
01-03-2022, 09:44 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة :
|
|
رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله

تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سورة البقرة
المجلد الثانى
صـ 306 الى صـ 310
الحلقة (60)
القول في تأويل قوله تعالى :
[147 ] الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
"الحق من ربك" أي الحق من الله ، لا من غيره . يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله ، كالذي أنت عليه . وما لم يثبت أنه من الله ، كالذي عليه أهل الكتاب ، فهو الباطل . أي : [ ص: 306 ] هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك . وقرأ علي رضي الله عنه "الحق" ، بالنصب على الإبدال من الأول ، كما في الكشاف . أو المفعولية لـ "يعلمون" . كما قاله أبو البقاء. "فلا تكونن من الممترين" الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم ، أو في الحق الذي جاءك من ربك ، وهو ما أنت عليه . ومعلوم أن الشك غير متوقع منه . ففيه تعريض للأمة . وقال الراغب : ليس هذا بنهي عن الشك لأنه لا يكون بقصد من الشاك ، بل هو حث على اكتساب المعارف المزيلة للشك واستعمالها . وعلى ذلك قوله إني أعظك أن تكون من الجاهلين
القول في تأويل قوله تعالى :
[148 ] ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير
"ولكل وجهة" أي لكل أمة ، أو لكل نبي قبلة أو شرعة ومنهاج "هو موليها" وجهه . أي مائل إليها بوجهه ، تابع لها . لأنها حببت إليه ، وزينت له . وقال أبو معاذ : موليها بمعنى متوليها . أي تولاها ورضيها واتبعها "فاستبقوا الخيرات" أي ابتدروها بالمسابقة إليها . وهذا أبلغ من الأمر بالمسارعة ، لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق ، والمراد بالخيرات جميع أنواعها مما ينال به سعادة الدارين : أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا قال الراغب : أي أي شغل تحريتم ، وحيثما تصرفتم ، وأي معبود اتخذتم ، فإنكم مجموعون ومحاسبون عليها : إن الله على كل شيء قدير تعليل لما قبله . أي هو قادر على جمعكم من الأرض ، وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم .
(تنبيه) تشير الآية إلى أن الناس على مذاهب عديدة وأديان متنوعة . وأن على العاقل أن يستبق إلى ما كان خيرها وأرقاها . وقد اتفق العقلاء قاطبة والفلاسفة أن دين الإسلام أرقى الأديان كلها لما حوى من حاجيات الكمال البشري ، ووفى بشؤون الاجتماع ، وأسباب [ ص: 307 ] العمران ، وذرائع الرقي وطرق السعادتين . وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه وقوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون
ثم إنه تعالى أكد حكم التحويل وبين عدم تفاوت أمر الاستقبال في حالتي السفر والحضر بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
[149 ] ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون
"ومن حيث خرجت" أي : ومن أي بلد خرجت للسفر "فول وجهك شطر المسجد الحرام" إذا صليت "وإنه" أي هذا الأمر "للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون" قرئ بالياء فهو وعيد للكافرين ، وبالتاء فهو وعد للمؤمنين . ولما عظم في شأن القبلة انتشار أقوال السفهاء وتنوع شغبهم وجدالهم ، كان الحال مقتضيا لمزيد تأكيد لأمرها، تعظيما لشأنها وتوهية لشبههم ، فقال تعالى :
[ ص: 308 ] القول في تأويل قوله تعالى :
[150 ] ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وقوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة أي لئلا يحتج عليكم أحد في التولي إلى غيره ، ولتنتفي مجادلتهم لكم ، كقول اليهود مثلا : يجحد ديننا ويتبع قبلتنا ! وقول غيرهم : يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته ! فإذا صليتم إليه لا تكون لهم عليكم حجة .
قال الراغب : وأشار بقوله وإنه للحق من ربك إلى تحقيق ما قدمه ، فبين أنه إذا كانت الحكمة تقتضي أن يكون لكل صاحب شرع قبلة يختص بها ، وأنت صاحب شرع ، فتغيير القبلة لك حق من ربك . (ثم قال) : إن قيل : لم كرر قوله : وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ؟ قيل : حث بإحداهما على التوجه نحو القبلة بالقلب والبدن في أي مكان حصل للإنسان ، نائيا كان عنها أو دانيا منها . وذلك مآل الاختيار والتمكن ، وحث بالآخر على التمكن بالقلب وحده عند اشتباه القبلة ، وفي النافلة في حال اليسر على الراحلة والسفر. إلا الذين ظلموا منهم فإنهم يظهرون فجورا ولددا في ذلك ، بالعناد . وهم : إما اليهود المعبر عنهم بأهل الكتاب قبل ، أو المنافقون أو المشركون كما حكى قبل في "السفهاء" ، وكان من قول اليهود ، فيما حكاه قتادة : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه . ومن قول المشركين ، فيما حكاه مجاهد : قد رجع إلى قبلتكم فيوشك [ ص: 309 ] أن يرجع إلى دينكم. وتقدم قول المنافقين . وبالجملة فالكل عابوا وخاضوا فلا تخشوهم تخافوا جدالهم واخشوني فلا تخالفوا أمري ولأتم نعمتي عليكم بالتوجه إلى أكمل الجهات المتضمنة للآيات البينات والأمن "ولعلكم تهتدون" للصراط المستقيم بالتوجه إليها ، فتهتدون بهذه القبلة هداية كاملة .
قال الحرالي : وفي طيه بشرى بفتح مكة ، واستيلائه على جزيرة العرب كلها ، وتمكينه بذلك من سائر أهل الأرض ، لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها ، التي انتهى إليها ملك أمته .
القول في تأويل قوله تعالى :
[151 ] كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون
"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم" وقوله تعالى "فيكم" المراد به العرب . وكذلك قوله "منكم" .
وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف . ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير . فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب "يتلو عليكم آياتنا" يقرأ عليكم القرآن الذي هو من أعظم النعم . لأنه معجزة باقية . ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات ويستفاد منه جميع العلوم ، ومجامع الأخلاق الحميدة ، فتحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة "ويزكيكم" أي يطهركم من الشرك وأفعال الجاهلية وسفاسف الأخلاق "ويعلمكم الكتاب" وهو القرآن . وهذا ليس بتكرار . لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم "والحكمة" وهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها . ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة هي [ ص: 310 ] سنة الرسول . وقوله : ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون تنبيه على أنه تعالى أرسل رسوله على حين فترة من الرسل ، وجهالة من الأمم ، فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم ، فبعث الله تعالى النبي بالحق . حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم ، فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة ، وذلك من أعظم أنواع النعم . قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم الآية ، وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار قال ابن عباس يعني ، بنعمة الله ، محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره . وقال :
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|