قصة الغلام والمؤمن مع الملك الظالم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         القاضي المحدث ابن شبرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          الدنيا والآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          سنة حسنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          شهر شعبان نفحة ربانية وانطلاقة إيمانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          إن عجائب القرآن أطرن نومي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          كيف تقضي إجازة صيفية سعيدة وهادفة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          الشباب في الصيف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          خلق الحياء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 18 )           »          مفتي مصر : محمد العباسي المهدي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 10-04-2025, 12:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,101
الدولة : Egypt
افتراضي قصة الغلام والمؤمن مع الملك الظالم

قصة الغلام المؤمن مع الملك الظالم

عبدالستار المرسومي

هذه قصة من الأمم التي سبقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بطلها غلام صغير السن، وكان يخطَّط لهذا الغلام أن يكون ساحرَ الملِك، ولكن قبل أن يكون كذلك، قذف الله جل جلاله في قلبه الإيمان فآمن، ثم اكتشف الملك الظالم أمرَ هذا الغلام فصار يحاربه ويحاول قتله، وهذا الملك من الملوك الذين كانوا يدَّعون الربوبية، كما فعلها فرعون والنمرود وغيرهم، والقصة بتمامها يقصها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يقول:
((كان ملِك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبِر [الساحر] قال للملك:
- إني قد كبرت، فابعث إليَّ غلامًا أُعلمه السحر.


فبعث إليه غلامًا يعلمه، فكان في طريقه [الغلام] إذا سلك راهبٌ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا [الغلام] ذلك إلى الراهب، فقال [الراهب]:
- إذا خشِيتَ الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.


فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال [الغلام]:
- اليوم أعلمُ الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجرًا فقال:
- اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضيَ الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس.


فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب:
- أي بني، أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى فإن ابتُليتَ فلا تدل عليَّ.


وكان الغلام يُبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمِي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال:
- ما ها هنا لك أجمع، إن أنت شفيتني، فقال [الغلام]:
- إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله، دعوتُ الله، فشفاك.


فآمن [جليس الملك] بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك:
- من ردَّ عليك بصرك؟ قال:
- ربي، قال:
- ولك رب غيري؟ قال:
- ربي وربك الله.


فأخذه فلم يزل يعذِّبه حتى دلَّ على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك:
- أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال:
- إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله.


فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له:
- ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالْمِئشار[1]، فوُضع المئشار في مَفرِق رأسه، فشقَّه حتى وقع شِقَّاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له:
- ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المئشار في مفرق رأسه، فشقه به، حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له:
- ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال:
- اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال [الغلام]:
- اللهم اكفِنِيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك:
- ما فعل أصحابك؟ قال:
- كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال:
- اذهبوا به فاحملوه في قُرقُور[2]، فتوسَّطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال [الغلام]:
- اللهم اكفِنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك.


فقال له الملك:
- ما فعل أصحابك؟ قال:
- كفانيهم الله، فقال [الغلام] للملك:
- إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال [الملك]:
- وما هو؟ قال [الغلام]:
- تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خُذْ سهمًا من كنانتي، ثم ضَعِ السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك، قتلتني.


فجمع [الملك] الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال:
- باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدغه، فوضع يده في صُدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس:
- آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام.


فأُتِيَ الملك، فقيل له:
- أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس.


فأمر بالأخدود في أفواه السِّكك فخُدت، وأضرم النيران، وقال:
- من لم يرجع عن دينه فأحْمُوه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌّ لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام:
- يا أمَّهْ اصبري؛ فإنكِ على الحق))[3].



المسائل المستنبطة من القصة:
المسألة الأولى: معيار تقويم الناس في الإسلام يعتمد على التقوى والعمل الصالح والثبات؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألَا لا فضل لعربيٍّ على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى))[4]، فبطل هذه القصة غلام، والغلام هو الولد في أول شبابه، وليس رجلًا كبيرًا قد بلغ أشده، هذا الغلام قدم أكثر مما يقدمه الكبار، وأظهر إيمانًا راسخًا وعملًا كبيرًا قلَّ نظيره، وقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا بهذه الفئة العمرية في بناء دولته صلى الله عليه وسلم؛ فمنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنهم عبدالله بن عباس رضي الله عنه، اللذان دخلا الإسلام صغارًا، ولكنهما قدما أمثلةً رائعة في العلم والحكمة، والتقوى والصبر، والتضحية والفداء، والنصرة والدفاع عن الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قصص تقويم الناس حديث النبي صلى الله عليه وسلم لرجلٍ كان عنده؛ فقد ((مرَّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم لرجل عنده جالس:
- ما رأيك في هذا؟ فقال:
- رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرَّ رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- ما رأيك في هذا؟ فقال:
- يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب ألَّا يُنكح، وإن شفع ألَّا يُشفع، وإن قال ألَّا يُسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- هذا خير من ملء الأرض مثل هذا))[5].
المسألة الثانية: الملك الظالم هو نموذج سيئ للحاكم السيئ؛ لأنه لا يعتمد على العلم والتكنولوجيا والثقافة، ولا يثق بالعلماء والمخترعين والموهوبين لترسيخ أركان حكمه، واستثمار كل ذلك لبناء البلد الذي يحكمه، ولكنه يعتمد على السَّحرة والكهنة والمنجِّمين لمزيد من تجهيل قومه، ولأن عقدة الفشل تجره إلى أن تعشعش فكرة ثورة الشعب ضده دائمًا، فهو يشعر بأنه بحاجة إلى قراءة أحداث المستقبل والغيب بأي وسيلة، وإن كانت من الخزعبلات؛ لكي يسبق الشعب بخطوة، وهذا مؤشر على طمعه وجشعه ومرض قلبه.


المسألة الثالثة: كان من تخطيط الملك أن يكون الغلام "بطل هذه القصة" خليفةَ الساحر الرئيس للملك، ومن المؤكد أن اختيار الغلام لهذه المهمة الخاصة والحساسة لم يكن عشوائيًّا، فلا بد أن يكون لهذا الغلام ولعائلته مواصفات خاصة حازت على رضا الملك قبل اختياره، ولكن الله جل جلاله شاء للغلام أن يهتدي، فوضع الله جل جلاله على طريقه راهبًا عابدًا صادقًا؛ ليكون سببًا في هدايته، فالهداية تكون بمشيئة الله جل جلاله وقدره، وهي مِنَّة ونعمة يُنعم الله جل جلاله بها على من يشاء من عباده؛ قال تعالى: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17]، وقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23].


المسألة الرابعة: الذي اقترح على الملك تدريب الغلام هو الساحر بعد شعوره بكبر السن؛ حيث قال الساحر للملك: (إني قد كبرت فابعث إليَّ غلامًا أُعلمه السحر)، وهذا هو حال حاشية الملوك وبطانته السيئين، فإنهم يتبرعون بتقديم مقترحات لأسيادهم لضمان استمرار عمل الشر الذي يقومون به، وقد لا يكون لهم منفعة مادية أو غيرها في ذلك، ولكن لمزيد من الغفلة والشر الذي يتلبسهم بسبب تأييدهم للحاكم الظالم، وفي الغالب هي عقوبة من الله جل جلاله يعاقبهم بها، كما أنه طلب أن يكون المرشح غلامًا وليس كبيرًا، فالغلام ما زال صغيرًا لم يتعلم من تجارب الحياة ولا يستطيع التمييز بين الحق والباطل، والنافع والضار، فيكون من اليسير على المعلم أن يُملي على من يعلمه ما يشاء من العقائد والأعمال، ويقنعه بذلك بأقل جهد.


المسألة الخامسة: كان الغلام بين الساحر والراهب، وبيَّنت القصة سوءَ معاملة الساحر للغلام؛ حيث كان يضربه ويؤنِّبه إذا تأخر عليه، بينما كان الراهب العابد يراعي مشاعره ويجد له الأعذار ليقدمها للساحر، فكان للمعاملة الحسنة والتربية الحسنة أثر طيب في نفس الغلام، وكانت سببًا في أن مالت كِفَّة قناعته وعاطفته نحو الراهب، بينما ابتعدت عن الساحر.


المسألة السادسة: سعى الراهب لأن يكون الأمر الذي بينه وبين الغلام سرًّا ويبقى كذلك، ولكن الله جل جلاله يأبى إلا إظهار الحق وانتصاره على الباطل، فجعل الله جل جلاله تلك الدابة التي حبست الناس في طريق الغلام، وألهمه أن يفكر في أن يقتلها بطريقة يعرف فيها على وجه اليقين أيهما على الحق؛ الراهب أم الكاهن؟ وتحقق للغلام ما أراد، وعرف بتوفيق من الله جل جلاله أن الحق مع الراهب.


المسألة السابعة: لما قتل الغلام الدابة، وأصبح يُبرئ الأكمه والأبرص، علَّم الراهب أن الغلام صار من أهل الكرامات، وأن هذه الأمور لا تجري إلا على يد أولياء الله جل جلاله، وأن أولياء الله جل جلاله من أشد الناس ابتلاءً بعد الأنبياء؛ لذلك فقد أخبره بأنه سيُبتلى على يد هؤلاء الطغاة، وهي سُنة من السنن التي جعلها الخالق جل جلاله لعباده، ولأجل القضية نفسها كان ورقة بن نوفل رضي الله عنه قد أبلغ النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن قومه سيعادونه ويُخرجونه، فقد سأل ورقة بن نوفل رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم:
- ((يا بن أخي، ماذا ترى؟


فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة رضي الله عنه:
- هذا الناموس الذي نزل الله على موسى عليه السلام، يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- أوَ مخرجيَّ هم؟ قال ورقة رضي الله عنه:
- نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ، وإن يدركني يومُك، أنصرك نصرًا مؤزرًا))[6]، فطريق الأولياء هو طريق الأنبياء عليهم السلام، ولكن الراهب يعلم أن الله جل جلاله يدافع عن أوليائه، ولن يتركهم لقمة سائغة بيد الظالمين؛ فقد قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62].


المسألة الثامنة: ومثلما قدر الله جل جلاله هداية الغلام، فقد قدر الله جل جلاله أن تنتقل أحداث القصة إلى عقر دار الملك وفي ديوانه، فبعدما عرف الناس أن الغلام يشفي بعض الأمراض صاروا يرجعون إليه، وممن راجعه جليس للملك كان قد فقد بصره، فاشترط الغلام عليه أن يؤمن بالله الواحد الأحد جل جلاله ليرُد له بصره، وبيَّن له أن الذي يرد البصر، ويشفي من سائر الأمراض هو الله جل جلاله الواحد الأحد، وما الغلام إلا سبب في ذلك، فقد قال له الغلام: (إني لا أشفي أحدًا إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله، دعوت الله فشفاك)، وهذا هو حال المؤمنين الصادقين ينسُبون الفضل لأهله، ويخافون أشد الخوف من أن يقعوا في الشرك أو الرياء، وهو من صميم الاعتقاد السليم، فاستطاع الغلام أن يرد له بصره بإذن الله جل جلاله، فلما عاد جليس الملك ليجلس حيث كان سابقًا تعجب الملك، وسأله فتكلم له بالأمر، فبدأت قصة الحرب الدائمة بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، وبدأت عملية التعذيب حتى استطاع رجال الملك نَزْعَ الاعتراف من جليس الملك بشأن الغلام، ثم قتلوه شرَّ قتلة بأنهم شقُّوه بالمنشار إلى نصفين، وهكذا هم الظالمون عندما تسنح لهم الفرصة بأن ينالوا من المؤمنين الموحِّدين، فإنهم يبتكرون أشدَّ وأقسى، وأحيانًا أقذر الوسائل، ويعبرون على أرض الواقع عما تكتنزه صدورهم من الغل والحقد، والخِسة والكراهية، فيترجمون عن ذلك أعمالًا، فلما أمسكوا بالغلام اضطر تحت التعذيب الشديد إلى أن يعترف ويكشف لهم عن أمر الراهب الموحِّد، ففعلوا بالراهب كما فعلوا بجليس الملك.


المسألة التاسعة: ثم يقرر الملك الظالم قتل الغلام بطريقة مختلفة عن صاحبيه، ولم يُعرف لذلك سببٌ، إلا أنها مشيئة الله جل جلاله ومكره بالظالمين، فدفع الملك الغلام لجنوده وأمرهم أن يأخذوه إلى قمة جبل، فيرموه منها ليتردَّى منها ثم يموت، فيدعو الغلام المؤمن دعاءً واحدًا لا يتجاوزه؛ حيث يقول: (اللهم اكفِنيهم بما شئت)، والله جل جلاله هو الكافي، ويستجيب الله جل جلاله للغلام، ويرجُف الجبل بهم فيتردَّون هم ويهلِكون، وينجو الغلام، وكان من الطبيعي أن يهرب الغلام إلى جهة مجهولة بعد أن أنجاه الله جل جلاله، ولكن يبدو أن هذا الغلام مأمورٌ، ويعرف وجهته، فيرجع إلى الملك لتمضي إرادة الله جل جلاله، ويُمسك الملك به ويدفعه مرة أخرى إلى رجال آخرين من جنوده، ويأمرهم بخطة جديدة بأن يضعوه في سفينة ويرموه في البحر، فلما ذهبوا به وتوسطوا البحر، وهمُّوا أن يقذفوه في البحر، لم يزِد الغلام على قوله (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فهاج بهم البحر، وانقلبت السفينة فغرقوا هم، ونجا هو، ثم عاد إلى الملك، فعجز الملك عن قتل الغلام بمشيئة الله جل جلاله.


المسألة العاشرة: قدَّم الغلام مقترحًا للملك ليستطيع أن يقتله، والمقترح مرَّ علينا في متن القصة، ولكننا نناقش العِبرة منه، لقد قدم الغلام نفسه رخيصة في سبيل الله جل جلاله، فالغلام لديه إيمان بقضيته، ويعلم أن رسالته أن يهتدي الناس ويؤمنوا بالله الواحد الأحد، فإذا تحققت هذه الغاية وهذا الهدف، فما أرخص الروح من أجل ذلك! فكان ثمن حياة الغلام سببًا في هداية الناس، هذا الأمر أغضب الملك بعدما قيل له: (أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس)، فإن مكر الله جل جلاله قد غلب مكر الملك الظالم ومن معه، وجاءته الأمور من حيث لم يحتسب، واستشاط الملك فصار يقتل الناس برميِهم في أخاديد النار؛ ليمنع انتشار الثورة الإيمانية، ولكن هيهات؛ فعندما يلامس الإيمان شَغاف القلوب فلا سبيل إليها، وكان كلما زاد الضغط زاد إيمان الناس، وأروع مَثَلٍ جاء في خاتمة القصة لتلك المرأة المؤمنة التي جاءت لتقتحم في النار، ترددت من أجل طفلها الرضيع الذي أنطقه الله جل جلاله بقوله لأمِّه: (يا أُمَّهْ اصبري؛ فإنكِ على الحق).


المسألة الحادية عشرة: إن الانتصار لا يعني أبدًا الانتصار المادي أو العسكري فحسب، بل انتصار الإيمان هو الأول، لأن الخسائر المادية يمكن أن تعوَّض، ولكن خسائر القلوب لا تعوض.


المسألة الثانية عشرة: إن الله جل جلاله هو الضار وهو النافع، ولا يستطيع مخلوق في هذه الدنيا من أهل السماوات أو من أهل الأرض أن يضر أحدًا إلا أن يشاء الله جل جلاله، وما نراه مما يلحق بالناس من الضر أو الأذى بعضهم من بعض، فإنما هو بتقدير الله جل جلاله ومشيئته؛ لذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم ابن عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنه وهي رسالة لكل مسلم؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا غلامُ، إني معلمك كلماتٍ؛ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فلتسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف))[7].

[1] المئشار هو المنشار.

[2] جاء في النهاية في غريب الحديث والأثر 4/ 74: (قُرْقُور هو السفينة العظيمة، وجَمْعُها: قَراقِير).

[3] صحيح مسلم 7703.

[4] مسند أحمد بن حنبل 23489.

[5] صحيح البخاري 6447.

[6] صحيح البخاري 3.

[7] مسند أحمد بن حنبل 2669.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 90.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 88.96 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (1.85%)]