ظاهرة الحذف.. بين النحو والبلاغة
ظاهرة الحذف.. بين النحو والبلاغة (1)
سليمان أبو عيسى
الحذف ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية، لكنها في اللغة العربية أكثر ثباتًا ووضوحًا؛ لأن اللغة العربية من خصائصها الأصيلة الميل إلى الإيجاز والاختصار، والحذف يعد أحد نوعي الإيجاز وهما: القصر والحذف، وقد نفرت العرب مما هو ثقيل في لسانها، ومالت إلى ما هو خفيف.
تعريف الحذف:
الحذف في اللغة: القطع والإسقاط؛ جاء في الصحاح: "حَذْفُ الشيءِ: إسقاطُه. يقال: حَذَفْتُ من شَعْري ومن ذَنَبِ الدابَة، أي أخذت... وحَذَفْتُ رأسَه بالسيف، إذا ضربته فقطعتَ منه قطعةً"[1]. وفي لسان العرب: "حذَفَ الشيءَ يَحْذِفُه حَذْفاً قَطَعَه من طَرَفه والحَجَّامُ يَحْذِفُ الشعْر من ذلك... والحَذْفُ الرَّمْيُ عن جانِبٍ والضرْبُ"[2].
لقد عني القدماء - من نحاة وبلاغيين - بدراسة هذه الظاهرة، لكن بعضهم خلط بين الحذف والإضمار؛ ولذلك قال أبو حيان[3]: "وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذفُ إضماراً"[4].
وقال الشهاب الخفاجي[5] في حاشيته على تفسير البيضاوي[6]: "وقد يستعمل كلٌّ منهما بمعنى الآخر كما يعلم بالاستقراء".
لكن بعضهم تنبه إلى ضرورة التفريق بين الحذف والإضمار؛ ومن ذلك الفارسي حيث يقول: "وقد يحذف حرفُ الجر، فيصل الفعلُ إلى الاسم المحلوف به وذلك نحو: اللهَ لأفعلنَّ، وربما أُضمِر حرفُ الجر، فقيل: اللهِ لأفعلنَّ".
بل ونجد ابن مضاء القرطبي[7] ينتقد هذا الخلط بين المصطلحين واستعمالهما بمعنى واحد، ويفرق بينهما قائلاً: "الفاعل يضمر ولا يحذف"[8]، وذلك حيثما أمكن تقديره بضمير مستتر فهم يقصدون بالمضمر ما لا بد منه، وبالمحذوف ما يمكن الاستغناء عنه.
ويذكر البلاغيون ضرورة تقدير المحذوف؛ حتى لا يُحمل الكلام على ظاهره، وحتى يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره ولزوم الحكم بالحذف راجع إلى الكلام نفسه، لا إلى غرض المتكلم[9].
قال عبدالقاهر الجرجاني[10]: "هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، عجيب الأمر شبيه بالسحر؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن"[11].
أسباب الحذف:
هي أسباب حاول بها النُّحاة تفسير الظاهرة في مواضعها وأنواعها المختلفة، وبعض هذه الأسباب قد لا يطَّرد في كل موضع، وبعضها يعلل الحذف لأكثر من سبب، ومواضع أخرى لا يُعَلَّلُ الحذف إلا بسببٍ واحد، ومن أسباب الحذف:
1- كثرة الاستعمال:
هذا التعليل كثير عند النحاة، وهو أكثر الأسباب التي يفسرون بها الظاهرة، ومن أمثلة ذلك: حذف خبر لا النافية للجنس كثيرًا مثل: لا إله إلا الله، لا ريب، لا شك، لا مفر، لاسيما. ومثل الأقوال التي كثر استعمالها؛ كقولنا: الجار قبل الدار. أي: تخير الجار قبل الدار. وقولنا: بسم الله. أي: بدأت بسم الله.
2- طول الكلام:
وذلك عندما تطول التراكيب؛ فيقع الحذف تخفيفًا من الثقل؛ كجملة الصلة التي طالت، وأسلوب الشرط، وأسلوب القسم؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45]، فالجواب لم يُذكر، وتقديره: "أعرضوا"؛ بدليل سياق الآية التالية لها.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]، التقدير: لكان هذا القرآن.
3- الضرورة الشعرية: ومن أهم الضرائر الشعرية القائمة على الحذف:
أ- حذف حرف متحرك أو أكثر من آخر الكلمة:
مثل قول لبيد: دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا
الأصل: المَنَازل.
ب- حذف نون المثنى وجمع المذكر السالم؛ ومن ذلك قول امرئ القيس:
لها مَتْنَتَانِ خَظَاتا كَمَا أَكَبَّ عَلَى ساعِدَيْهِ النَّمِرْ
الأصل: خَظَاتان.
ج- حذف النون الساكنة أو التنوين من آخر الكلمة؛ ومن ذلك قول العباس بن مرداس السلمي:
فما كان حِصْنٌ ولا حَابِسٌ يَفُوقانِ مِرْدَاسَ في مَجْمَعِ
الأصل: مرداسًا.
د- حذف حرف المد أو ما يشبهه من آخر الكلمة؛ ومن ذلك قول الأعشى:
وأَخُو الغَوَانِ متى يَشأْ يَصْرِمْنَهُ ويَعُدْنَ أَعْداءً بُعَيْدَ ودادِ
الأصل: الغَوَانِي.
هـ- حذف إشباع الحركة أو حذف الحركة؛ ومن ذلك قول مالك بن خريم الهمداني:
فإِنْ يَكُ غَثَّاً أَوْ سَميناً فإنني سأَجْعَلُ عِينيهِ لِنَفْسِهِ مَقْنَعَا
الأصل إشباع الهاء في كلمة نفسه.
و- حذف حرف أو حركة من داخل الكلمة؛ ومن ذلك قول ابنُ الزِّبَعرَى:
حينَ ألْقَتْ بقُباءٍ بَرْكَها واسْتَحَرَّ القَتْلُ في عَبدِ الأشَلْ
يريد: عبد الأشهل.
ز- الاجتزاء؛ وهو حذف معظم الكلمة؛ ومن ذلك قول حكيم بن معية التميمي:
بالخَيْرِ خَيْراتٍ وإِنْ شَرًّا فَ ولا أُرِيدُ الشرَّ إِلا أَنْ تَ
أي: إن شرًّا فَشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
ح- حذف حرف من أحرف المعاني؛ ومن ذلك قول حسّان بن ثابت:
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ اللهُ يشكرُها والشَّرُّ بالشرِّ عندَ الله مِثْلانِ
أي فالله يشكرها، حذفت الفاء الواجب اقترانها بجواب الشرط؛ حيث إن جواب الشرط جملة اسمية.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 18-12-2022 الساعة 04:42 PM.
|