شيئا ويعاقب من فعله، ولكن يسأله عن الواجب الذي أوجبه معه، وعما حرمه عليه، هل فرط بترك مأمور أو فعل محظور؟ كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ولما قيد تعالى الإذن لهم بالطيب من الرزق، افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب، فبين صريحا ما حرم عليهم مما كان المشركون يستحلونه ويحرمون غيره وأفهم حل ما عداه، وأنه كثير جدا ليزداد المخاطب شكرا، فقال: القول في تأويل قوله تعالى: [173] إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم إنما حرم عليكم الميتة وهي في عرف الشرع: ما مات حتف أنفه، أو قتل على هيئة غير مشروعة، إما في الفاعل أو في المفعول فدخل فيها: المنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما عدا عليها السبع. قال ابن كثير: وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر، لقوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وحديث العنبر في الصحيح. وفي المسند، والموطأ، والسنن: قوله صلى الله عليه وسلم في البحر: « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » . [ ص: 379 ] وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر: « أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان الحوت والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال » والدم وهو المسفوح أي: الجاري، كما صرح بذلك في الآية الأخرى والمفسر قاض على المبهم، وكان بعض العرب يجعل الدم في المصارين ثم يشويها ويأكلها ويسمونه الفصد. وفي القاموس وشرحه: والفصيد دم كان يوضع في الجاهلية في معى من فصد عرق البعير، ويشوى، وكان أهل الجاهلية يأكلونه ويطعمونه الضيف في الأزمة. ويحكى: أنه بات رجلان عند أعرابي فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى، فقال: ما قريت وإنما فصد لي. فقال لم يحرم من فصد له - بسكون الصاد - فجرى ذلك مثلا لمن نال بعض المقصد، وسكن الصاد تخفيفا، أي: لم يحرم القرى من فصدت له الراحلة فحظي بدمها. ويروى: من فزد له بالزاي بدل الصاد وبعضهم يقول: من قصد له - بالقاف - أي: من أعطي قصدا أي: قليلا. وكلام العرب بالفاء. وقال يعقوب: تأويل هذا أن الرجل كان يضيف الرجل في شدة الزمان، فلا يكون عنده ما يقريه، ويشح أن ينحر راحلته، فيفصدها، فإذا خرج الدم سخنه للضيف إلى أن يجمد ويقوى فيطعمه إياه ولحم الخنـزير ويدخل شحمه وبقية أجزائه في حكم لحمه: إما تغليبا، أو لأن اللحم يشمل ذلك لغة، لأنه ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه، وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلده، وعرف غلبة استعماله على رطبه الأحمر، وهو هنا على أصله في اللغة، وإما بطريق القياس على رأي ; لأنه إذا حرم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم، ولما حرم ما يضر الجسم ويؤذي النفس، حرم ما يرين على القلب، فقال: وما أهل به لغير الله أي: ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد ونحو ذلك [ ص: 380 ] مما كانت الجاهلية ينحرون له. وأصل الإهلال: رفع الصوت أي: رفع به الصوت للصنم ونحوه، وذلك كقول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى. وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها، فنحرت فيه جزورا، فقال: لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم. وذكر أيضا عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم. والقصد سد ما كان مظنة للشرك. قال النووي في " شرح مسلم ": فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له، وكان غير الله تعالى والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما، قبل ذلك، صار بالذبح مرتدا. ذكره في الكلام على حديث علي رضي الله عنه: « لعن الله من ذبح لغير الله » . ![]()
__________________
|
#75
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثالث صـ 381 الى صـ 385 الحلقة (75) قال الحرالي: وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر. وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر [ ص: 381 ] اسم الله عليه أم لا؟ فقال: « سموا عليه أنتم وكلوه » . قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ; بل الذي علم أن اسم الله قد أعلن به عليه. وروي عن علي رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. فصل فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات فأما الميتة: فقال الحرالي: هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلذذ أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها. وقال المهايمي في " تفسيره ": ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرم، وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله، تحقيقا أو تقديرا فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه، والجراد لأنه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات. وأما خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة. وقال الإمام ابن تيمية: حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، [ ص: 382 ] وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » . وأما خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس، كما حرم ما قبله لمضرتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه: أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: « الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم » . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله البقاعي. وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسية غير ما قالوه القدماء. فمن مضاره: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام، أو النهم الشديد، وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمى، ويودي بحياة المصاب...... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها. [ ص: 383 ] قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا..! فلم يترك ضارا لأحدهما إلا ونبه عليه تصريحا أو تلويحا... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة. وأما خبث المهل به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ; فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن، والشرع جاء للحفظ عما يضر مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد. ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال: فمن اضطر أي: ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه: غير باغ أي: غير طالب له راغب فيه لذاته. من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه ولا عاد أي: مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة: فلا إثم عليه وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كاره بالطبع. وقال الراغب: واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسد غيره مسده. والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع. إن الله غفور لما أكله حال الضرورة: رحيم حيث رخص لعباده في ذلك إبقاء عليهم. ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه، إثر ما ذكره من الأحكام، تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه: قال الحرالي: وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر. وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر [ ص: 381 ] اسم الله عليه أم لا؟ فقال: « سموا عليه أنتم وكلوه » . قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر. فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ; بل الذي علم أن اسم الله قد أعلن به عليه. وروي عن علي رضي الله عنه قال: إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهم فكلوا، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. فصل فيما لتحريم هذه المذكورات من الحكم والأسرار الباهرات فأما الميتة: فقال الحرالي: هي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة، وهي أشد مفسد للجسم، لفساد تركيبها بالموت، وذهاب تلذذ أجزائها، وعفنها، وذهاب روح الحياة والطهارة منها. وقال المهايمي في " تفسيره ": ثم أشار تعالى إلى أنه إنما يقطع محبته أكل ما حرم، وهو الميتة وما ذكر معها. فأما الميتة فلأنها خبثت بنزع الروح منها بلا مطهر من الذبح باسم الله، تحقيقا أو تقديرا فتتعلق أرواحكم بالخبيث فتخبث، فينقطع عنها محبة الله. وإنما أبيح ميتة السمك لأن أصله الماء المطهر، فكما لا يؤثر فيه النجاسة، لا يؤثر نزع الروح فيما حصل منه، والجراد لأنه حصل من غير تولد ولا خبث في ذاته كسائر الحشرات. وأما خبث الدم فلأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام، ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء فهو ميتة. وقال الإمام ابن تيمية: حرم الدم المسفوح لأنه مجمع قوى النفس الشهوية الغضبية، [ ص: 382 ] وزيادته توجب طغيان هذه القوى، وهو مجرى الشيطان من البدن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم » . وأما خبث لحم الخنزير: فلأذاه للنفس، كما حرم ما قبله لمضرتها في الجسم لأن من حكمة الله في خلقه: أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسانيته بنفسانية ذلك الشيء: « الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم » . فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة، حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق. نقله البقاعي. وقد كشف لأطباء هذا العصر من مضار لحم الخنزير المبنية على التجارب الحسية غير ما قالوه القدماء. فمن مضاره: أنه يورث الدودة الوحيدة المتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة: كالمغص، والإسهال، والقيء، وفقد شهوة الطعام، أو النهم الشديد، وآلام الرأس، والإغماء، والدوار، واضطراب الفكر، وعروض نوبات صرعية، وتشنجات عصبية، وإصابة مرض دودة الشعر الحلزونية الذي يفوق الحمى، ويودي بحياة المصاب...... إلى غير ذلك من التعب وعسر الهضم، ومضار سواها. [ ص: 383 ] قال حكيم: فالإسلام لم يأت لإصلاح الروح فقط، بل لإصلاح الروح والجسم معا..! فلم يترك ضارا لأحدهما إلا ونبه عليه تصريحا أو تلويحا... وقد بسط الحكماء المتأخرون الكلام على مضرات لحم الخنزير في مقالات عديدة. وأما خبث المهل به لغير الله: فلأنه يرين على القلب، لأنه تقرب به لغير موجده وخالقه تقرب عبادة، وذلك من صريح الإشراك والاعتماد على غيره تعالى ; فكان خبثه معنويا لتأثيره على النفوس والأخلاق كتأثير المضر بالجسم والبدن، والشرع جاء للحفظ عما يضر مطلقا، ولصيانة مقام التوحيد. ولما كان هذا الدين يسرا لا عسر فيه ولا حرج، رفع حكم هذا التحريم عن المضطر. فقال: فمن اضطر أي: ألجأه ملجئ بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف، فأكل من شيء منه حال كونه: غير باغ أي: غير طالب له راغب فيه لذاته. من بغى الشيء وابتغاه طلبه وحرص عليه ولا عاد أي: مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة: فلا إثم عليه وإن بقيت حرمته، لأنه إذا تناوله حال الاضطرار لا يؤثر فيه الخبث لأنه كاره بالطبع. وقال الراغب: واختلف إذا اضطر إلى ذلك في دواء لا يسد غيره مسده. والصحيح أنه يجوز له تناوله للعلة المذكورة، يعني: إبقاء روحه بجهة ما رآه أقرب إلى إبقائه، وهي التي أجيز تناوله ما ذكر له للجوع. إن الله غفور لما أكله حال الضرورة: رحيم حيث رخص لعباده في ذلك إبقاء عليهم. ثم أعاد تعالى وعيد كاتمي أحكامه، إثر ما ذكره من الأحكام، تحذيرا لهذه الأمة أن يسلكوا سبيل من عنوا به، وهم أهل الكتاب، فقال سبحانه: ![]()
__________________
|
#76
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثالث صـ 386 الى صـ 390 الحلقة (76) القول في تأويل قوله تعالى: [175] أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى أي: استبدلوا إضلال أنفسهم وغيرهم من الكتمان والتحريف بالاهتداء: والعذاب بالمغفرة أي: أسبابه بأسبابها، ولما جعل سبحانه أول مأكلهم نارا، وآخر أمرهم عذابا، وترجمة حالهم عدم المغفرة، فكان بذلك أيضا أوسط حالهم نارا سبب عنه التعجيب من أمرهم: بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر، لالتباسهم بالنار حقيقة أو بموجباتها من غير مبالاة، فقال: فما أصبرهم أي: ما أشد حبسهم أنفسهم، أو ما أجرأهم: على النار التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى نقله البقاعي. ثم قال: وإذا جعلته مجازا، كان مثل قولك لمن عاند السلطان: ما أصبرك على السجن الطويل والقيد الثقيل؟ تهديدا له، تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب. وقد روي عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضي اليمن بمكة: اختصم إلي رجلان من العرب، فحلف أحدهما على حق صاحبه فقال له: ما أصبرك على الله! أي: ما أصبرك على عذاب الله. نقله الزمخشري. [ ص: 386 ] قال الراغب: وقد يوصف بالصبر من لا صبر له اعتبارا بالناظر إليه، وتصور أنه صابر، واستعمال لفظ التعجب في ذلك اعتبارا بالخلق لا بالخالق. ثم ذكر تعالى السبب الموجب لهذا الإبعاد العظيم بقوله: القول في تأويل قوله تعالى: [176] ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ذلك بأن الله نـزل الكتاب بالحق إنما استحقوا هذا العذاب الشديد، لأن الله تعالى أنزل الكتاب الجامع لأنواع الهدى، وهو صالح لإرادة القرآن والتوراة، بالحق، أي: متلبسا به، فلا جرم يكون من يختلف فيه ويرفضه بالتحريف والكتمان مبتلى بمثل هذا من أفانين العذاب ; لأنه حاول نفي ما أثبت الله، فقد ضاد الله في شرعه، عياذا به سبحانه وإن الذين اختلفوا في الكتاب أي: في جنس الكتاب الإلهي، بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعضها ; أو في التوراة، بأن آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض، أو الاختلاف في تأويلها، فاجترأوا لأجله على تحريفها، أو في القرآن بأن قال بعضهم: إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم: أساطير الأولين. قال الراغب: وأصل الاختلاف: التخلف عن المنهج. وقيل اختلفوا: أتوا بخلاف ما أنزل الله. وقيل: اختلفوا: بمعنى خلفوا نحو اكتسبوا، وكسبوا، وعملوا واعتملوا أي: صاروا خلفاء فيه، نحو: فخلف من بعدهم خلف و . لفي شقاق أي: خلاف ومنازعة: بعيد عن الحق والصواب، مستوجب لأشد العذاب. وقوله تعالى: [ ص: 387 ] القول في تأويل قوله تعالى: [177] ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب اسم جامع للطاعات، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى، ومن هذا: بر الوالدين، قال تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم فجعل البر ضد الفجور، وقال: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان فجعل البر ضد الإثم، فدل على أنه اسم علم لجميع ما يؤجر عليه الإنسان. أي: ليس الصلاح والطاعة والفعل المرضي في تزكية النفس - الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر - هو أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به - هو هذه الخصال التي عدها جل شأنه. ولا يبعد أن يكون بعض المؤمنين - عند نسخ القبلة وتحويلها - حصل منهم الاغتباط بهذه القبلة، وحصل منهم التشدد في شأنها حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين، فبعثهم تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات. أشار لهذا الرازي. وقال الراغب: الخطاب في هذه الآية للكفار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة. وقيل: بل لهم وللمؤمنين حيث قد يرون أنهم نالوا البر كله بالتوجه إليها. ولكن البر من آمن بالله أي: إيمان من آمن بالله الذي دعت إليه آية [ ص: 388 ] الوحدانية فأثبت له صفات الكمال، ونزهه عن سمات النقصان واليوم الآخر الذي كذب به المشركون، فاختل نظامهم ببغي بعضهم على بعض: والملائكة أي: وآمن بهم وبأنهم عباد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين رسله بإلقاء الوحي وإنزال الكتب: والكتاب أي: بحبس الكتاب. فيشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء التي من أفرادها: أشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة والنبيين جميعا من غير تفرقة بين أحد منهم، كما فعل أهل الكتابين. قال الحرالي ففيه - أي: الإيمان بهم وبما قبلهم قهر النفس للإذعان لمن هو من جنسها، والإيمان بغيب من ليس من جنسها، ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها. وآتى المال على حبه أي: أخرجه وهو محب له راغب فيه، نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير، وغيرهما من السلف والخلف، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا: « أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر » . وقوله: ذوي القربى هم قرابات الرجل، وهم أولى من أعطى من الصدقة. وقد روى الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي وغيرهم عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الصدقة على المسكين صدقة. وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة » . وفي [ ص: 389 ] الصحيحين من حديث زينب، امرأة عبد الله بن مسعود، أنها وامرأة أخرى سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما....؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة » . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى القرابة [ ص: 390 ] في غير موضع من كتابه العزيز. واليتامى وهم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والمساكين وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما يسد به حاجتهم وخلتهم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه » . وابن السبيل وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده لعجزه بالغربة، وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه. ويدخل في ذلك الضيف، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين. ![]()
__________________
|
#77
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثالث صـ 391 الى صـ 395 الحلقة (77) وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو جعفر الباقر، والحسن، وقتادة، والضحاك، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان. والسبيل اسم الطريق، وجعل المسافر ابنا لها لملازمته إياها كما يقال لطير الماء: ابن الماء، ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون: ابن الأيام، وللشجعان: بنو الحرب، وللناس: بنو الزمان. والسائلين وهم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات. كما روى الإمام أحمد عن حسين بن علي عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « للسائل حق وإن جاء على فرس » . ورواه أبو داود وفي الرقاب معطوف على المفعول الأول وهو ذوي أي: وآتى المال في الرقاب، أي: دفعه في فكها، أي: لأجله وبسببه قال الراغب: الرقاب جمع رقبة. وأصل الرقبة: العنق. ويعبر بها عن الجملة، كما يعبر عنها بالرأس. وقال الحرالي: الرقاب جمع رقبة وهو ما ناله الرق من بني آدم. فالمراد: الرقاب المسترقة التي يرام فكها بالكتابة، وفك الأسرى منه، وقدم عليهم أولئك ; لأن حاجتهم لإقامة البنية. قيل: نكتة إيراد: في هو أن ما يعطى لهم: مصروف في تخليص رقابهم، فلا يملكونه كالمصارف الأخرى. والله أعلم. لطيفة: قال الراغب: إن قيل كيف اعتبر الترتيب المذكور في قوله تعالى: وآتى المال على حبه الآية؟ قيل: لما كان أولى من يتفقده الإنسان بمعروفه أقاربه، كان تقديمها أولى ثم عقبه باليتامى لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى، ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا، ثم ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين [ ص: 392 ] الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم، فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم ذكره...! وأقام الصلاة أي: أتم أفعالها في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي وآتى الزكاة أي: زكاة المال المفروضة ; على أن المراد بما مر من إيتاء المال، التنفل بالصدقات والبر والصلة، قدم على الفريضة مبالغة في الحث عليه، أو المراد بهما المفروضة، والأول لبيان المصارف، والثاني لبيان وجوب الأداء، وقد أبعد من حمل الزكاة هنا على زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة، كقوله: قد أفلح من زكاها وقوله: هل لك إلى أن تزكى ووجه البعد: أن الزكاة المقرونة بالصلاة في التنزيل لا يراد بها إلا زكاة المال، وأما مع الانفراد فعلى حسب المقام: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا عطف على من آمن، فإنه في قوة أن يقال: ومن أوفوا بعهدهم. وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء. قال الرازي: اعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله، أو بينه وبين رسول الله، أو بينه وبين سائر الناس. فالأول: ما يلزمه بالنذور والأيمان. والثاني: فهو ما عاهد الرسول عليه عند التبعة: من القيام بالنصرة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه. والثالث: قد يكون من الواجبات: مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم. وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن، وقد يكون من المندوبات: مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال، والإخلاص في المناصرة. فالآية تتناول كل هذه الأقسام. قال ابن كثير: وعكس هذه الصفة النفاق، كما صح في الحديث: « آية المنافق ثلاث: [ ص: 393 ] إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان » . وفي رواية: « إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر » : والصابرين نصب على الاختصاص. غير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته، وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله. قال أبو علي: إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولف في بعضها الإعراب، فقد خولف للافتنان، ويسمى ذلك قطعا ; لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور، ومزيد اهتمام بشأنه ! وقد قرئ: والصابرون. كما قرئ: والموفين. قال الراغب: لما كان الصبر: من وجه مبدأ للفضائل، ومن وجه جامعا للفضائل ; إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ. غير إعرابه تنبيها على هذا المقصد..!: في البأساء أي: الشدة، أي: عند حلولها بهم: والضراء بمعنى البأساء وهي الشدة أيضا، كما فسرهما بها في القاموس. وقال ابن الأثير: الضراء: الحالة التي تضر وهي نقيض السراء، وهما بناءان للمؤنث ولا مذكر لهما: وحين البأس أي: وقت مجاهدة العدو في مواطن الحرب، وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحيانا، وسرعة انقضائه، ومعنى البأس في اللغة: الشدة، يقال: لا بأس عليك في هذا أي: لا شدة. وعذاب بئيس شديد. وسميت الحرب بأسا لما فيها من الشدة. والعذاب يسمى بأسا لشدته. قال تعالى: فلما رأوا بأسنا فلما أحسوا بأسنا فمن ينصرنا من بأس الله [ ص: 394 ] وقال ابن سيده: البأس الحرب، ثم كثر حتى قيل: لا بأس عليك، أي: لا خوف. وقال الراغب: استوعبت هذه الجملة أنواع الضر. لأنه إما يحتاج إلى الصبر في شيء يعوز الإنسان، أو يريده فلا يناله، وهو البأساء. أو فيما نال جسمه من ألم، وهو الضراء. أو في مدافعة مؤذيه وهو اليأس. أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال، ولم تزلزلهم الأهوال. وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان...!: وأولئك هم المتقون عن الكفر وسائر الرذائل. وتكرير الإشارة لزيادة تنويه بشأنهم. وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم. قال الواحدي: هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع. فمن شرائط البر، وتمام شرط البار، أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر. [ ص: 395 ] القول في تأويل قوله تعالى: [178] يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى هذا شروع في بيان الحدود والحقوق التي لآدمي معين، وهي النفوس. و: كتب بمعنى فرض وأوجب. قال الراغب: الكتابة يعبر بها عن الإيجاب. وأصل ذلك: أن الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب. فيعبر عن المراد الذي هو المبدأ بالكتابة التي هي المنتهى. الحر يقتل: بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من القاتلين: من أخيه أي: دم أخيه المقتول: شيء بأن ترك وليه القود منه، ونزل عن طلب الدم إلى الدية. وفي ذكر الأخوة: تعطف داع إلى العفو، وإيذان بأن القتل لا يقطع أخوة الإيمان: فاتباع أي: فعلى العافي اتباع للقاتل: بالمعروف بأن يطالبه بالدية بلا عنف: {و } على القاتل: {أداء } للدية: إليه أي: العافي وهو الوارث: بإحسان بلا مطل ولا بخس: ذلك أي: ما ذكر من الحكم، وهو جواز القصاص والعفو عنه على الدية: تخفيف تسهيل: من ربكم عليكم: ورحمة بكم، حيث وسع في ذلك، ولم يحتم واحدا منهما: فمن اعتدى بعد ذلك بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم، أو قتل القاتل بعد العفو، أو أخذ الدية: فله باعتدائه: عذاب أليم أما في الدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حق، وأما في الآخرة فبالنار. ![]()
__________________
|
#78
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#79
|
||||
|
||||
![]() ![]() تفسير "محاسن التأويل" محمد جمال الدين القاسمي سورة البقرة المجلد الثالث صـ 401 الى صـ 405 الحلقة (79) فحكم الله سبحانه وتعالى في دماء المسلمين أنها كلها سواء. خلاف ما عليه أهل الجاهلية. وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس - في البوادي والحواضر - إنما هي البغي وترك العدل. فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها دما من الأخرى، أو مالا، أو يعلو عليها بالباطل، فلا ينصفها. ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق! فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء، والأموال، وغيرها... بالقسط الذي أمر الله به، ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية.... وإذا أصلح مصلح بينهم فليصلح بالعدل، كما قال تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول، فإنه أفضل لهم كما قال تعالى: والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له قال أنس: ما رأيت نبي الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو..! رواه أبو داود وغيره. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 401 ] «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» . وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ، هو في المسلم الحر مع المسلم الحر، فأما الذمي: فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم. كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار - رسولا أو تاجرا أو نحو ذلك - ليس بكفء لهم وفاقا. ومنهم من يقول: بل هو كفء له. وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد. النوع الثاني: الخطأ الذي يشبه العمد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا شبه العمد فيه مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها » . سماه شبه العمد ; لأنه قصد العدوان عليه بالخيانة، لكنه بفعل لا بقتل غالبا، فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل. الثالث: الخطأ المحض وما يجري مجراه: مثل أن يكون يرمي صيدا أو هدفا، فيصيب إنسانا بغير علمه ولا قصده. فهذا ليس فيه قود، وإنما فيه الدية والكفارة. وهنا مسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم وبينهم. التنبيه الرابع: قال الراغب: إن قيل: لم قال فمن عفي له من أخيه شيء ولم يقل: فمن عفا له أخوه شيئا...؟ قيل: العدول إلى ذلك للطيفة، وهي أنه لا فرق بين أن يكون صاحب الدم قد عفا أو جماعة، فعفا أحدهم ; إذ القصاص يبطل ويعدل حينئذ إلى الدية. فقال: فمن عفي له من أخيه شيء ليدل على هذا المعنى، والهاء في قوله: أخيه يجوز أن تكون للمقتول ولوليه. وجعله أخا لولي الدم لا للنسب ولا لموالاة دينية، ولكن للإحسان الذي أسداه في الرضا منه بالدية اهـ. [ ص: 402 ] الخامس: هذه الآية مفسرة لما أبهم في آية المائدة، وهي قوله تعالى: النفس بالنفس كما أنها مقيدة، وتلك مطلقة، والمطلق يحمل على المقيد. وكذا ما ورد في السنة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فإنه يبين ما يراد في هذه الآية وآية المائدة. وقد رويت أحاديث من طرق متعددة بأنه لا يقتل حر بعبد. كالأحاديث والآثار القاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى. فالتعويل على ذلك. وبالجملة: فقوله تعالى: الحر بالحر إلخ لا يفيد الحصر البتة، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام. هذا ما اعتمدوه. والله أعلم. القول في تأويل قوله تعالى: [179] ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون وقوله تعالى: ولكم في القصاص حياة كلام في غاية الفصاحة والبلاغة ; لما فيه من الغرابة، حيث جعل الشيء محل ضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، وعرف القصاص ونكر الحياة ; ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم - الذي هو القصاص - حياة عظيمة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة. وكم قتل مهلهل بأخيه، حتى كاد يفنى بكر بن وائل!. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر..!. فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي: حياة..! أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا هم بالقتل، فعلم أنه يقتص منه فارتدع ; سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود. فكان [ ص: 403 ] القصاص سبب حياة نفسين...!. هذا ما يستفاد من " الكشاف ". لطيفة: اتفق علماء البيان على أن هذه الآية - في الإيجاز مع جمع المعاني - بالغة إلى أعلى الدرجات...! وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة، كقولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقول آخرين: أكثروا القتل ليقل القتل. وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم: القتل أنفى للقتل. وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها...! ومن المعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه! وأنى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته. قال في الإتقان: وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى، وهو قولهم: " القتل أنفى للقتل " بعشرين وجها أو أكثر. وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال: لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق..! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك..! الأول: أن ما يناظره من كلامهم وهو: القصاص حياة أقل حروفا، فإن حروفه عشرة، وحروف " القتل أنفى للقتل " أربعة عشر..! الثاني: أن نفي القتل لا يستلزم الحياة، والحياة ناصة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه!. الثالث: أن تنكير: حياة يفيد تعظيما، فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة، كقوله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ولا كذلك المثل، فإن اللام فيه للجنس، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء. [ ص: 404 ] الرابع: أن الآية فيه مطردة، بخلاف المثل، فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل، بل قد يكون أدعى له، وهو القتل ظلما! وإنما ينفيه قتل خاص، وهو القصاص، ففيه حياة أبدا.. الخامس: أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل، والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلا بالفصاحة..! السادس: أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف. بخلاف قولهم. فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها. وحذف " قصاصا " مع القتل الأول، " وظلما " مع القتل الثاني، والتقدير: القتل قصاصا أنفى ظلما من تركه. السابع: أن في الآية طباقا، لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل... الثامن: أن الآية اشتملت على فن بديع، وهو جعل أحد الضدين - الذي هو الفناء والموت - محلا ومكانا لضده - الذي هو الحياة. واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة... ذكره في " الكشاف ". وعبر عنه صاحب " الإيضاح " بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال " في " عليه. التاسع: أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة - وهو السكون بعد الحركة - وذلك مستكره. فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته، بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون، فالحركات تنقطع بالسكنات. نظيره: إذا تحركت الدابة أدنى حركة، فحبست، ثم تحركت فحبست، لا تطيق إطلاقها، ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره، فهي كالمقيدة!. العاشر: أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر ; لأن الشيء لا ينفي نفسه!. الحادي عشر: سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة، وبعدها عن غنة النون. [ ص: 405 ] الثاني عشر: اشتمالها على حروف متلائمة، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد ; إذ القاف من حروف الاستعلاء، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق. بخلاف الخروج من القاف إلى التاء - التي هي حرف منخفض - فهو غير ملائم للقاف. وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق. الثالث عشر: في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت، ولا كذلك تكرير القاف والتاء. الرابع عشر: سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة، بخلاف لفظ الحياة، فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل. الخامس عشر: أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة، فهو منبئ عن العدل، بخلاف مطلق القتل. السادس عشر: الآية مبنية على الإثبات، والمثل على النفي، والإثبات أشرف ; لأنه أول، والنفي ثان عنه. السابع عشر: أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة، وقوله: في القصاص حياة مفهوم من أول وهلة..! الثامن عشر: أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد، والآية سالمة منه..! التاسع عشر: أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك، فيكون ترك القصاص نافيا للقتل، ولكن القصاص أكثر نفيا..! وليس الأمر كذلك، والآية سالمة من ذلك. ![]()
__________________
|
#80
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |