|
ملتقى الحوارات والنقاشات العامة قسم يتناول النقاشات العامة الهادفة والبناءة ويعالج المشاكل الشبابية الأسرية والزوجية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#171
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (170) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??). الفائدة الرابعة: في قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون) دليل على جواز التحقق من قول الصادق بتأكيد السؤال عليه، فقد كرَّر إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- السؤال: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) تعجبًا، ثم سأل مكررًا: (فَبِمَ تُبَشِّرُون). ومن هذا الباب: قول الله -عز وجل- عن زكريا -عليه الصلاة والسلام-: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران: 40). وفي مثل هذا التثبت والتحقق نوع من الشعور بالامتنان لله -عز وجل-، واستحضار أن الأمر عظيم، وأن النعمة جسيمة، فيجد الإنسان لذة العطاء من الكريم المنان، فهو يريد تكرار البشارة واستمرارها؛ لما يجد فيها من الفرح والسرور والروح، بإجابة الدعاء وحصول الاجتباء والفضل والعطاء، وهذا من أعظم أسباب سعادة المؤمن. الفائدة الخامسة: في قول الملائكة -عليهم السلام-: (بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ) فيه تقرير البشارة وتكريرها، ووصفها بأنها الحق؛ فهي متحققة الوقوع؛ لأنها من عند الله، وعلى لسان ملائكته الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، وفي الآية النهي عن القنوت من إجابة الدعاء ولو تأخرت الإجابة؛ فلا يصح للعبد أن يقول: دعوتُ فلم يستجب لي! فقد تتأخر الإجابة إلى زمن يطول عليك في الدنيا، وقد تتأخر إلى يوم القيامة، وقد يكون قد صُرِف عن العبد من السوء مثلها. فلا يقنط المؤمن أبدًا من إجابة دعائه، ولم يكن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- قانطًا من رحمة الله أبدًا، ولكن ربما ظن أن دعوته بهبة الصالحين التي دعاها حين فارق قومه وهاجر من بين أظهرهم، كما قال -تعالى-: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ . رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات: 99، 100)، قد تحققت وأجيبت بولادة إسماعيل -صلى الله عليه وسلم-، ولكن كانت هناك إجابة أكمل ونعمة أتم ورحمة أعظم، بولدٍ آخر من امرأته السابقة إلى الخيرات سارة، فـلله الحمد والمنة، والقنوط من رحمة الله في أصلها وكمالها من الضلال؛ لا يجوز لمؤمن أن يقنط من رحمة ربِّه في أصلها، ولا يجوز أن يقنط من الكمال أيضًا، بل لو وصل الأمر إلى زوال الرجاء بالكلية فلم يبقَ في القلب منه ذرة، زال الإيمان بالكلية؛ لأن الرجاء من أركان الإيمان القلبية، واليأس يناقضه، والإيمان ينقص بنقصانه، ويكمل بكماله الواجب والمستحب؛ ولذا قال إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ)؛ قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (الزمر: 53، 54). وفي الحديث عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ بِالله، وَالإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ الله، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (رواه البزار، وحسنه الألباني)، وروى الطبراني وغيره عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله". والظاهر في الفرق بين اليأس والقنوط: أن اليأس من روح الله وهو ترويحه، وإزالة الكرب والبلاء، يكون عند حلول الشدائد والمصائب، والقنوط من رحمة الله أعم منه؛ لكونه يكون عند حلول الشدائد والمصائب، وقد يقع استبعاد حصول الخير ولو لم يوجد بلاءٌ. وكان المناسب في قصة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- هنا أن ينهوه عن القنوط؛ لأنه لم يكن في بلاء، ونفى إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وجوده، ووصف مَن فعله بأنه ضالٌ؛ إذ لم يكن هو في شر، بل في نِعَم عظيمة، ولكن لم يكن يتوقع حصول مزيدِ الخير بوجود ولدٍ آخر بعد إسماعيل -صلى الله عليه وسلم- مع وصفه بالعلم، ويكون من سارة، وقد قال الطحاوي -رحمه الله- في عقيدته: "والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام"، وهو صحيح إذ هو محمول على زوال الخوف بالكلية من القلب، وزوال الرجاء بالكلية، وكلاهما من أركان الإيمان، فإذا زال الخوف بالكلية حصل الأمن من مكر الله، وإذا زال الرجاء بالكلية حصل القنوط من رحمة الله، وقد قال الله -تعالى- في بيان ركنية الخوف في الإيمان: (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، وقال -تعالى- في ركنية الرجاء: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 218). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#172
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (171) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (3) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??). الفائدة السادسة: قوله -تعالى-: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ)، الترتيب في سورة الحِجْر بين البشارة بالولد أولًا ثم الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط لإهلاكهم، وفي سورة هود ذكر الإشارة بإهلاك لوط أولًا، ولما ضحكت سارة بعد أن عرفت حقيقة الرسل، واطمأنت وأَمِنَت من أن يكون منهم شر بُشِّرت بالولد: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 71). والجمع بين الآيات ممكن واضح؛ إذ إن الترتيب في سورة الحجر ترتيبُ ذِكرٍ، وليس بترتيب زمن، والآيات فيها الجمع بالواو في بعض الأحداث، وفي بعضها ذكر الخبر دون أداة ترتيب، أما في سورة هود ففيها أداة الترتيب الفاء، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود: 70، 71). وكذلك ما وقع من الملائكة ولوط، ففي سورة هود بيَّن -عز وجل- أن لوطًا لم يعرف الرسل إلا في آخر الأمر بعد قدوم قومه مريدين للفاحشة من ضيوفه حتى قال لهم: (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ . قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) (هود: 80، 81). وأما في سورة الحجر، فذكر أنهم قالوا له: (بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) (الحجر: 63)، مع ذكر مجيئهم له أولًا، وهي في الحقيقة في آخر القصة بعد مجيء قومه كما ذكرت في سورة هود، والجمع كما ذكرنا أن الترتيب في سورة الحجر هو في ذكر مجموع الأحداث لا بترتيبها الزمني. والله أعلم. مثل قوله في سورة الأنعام: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 153، 154). فقد قال أهل العلم: إنه عطف جملة على جملة من باب ذِكْر الأحداث مجتمعة، وليس بترتيبها الزمني، نحو قول الشاعر: قُل لِمَن سادَ ثُمَّ سادَ أَبوهُ قَبلَهُ ثُمَّ قَبلَ ذَلِكَ جَدُّه الفائدة السابعة: في هذه الآية إثبات الإرسال الكوني، وهو بخلاف الإرسال الشرعي الذي أرسل الله به الرسل بالرسالة الشرعية، وأرسل الرسول الملكي إلى الرسول البشري وأرسل الرسول البشري بأوامر الله -عز وجل- ونواهيه إلى الناس الذين أرسل إليهم، وبما يجب من أخبارٍ يلزم تصديقها، وهذا الشرع الذي شرعه لهم؛ أما الإرسال الكوني فهو هنا للإهلاك، ومِن هذا الإرسال الكوني: قوله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الأعراف: 57)، وقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (مريم: 83)، أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا. وهذا الإرسال الكوني لا يتضمن أمرًا شرعيًّا إلى المكلفين، وإن كانت الملائكة في قصة إبراهيم يمتثلون أمر الله بإهلاك قوم لوط، لكنهم لم يحملوا رسالة إليهم؛ إلا ما كان من أمر لوط وأهله بأن يسري بأهله بقطع من الليل، قال الله -تعالى- عنهم: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (الحجر: 65)، لكن خبرهم لإبراهيم بأنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وقول إبراهيم لهم: (فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) المقصود به الإرسال لإهلاكهم؛ فهو الإرسال الكوني بلا شك. الفائدة الثامنة: قول الملائكة: (إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) دليل على أن الشذوذ الجنسي فعل قوم لوط، وكذا السحاق جريمة مستوجب للعقوبة الإلهية العظيمة في الدنيا، وكذلك في الآخرة، وليس كما يقول زنادقة الغرب ومَن وافقهم الذين لا يلتزمون بشريعة -لا يهودية ولا نصرانية ولا إسلام-: إنها حرية شخصية! وأن هذه الممارسات من حقوق الإنسان؛ سواء كانت لواطًا أو سحاقًا، أو غير ذلك من الأنواع العديدة التي يسمونها: النوع المجتمعي، وكذا الرغبة في التحول من الجنس إلى الجنس الآخر دون مقتضى طبي؛ هذا القول تكذيب للقرآن والتوراة والإنجيل، وإباء واستكبار عن شريعة الله. وكل مَن نفى الجريمة عن فاعل الشذوذ فهو كافر، وإن كان مسلمًا قبل ذلك فهو مرتد، وإن كان كتابيًّا زال عنه وصف الكتابي، وصار وثنيًّا لا تحل ذبيحته، ولا يجوز الزواج من نسائهم، ولو وُجِدت امرأة في أوروبا أو أمريكا أو غيرها، ترى جواز فعل اللواط أو السحاق، وأنه حرية شخصية؛ فهي وثنية لا يجوز الزواج منها؛ لأنها فقدت وصف الكتابية بالإباء والرد للشريعة المتواترة في كلِّ شرائع الأنبياء، بوصف فعل قوم لوط بالإجرام، واستحقاقهم للهلاك. والمحاولات المستميتة لنشر حرية الشذوذ في العالم، وتصحيح زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، بعد تصحيح المعاشرة؛ هذا كفر زائد لأنهم يسمونه: زواجًا، وتسميته زواجًا استحلال، وهو في الحقيقة إباء ورد. وكذلك تجويز تكوين أسرة بين رجلين، أو امرأتين؛ أحد الرجلين يقوم بدور الزوج ثم الأب بعد ذلك، والآخر يقوم بدور المرأة الموطوءة ويقوم بدور الأم بعد ذلك، وهذا ينشرونه في العالم ويحاولون بكل طريق قبول العالم له، كما نصوا على ذلك في اتفاقية "سيداو" وما لحقها من اتفاقيات، ويسمون هذا: بالنوع المجتمعي، ويسعون لنشره في العالم ضمن ما سموه بأهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة حتى عام 2030؛ فهذا كله الكفر والردة عن الإسلام، والنفاق الأكبر إن كان صاحبه يتسمى بالإسلام، كما في إعلان ما سُمِّي بوثيقة الإسلام في فرنسا الذين تعهدوا بقبول الشذوذ وعدم احتقار أصحابه أو ذمهم؛ فكل ذلك يخالف كل شرائع الأنبياء؛ لا يجوز قبوله، ولا المعاونة عليه بحالٍ من الأحوال؛ وإلا فقد خرج المقرُّ والمعاوِن والراضي، عن دين الإسلام بتكذيب القرآن.
__________________
|
#173
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (172) قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم بإسحاق من سورة الحجر (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -عز وجل-: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ . قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ . قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون . قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ . قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ . قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ . قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ . إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (الحجر: 51-??). الفائدة التاسعة: قوله -تعالى-: (إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) دليل على إنجاء الله -سبحانه- لعبادة المؤمنين الذين قاموا بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من العذاب العام الذي ينزل بالقوم الكافرين، وكذا الفاسقين المخالفين للرسل، كما قال -تعالى- في قصة أصحاب السبت: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (الأعراف: 163-166). فبيَّن مصير الفاسقين، وبيَّن مصير الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وسَكَت عن الساكتين؛ ولذا اختلف فيهم: هل نجوا أم هلكوا؟ وقال الله -عز وجل-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود: 116)؛ فالدعوة إلى الله والإعذار إليه لإقامة الحجة سبب للنجاة، وليس سببًا للضرر -كما يتصور البعض!-. وقال -تعالى-: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ . إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ . نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ) (القمرة: 33-35). فهذه الآية عامة وقاعدة كلية في نجاة الشاكرين؛ الذين يشكرون نعمة الله -سبحانه وتعالى- بالدِّين والطاعة، والإسلام والالتزام؛ فذلك كله من أعظم النعم التي يجب شكرها بالالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينجي الله -عز وجل- مَن شكر هذه النعم مِن العقوبة التي ينزلها بالقوم المجرمين؛ فلا بد أن يحافظ الدعاة إلى الله على هذا الدور؛ شكرًا لنعمة الله عليهم، ومَن ترك الدعوة لم يكن شاكرًا لنعمة الله بالدين، وإنما تنزل الفتن التي تعم ولا تصيب الذين ظلموا خاصة إذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ . وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 24، 25). الفائدة العاشرة: في قوله -تعالى-: (إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) أي: الباقين، دليل على مصير امرأة لوط؛ أنها بقت مع الباقين من قومها الذين نزل بهم العذاب، ولم تخرج أصلًا من القرية، وليس كما ذكر بعض المفسرين أنها خرجت مع لوط وبناته فلما سمعت الوجبة -أي: صوت وقوع العذاب بقومها- التفتت إلى قومها، فقالت: واقوماه! فأصابها حجر فقتلها، بل الصحيح أنها لم تخرج أصلًا؛ لقوله -تعالى-: (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات: 35، 36)، فلم يُخرِج -سبحانه- إلا المؤمنين، وهي لم تكن مؤمنة، بل كافرة خائنة لزوجها؛ خيانة عقيدة بموالاة قومها، ورضاها بما هم عليه، كما قال -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم: 10). فهي إذًا لم تخرج، والاستثناء في قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ) (هود: 81)، هو من الإسراء بأهله، فلم تخرج ضمنهم، وليس من الالتفات، وظاهر القرآن أنها أصابها كل ما أصابهم مِن جعل عالي القرية سافلها، والمطر من سجيل منضود، والصيحة كما قال -تعالى-: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) (الحجر: 73). وخروجها مع لوط يجعلها خارج هذه الأمور إلا الحجارة، ومصير امرأة لوط مما يُتعجب منه ومن حالها؛ فإنها والت قومها، وهي لم تنتفع بشيء من فاحشتهم وانحرافهم؛ فهي امرأة ضمن النساء المتروكات، قال الله -عز وجل- عن لوط -عليه السلام-: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ . وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (الشعراء: 165، 166). وهي عجوز لا تشتهي ولا تُشتَهى، وكانت قبل ذلك على الطبيعة والفطرة الإنسانية إذ قد أنجبت بنات لوط من لوط، ثم انحرفت بالتقليد الأعمى والطاعة الجاهلية لقومها، والاتباع على الباطل لهم، وهذا هو الركون إلى الظالمين بالرضا والمتابعة، وإن لم يكن بالفعل، فمَن رضيَ بالكفر كَفَر، ومَن رضي بالفواحش والشذوذ أخذ عقوبتها عند الله وإن لم يفعلها، ومن أحب قومًا حُشِر معهم، والمرء مع من أحب يوم القيامة. فالواجب على المسلم أن يبغض الكفار والفسقة على كفرهم وفسقهم، كما قال لوط -عليه السلام-: (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) (الشعراء: 168)، أي: من المبغضين؛ حذرًا من أن يصيبهم ما أصابهم، فالموالاة مستوجبة لنفس المصير، فمَن والى اللهَ ورسوله والمؤمنين كان معهم، ومن والى أعداء الدِّين كان معهم. ونسأل الله أن ينجينا والمسلمين من كلِّ سوء.
__________________
|
#174
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (172) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (1) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). إن الإمامة في الدين قضية عظيمة الأهمية في حياة البشر؛ لأن الاقتداء والاتباع لدى البشر بالقدوة التي تكون منهم، أعظم أسباب هدايتهم؛ فإن التطبيق العملي لحقائق الإيمان والإسلام والإحسان أعظم أثرًا من مجرد التقرير النظري للقضايا؛ ولذا أرسل الله الرسل من البشر: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف: 109)، وجعلهم الله الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21). وقال الله -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4)، وقال -عز وجل- بعد ذكر الأنبياء: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90). وأصحاب الأنبياء ينتفعون بصحبتهم، ويقتدون بهم، ويصبحون أئمة في الخير والهدى، ويصبحون بعد ذلك هم القدوة لمن بعدهم، وهكذا حتى يتم توريث الدِّين الحق للأجيال المتتابعة، والالتزام به، ولقد جعل الله عز وجل إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- إمامًا للناس عبر الزمان والمكان، ثم كان إمام البشرية كلها محمد -صلى الله عليه وسلم- من ذرية إبراهيم، وقد جعله الله -عز وجل- رسولًا إلى الناس كافة؛ إلى الأحمر والأبيض والأسود، إلى العرب والعجم، إلى الإنس والجن، وأوجب على جميع المكلفين اتباعه، فقال: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ...) ومنها: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً) (متفق عليه). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (رواه مسلم). وأورث الله النبي -صلى الله عليه وسلم- اتباع ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، والتخلق بأخلاقه، والاتصاف بصفاته التي بها صار إمامًا؛ مِن: الحنيفية والقنوت لله -عز وجل-، والبراءة من الشرك والمشركين، وشكر نعم الله الدينية والدنيوية، والهداية إلى الصراط المستقيم، وأعظم الله عليه فضله، وكان فضل الله عليه عظيمًا، وأتم عليه نعمته، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وصار أعظم قدوة للبشرية على الإطلاق باتباعه ملة أبيه إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، واتخذه الله خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (رواه مسلم)، بل يقول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة في موقف الشفاعة: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) (رواه مسلم)، وإذا كان الأمر كذلك؛ لزمنا أن نعرف ما ذكر الله في كتابه من الصفات التي وُفِّق لها إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- حتى صار إمامًا للبشرية؛ لنقتدي به فيها، ونتأسى به الأسوة العظيمة الحسنة؛ عسى أن يجعلنا الله مع أنبيائه ورسله؛ خاصة محمد وإبراهيم -صلى الله عليهما وسلم-، وهذه الآية من سورة النحل تتناول هذه المسألة العظيمة فلنتدارسها، ولندرس تفسيرها وفوائدها؛ قال الله -عز وجل-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "يمدح الله عبده ورسوله وخليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء، ويبرئُه من المشركين، ومن اليهودية والنصرانية، فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا)؛ فأما الأمة فهو: الإمام الذي يُقتدَى به. والقانت: هو الخاشع المطيع. والحنيف: المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؛ قال سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت؛ فقال: الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله. وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم. وقال الأعمش، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال: مَن نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له، فقال: أخبرني عن الأمة؟ فقال: الذي يعلم الناس الخير. وقال الشعبي: حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن، وقال: إنما قال الله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يعلم الخير. والقانت: المطيع لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كان معاذ. وقد روي من غير وجه، عن ابن مسعود أخرجه ابن جرير. وقال مجاهد: أمة أي: أمة وحده، والقانت: المطيع. وقال مجاهد أيضًا: كان إبراهيم أمة، أي: مؤمنًا وحده، والناس كلهم إذ ذاك كفار. وقال قتادة: كان إمام هدى، والقانت: المطيع لله. وقوله: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) أي: قائمًا بشكر نعم الله عليه، كما قال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (النجم: 37)؛ أي: قام بجميع ما أمره الله -تعالى- به. وقوله: (اجْتَبَاهُ) أي: اختاره واصطفاه، كقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) (الأنبياء: 51)، ثم قال: (وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي. وقوله: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي: جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، وقال مجاهد في قوله: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أي: لسان صدق. وقوله: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي: ومن كماله وعظمته، وصحة توحيده، وطريقه: أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل، وسيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلم-: أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كقوله في "الأنعام": (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 161)" (انتهى من تفسير ابن كثير). وتليه فوائد الآيات -إن شاء الله-.
__________________
|
#175
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (173) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (2) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). في الآية فوائد: الفائدة الأولى: إثبات إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية، كما دَلَّ عليه قوله -تعالى-: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124). والإمامة في الدِّين فضل عظيم من الله، ومِنَّة مِنْه على مَن وَفَّي في عبادة ربِّه بما وجب عليه؛ ولذا فهي صفة يشترك فيها المؤمنون مع الأنبياء، وإن كان وصف الأنبياء فيها أعلى، لكن أصل الإمامة مما يصح اتصاف المؤمنين به، كما قال الله -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة: 24). ومما يدعو به عباد الرحمن كما قال -تعالى- في بيان صفتهم: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74). ولا يلزم من إمامة الدين تولي الحكم والسلطة، بل هي إمامة في الطاعة والعبادة، تحصل للعبد ولو لم يكن حاكمًا، وإنما يُقتدَى به في الخير؛ فإن جمع بين الأمرين -يعني الإمامة في الطاعة وحسن العبادة مع الولاية والسلطة- فهو كمال آخر، وإنما حصل للخلفاء الراشدين، ومَن سار على طريقتهم من الخلفاء العلماء العادلين، ولا يحصل ذلك لمن تولى وكان ظالمًا؛ لقول الله -سبحانه وتعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، وكذا من كان جاهلًا. ولا تنال هذه الإمامة إلا بهذين الوصفين: العلم والعدل، وقد أخطأ مَن وصف مِن ليس بعالم ولا بعادل بأوصاف الخلفاء الراشدين، وأعطاهم حقوقهم في وجوب الطاعة في المباحات والمستحبات والمكروهات؛ فعلًا وتركًا، وإنما تجب طاعة الخلفاء الراشدين، العلماء العادلين، في الإلزام بالمباحات وتقييدها والمنع منها، وكذا في ترك المستحب وفعل المكروه، وكذا الموازنة بين الحسنات والسيئات، والمصالح والمفاسد؛ لعلمهم وعدلهم؛ فهم لا يأمرون بمباح، ولا يمنعون منه لمجرد رغباتهم، بل يعلمون أن ذلك لا يجوز لهم، وإنما قد يأمرون بمباح ويُلزِمون به، أو ينهون عنه ويمنعون منه إذا كان يترتَّب على الترك والفعل ترك واجب أو ارتكاب محظور محرَّم، ولا طريقة لمنع الواجبات وفعل المحرمات إلا بتقييد المباح أو الإلزام به. وقد توسَّع أكثر المعاصرين ممن ينتسِبون إلى العلم، وما بلغوا معشار ما بلغ أئمة السلف في العلم؛ توسعوا في الإفتاء بحقِّ الحكام في تقييد المباح والإلزام به، والعقوبة على فعله وتركه؛ لمجرد أنهم تولوا الأمور، ويقولون: أَمَر وُلَاة الأمور بكذا... ونهوا عن كذا... دون النظر إلى أصل المسألة شرعًا: هل هي من المباحات، أم المستحبات أو المكروهات، أو الواجبات أو المحرمات، ولم ينتبهوا أن ذلك فيه تحريم للحلال أو إيجاب لما ليس بواجب، مع علمهم بعدم عِلْم هؤلاء، وعدم عدالتهم، ووقوعهم في أنواع من الظلم والعدوان التي نفى الله -عز وجل- من أجلها أن يَنَال الإمامة مَن كان مِن ذرية إبراهيم، فقال: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). وإذا كان لا تُقبَل شهادة الظالم في باقة بقل؛ فكيف فيما هو أعظم من ذلك بكثير من الولايات العامة؟! وإنما تقبل أوامرهم فيما عُلِم أنه طاعة من الواجبات وترك المحرمات، وبسبب هذه الفتاوى غير المنضبطة في حقِّ الحاكم في تقييد المباح والإلزام به؛ حدث عبر الزمان تبديل للشريعة؛ خصوصًا مع جرأة مَن يُنسَب إلى العلم بالإفتاء بفسق المُخَالِف ولو كان مؤديًا لطاعة، وبإثمه ولو كان يفعل مباحًا، وإنما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ) (متفق عليه)، فحصر الطاعة في المعروف، وإنما دخل في المعروف في حقِّ العلماء العالمين العادلين أمرهم بمباح يترتب على تركه ترك واجب، أو فعل محرم، أو نهيهم عن مباح يترتب على فعله ترك واجب أو فعل محرم؛ فليست الطاعة لهؤلاء إلا في المعروف كنصِّ الحديث. والأئمة العلماء العادلون دخل في المعروف أمرهم بمباح أو نهيهم عنه؛ لعلمهم وعدلهم، وأما غيرهم؛ فلو أمر الحاكم رجلًا بصلاة النافلة لم تصبح واجبة، ولو نهاه عنها لم تكن محرمه، ولو أن حاكمًا نهى رجلًا عن الزواج من امرأة معينة، أو قبل سنٍّ معين -له أو للمرأة-؛ لم يجب عليه الالتزام بذلك. ولو أنه أمره بطلاق امرأة لا يلزمه طلاقها لم يجب عليه التطليق، وكذلك لم يحرم عليه الزواج شرعًا قبل السن التي ذكرها مَن يقولون بحقِّ تقييد المباح! وقد أصبح هذا الأمر وسيلة لتبديل الشريعة وتغيير أحكامها، وما أعظم ما دل عليه قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لبريرة -عندما شفع في عودتها لمغيث لشدة حبه لها- لما سألته: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْمُرُنِي بِذَلِكَ، قَالَ: (لَا، إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ) قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. (رواه البخاري). فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لا يملك وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يلزمها بما ليس بلازم؛ فكيف تجعلون هذه الدرجة من الإمامة لمن عُلِم فسقه، بل تتوسعون فيها لمَن علم نفاقه أو ارتكب بعض أنواع الكفر؟! ومَن ينتسب للعلم في بلده، يعطونه مرتبة الإمامة التي هي للخلفاء الراشدين، بل للأنبياء، بل تجاوزوا ذلك حتى قال أحدهم: "الحاكم إذا أباح الخمر فهي مباحة!"، وهذا لا شك كفر وخروج من الدِّين لاستحلال المعلوم من الدين بالضرورة تحريمه، وبعضهم غلا حتى اشترط في صحة العبادة إذن الحاكم! فصار أشبه بطريقة فرعون الذي قال: (آمنتم له قبل أن آذن لكم)، وأما أمر الدعوة إلى الله وتوحيده فقد اتخذ أمر التنظيم والترتيب، وطاعة ولاة لأمور؛ ذريعة لمنع دعوة التوحيد، واتباع منهج السلف، وأهل السنة والجماعة، ومنع الدعاة إلى الله من قول الحق والإفتاء به؛ خلافًا لما يقوله مَن يداهن في الدين، ويجامل بالباطل، ولو كان من يقول بوحدة الوجود، وعدم الفرق بين الرب والعبد، فالكل شيء واحد! وإلى الله المشتكى. حول اغتيال إسماعيل هنية: اللهم اغفر لعبدك إسماعيل هنية، وارحمه وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبَرَد، ونقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم ابدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله، وزوجًا خيرًا من زوجه. اللهم قه فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار، اللهم اقبله في الشهداء، اللهم افسح له في قبره ونوِّر له فيه، واملأه عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، اللهم دمر على اليهود ومن والاهم، ومَن أعانوا على قتله أو سمحوا به أو تآمروا عليه. ونسأل الله -عز وجل- أن يجعل للمسلمين في فلسطين فرجًا ومخرجًا، وأن ينجي المسلمين في غزة وفي السودان، وفي كل مكان.
__________________
|
#176
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (174) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (3) كتبه/ ياسر برهامي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثانية: قال القرطبي -رحمة الله- في تفسير قوله -تعالى-: (قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124)، في المسألة الحادية والعشرين: "استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل، مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا ينازعوا الأمر أهله، على ما تقدم من القول فيه؛ فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل؛ لقوله -تعالى-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (قلتُ: المقصود بذلك: أن لا يولوا ابتداءً، وأما إذا طرأ عليهم الفسق؛ فلا ينعزلون بمجرده حتى يعزلهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة المصالح والمفاسد). قال: ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي -رضي الله عنهم-، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة (قلتُ: ورغم اتفاق العلماء على الظلم الذي وقع على أهل المدينة في واقعة الحرة وإجماعهم على أن الحسين بن علي قتل مظلومًا، وعلى أن ابن الزبير قتل مظلومًا؛ إلا أنهم يخطئون مَن خرجوا على الحاكم الظالم لأجل المفاسد التي تقع، فكان هذا اجتهادًا خاطئًا، وانعقد الاتفاق بعد ذلك على عدم الخروج؛ إلا لو كانت مفسدة الخروج أقل من مفسدة الصبر). قال: والذي عليه الأكثر من العلماء: أن الصبر على طاعة الإمام الجائر أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض. والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج؛ فاعلمه (قلتُ: الذي يظهر أن كلام السلف في المنع من الخروج، هو في حالة كثرة المفاسد على مفسدة الصبر، وهذا هو الأغلب الأعم، وهم لا يختلفون أنه إذا زادت المفسدة على المصلحة؛ فلا بد من ترك الذي فيه مفسدة). قال: الثانية والعشرون: قال ابن خويز منداد: وكل مَن كان ظالمًا لم يكن نبيًّا، ولا خليفة ولا حاكمًا، ولا مفتيًا، ولا إمام صلاة، ولا يُقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تُقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدَّم من أحكامه موافقًا للصواب ماضٍ غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة؛ أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجهًا من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع أو يخالفوا النصوص؛ وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم، ولم يُنقَل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئًا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة، ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا؛ فدلَّ على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم (قلتُ: والمقصود بذلك: ما فعلوه في أهل طاعته؛ فإنهم في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكن لهم دولة مستقرة، وإنما كانوا ينفِّذون ذلك في أهل طاعتهم من الخوارج أمثالهم). قال: الثالثة والعشرون: قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة؛ فلذلك ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذًا على موجب الشريعة؛ فجائز أخذه، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطًا حلالًا وظلمًا، كما في أيدي الأمراء اليوم؛ فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلصٍّ في يده مال مسروق، ومال جيد حلال، وقد وكَّله فيه رجل، فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق إذا لم يكن شيء معروف بنهب، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحًا لازمًا -وإن كان الورع التنزه عنه-؛ وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها، وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلمًا صراحًا؛ فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم. (قلتُ: وهذا هو الحال الثالث فيما ذكر). ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبًا، غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب، فهو كما لو وُجِد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويُجعَل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين" (انتهى من تفسير القرطبي، وذكرناه هنا لعظيم فائدته). وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
#177
|
||||
|
||||
![]() الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (175) إمامة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- للبشرية وبراءته من المشركين (4) كتبه/ ياسر برهامي فقال الله -تعالى-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 120-123). الفائدة الثالثة: قوله -تعالى-: (قَانِتًا) أي: مطيعًا لله عابدًا؛ فدل على أن الإمامة في الدين لا تنال إلا بطاعة الله -عز وجل- وعبادته؛ فكثرة العبادة بمفهومها الواسع؛ لأنها اسم جامع لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، والعقائد والتروك الظاهرة والباطنة، وبمفهومها الخاص بكثرة الصلاة والقيام والصيام والزكاة والصدقة والحج والعمرة، والذكر والاستغفار، وتلاوة القرآن، وغيرها - سببٌ لنيل الإمامة في الدين. وأما من ترأس على قوم دون تحقيق الطاعة والعبادة؛ فإنها تكون إمامة دنيوية لا تغني عن صاحبها شيئًا، بل تكون مسئولية عظيمة بين يدي الله غدًا يوم القيامة، ومسألة شديدة عن كل واحدٍ من الرعية والأتباع، وكذا في الإمامة الحاصلة بالدعوة وتعليم الناس؛ فلا بد أن تكون مصحوبة بالعبادة؛ وإلا كانت إمامة شكلية وبالًا على صاحبها ليست حقيقية؛ لأن كثرة الأمراض القلبية التي تتعلق بالشهرة والجاه، وحب الرياسة، والرياء والسمعة، مرتبطة بالدعوة والتعليم ارتباطًا خطيرًا؛ إن لم تهذب وينقى القلب منها؛ صارت أعظم الضرر على صاحبها، وهو يظن نفسه من أعلى الناس مقامه، بل تمتنع الإمامة الدينية الحقيقية؛ بسبب هذه الأمراض وقلة العبادة. الفائدة الرابعة: قوله -تعالى-: (حَنِيفًا) وهو: المائل إلى الله المعرض عن غيره، فالحنيفية ملة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-؛ قال الله -عز وجل-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (الروم: 30-32). وهي متضمنة لحب الله -عز وجل- والشوق إليه، والخضوع له، وهذا يستلزم كل عبادات القلب من الخوف والرجاء، والتوكل، والإنابة، والتوبة، والذكر، وإرادة وجهه والإخلاص له، والصبر على طاعته وعن معصيته، وعلى أقدار الله المؤلمة، والحب فيه لأنبيائه وأوليائه، والبغض فيه لأعدائه من الكفار والمنافقين، والشكر لنعمه، والرضا به ربًّا وإلهًا، والرضا بدينه دون ما سواه من الأديان، والرضا بنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-. كل هذه العبادات متفرعة من الحب والخضوع، ومتلازمة معهما؛ يزول الإيمان بزوال شيء منها بالكلية، وينقص بنقصها، وأما الإعراض عمن سواه -سبحانه-؛ فهو يقتضي البراءة من الشرك وأهله، مع تركه وإبائه من نفس العبد، ومن غيره من المخلوقين؛ فلا يكون حنيفًا من أقر بصحة الشرك ولو من غيره، أو بتصحيح ملة غير ملة الإسلام، ولا يكون موحدًا من صحح عبادة غير الله، أو صحح ملة من كذب رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل من كذب أي نبي من الأنبياء. ولذا كانت الدعاوى المعاصرة لمساواة الأديان، أو حتى لمساواة اليهودية والنصرانية والإسلام، دعوات كفرية شركية تنافي الحنيفية الدين الإبراهيمي الحق؛ لا المزور الكاذب، ولا يوجد شيء اسمه العائلة الإبراهيمية يضم الأديان الثلاثة، ولا يجوز أن تُبنى معابد تجمع أصحاب الأديان الثلاثة فيها، ويزعمون أنه بيت العائلة الإبراهيمية! فنحن أبرياء من كل مَن كذَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكذب القرآن، ولا تصح عبادتهم لله -عز وجل- مع كفرهم بالقرآن العظيم، ولا يجوز لنا أن نصفها بأنها دور عبادة لله -سبحانه وتعالى-، بل هي أماكن الشرك والكفر والتكذيب لرسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-؛ فلا بد لكل مسلم أن يعي هذه الحقيقة، وأن يتبرأ تبرأ تامًّا من هذه الفكرة الخبيثة -ما يسمونه بالدين الإبراهيمي والمسار الإبراهيمي والعائلة الإبراهيمية-؛ فإنها كلها خارجة عن دين الاسلام ومناقضة للحنيفية التي بُعِث بها النبي -عليه الصلاة والسلام- اتباعا لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم-. وللحديث بقية -إن شاء الله-.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |