|
الملتقى العام ملتقى عام يهتم بكافة المواضيع |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() انفتح باب البيت وتقدم الطفل خطوات نحوه وصاح يناديه بصوت غير مفهوم فأسرع إليه وتناول من يده قطعة الخبز والجبن وأشار إليه أن يعود بسرعة مخافة أن تصيبه رصاصة طائشة.
إنه حامد جمعة الذي لم يجد عملا بعد تسريحه من الجيش عقب عودته من حرب الخليج, فسافر إلى ألمانيا حيث سبقه أخوه الأكبر منذ ست سنوات.. كثيرا ما كان يرسل إليه أن تعال لكنه كان يرفض فقد كان يرى أن بلده أحق بجهده.. لكنه الآن قد تخلى عن فكرته العتيقة تلك وسافر فالبلد لم تعد فيه فرصة عمل واحدة. بصعوبة بالغة استطاع أخوه إقناع صاحب المطعم الذي يعمل عنده أن يلحق أخاه معه بنفس العمل.. كان الأجر زهيدا والسبب كما قال صاحب المطعم أنه لم يكن يحتاجه أصلا.. لم يكن أمامه إلا أن يقبل رغم كثرة ساعات العمل وقسوته وزهادة أجره فهذا أو التسول والبطالة. مرت عليه أشهر ملؤها الضيق والملل.. فالعادات والأخلاق تختلف كثيرا عما ألفه في قريته التي قدم منها في أعماق صعيد مصر. ********** عاد الطفل إلى أمه فرحا بأنه قد أدى مهمته التي أعتاد على القيام بها مرتين يوميا منذ أن حضر هذا الشاب العربي إلى شارعهم بمدينة سراييفو منذ قرابة أسبوع, احتضنته أمه وأغلقت الباب وصعدت وهي تحمله إلى الطابق الثاني حيث يقع مسكنها, كان هذا الطفل الذي لم يتجاوز عامه الرابع إلا بشهرين هو كل ما تبقى لها بعد أن مات زوجها قبل عدة أسابيع محترقا داخل متجره الذي تعرضّ لقصف عنيف ضمن بقية متاجر سوق البلدة. *********** أحس براحة بالغة عندما وطئت قدماه للمرة الأولى أحد المراكز الإسلامية المنتشرة في ألمانيا, بسرعة تآلف مع رواد هذا المركز كان غالبيتهم من العرب وجنسيات أخرى أحبهم جميعا وكذلك أحبوه.. في الأشهر الأخيرة كان الحزن يخيم على كل من كان بالمركز فقد بدأ عدوان الصرب الوحشي على مسلمي البوسنة والهرسك, كثيرا ما اجتمعوا في حلقات تلاوة القرآن الكريم يرفعون بعدها أيديهم في دعاء طويل خاشع أن يرفع الله هذا البلاء عن إخوانهم.. كان يؤكد للجميع أن المجتمع الدولي لن يسكت على هذا العدوان فلقد شارك بنفسه في حرب اجتمعت فيها ثلاثون دولة ضد العراق عندما احتلت الكويت.. (لابد وأن دول العالم ستفعل نفس الشيء ضد الصرب).. هكذا قال لهم. *********** كان القصف شديدا في هذه الليلة لم تستطع (ياسمينا) أن تخفي قلقها على صغيرها الذي اصطحبته إلى الدور الأرضي حسب التعليمات التي أصدرها (حامد) لسكان الشارع كلهم أن يتواجدوا في الأدوار السفلى أثناء تعرض الحي لقصف المدفعية.. *********** قبل أن يغادر المطعم في تلك الليلة كان قد التقط اسم بطرس غالي يتردد على لسان ابن صاحب المطعم وهو يتحدث مع والده – وهو بالطبع يعرف صاحب هذا الاسم -.. بعد أن أنهى فترة عمله عاد إلى المركز الإسلامي وجلس إلى الشيخ عامر الجزائري أمام المركز وطلب منه أن يحدثه عن دور بطرس غالي فيما يحدث في البوسنة.. أنصت إليه وهو لا يكاد يصدق ما يقوله, لم ينصرف ليلتها إلى مسكنه, بل ظل في المركز يطالع في مكتبته كل ما كتبته صحف الأسابيع السابقة عن القتال الدائر هناك.. هاله حجم المأساة.. والقتل والتعذيب والاعتقال والتشريد والخراب والدمار والطرد والتهجير.. توقف قليلا أمام مآسي اغتصاب المسلمات.. مزقته كلمة نشرتها إحدى الصحف عن فتاة تناوب اغتصابها عدد من جنود الصرب قالت: ظننت ساعتها أن كل رجال المسلمين قد قتلوا أو ماتوا.. نعم ماتوا.. فكيف يفعل بنا هذا وهم أحياء؟؟!!, فكل الصفحة وظل يبكي بحرقة حتى الصباح.. *********** أخيرا توقف القصف المدفعي الذي لم ينقطع منذ أيام ثلاثة.. شكرت جارتها التي استضافتها بمسكنها بالدور الأرضي طيلة هذه الأيام, واصطحبت صغيرها وصعدت إلى الدور الثاني أدارت مؤشر المذياع إلى عدة مجطات فجاءتها الأخبار المعتادة.. مجلس الأمن يرفض التدخل عسكريا لوقف المأساة.. مجلس الأمن يعلن وقف قافلات الإغاثة بعد تعرضها لهجمات الصرب.. ابتسمت في مرارة.. تريد أن تسمع شيئا عن شعوب وحكام بلاد المسلمين.. ألقت المذياع جانبا.. نامت والدموع في عينيها.. *********** صافح إخوانه بالمركز الإسلامي, وشد على يد الشيخ عامر وعانقه مودعا.. فلقد قرر.. وهو ذاهب لتنفيذ قراره.. كانت رحلة طويلة قطع بعضها بالطائرة وبعضها بالسيارة وبعضها سائرا على قدميه لمسافات طويلة.. كان من الممكن أن تكون رجلة ممتعة فالبلاد جميلة والحدائق والجبال والحقول تكاد تسحر العقول.. لكن المأساة محفورة في هذه الربوع.. وحجم المؤامرة التي تحاك ضد إخوانه الذين أتى لنصرتهم في البوسنة كل هذا جعله لا يفرح بما حوله.. مؤامرة في البوسنة.. وأخرى في الجزائر.. وثالثة في الهند.. مؤامرة في كل مكان.. كلنا ندور في رحى المؤامرة.. حانت منه التفاتة إلى حديقة جميلة.. استنشق شذى عبير طيب يفوح منها.. رفع يديه للسماء قائلا: اللهم إني أسألك الجنة. *********** وقفت تصلي في خشوع.. لقد تعلمت الصلاة حديثا في دروس ألقاها الشاب العربي حامد عقب حضوره إلى مدينتها سراييفو.. فمنذ حضوره وهو حريص على الالتقاء بأهل الحي كلهم في المسجد كلما سنحت الفرصة لعقد لقاء.. لقد تأثرت كثيرا كما تأثر أهل الحي كلهم بحديثه عن الإيمان والطاعة وعن الصلة بالله والتعلق به وحده وحٌسن التوكل عليه.. حدّثهم أيضا عن الصبر والثبات وعن الشهادة.. كم كان متأثرا وهو يتحدث عن الشهادة حتى بكى وأبكاهم.. بعد أن فرغت من صلاتها أتى طفلها وجلس أمامها في براءة عجيبة.. قرأت في عينييه ملامح حزن عميق.. كم كانت تود لو استطاعت محو هذا الحزن لكن كيف تمحوه وهو يعيش في قلب المأساة منذ عدة أشهر غاب فيها والده ولن يعود وصار مستقبلها ومستقبله مهددا كل لحظة.. ثار التساؤل للمرة الألف في ذهنها: (أين المسلمون؟, أين حكامهم؟, أين سلاحهم؟, أين جيوشهم؟, لماذا تركونا لقمة سائغة في فم الصرب الكلاب؟!!). *********** بمجرد وصوله انضم إلى معسكر المجاهدين في قرية بجوار العاصمة سراييفو.. لم يكن في حاجة إلى أي تدريب فقد تدرب في الجيش المصري. تم إرساله إلى العاصمة لحماية شارع من أهم شوارعها والذي يستهدفه الصرب بهجماتهم لوقوعه في طرف المدينة. لم يكن معه سوى رجلين من أهل الشارع نفسه وكانوا مسلحين بثلاث بنادق فقط.. طالب مرارا بأسلحة ثقيلة.. ابتسم قائده في مرارة وهو يقول: لا يوجد.. لقد صدر قرار من الأمم المتحدة بمنع وصول أية أسلحة ثقيلة إلينا.. وهي متوفرة لدى الصرب كما ترى.. تذكر كلمات الشيخ عامر الجزائري: (نحن جميعا ضحية لمؤامرة). في الأيام الأخيرة اشتدت هجمات الصرب.. تقدمت قوات المشاة عدة مرات تحاول اقتحام الشارع المكلف هو بحمايته.. قاتلهم بعنف وشراسة.. كان هو وصاحباه يتنقلون بسرعة بين عدة مواقع أعدوها للدفاع لصد الهجمات من ورائها.. استطاعوا إحباط أكثر من عشر محاولات للاختراق. في المرة الأخيرة استشهد أحد صاحبيه وجرح الآخر جروحا خطيرة استدعت نقله إلى المستشفى.. لكن الهجوم فشل بحمد الله وانسحب الصرب.. وأعطوا لقيادتهم تقريرا يفيد وجود ما لا يقل عن ثلاثين رجلا يدافعون عن الشارع.. طالبوا بضرورة قصفه بضراوة للقضاء على مواقعه الدفاعية الحصينة.. ************ قبل أن تدير صوت المذياع سمعت أصوات انفجارات مدوية.. هرعت إلى ولدها فاحتضنته وهرولت إلى الطابق الأرضي عند جارتها.. أحست أن القصف هذه المرة أعنف ما يكون.. ولم تفلح جارتها في تهدئتها.. سارعت إلى النافذة.. حاولت أن تمنعها لكنها لم ترجع.. أطلت برأسها وراحت بعينيين خائفتين تمسح الشارع بحثا عنه.. وجدته في الطرف البعيد وقد جثا على ركبتيه رافعا يديه إلى السماء وقد علق مدفعه الرشاش على كتفه.. لم يكن مدفعه يجدي شيئا وسط سيل القنابل الآتية من فوق الجبال المحيطة بمدينتهم.. رفعت هي أيضا يديها إلى السماء.. دوى انفجار عنيف فتحطم زجاج النافذة وجرح وجهها ويدها.. لم تشعر بالدماء تسيل منها.. عاودت النظر حيث كان يقف.. لم تجده.. كان الدخان كثيفا.. صرخت صرخة مكتومة جذبتها جارتها بعنف وأغلقت النافذة.. دخلت وهي تبكي.. وجدت صغيرها يبكي.. راح الثلاثة في بكاء مرير.. تعلو شهقاته مع دوي الانفجارات التي لا ترحم. ************ كان يهذي بكلمات غير مفهومة عن الشارع وعن النساء والصرب والأعراض والاغتصاب والمؤامرة.. إنه لا يزال تحت تأثير البنج.. عندما أفاق وجد ضمادة تلف وجهه وعينييه صارحه الأطباء بأنه قد فقد بصره وقطعت إحدى يديه.. أخبروه أنه قد نجا من الموت بأعجوبة بعد أن نزف ثمان ساعات عرف أنهم تابعون لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام.. طلب مقابلة أي قائد عسكري منهم سأله الطبيب: لماذا؟, أجابه: سأسأله لماذا لا يدافعون عن البوسنة؟, ضحك الطبيب في سخرية ثم قال: وهل دافعت عنها جيوشكم أنتم أيها المسلمون؟!, آلمته الكلمة طلب من الطبيب إعادته إلى سراييفو حتى يموت هناك مدافعا عن أهلها.. أخبره الطبيب أن الأمم المتحدة قد اتصلت بمصر وأنه سيتم ترحيله إلى بلده.. حاول مرارا إقناع كل من يقابله أن يتركوه يعود إلى سراييفو لكنهم رفضوا.. ************ |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |