لا تقيد نفسك بين هم وحزن - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 385 - عددالزوار : 47297 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5073 - عددالزوار : 2304340 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4657 - عددالزوار : 1585633 )           »          انتقال ابني من مدرسة لأخرى أثر عليه وسبب له العديد من المشاكل. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          أشعر بالإحباط.. فلا عمل ولا سفر ولا تحقيق أحلام، فما الحل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          حلمت بأني لا أستطيع إتمام صلاتي مع أنني محافظة عليها، فما تفسير الحلم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          ما تأويل الضرب المبرح في الرؤيا؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          ماتاريخ الحج وماالمقصود الأساسي من أعمال الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          If a man has done the obligatory Hajj, is it better for him to repeat Hajj and do a (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          إذا حج الإنسان الفريضة ، فهل الأفضل أن يكرر الحج ويحج نافلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 19-09-2019, 06:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,926
الدولة : Egypt
افتراضي لا تقيد نفسك بين هم وحزن

لا تقيد نفسك بين هم وحزن




الشيخ عبدالله بن محمد البصري






الخطبة الأولى
أَمَّا بَعدُ، فَأُوصِيكُم - أَيُّهَا النَّاسُ - وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، نَقرَأُ قَولَ رَبِّنَا وَخَالِقِنَا - عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4] فَنَعلَمُ عِلمَ يَقِينٍ، أَنَّ طَرِيقَ الإِنسَانِ في هَذِهِ الحَيَاةِ، مَحفُوفٌ بما يَكرَهُ وَلا يُحِبُّ، وَأَنَّ عَيشَهُ في دُنيَاهُ في مُغَالَبَةٍ وَمُكَابَدَةٍ، وَلا بُدَّ لَهُ مِن شِدَّةٍ تُصِيبُهُ، فَيَومًا يَغلِبُ وَيَومًا يُغلَبُ، وَحِينًا يُسَرُّ وَحِينًا يَحزَنُ، وَيَصِحُّ زَمَنًا وَيَمرَضُ زَمَنًا، وَيَغتَنِي مَرَّةً وَيَفتَقِرُ أُخرَى، بَل وَيقوَى إِيمَانُهُ في وَقتٍ وَتَكثُرُ طَاعَاتُهُ، وَيُقبِلُ عَلَى رَبِّهِ وَتَزِيدُ قُرُبَاتُهُ، ثم مَا يَلبَثُ أَن يَفتُرَ وَيَكسَلَ وَيَضعُفَ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ اجتِمَاعَ هَذِهِ الأُمُورِ عَلَيهِ وَتَقَلُّبَهُ في بُحُورِهَا، وَتَذَكُّرَهُ مَرَارَةَ بَعضِهَا وَفَقدَهُ حَلاوَةَ أُخرَى، وَخَوفَهُ مِن حُصُولِ مَكرُوهٍ وَفَوَاتِ مَحبُوبٍ، لا بُدَّ أَن يُورِثَهُ هَمًّا وَحَزَنًا يَزِيدَانِ أَو يَنقُصَانِ، وَيَغِيبَانِ أَو يَحضُرَانِ، بَل لا يَكَادَانِ يُفَارِقَانِهِ حَتى يَأذَنَ اللهُ لِمَن رَحِمَهُ بِدُخُولِ الجَنَّةِ دَارِ السَّلامِ، حَيثُ لا حَزَنَ هُنَالِكَ وَلا هَمَّ وَلا غَمَّ، وَلا كَربَ وَلا ضِيقَ وَلا أَلَمَ، بَل دَارُ مُقَامَةٍ في نَعِيمٍ يَكُونُ أَوَّلُ دُعَاءِ أَهلِهِ ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [فاطر: 34، 35] وَمَعَ هَذَا - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَمَعَ أَنَّ الدُّنيَا دَارُ هُمٍّ وَحَزَنٍ وَبَلاءٍ، وَمَرحَلَةُ شِدَّةٍ وَكَبَدٍ وَبَأسَاءَ، إِلاَّ أَنَّ لِلمَرءِ نَفسِهِ دَورًا كَبِيرًا في التَّخفِيفِ مِن هَذَا أَو زِيَادَتِهِ، وَلا شَكَّ أَنَّ مَنشَأَ ذَلِكَ وَأَسَاسَهُ، يَرجِعُ إِلى إِيمَانِ العَبدِ قُوَّةً وَضَعفًا، وَكَثرَةِ ذِكرِهِ لِرَبِّهِ أَو شِدَّةِ نِسيَانِهِ وَالغَفلَةِ عَنهُ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97] وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا -: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124] فَبِقَدرِ إِيمَانِ المَرءِ تَكُونُ سَعَادَتُهُ، وَبِقُوَّةِ يَقِينِهِ تَستَقِرُّ نَفسُهُ، وَبِذكرِهِ رَبَّهُ يَطمَئِنُّ قَلبُهُ وَيَثبُتُ فُؤَادُهُ. رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ: كَانَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجزِ وَالكَسَلِ، وَالجُبنِ وَالبُخلِ، وَضَلَعِ الدَّينِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ " وَقَد جَمَعَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما عَلَّمَهُ رَبُّهُ في هَذِهِ الدَّعَوَاتِ، جَمَعَ مَعَانيَ السَّعَادَةِ الدُّنيَوِيَّةِ الكَامِلَةِ، حَيثُ تَعَوَّذَ مِن أَضدَادِهَا مِن مُنَغِّصَاتِ الحَيَاةِ وَمُكَدِّرَاتِ العَيشِ، وَهِيَ: الهَمُّ، حَيثُ يَضِيقُ الصَّدرُ بِسَبَبِ مَا يُتَوَقَّعُ مُستَقبَلاً، وَالحَزَنُ، وَهُوَ الضِّيقُ مِن كَثرَةِ تَفكِيرِ المَرءِ فِيمَا مَضَى وَتَأَسُّفِهِ عَلى مَا فَاتَ، وَالعَجزُ، وَهُوَ عَدَمُ قُدرَةِ الآلَةِ وَالجَوَارِحِ عَلَى القِيَامِ بما يَأمَلُهُ الإِنسَانُ وَيُرِيدُهُ وَيَطمَحُ إِلَيهِ، وَالكَسَلُ، وَهُوَ القُعُودُ عَنِ المَعَالي وَالرُّكُونُ إِلى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، وَعَدَمُ السَّعيِ أَو بَذلِ الجُهدِ لِتَحقِيقِ المَطَالِبِ وَالأَمَانِيِّ، وَالجُبنُ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّجَاعَةِ وَالإِقدَامِ، وَالبُخلُ، وَهُوَ الشُّحُّ بِالمَالِ وَالحِرصُ عَلَيهِ بِشِدَّةٍ، وَعَدمُ الجُودِ بِهِ في زَكَاةٍ أو صَدَقَةٍ أَو إِيثَارٍ، وَضَلَعُ الدَّينِ، وَهُوَ ثِقَلُهُ وَشِدَّتُهُ، وَتَكَاثُرُهُ حَتى يَعجِزَ صَاحِبُهُ عَن سَدَادِهِ، وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ، وَهُوَ قَهرُهُم وَتَسَلُّطُهُم، وعَدَمُ القُدرَةِ عَلَى التَّخَلُّصِ مِن أَذَاهُم... وَمَا مِن شَكٍّ أَنَّ عِلاجَ كُلِّ هَذِهِ المُسَبِّبَاتِ وَالقَضَاءَ عَلَيهَا، يَبدَأُ بِقُوَّةِ إِيمَانِ العَبدِ بِرَبِّهِ وَخَالِقِهِ، وَاليَقِينِ بما عِندَهُ وَصِدقِ التَّوَكُّلِ عَلَيهِ، وَالثِّقَةِ فِيمَا وَعَدَ بِهِ وَالرِّضَا بما قَدَّرَهُ، ثم التَّجَافي عَنِ الدُّنيا وَأَهلِهَا، وَالزُّهدِ في زَخَارِفِهَا وَأَطمَاعِهَا، وَأَن يَعلَمَ المَرءُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لم يَكُنْ لِيُخطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخطَأَهُ لم يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وَأَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَنفَعُوهُ بِشَيءٍ، لم يَنفَعُوهُ إِلاَّ بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَهُ، وَلَوِ اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَضُرُّوهُ بِشَيءٍ، لم يَضُرُّوهُ إِلاَّ بِشَيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيهِ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ العَاقِلَ يَعِيشُ يَومَهُ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَسَاعَتَهُ الحَاضِرَةَ الَّتي هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنهَا، مُتَوَافِقًا مَعَ مُجتَمَعِهِ الَّذِي هُوَ جُزءٌ مِنهُ وَعُضوٌ في جَسَدِهِ، مُوَازِنًا بَينَ مَصَالِحِهِ الشَّخصِيَّةِ الخَاصَّةِ، وَمَصَالِحِ الآخَرِينَ العَامَّةِ، غَيرَ طَامِعٍ فِيمَا لَيسَ لَهُ، وَلا مُتَعَدِّيًا عَلَى مَا لِلآخَرِيَن، وَلا حَابِسًا نَفسَهُ في مَوقِفٍ بِعَينِةِ أَو حَدَثٍ بِذَاتِهِ، وَلا مُستَسلِمًا لإِخفَاقِهِ مَرَّةً أَو فَشلِهِ وَعَدَمِ حُصُولِ مَا يُرِيدُ، فَالحَيَاةُ فُرَصٌ مُتَكَرِّرَةٌ، وَالدُّعَاءُ حَبلٌ مَتِينٌ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَن خَشِيَ الغَرَقِ، وَاللهُ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكشِفُ السُّوءَ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اليَومَ، أَنَّ تَحَقُّقَ السَّعَادَةِ وَحُصُولَ الرَّاحَةِ، مَرهُونٌ بِتَحَقُّقِ اللَّذَّاتِ الدُّنيَوِيَّةِ العَاجِلَةِ، وَنَيلِ الشَّهَوَاتِ المَحسُوسَةِ، وَالوُصُولِ إِلى الرَّغَبَاتِ النَّفسِيَّةِ، وَتِلكَ لَعَمرُ اللهِ سَعَادَةُ الأَطفَالِ وَلَذَّةُ الصِّغَارِ، وَغَايَةُ مُختَلِّي العُقُولِ وَمُنتَهَى تَفكِيرِ المَجَانِينِ، الَّذِينَ يُغرِقُونَ في طَلَبِ اللَّذَّاتِ العَاجِلَةِ وَالبَحثِ عَنهَا، وَيَعِيشُونَ أَعمَارَهُم عَلَى تَمَنِّيهَا وَتَخَيُّلِهَا، وَيَأسَفُونَ وَيَحزَنُونَ لِمَا يَرَونَ أَنفُسَهُم مَحرُومِينَ مِنهُ، مِمَّا فِيهِ غَيرُهُم مِن مُتَعٍ مَحسُوسَةٍ وَشَهَوَاتٍ رَخِيصَةٍ، وَيَغفُلُونَ عَمَّا يَعِيشُهُ الكِبَارُ وَيَتَلَذَّذُونَ بِتَحَقُّقِهِ عَلَى أَيدِيهِم، مِن أَهدَافٍ نَبِيلَةٍ وَغَايَاتٍ جَلِيلَةٍ، وَيَنسَونَ أَو يَتَنَاسَونَ أَو يَجهَلُونَ أَو يَتَجَاهَلُونَ، أَنَّ الدُّنيَا بِمُتَعِهَا وَزَخَارِفِهَا، لم تَكُنْ وَلَن تَكُونَ يَومًا مَصدَرًا لِلسَّعَادَةِ أَو جَالِبَةً لِلرَّاحَةِ، وَإِلاَّ لَمَا حَجَبَهَا اللهُ - تَعَالى - عَن صَفوَةِ خَلقِهِ وَمَنَعَهَا خِيرَةَ عِبَادِهِ، مِنَ الأَنبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالحَوَارِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ، نَعَم - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - إِنَّ عَيشَ الكَثِيرِينَ اليَومَ في حَيِّزِ أَهدَافٍ دُنيَوِيَّةٍ دَنِيئَةٍ، وَتَغَلغُلَهَا في قُلُوبِهِم وَاستِيلاءَهَا عَلَى أَفئِدَتِهِم، وَغَفلَتَهُم عَنِ الغَايَةِ الكُبرَى مِن خَلقِهِم وَالهَدَفِ الأَسمَى مِن إِيجَادِهِم، بَل وَعَيشَ فِئَامٍ مِنهُم لأَنفُسِهِم وَانكِفَاءَهُم عَلَى مَصَالِحِهِم الشَّخصِيَّةِ البَحتَةِ، آخِذِينَ غَيرَ مُعطِينَ، حَرِيصِينَ عَلَى حُقُوقِهِم مُتَهَاوِنِينَ في وَاجِبَاتِهِم، إِنَّ ذَلِكَ لَمِن أَسبَابِ عَيشِهِم في هُمُومٍ وَغُمُومٍ وَأَحزَانٍ، وَشُعُورِهِم بِالضِّيقِ وَالكَربِ وَالشِّدَّةِ، وَإِلاَّ فَلَو تَفَكَّرُوا وَتَدَبَّرُوا، وَتَأَمَّلُوا قَلِيلاً وَتَعَقَّلُوا، لَعَلِمُوا أَنَّهُم إِنَّمَا خُلِقُوا لِعِبَادَةِ رَبِّهِم وَتَزكِيَةِ نُفُوسِهِم، وَأَنَّ في قَلبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُم فَاقَةً دَائِمَةً وحَاجَةً مُلِحَّةً، لا يُمكِنُ أَن يَسُدَّهَا إِلاَّ قُوَّةُ العَقِيدَةِ وَالإِيمَانِ بِاللهِ، وَكَمَالِ التَّعَبُّدِ لَهُ ذُلاًّ بَينَ يَدَيهِ وَخُضُوعًا لِمَا يُرِيدُهُ، وَإِلاَّ فَسَيَبقَى البَعِيدُ يَشعُرُ بِنَقصٍ شَدِيدٍ وَفَرَاغٍ كَبِيرٍ، لا تُكمِلُهُ وَلا تَسُدُّه الدُّنيَا بما فِيهَا ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40] وَإِنَّ مِن قُوَّةِ الإِيمَانِ وَاليَقِينِ بِاللهِ وَالثِّقَةِ بِمَوعُودِهِ، أَن يَعلَمَ المَرءُ أَنَّهُ لا يُمكِنُ أَن يَرتَاحَ أَو يَسعَدَ أَو يُسَرَّ وَيَهنَأَ لَهُ بَالٌ، وَهُوَ عَبدٌ لِنَفسِهِ أَسِيرٌ لِهَوَاهَا، مُتَّبِعٌ لما تَشتَهِي مُطِيعٌ لها فِيمَا تُملِي عَلَيهِ، لا يَعِيشُ إِلاَّ لها، وَلا يَبحَثُ إِلاَّ عَن رَاحَتِهَا، وَلا يُفَتِّشُ إِلاَّ عَنهَا لِيُبرِزَهَا، بَعِيدًا عَن مَحَبَّةِ الخَيرِ لِغَيرِهِ، أَو في مَعزِلٍ عَن إِسعَادِ مَن سِوَاهُ، وَلَو أَنَّهُ استَقرَأَ سِيَرَ الغَابِرِينَ وَاستَنطَقَ حَيَاةَ النَّاجِحِينَ، لَوَجَدَ أَنَّ أَصحَابَ الإِنجَازَاتِ العَامَّةِ، وَالَّذِينَ حَقَّقُوا لأَنفُسِهِم وَلِمُجتَمَعَاتِهِم قَدرًا كَبِيرًا مِن التَّقَدُّمِ، وَخَدَمُوا غَيرَهُم وَأَعطَوا وَبَذَلُوا وَآثَرُوا عَلَى أَنفُسِهِم وَصَبَرُوا، هُم غَالِبًا مِن أَسعَدِ النَّاسِ وَأكثَرِهِم رَاحَةً وَأَعظَمِهِم سُرُورًا، وَأَقَلِّهِم هَمًّا وَأَبعَدِهِم غَمًّا، وَعَلَى العَكسِ مِن أُولَئِكَ، فَإِنَّ الَّذِينَ عَاشُوا لأَنفُسِهِم وَانكَفَؤُوا عَلَى ذَوَاتِهِم، وَلم يُحَقِّقُوا لِمُجتَمَعَاتِهِم إِنجَازًا يُذكَرُ طُوَالَ أَعمَارِهِم، وَظَلَّوا يَستَعطُونَ وَلا يُعطُونَ، وَيَستَجدُونَ وَلا يُقَدِّمُونَ، وَيَجمَعُونَ وَلا يَبذُلُونَ، لم يَجِدُوا إِلاَّ فَرَاغًا في الأَروَاحِ وَخَوَاءً، وَوَحشَةً في القُلُوبِ وَضِيقًا، بَل وَوَحشَةً مِنَ النَّاسِ وَنُفُورًا ﴿ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾ [النور: 40] أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَابحَثُوا عَنِ السَّعَادَةِ في مَوَاطِنِهَا وَاطلُبُوهَا مِن مَظَانِّهَا ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] وَلا تَجعَلُوا الدُّنيَا أَكبَرَ هَمِّكُم، وَلا غَايَةَ قَصدِكُم وَلا مُنتَهَى إِرَادَتِكُم؛ فَقَد قَالَ نَبِيُّكُم - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - فِيمَا رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ: " مَن كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ في قَلبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَملَهُ، وَأَتَتهُ الدُّنيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَن كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ، جَعَلَ اللهُ فَقرَهُ بَينَ عَينَيهِ، وَفَرَّقَ عَلَيهِ شَملَهُ، وَلم يَأتِهِ مِنَ الدُّنيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ " أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 14].


الخطبة الثانية
أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - رَبَّكُم حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا جُهدَكُم بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَتَحَلَّوا بِاليَقِينِ وَالرِّضَا، وَالزَمُوا القَنَاعَةَ بما قَسَمَ رَبُّكُم وَقَضى، فَقَد قَالَ نَبِيُّكُم - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " ذَاقَ طَعمَ الإِيمَانِ مَن رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسلامِ دِينًا وَبِمحَمَّدٍ رَسُولاً " رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ. وَقَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: " لَيسَ الغِنى عَن كَثرَةِ العَرَضِ، وَلَكِنَّ الغِنى غِنى النَّفسِ " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ. إِنَّ حُبَّ الدُّنيَا وَالرُّكُونَ إِلَيهَا قد يُحكِمُ قَبضَتَهُ عَلَى بَعضِ القُلُوبِ، فَتَستَولِي عَلَيهَا الخَوَاطِرُ الفَاسِدَةُ، وَتَغلِبُهَا الإِرَادَاتُ الضَّارَّةُ، فَيَعِيشُ أَصحَابُهَا في حَيَاتِهِم بَينَ غَضَبٍ وَسُخطٍ وَكَثرَةِ شَكوَى، وَانتِصَارٍ لِلنَّفسِ وَعَدَاوَةٍ لِلآخَرِينَ وَانتِقَامٍ مِنهُم. أَلا فَعِيشُوا دُنيَاكُم كَمَا يَنبَغِي، وَلا تُعطُوهَا أَكثَرَ مِن حَقِّهَا، فَتَتَحَسَّرُوا عَلَى فَائِتٍ أَو تَحزَنُوا عَلَى مَفقُودٍ، أَو تَهتَمُّوا وَتَخَافُوا مِن مُستَقبَلٍ بَعِيدٍ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ مَا مَضَى فَاتَ وَالمُؤَمَّلَ غَيبٌ، وَأَن لَيسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ سَاعَتُهُ الَّتي هُوَ فِيهَا، فَتَوَكَّلُوا عَلَى اللهِ وَسَلِّمُوا إِلَيهِ، وَقَدِّمُوا الخَيرَ عِندَهُ تَجِدُوهُ... اللَّهُمَّ أَصلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصمَةُ أَمرِنَا، وَأَصلِحْ لَنَا دُنيَانَا الَّتي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا في كُلِّ خَيرٍ، وَالمَوتَ رَاحَةً لَنَا مِن كُلِّ شَرٍّ.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 74.05 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (2.22%)]