تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله - الصفحة 61 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كم حج النبي صلى الله عليه وسلم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          حديث في فضائل العشر من ذى الحجة لا أصل له (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          مقاصد سورة الحج. (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أفضل الأعمال في العشر من ذي الحجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          ليس من السنة ، ولا من هدي السلف ، تكرار العمرة في سفرة واحدة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          مصيبة برنامج ..انستقرام وغيره التى أفسدت الكبار والصغار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 309 - عددالزوار : 42424 )           »          ما هو حمض الديويك؟ السر وراء مكافحة البقع الداكنة وحب الشباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          وصفات طبيعية للعناية بالبشرة فى الخريف.. من زيت الأرجان للافندر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          لو طفلك رافض الذهاب للمدرسة.. إزاى تساعديه لتجاوز مخاوفه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-09-2020, 06:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (602)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (1)الى (16)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم
{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } 1 { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } 2 { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } 3 { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } 4 { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } 5 { بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } 6 { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }7


يقسم تعالى بالقلم، وهو اسم جنس شامل للأقلام، التي تكتب بها [أنواع] العلوم، ويسطر بها المنثور والمنظوم، وذلك أن القلم وما يسطرون به من أنواع الكلام، من آيات الله العظيمة، التي تستحق أن يقسم الله بها، على براءة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون، فنفى عنه الجنون، بنعمة ربه عليه وإحسانه، حيث منَّ عليه بالعقل الكامل، والرأي الجزل، والكلام الفصل، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام، وسطره الأنام، وهذا هو السعادة في الدنيا، ثم ذكر سعادته في الآخرة، فقال: { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً } أي: عظيماً، كما يفيده التنكير، { غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي: [غير] مقطوع، بل هو دائم مستمر، وذلك لما أسلفه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكاملة، ولهذا قال: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي: عالياً به، مستعلياً بخلقك الذي منَّ الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين [عائشة - رضي الله عنها -] لمن سألها عنه، فقالت: " كان خلقه القرآن " ، وذلك نحو قوله تعالى له:{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199]{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [الآية] [آل عمران: 159]،{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128] وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، و[الآيات] الحاثَّات على الخلق العظيم، فكان له منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً، قريباً من الناس، مجيباً لدعوة من دعاه، قاضياً لحاجة من استقضاه، جابراً لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائباً، وإذا أراد أصحابه منه أمراً وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليساً له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بِشْرَهُ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم. فلما أنزله الله في أعلى المنازل من جميع الوجوه، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون، قال: { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ ٱلْمَفْتُونُ } وقد تبين أنه أهدى الناس، وأكملهم لنفسه ولغيره، وأن أعداءه أضل الناس، [وشر الناس] للناس، وأنهم هم الذين فتنوا عباد الله، وأضلوهم عن سبيله، وكفى بعلم الله بذلك، فإنه هو المحاسب المجازي. و { هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } وهذا فيه تهديد للضالين، ووعد للمهتدين، وبيان لحكمة الله، حيث كان يهدي من يصلح للهداية، دون غيره.

{ فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } 8 { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } 9 { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } 10 { هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } 11 { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } 12 { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } 13 { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } 14 { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } 15 { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ }16


يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْمُكَذِّبِينَ } الذين كذبوك وعاندوا الحق، فإنهم ليسوا أهلاً لأن يطاعوا، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلا الباطل، فالمطيع لهم مُقْدِمٌ على ما يضره، وهذا عام في كل مكذب، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب، وإن كان السياق في شيء خاص، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم، ويسكتوا عنه، ولهذا قال: { وَدُّواْ } أي: المشركون { لَوْ تُدْهِنُ } أي: توافقهم على بعض ما هم عليه، إما بالقول أو الفعل أو بالسكوت عما يتعين الكلام فيه، { فَيُدْهِنُونَ } ولكن اصدع بأمر الله، وأظهر دين الإسلام، فإن تمام إظهاره بنقض ما يضاده، وعيب ما يناقضه، { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ } أي: كثير الحلف، فإنه لا يكون كذلك إلا وهو كذاب، ولا يكون كذاباً إلا وهو { مَّهِينٍ } أي: خسيس النفس، ناقص الهمة، ليس له همةٌ في الخير، بل إرادته في شهوات نفسه الخسيسة. { هَمَّازٍ } أي: كثير العيب [للناس] والطعن فيهم، بالغيبة والاستهزاء، وغير ذلك. { مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهي: نقل كلام بعض الناس لبعض، لقصد الإفساد بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء، { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزكوات وغير ذلك، { مُعْتَدٍ } على الخلق في ظلمهم، في الدماء والأموال والأعراض { أَثِيمٍ } أي: كثير الإثم والذنوب المتعلقة في حق الله تعالى { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ } أي: غليظ شرس الخلق قاس غير منقاد للحق { زَنِيمٍ } أي: دَعِيٍّ، ليس له أصل و [لا] مادة ينتج منها الخير، بل أخلاقه أقبح الأخلاق، ولا يرجى منه فلاح، له زنمة أي: علامة في الشر يعرف بها. وحاصل هذا، أن الله تعالى نهى عن طاعة كل حلاف كذاب، خسيس النفس، سيئ الأخلاق، خصوصاً الأخلاق المتضمنة للإعجاب بالنفس، والتكبر على الحق وعلى الخلق، والاحتقار للناس، كالغيبة والنميمة، والطعن فيهم، وكثرة المعاصي. وهذه الآيات - وإن كانت نزلت في بعض المشركين، كالوليد بن المغيرة أو غيره، لقوله عنه: { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: لأجل كثرة ماله وولده، طغى واستكبر عن الحق، ودفعه حين جاءه، وجعله من جملة أساطير الأولين، التي يمكن صدقها وكذبها- فإنها عامة في كل من اتصف بهذا الوصف، لأن القرآن نزل لهداية الخلق كلهم، ويدخل فيه أول الأمة وآخرهم، وربما نزل بعض الآيات في سبب أو في شخص من الأشخاص، لتتضح به القاعدة العامة، ويعرف به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامة. ثم توعد تعالى من جرى منه ما وصف الله، بأن الله سيسمه على خرطومه في العذاب، وليعذبه عذاباً ظاهراً، يكون عليه سمة وعلامة، في أشق الأشياء عليه، وهو وجهه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 02-09-2020, 06:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (603)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (17)الى (41)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } 17 { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } 18 { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } 19 { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } 20 { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } 21 { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } 22 { فَٱنطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } 23 { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } 24 { وَغَدَوْاْ عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } 25 { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوۤاْ إِنَّا لَضَآلُّونَ } 26 { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } 27 { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } 28 { قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } 29 { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } 30 { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } 31 { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } 32 { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }33


{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } إلى آخر القصة يقول تعال: إنا بلونا هؤلاء المكذبين بالخير وأمهلناهم، وأمددناهم بما شئنا من مال وولد، وطول عمر، ونحو ذلك، مما يوافق أهواءهم، لا لكرامتهم علينا، بل ربما يكون استدراجاً لهم من حيث لا يشعرون، فاغترارهم بذلك نظير اغترار أصحاب الجنة، الذين هم فيها شركاء، حين زهت ثمارها أينعت أشجارها، وآن وقت صرامها، وجزموا أنها في أيديهم، وطوع أمرهم، [وأنه] ليس ثَمَّ مانع يمنعهم منها، ولهذا أقسموا وحلفوا من غير استثناء، أنهم سيصرمونها أي: يجذونها مصبحين، ولم يدروا أن الله بالمرصاد، وأن العذاب سيخلفهم عليها، ويبادرهم إليها. { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } أي: عذاب نزل عليها ليلاً { وَهُمْ نَآئِمُونَ } فأبادها وأتلفها { فَأَصْبَحَتْ كَٱلصَّرِيمِ } أي: كالليل المظلم، ذهبت الأشجار والثمار، هذا وهم لا يشعرون بهذا الواقع الملم، ولهذا تنادوا فيما بينهم لما أصبحوا يقول بعضهم لبعض: { أَنِ ٱغْدُواْ عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَٱنطَلَقُواْ } قاصدين له { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } فيما بينهم، ولكن بمنع حق الله، ويقولون: { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا ٱلْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } أي: بكروا قبل انتشار الناس، وتواصوا مع ذلك، بمنع الفقراء والمساكين، ومن شدة حرصهم وبخلهم، أنهم يتخافتون بهذا الكلام مخافتة، خوفاً أن يسمعهم أحد، فيخبر الفقراء. { وَغَدَوْاْ } في هذه الحالة الشنيعة، والقسوة، وعدم الرحمة { عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ } أي: على إمساك ومنع لحق الله، جازمين بقدرتهم عليها، { فَلَمَّا رَأَوْهَا } على الوصف الذي ذكر الله كالصريم، { قَالُوۤاْ } من الحيرة والانزعاج. { إِنَّا لَضَآلُّونَ } [أي: تائهون] عنها، لعلها غيرها، فلما تحققوها، ورجعت إليهم عقولهم قالوا: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } منها، فعرفوا حينئذ أنه عقوبة، فـ { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أي: أعدلهم وأحسنهم طريقة { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي: تنزهون الله عما لا يليق به، ومن ذلك، ظنكم أن قدرتكم مستقلة، فلولا استثنيتم فقلتم: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " وجعلتم مشيئتكم تابعة لمشيئتة الله، لما جرى عليكم ما جرى، فقالوا { سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي: استدركوا بعد ذلك، ولكن بعد ما وقع العذاب على جنتهم، الذي لا يرفع، ولكن لعل تسبيحهم هذا، وإقرارهم على أنفسهم بالظلم، ينفعهم في تخفيف الإثم ويكون توبة، ولهذا ندموا ندامة عظيمة، { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } فيما أجروه وفعلوه، { قَالُواْ يٰوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي: متجاوزين للحد في حق الله وحق عباده، { عَسَىٰ رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } فهم رجوا الله أن يبدلهم خيراً منها، ووعدوا أنهم سيرغبون إلى الله، ويلحون عليه في الدنيا، فإن كانوا كما قالوا، فالظاهر أن الله أبدلهم في الدنيا خيراً منها، لأن من دعا الله صادقاً، ورغب إليه ورجاه، أعطاه سُؤْلَه. قال تعالى مبيناً ما وقع: { كَذَلِكَ ٱلْعَذَابُ } [أي:] الدنيوي لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلب الله العبد الشيء الذي طغى به وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأن يزيله عنه، أحوج ما يكون إليه. { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَكْبَرُ } من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فإن من علم ذلك، أوجب له الانزجار عن كل سبب يوجب العذاب ويحل العقاب.
{ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } 34 { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } 35 { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } 36 { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } 37 { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } 38 { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } 39 { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } 40 { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ }41


يخبر تعالى بما أعده للمتقين للكفر والمعاصي، من أنواع النعيم والعيش السليم في جوار أكرم الأكرمين، وأن حكمته تعالى لا تقتضي أن يجعل المسلمين القانتين لربهم، المنقادين لأوامره، المتبعين لمراضيه كالمجرمين الذين أوضعوا في معاصيه، والكفر بآياته، ومعاندة رسله، ومحاربة أوليائه، وأن من ظن أنه يسويهم في الثواب، فإنه قد أساء الحكم، وأن حكمه حكمٌ باطل، ورأيه فاسد، وأن المجرمين إذا ادعوا ذلك، فليس لهم مستند، لا كتاب فيه يدرسون [ويتلون] أنهم من أهل الجنة، وأن لهم ما طلبوا وتخيروا. وليس لهم عند الله عهد ويمين بالغة إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون، وليس لهم شركاء وأعوان على إدراك ما طلبوا، فإن كان لهم شركاء وأعوان فليأتوا بهم إن كانوا صادقين، ومن المعلوم أن جميع ذلك منتفٍ، فليس لهم كتاب، ولا لهم عهد عند الله في النجاة، ولا لهم شركاء يعينونهم، فعلم أن دعواهم باطلة فاسدة، وقوله: { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } أي: أيهم الكفيل بهذه الدعوى الفاسدة، فإنه لا يمكن التصدر بها، ولا الزعامة فيها.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 02-09-2020, 06:35 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (604)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (42)الى (52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } 42 { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ }43


أي: إذا كان يوم القيامة، وانكشف فيه من القلاقل [والزلازل] والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه، فحينئذ يدعون إلى السجود لله، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجدون لله، طوعاً واختياراً، ويذهب الفجار المنافقون ليسجدوا فلا يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كصياصي البقر، لا يستطيعون الانحناء، وهذا الجزاء ما جنس عملهم، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله وتوحيده وعبادته وهم سالمون، لا علة فيهم، فيستكبرون عن ذلك ويأبون، فلا تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم، فإن الله قد سخط عليهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وتقطعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة ولا الاعتذار يوم القيامة، ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي، و[يوجب] التدارك مدة الإمكان. ولهذا قال تعالى: { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ... }.
{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } 44 { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } 45 { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } 46 { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } 47 { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } 48 { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } 49 { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } 50 { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } 51 { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }52


أي: دعني والمكذبين بالقرآن العظيم، فإن عليَّ جزاءهم، ولا تستعجل لهم، فـ { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } فنمدهم بالأموال والأولاد، ونمدهم في الأرزاق والأعمال، ليغتروا ويستمروا على ما يضرهم، فإن وهذا من كيد الله لهم، وكيد الله لأعدائه، متين قوي، يبلغ من ضررهم وعذابهم فوق كل مبلغ. { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي: ليس لنفورهم عنك، وعدم تصديقهم لما جئت به ، سبب يوجب لهم ذلك، فإنك تعلمهم، وتدعوهم إلى الله، لمحض مصلحتهم، من غير أن تطلبهم من أموالهم مغرماً يثقل عليهم. { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما كان عندهم من الغيوب، وقد وجدوا فيها أنهم على حق، وأن لهم الثواب عند الله، فهذا أمر ما كان، وإنما كانت حالهم حال معاند ظالم. فلم يبق إلا الصبر لأذاهم، والتحمل لما يصدر منهم، والاستمرار على دعوتهم، ولهذا قال: { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي: لما حكم به شرعاً وقدراً، فالحكم القدري، يصبر على المؤذي منه، ولا يُتَلَقَّى بالسخط والجزع، والحكم الشرعي، يقابل بالقبول والتسليم، والانقياد التام لأمره. وقوله: { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } وهو يونس بن متى، عليه الصلاة والسلام أي: ولا تشابهه في الحال التي أوصلته، وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومه الصبر المطلوب منه، وذهابه مغاضباً لربه، حتى ركب في البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها أيهم يلقون لكي تخف بهم، فوقعت القرعة عليه فالتقمه الحوت وهو مليم، [وقوله] { إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي: وهو في بطنها قد كظمت عليه، أو نادى وهو مغتمٌّ مهتم، بأن قال:{ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87] فاستجاب الله له، وقذفته الحوت من بطنها بالعراء وهو سقيم، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، ولهذا قال هنا: { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ } أي: لطرح في العراء، وهي الأرض الخالية { وَهُوَ مَذْمُومٌ } ولكن الله تغمده برحمته، فنبذ وهو ممدوح، وصارت حاله أحسن من حاله الأولى، ولهذا قال: { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي: اختاره واصطفاه ونقاه من كل كدر،. { فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي: الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، [وأحوالهم] فامتثل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فصبر لحكم ربه صبراً لا يدركه فيه أحد من العالمين. فجعل الله له العاقبة{ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف: 128] ولم يدرك أعداؤه فيه إلا ما يسوؤهم، حتى إنهم حرصوا على أن يزلقوه بأبصارهم أي: يصيبوه بأعينهم، من حسدهم وغيظهم وحنقهم، هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعليّ، والله حافظه وناصره، وأما الأذى القولي، فيقولون فيه أقوالاً، بحسب ما توحي إليهم قلوبهم، فيقولون تارة " مجنون " ، وتارة " ساحر " ، وتارة " شاعر ". قال تعالى { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي: وما هذا القرآن الكريم، والذكر الحكيم، إلا ذكر للعالمين، يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 02-09-2020, 06:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (605)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (1)الى (19)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم

{ ٱلْحَاقَّةُ } 1 { مَا ٱلْحَآقَّةُ } 2 { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } 3 { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِٱلْقَارِعَةِ } 4 { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } 5 { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } 6 { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } 7 { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ }8


{ ٱلْحَاقَّةُ } من أسماء يوم القيامة، لأنها تحق وتنزل بالخلق، وتظهر فيها حقائق الأمور، ومخبآت الصدور، فعظم تعالى شأنها وفخمه، بما كرّره من قوله: { ٱلْحَاقَّةُ * مَا ٱلْحَآقَّةُ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحَاقَّةُ } فإن لها شأناً عظيماً، وهولاً جسيماً، [ومن عظمتها أن الله أهلك الأمم المكذبة بها بالعذاب العاجل]، ثم ذكر نموذجاً من أحوالها الموجودة في الدنيا المشاهدة فيها، وهو ما أحله من العقوبات البليغة بالأمم العاتية، فقال: { كَذَّبَتْ ثَمُودُ } وهم القبيلة المشهورة، سكان الحجر، الذين أرسل الله إليهم رسوله صالحاً عليه السلام، ينهاهم عما هم عليه من الشرك، ويأمرهم بالتوحيد، فردوا دعوته وكذبوه، وكذبوا ما أخبرهم به من يوم القيامة، وهي القارعة التي تقرع الخلق بأهوالها، وكذلك عاد الأولى، سكان حضرموت، حين بعث الله إليهم رسوله هوداً عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى عبادة الله [وحده]، فكذبوه، وكذبوا بما أخبر به من البعث، فأهلك الله الطائفتين بالهلاك المعجل { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ } وهي الصيحة العظيمة الفظيعة، التي انصدعت منها قلوبهم، وزهقت لها أرواحهم فأصبحوا موتى لا يُرى إلا مساكنهم وجثثهم، { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } أي: قوية شديدة الهبوب لها صوت أبلغ من صوت الرعد [القاصف]، { عَاتِيَةٍ } [أي: ] عتت على خزانها، على قول كثير من المفسرين، أو عتت على عاد، وزادت على الحد كما هو الصحيح، { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } أي: نحساً وشراً فظيعاً عليهم، فدمرتهم وأهلكتهم، { فَتَرَى ٱلْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ } أي: هلكى موتى { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } أي: كأنهم جذوع النخل التي قد قطعت رؤوسها الخاوية، الساقط بعضها على بعض، { فَهَلْ تَرَىٰ لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } وهذا استفهام بمعنى النفي المتقرر.
{ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } 9 { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } 10 { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } 11 { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }12


أي: وكذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين، عاد وثمود، جاء غيرهم من الطغاة العتاة، كفرعون مصر، الذي أرسل الله إليه عبده ورسوله موسى [ابن عمران] عليه الصلاة والسلام، وأراه من الآيات البينات، ما تيقنوا بها الحق، ولكن جحدوا وكفروا، ظلماً وعلواً، وجاء من قبله من المكذبين، { وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ } أي: قرى قوم لوط، الجميع جاؤوا { بِالْخَاطِئَةِ } أي: بالفعلة الطاغية، وهي الكفر والتكذيب، والظلم والمعاندة، وما انضم إلى ذلك من أنواع الفواحش والفسوق. { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } وهذا اسم جنس أي: كل من هؤلاء كذَّبَ الرسول الذي أرسله الله إليهم. فأخذ الله الجميع { أَخْذَةً رَّابِيَةً } أي: زائدة على الحد والمقدار، الذي يحصل به هلاكهم. ومن جملة أولئك، قوم نوح، أغرقهم الله في اليم حين طغى [الماء على وجه] الأرض، وعلا على مواضعها الرفيعة. وامتنَّ الله على الخلق الموجودين بعدهم أن الله حملهم { فِي ٱلْجَارِيَةِ } وهي السفينة في أصلاب آبائهم وأمهاتهم، الذين نجاهم الله، فاحمدوا الله واشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين، واعتبروا بآياته الدالة على توحيده، ولهذا قال: { لِنَجْعَلَهَا } أي: الجارية، والمراد جنسها، لكم { تَذْكِرَةً } تذكِّركم أول سفينة صنعت، وما قصتها، وكيف نجى الله عليها من آمن به واتبع رسوله، وأهلك أهل الأرض كلهم، فإن جنس الشيء مذكِّر بأصله. وقوله: { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي: تعقلها أولو الألباب، ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها. وهذا بخلاف أهل الإعراض والغفلة، وأهل البلادة وعدم الفطنة، فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله، لعدم وعيهم عن الله، وفكرهم بآيات الله.
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } 14 { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } 15 { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } 16 { وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } 17 { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } 18 { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ }19


لما ذكر ما فعله تعالى بالمكذبين لرسله، وكيف جازاهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا، وأن الله نجى الرسل وأتباعهم، كان هذا مقدمة لذكر الجزاء الأخروي، وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة، فذكر الأمور الهائلة التي تقع أمام القيامة، وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل { فِي ٱلصُّورِ } إذا تكاملت الأجساد نابتة. { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } فتخرج الأرواح، فتدخل كل روح في جسدها، فإذا الناس قيام لرب العالمين. { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } أي: فتتت الجبال واضمحلت، وخلطت بالأرض، ونسفت على الأرض، فكان الجميع قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. هذا ما يصنع بالأرض وما عليها، وأما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب وتمور وتتشقق ويتغير لونها، وتهي بعد تلك الصلابة والقوة العظيمة، وما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، وكرب جسيم هائل أوهاها وأضعفها. { وَٱلْمَلَكُ } أي: الملائكة الكرام { عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } أي: على جوانب السماء وأركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته. { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أملاك في غاية القوة، إذا أتى للفصل بين العباد، والقضاء بينهم بعدله وقسطه وفضله، ولهذا قال: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } على الله { لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } لا من أجسامكم وأجسادكم، ولا من أعمالكم [وصفاتكم]، فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة. ويحشر العباد حفاةً عُراةً غرلاً، في أرض مستوية، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فحينئذ يجازيهم بما عملوا، ولهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ... }.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 02-09-2020, 06:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (606)
تفسير السعدى
(سورة القلم)
من (20)الى (52)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة القلم
{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } 20 { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } 21 { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } 22 { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } 23 { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } 24 { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ }25


وهؤلاء هم أهل السعادة، يُعْطَوْنَ كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم، تمييزاً لهم، وتنويهاً بشأنهم، ورفعاً لمقدارهم، ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور، ومحبة أن يطلع الخلق على ما مَنَّ الله عليه به من الكرامة: { هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } أي: دونكم كتابي فاقرؤوه فإنه يبشر بالجنات، وأنواع الكرامات، ومغفرة الذنوب، وستر العيوب، والذي أوصلني إلى هذه الحال، ما مَنَّ الله به عليَّ من الإيمان بالبعث والحساب، والاستعداد له، بالممكن من العمل، ولهذا قال: { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } أي: أيقنت، فالظن - هنا - [بمعنى] اليقين، { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي: جامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وقد رضوها، ولم يختاروا عليها غيرها. { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } المنازل والقصور، عالية المحل. { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } أي: ثمرها وجناها، من أنواع الفواكه، قريبة، سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلها، قياماً وقعوداً ومتكئين، ويقال لهم إكراماً: { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أي: من كل طعام لذيذ، وشراب شَهِيٍّ، { هَنِيئَاً } أي: تاماً كاملاً، من غير مكدر ولا منغص. وذلك الجزاء حصل لكم { بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } من الأعمال الصالحة - وترك الأعمال السيئة- من صلاة، وصيام، وصدقة، وحج، وإحسان إلى الخلق، وذكر لله، وإنابة إليه. فالأعمال جعلها الله سبباً لدخول الجنة، ومادة لنعيمها، وأصلاً لسعادتها.
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ } 26 { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } 27 { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } 28 { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } 29 { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } 30 { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } 31 { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } 32 { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } 33 { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } 34 { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } 35 { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ } 36 { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } 37 { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ }38


هؤلاء أهل الشقاء، يُعْطَوْنَ كتب أعمالهم السيئة بشمالهم تمييزاً لهم وخزياً، وعاراً وفضيحة، فيقول أحدهم من الهم والغم والخزي: { يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ } لأنه يبشر بدخول النار، والخسارة الأبدية، { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي: ليتني كنت نسياً منسياً، ولم أبعث وأحاسب ولهذا قال: { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } أي: يا ليت موتتي هي الموتة التي لا بعث بعدها. ثم التفت إلى ماله وسلطانه، فإذا هو وبال عليه، لم يقدم منه لآخرته، ولم ينفعه في الافتداء من عذاب الله، فيقول: { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } أي: ما نفعني لا في الدنيا، لم أقدم منه شيئاً، ولا في الآخرة، قد ذهب وقت نفعه. { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أي: ذهب واضمحل، فلم تنفع الجنود الكثيرة، ولا العدد الخطيرة، ولا الجاه العريض، بل ذهب ذلك كله أدراج الرياح، وفاتت بسببه المتاجر والأرباح، وحضر بدله الهموم والغموم والأتراح، فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلاظ الشداد: { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أي: اجعلوا في عنقه غلاً يخنقه. { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أي: قلبوه على جمرها ولهبها، { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً } من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة، { فَاسْلُكُوهُ } أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه، ويعلق فيها، فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب والعقاب، وواحسرة من له التوبيخ والعتاب، فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل: { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } بأن كان كافراً بربه، معانداً لرسله، رادّاً ما جاؤوا به من الحق، { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } أي: ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين، فلا يطعمهم [من ماله]، ولا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه، وذلك لأن مدار السعادة ومادتها أمران: الإخلاص لله، الذي أصله الإيمان بالله، والإحسان إلى الخلق، بوجوه الإحسان، الذي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين، بإطعامهم ما يتقوتون به، وهؤلاء لا إخلاص ولا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا. { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا } أي: يوم القيامة { حَمِيمٌ } أي: قريب أو صديق يشفع له، لينجو من عذاب الله، أو يفوز بثواب الله:{ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ: 23]{ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر: 18]. وليس له طعامٌ إلا من غسلين وهو صديد أهل النار، الذي هو في غاية الحرارة، ونتن الريح، وقبح الطعم ومرارته لا يأكل هذا الطعام الذميم { إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } الذين أخطؤوا الصراط المستقيم، وسلكوا سبل الجحيم، فلذلك استحقوا العذاب الأليم.
{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } 39 { وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } 40 { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } 41 { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } 42 { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } 43 { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } 44 { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } 45 { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } 46 { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } 47 { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } 48 { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } 49 { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } 50 { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }51 { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } 52 { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ }52


أقسم تعالى بما يبصر الخلق من جميع الأشياء وما لا يبصرونه، فدخل في ذلك كل الخلق، بل يدخل في ذلك نفسه المقدسة، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم، وأن الرسول الكريم بلغه عن الله تعالى، ونزه الله رسوله عما رماه به أعداؤه، من أنه شاعر أو ساحر، وأن الذي حملهم على ذلك، عدم إيمانهم وتذكرهم، فلو آمنوا وتذكروا، لعلموا ما ينفعهم ويضرهم، ومن ذلك، أن ينظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم، ويرمقوا أوصافه وأخلاقه، لرأوا أمراً مثل الشمس يدلهم على أنه رسول الله حقاً، وأن ما جاء به تنزيل رب العالمين، لا يليق أن يكون قول البشر، بل هو كلام دال على عظمة من تكلم به، وجلالة أوصافه، وكمال تربيته لعباده، وعلوه فوق عباده، وأيضاً، فإن هذا ظن منهم بما لا يليق بالله وحكمته فإنه لو تقول عليه وافترى { بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } الكاذبة، { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } وهو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع، مات منه الإنسان، فلو قدر أن الرسول - حاشا وكلا - تقوَّل على الله، لعاجله بالعقوبة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، لأنه حكيم، على كل شيء قدير، فحكمته تقتضي أن لا يمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أن الله أباح له دماء من خالفه وأموالهم، وأنه هو وأتباعه لهم النجاة، ومن خالفه فله الهلاك. فإذا كان الله قد أيد رسوله بالمعجزات، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات البينات، ونصره على أعدائه، ومكنه من نواصيهم، فهو أكبر شهادة منه على رسالته. وقوله: { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي: لو أهلكه، ما امتنع هو بنفسه، ولا قدر أحد أن يمنعه من عذاب الله. { وَإِنَّهُ } أي: القرآن الكريم { لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } يتذكرون به مصالح دينهم ودنياهم، فيعرفونها، ويعملون عليها، يذكرهم العقائد الدينية، والأخلاق المرضية، والأحكام الشرعية، فيكونون من العلماء الربانيين، والعباد العارفين، والأئمة المهديين، { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } به، وهذا فيه تهديد ووعيد للمكذبين، فإنه سيعاقبهم على تكذيبهم بالعقوبة البليغة، { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } فإنهم لما كفروا به، ورأوا ما وعدهم به، تحسروا إذ لم يهتدوا به، ولم ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، وحصلوا على أشد العذاب، وتقطعت بهم الأسباب. { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } أي: أعلى مراتب العلم، فإن أعلى مراتب العلم اليقين وهو العلم الثابت، الذي لا يتزلزل ولا يزول. واليقين مراتبه ثلاثة، كل واحدة أعلى مما قبلها: أولها: علم اليقين، وهو العلم المستفاد من الخبر. ثم عين اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة البصر. ثم حق اليقين، وهو العلم المدرك بحاسة الذوق والمباشرة. وهذا القرآن الكريم، بهذا الوصف، فإن ما فيه من العلوم المؤيدة بالبراهين القطعية، وما فيه من الحقائق والمعارف الإيمانية، يحصل به لمن ذاقه حق اليقين. { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي: نزهه عما لا يليق بجلاله، وقدّسه بذكر أوصاف جلاله وجماله وكماله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 02-09-2020, 06:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (607)
تفسير السعدى
(سورة المعارج)
من (1)الى (18)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المعارج
{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } 1 { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } 2 { مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } 3 { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } 4 { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } 5 { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } 6 { وَنَرَاهُ قَرِيباً }7


يقول تعالى مبيناً لجهل المعاندين، واستعجالهم لعذاب الله، استهزاءً وتعنتاً وتعجيزاً: { سَأَلَ سَآئِلٌ } أي: دعا داع، واستفتح مستفتح { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ } لاستحقاقهم له بكفرهم وعنادهم { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِّنَ ٱللَّهِ } أي: ليس لهذا العذاب الذي استعجل به من استعجل، من متمردي المشركين، أحد يدفعه قبل نزوله، أو يرفعه بعد نزوله، وهذا حين دعا النضر بن الحارث القرشي أو غيره من المشركين، فقال:{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } إلى آخر الآيات [الأنفال: 32]. فالعذاب لا بدّ أن يقع عليهم من الله، فإما أن يعجل لهم في الدنيا، وإما أن يؤخر عنهم إلى الآخرة، فلو عرفوا الله تعالى، وعرفوا عظمته، وسعة سلطانه وكمال أسمائه وصفاته، لما استعجلوا ولاستسلموا وتأدبوا، ولهذا أخبر تعالى من عظمته ما يضاد أقوالهم القبيحة، فقال: { ذِي ٱلْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ } أي: ذو العلو والجلال والعظمة، والتدبير لسائر الخلق، الذي تعرج إليه الملائكة بما دبرها على تدبيره، وتعرج إليه الروح، وهذا اسم جنس يشمل الأرواح كلها، برَّها وفاجرها، وهذا عند الوفاة، فأما الأبرار، فتعرج أرواحهم إلى الله، فيؤذن لها من سماء إلى سماء، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل، فتُحيِّي ربها وتَسلم عليه، وتحظى بقربه، وتبتهج بالدنو منه، ويحصل لها منه الثناء والإكرام، والبر والإعظام. وأما أرواح الفجار فتعرج، فإذا وصلت إلى السماء استأذنت فلم يؤذن لها، وأعيدت إلى الأرض. ثم ذكر المسافة التي تعرج إلى الله فيها الملائكة والأرواح، وأنها تعرج في يوم بما يسر لها من الأسباب، وأعانها عليه من اللطافة والخفة وسرعة السير، مع أن تلك المسافة على السير المعتاد مقدار خمسين ألف سنة، من ابتداء العروج إلى وصولها، ما حُدَّ لها، وما تنتهي إليه من الملأ الأعلى، فهذا الملك العظيم، والعالم الكبير، علويه وسفليه، جميعه قد تولى خلقه وتدبيره، العليُّ الأعلى، فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة، وعلم مستقرهم ومستودعهم، وأوصلهم من رحمته وبره ورزقه، ما عمهم وشملهم وأجرى عليهم حكمه القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي. فبؤساً لأقوام جهلوا عظمته، ولم يقدروه حق قدره، فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز والامتحان، وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم، وآذوه فصبر عليهم، وعافاهم ورزقهم. هذا أحد الاحتمالات في تفسير هذه الآية [الكريمة]، فيكون هذا العروج والصعود في الدنيا، لأن السياق الأول يدل على هذا. ويحتمل أن هذا في يوم القيامة، وأن الله تبارك وتعالى يُظْهِرْ لعباده في يوم القيامة، من عظمته وجلاله وكبريائه، ما هو أكبر دليل على معرفته، مما يشاهدونه من عروج الأملاك والأرواح، صاعدة ونازلة، بالتدابير الإلهية، والشؤون في الخليقة.
في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة من طوله وشدته، لكن الله تعالى يخففه على المؤمن. وقوله: { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } أي: اصبر على دعوتك لقومك صبراً جميلاً، لا تضجّر فيه ولا ملل، بل استمر على أمر الله، وادع عباده إلى توحيده، ولا يمنعك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم، وعدم رغبتهم، فإن في الصبر على ذلك خيراً كثيراً، { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } الضمير يعود إلى البعث، الذي يقع فيه عذاب السائلين بالعذاب أي: إن حالهم حال المنكر له، أو الذي غلبت عليه الشقوة والسكرة، حتى تباعد جميع ما أمامه من البعث والنشور، والله يراه قريباً، لأنه رفيق حليم لا يعجل، ويعلم أنه لا بد أن يكون، وكل ما هو آتٍ فهو قريب. ثم ذكر أهوال ذلك اليوم وما يكون فيه، فقال: { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ... }.
{ يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } 8 { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } 9 { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } 10 { يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } 11 { وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } 12 { وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } 13 { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } 14 { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ } 15 { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } 16 { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } 17 { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ }18


أي: { يَوْمَ } القيامة، تقع فيه هذه الأمور العظيمة فـ { تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } وهو الرصاص المذاب، من تشققها، وبلوغ الهول منها كل مبلغ. { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } وهو الصوف المنفوش، ثم تكون بعد ذاك هباءً منثوراً فتضمحل، فإذا كان هذا القلق والانزعاج لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة، فما ظنك بالعبد الضعيف الذي قد أثقل ظهره بالذنوب والأوزار؟ أليس حقيقاً، أن ينخلع قلبه وينزعج لبه، ويذهل عن كل أحد؟ ولهذا قال: { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } أي: يشاهد الحميم، وهو القريب حميمه، فلا يبقى في قلبه متسع لسؤال حميمه عن حاله، ولا فيما يتعلق بعشرتهم ومودتهم، ولا يهمه إلا نفسه. { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ } الذي حق عليه العذاب { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ } أي: زوجته { وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ } أي: قرابته { ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } أي: التي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصر ويعين بعضها بعضاً، ففي يوم القيامة، لا ينفع أحد أحداً، ولا يشفع أحد إلا بإذن الله. بل لو يفتدي [المجرم المستحق للعذاب] بجميع ما في الأرضِ ثم ينجيه لم ينفعه ذلك. { كَلاَّ } أي: لا حيلة ولا مناص لهم، قد حقت عليهم كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون، وذهب نفع الأقارب والأصدقاء. { إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } أي: للأعضاء الظاهرة والباطنة من شدة عذابها. { تَدْعُواْ } إليها { مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ * وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } أي: أدبر عن اتباع الحق وأعرض عنه، فليس له فيه غرض، وجمع الأموال بعضها فوق بعض وأوعاها، فلم ينفق منها، فإن النار تدعوهم إلى نفسها، وتستعد للالتهاب بهم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 02-09-2020, 06:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (608)
تفسير السعدى
(سورة المعارج)
من (19)الى (44)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة المعارج
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } 19 { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } 20 { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } 21 { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } 22 { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } 23 { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } 24 { لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } 25 { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } 26 { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } 27 { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } 28 { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } 29 { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } 30 { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } 31 { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } 32 { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } 33 { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } 34 { أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ }35


وهذا الوصف للإنسان من حيث هو وصف طبيعته الأصلية، أنه هلوع. وفسر الهلوع بأنه: { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } فيجزع إن أصابه فقر أو مرض، أو ذهاب محبوب له، من مال أو أهل أو ولد، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله، { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } فلا ينفق مما آتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه وبره، فيجزع في الضراء، ويمنع في السراء. { إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ } الموصوفين بتلك الأوصاف، فإنهم إذا مسهم الخير شكروا الله، وأنفقوا مما خولهم الله، وإذا مسهم الشر صبروا واحتسبوا. وقوله [في وصفهم] { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } أي: مداومون عليها في أوقاتها بشروطها ومكملاتها. وليسوا كمن لا يفعلها، أو يفعلها وقتاً دون وقت، أو يفعلها على وجه ناقص. { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } من زكاة وصدقة { لِّلسَّآئِلِ } الذي يتعرض للسؤال، { وَٱلْمَحْرُومِ } وهو المسكين الذي لا يسأل الناس فيعطوه، ولا يفطن له، فيتصدق عليه. { وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } أي: يؤمنون بما أخبر الله به، وأخبرت به رسله، من الجزاء والبعث، ويتيقنون ذلك، فيستعدون للآخرة، ويسعون لها سعيها. والتصديق بيوم الدين، يلزم منه التصديق بالرسل، وبما جاؤوا به من الكتب. { وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } أي: خائفون وجلون، فيتركون لذلك كل ما يقربهم من عذاب الله. { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي: هو العذاب الذي يخشى ويحذر. { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } فلا يطؤون بها وطأً محرماً، من زنى أو لواطٍ، أو وطءٍ في دبر، أو حيض، ونحو ذلك، ويحفظونها أيضاً من النظر إليها ومسها، ممن لا يجوز له ذلك، ويتركون أيضاً، وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة. { إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي: سرياتهم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } في وطئهن، في المحل الذي هو محل الحرث، { فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ } أي: غير الزوجة وملك اليمين، { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } أي: المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم الله، ودلّت هذه الآية على تحريم [نكاح] المتعة، لكونها غير زوجة مقصودة، ولا ملك يمين. { وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي: مراعون لها، حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء بها، وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربه، كالتكاليف السرية، التي لا يطلع عليها إلا الله، والأمانات التي بين العبد وبين الخلق، في الأموال والأسرار، وكذلك العهد، شامل للعهد الذي عاهد عليه الله، والعهد الذي عاهد عليه الخلق، فإن العهد يسأل عنه العبد، هل قام به ووفاه، أم رفضه وخانه فلم يقم به؟ { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } أي: لا يشهدون إلا بما يعلمونه، من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان، ولا يحابي فيها قريباً ولا صديقاً ونحوه، ويكون القصد بها وجه الله.
قال تعالى:{ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [الطلاق: 2]{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [النساء: 135]. { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } بمداومتها على أكمل وجوهها، { أُوْلَـٰئِكَ } أي: الموصوفون بتلك الصفات { فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } أي: قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون. وحاصل هذا، أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة، والأخلاق الفاضلة، من العبادات البدنية، كالصلاة، والمداومة عليها، والأعمال القلبية، كخشية الله الداعية لكل خير، والعبادات المالية، والعقائد النافعة، والأخلاق الفاضلة، ومعاملة الله، ومعاملة خلقه، أحسن معاملة من إنصافهم، وحفظ عهودهم وأسرارهم، والعفة التامة بحفظ الفروج عما يكره الله تعالى.

{ فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } 36 { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } 37 { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } 38 { كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ }39


يقول تعالى، مبيناً اغترار الكافرين: { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي: مسرعين. { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ } أي: قطعاً متفرقة وجماعات متوزعة، كل منهم بما لديه فرح. { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } بأي: سببٍ أطمعهم، وهم لم يقدموا سوى الكفر، والجحود برب العالمين، ولهذا قال: { كَلاَّ } [أي:] ليس الأمر بأمانيهم ولا إدراك ما يشتهون بقوتهم. { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي: من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، فهم ضعفاء، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
{ فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ } 40 { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } 41 { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } 42 { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } 43 { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }44


هذا إقسام منه تعالى بالمشارق والمغارب، للشمس والقمر والكواكب، لما فيها من الآيات الباهرات على البعث، وقدرته على تبديل أمثالهم، وهم بأعيانهم، كما قال تعالى:{ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الواقعة: 61]. { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي: ما أحد يسبقنا ويفوتنا ويعجزنا إذا أردنا أن نعيده. فإذا تقرر البعث والجزاء، واستمروا على تكذيبهم، وعدم انقيادهم لآيات الله { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة، والعقائد الفاسدة، ويلعبوا بدينهم، ويأكلوا ويشربوا، ويتمتعوا { حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ } فإن الله قد أعد لهم فيه من النكال والوبال ما هو عاقبة خوضهم ولعبهم. ثم ذكر حال الخلق حين يلاقون يومهم الذي يوعدون، فقال: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي: القبور، { سِرَاعاً } مجيبين لدعوة الداعي، مهطعين إليها { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي: [كأنهم إلى عَلَم] يؤمون ويسرعون أي: فلا يتمكنون من الاستعصاء للداعي، والالتواء لنداء المنادي، بل يأتون أذلاء مقهورين للقيام، بين يدي رب العالمين. { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } وذلك أن الذلة والقلق قد ملك قلوبهم، واستولى على أفئدتهم، فخشعت منهم الأبصار، وسكنت منهم الحركات، وانقطعت الأصوات. فهذه الحال والمآل، هو يومهم { ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } ولا بد من الوفاء بوعد الله [تمت والحمد لله].



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 02-09-2020, 06:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (609)
تفسير السعدى
(سورة نوح)
من (1)الى (28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورة نوح
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } 1 { قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } 2 { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } 3 { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } 4 { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } 5 { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } 6 { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } 7 { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } 8 { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } 9 { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } 10 { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } 11 { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } 12 { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } 13 { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } 14 { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } 15 { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } 16 { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } 17 { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } 18 { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } 19 { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } 20 { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } 21 { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } 22 { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } 23 { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } 24 { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } 25 { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } 26 { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } 27 { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً }28


{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } إلى آخر السورة لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه أرسله إلى قومه، رحمةً بهم وإنذاراً لهم من عذاب الله الأليم، خوفاً من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله هلاكاً أبدياً، ويعذبهم عذاباً سرمدياً، فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله، فقال: { يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي: واضح النذارة بيّنها، وذلك لتوضيحه ما أنذر به وما أنذر عنه، وبأي: شيء تحصل النجاة، بيّن جميع ذلك بياناً شافياً، فأخبرهم وأمرهم بزبدة ما يأمرهم به، فقال: { أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } وذلك بإفراده تعالى بالتوحيد والعبادة، والبعد عن الشرك وطرقه ووسائله، فإنهم إذا اتقوا الله غفر ذنوبهم، وإذا غفر ذنوبهم، حصل لهم النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي: يمتعكم في هذه الدار، ويدفع عنكم الهلاك إلى أجل مسمى أي: مقدرٍ [البقاء في الدنيا] بقضاء الله وقدره [إلى وقت محدود]، وليس المتاع أبداً، فإن الموت لا بدّ منه، ولهذا قال: { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لما كفرتم بالله، وعاندتم الحق، فلم يجيبوا لدعوته، ولا انقادوا لأمره، فقال شاكياً لربه: { رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } أي: نفوراً عن الحق وإعراضاً، فلم يبق لذلك فائدة، لأن فائدة الدعوة أن يحصل جميع المقصود أو بعضه، { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي: لأجل أن يستجيبوا، فإذا استجابوا، غفرت لهم، فكان هذا محض مصلحتهم، ولكنهم أبوا إلا تمادياً على باطلهم، ونفوراً عن الحق، { جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ } حذر سماع ما يقول لهم نبيهم نوح عليه السلام، { وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } أي: تغطوا بها غطاء يغشاهم، بعداً عن الحق وبغضاً له، { وَأَصَرُّواْ } على كفرهم وشرهم، { وَٱسْتَكْبَرُواْ } على الحق { ٱسْتِكْبَاراً } فشرُّهم ازداد، وخيرهم بَعُدَ. { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } أي: بمسمع منهم كلهم { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } كل هذا حرص ونصح، وإتيانهم بكل باب يظن أن يحصل منه المقصود، { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي: اتركوا ما أنتم عليه من الذنوب، واستغفروا الله منها. { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } كثير المغفرة لمن تاب واستغفر، فرغبهم بمغفرة الذنوب، وما يترتب عليها من حصول الثواب، واندفاع العقاب. ورغَّبهم أيضاً بخير الدنيا العاجل، فقال: { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } أي: مطراً متتابعاً، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد. { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، { وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.
{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } أي: لا تخافون لله عظمة، وليس لله عندكم قدر. { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } أي: خلقاً [من] بعد خلق، في بطن الأم، ثم في الرضاع، ثم في سن الطفولية، ثم التمييز، ثم الشباب، إلى آخر ما وصل إليه الخلق، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم. واستدل أيضاً عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس، فقال: { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } أي: كل سماء فوق الأخرى، { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } لأهل الأرض { وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً }. ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمته وسعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم ويحب ويعبد ويخاف ويرجى، { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه. { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } عند الموت { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } للبعث والنشور، فهو الذي يملك الحياة والموت والنشور، { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } أي: مبسوطة مهيأة للانتفاع بها، { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } فلولا أنه بسطها، لما أمكن ذلك، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها وزرعها، والبناء، والسكون على ظهرها. { قَالَ نُوحٌ } شاكياً لربه: إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد. { إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } فيما أمرتهم به { وَٱتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أي: عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، واتبعوا الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خساراً أي: هلاكاً وتفويتاً للأرباح، فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟! { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } أي: مكراً كبيراً بليغاً في معاندة الحق. { وَقَالُواْ } لهم داعين إلى الشرك مزينين له: { لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون، ثم عينوا آلهتهم فقالوا: { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } وهذه أسماء رجال صالحين، لما ماتوا، زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم، لينشطوا - بزعمهم - على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم، أن لا يدعوا عبادة هذه الآلهة. { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } أي: وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيراً من الخلق، { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } أي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم بحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالاً أي: فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم، ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية، فقال: { مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ } في اليم الذي أحاط بهم { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } فذهبت أجسادهم في الغرق، وأرواحهم للنار والحرق، وهذا كله بسبب خطيئاتهم، التي أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها، فرفضوا ما قال، حتى حل بهم النكال، { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } ينصرونهم حين نزل بهم الأمْرُ الأمَرُّ، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر.

{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } يدور على وجه الأرض، وذكر السبب في ذلك، فقال: { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي: بقاؤهم مفسدة محضة، لهم ولغيرهم، وإنما قال نوح - عليه السلام - ذلك، لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم، لا جرم أن الله استجاب دعوته، فأغرقهم أجمعين، ونجى نوحاً ومن معه من المؤمنين. { رَّبِّ ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء، فقال: { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } أي: خساراً ودماراً وهلاكاً.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 02-09-2020, 06:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (610)
تفسير السعدى
(سورة الجن)
من (1)الى (28)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالجن
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } 1 { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } 2 { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } 3 { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً }4


أي: { قُلْ } يا أيها الرسول للناس { أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ } صرفهم الله [إلى رسوله] لسماع آياته، لتقوم عليهم الحجة، [وتتم عليهم النعمة] ويكونوا نذراً لقومهم. وأمر الله رسوله، أن يقص نبأهم على الناس، وذلك أنهم لما حضروه، قالوا: أنصتوا، فلما أنصتوا فهموا معانيه، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم، { فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } أي: من العجائب الغالية، والمطالب العالية. { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ } والرشد: اسم جامع لكل ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم ودنياهم، { فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } فجمعوا بين الإيمان الذي يدخل فيه جميع أعمال الخير، وبين التقوى، [المتضمنة لترك الشر] وجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان وتوابعه، ما علموه من إرشادات القرآن، وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد واجتناب المضار، فإن ذلك آية عظيمة، وحجة قاطعة، لمن استنار به، واهتدى بهديه، وهذا الإيمان النافع، المثمر لكل خير، المبني على هداية القرآن، بخلاف إيمان العوائد، والمربى والإلف ونحو ذلك، فإنه إيمان تقليد تحت خطر الشبهات والعوارض الكثيرة، { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا } أي: تعالت عظمته وتقدست أسماؤه، { مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } فعلموا من جد الله وعظمته، ما دلّهم على بطلان من يزعم أن له صاحبةً أو ولداً، لأن له العظمة والكمال في كل صفة كمال، واتخاذ الصاحبة والولد ينافي ذلك، لأنه يضاد كمال الغنى. { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطاً } أي: قولاً جائراً عن الصواب، متعدياً للحد، وما حمله على ذلك إلا سفهه وضعف عقله، وإلا فلو كان رزيناً مطمئناً لعرف كيف يقول.
{ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }5


أي: كنا مغترين قبل ذلك، وغرنا القادة والرؤساء من الجن والإنس، فأحسنا بهم الظن، وظنناهم لا يتجرؤون على الكذب على الله، فلذلك كنا قبل هذا على طريقهم، فاليوم إذ بان لنا الحق، رجعنا إليه، وانقدنا له، ولم نبال بقول أحد من الناس يعارض الهدى.
{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } 6 { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } 7 { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } 8 { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } 9 { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } 10 { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } 11 { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } 12 { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } 13 { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } 14 { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } 15 { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } 16 { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } 17 { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } 18 { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } 19 { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } 20 { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً }21


أي: كان الإنس يعبدون الجن ويستعيذون بهم عند المخاوف والأفزاع، فزاد الإنس الجن رهقاً أي: طغياناً وتكبراً، لما رأوا الإنس يعبدونهم، ويستعيذون بهم، ويحتمل أن الضمير في زادوهم يرجع إلى الجن ضمير الواو أي: زاد الجن الإنس ذعراً وتخويفاً لما رأوهم يستعيذون بهم، ليلجئوهم إلى الاستعاذة بهم، فكان الإنسي إذا نزل بواد مخوف، قال: " أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ". { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً } أي: فلما أنكروا البعث أقدموا على الشرك والطغيان. { وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ } أي: أتيناها واختبرناها، { فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً } عن الوصول إلى أرجائها [والدنو منها]، { وَشُهُباً } يرمى بها من استرق السمع، وهذا بخلاف عادتنا الأولى، فإنا كنا نتمكن من الوصول إلى خبر السماء. { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } فنتلقف من أخبار السماء ما شاء الله، { فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أي: مرصداً له، معداً لإتلافه وإحراقه، أي: وهذا له شأن عظيم، ونبأ جسيم، وجزموا أن الله تعالى أراد أن يحدث في الأرض حادثاً كبيراً، من خير أو شر، فلهذا قالوا: { وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } أي: لا بدّ من هذا أو هذا، لأنهم رأوا الأمر تغير عليهم تغيراً أنكروه، فعرفوا بفطنتهم، أن هذا الأمر يريده الله، ويحدثه في الأرض، وفي هذا بيان لأدبهم، إذ أضافوا الخير إلى الله تعالى، والشر حذفوا فاعله تأدباً مع الله. { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي: فساق وفجار وكفار، { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } أي: فرقاً متنوعة، وأهواء متفرقة، كل حزب بما لديهم فرحون. { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } أي: وأنا في وقتنا الآن تبين لنا كمال قدرة الله وكمال عجزنا، وأن نواصينا بيد الله، فلن نعجزه في الأرض ولن نعجزه إن هربنا وسعينا بأسباب الفرار والخروج عن قدرته، لا ملجأ منه إلا إليه، { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ } وهو القرآن الكريم، الهادي إلى الصراط المستقيم، وعرفنا هدايته وإرشاده، أثّر في قلوبنا فـ { آمَنَّا بِهِ }. ثم ذكروا ما يرغب المؤمن فقالوا: { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ } إيماناً صادقاً { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } أي: لا نقصاً ولا طغياناً ولا أذىً يلحقه، وإذا سلم من الشر حصل له الخير، فالإيمان سبب داع إلى حصول كل خير وانتفاء كل شر. { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } أي: الجائرون، العادلون عن الصراط المستقيم. { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي: أصابوا طريق الرشد، الموصل لهم إلى الجنة ونعيمها، { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } وذلك جزاء على أعمالهم، لا ظلم من الله لهم، فإنهم { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } المثلى { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } أي: هنيئاً مريئاً، ولم يمنعهم ذلك إلا ظلمهم وعدوانهم.

{ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم فيه ونمتحنهم، ليظهر الصادق من الكاذب. { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } أي: من أعرض عن ذكر الله، الذي هو كتابه، فلم يتبعه وينقد له، بل غفل عنه ولهى، يسلكه عذاباً صعداً أي: شديداً بليغاً. { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } أي: لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة، فإن المساجد التي هي أعظم محالّ العبادة مبنية على الإخلاص لله، والخضوع لعظمته، والاستكانة لعزته، { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } أي: يسأله ويتعبد له ويقرأ القرآن كَاد الجن من تكاثرهم عليه أن يكونوا عليه لبدا أي: متلبدين متراكمين، حرصاً على سماع ما جاء به من الهدى. { قُلْ } لهم يا أيها الرسول، مبيناً حقيقة ما تدعو إليه: { إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } أي: أوحده وحده لا شريك له، وأخلع ما دونه من الأنداد والأوثان، وكل ما يتخذه المشركون من دونه. { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } فإني عبد ليس لي من الأمر ولا من التصرف شيء.
{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } 22 { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } 23 { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } 24 { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } 25 { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } 26 { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } 27 { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }28


{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ }. أي: لا أحد أستجير به ينقذني من عذاب الله، وإذا كان الرسول الذي هو أكمل الخلق، لا يملك ضراً ولا رشداً، ولا يمنع نفسه من الله [شيئاً] إن أراده بسوء، فغيره من الخلق من باب أولى وأحرى، { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } أي: ملجأً ومنتصراً. { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ } أي: ليس لي مزية على الناس، إلا أن الله خصني بإبلاغ رسالاته ودعوة الخلق إلى الله، وبهذا تقوم الحجة على الناس. { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدا } وهذا المراد به المعصية الكفرية، كما قيدتها النصوص الأخر المحكمة. وأما مجرد المعصية، فإنه لا يوجب الخلود في النار، كما دلّت على ذلك آيات القرآن، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمة هذه الأمة. { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } أي: شاهدوه عياناً، وجزموا أنه واقع بهم، { فَسَيَعْلَمُونَ } في ذلك الوقت حقيقة المعرفة { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } حين لا ينصرهم غيرهم ولا أنفسهم ينتصرون، وإذ يحشرون فرادى كما خلقوا أول مرة. { قُلْ } لهم إن سألوك [فقالوا] " متى هذا الوعد؟ ": { إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } أي: غاية طويلة، فعلم ذلك عند الله، { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً } من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار والغيب، { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } أي: فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به، وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحداً من الخلق، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته، من غير أن تتخبطهم الشياطين، ولا يزيدوا فيه أو ينقصوا، ولهذا قال: { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } أي: يحفظونه بأمر الله { لِّيَعْلَمَ } بذلك { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } بما جعله لهم من الأسباب، { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } أي: بما عندهم، وما أسروه وأعلنوه، { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }. وفي هذه السورة فوائد كثيرةٌ: منها: وجود الجن، وأنهم مكلفون مأمورون مكلفون منهيون، مجازون بأعمالهم، كما هو صريح في هذه السورة. ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ إلى الجن، كما هو رسول إلى الإنس، فإن الله صرف نفر الجن ليستمعوا ما يوحى إليه ويبلغوا قومهم. ومنها: ذكاء الجن ومعرفتهم بالحق، وأن الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحققوه من هداية القرآن، وحسن أدبهم في خطابهم. ومنها: اعتناء الله برسوله، وحفظه لما جاء به، فحين ابتدأت بشائر نبوته، والسماء محروسة بالنجوم، والشياطين قد هربت عن أماكنها، وأزعجت عن مراصدها، وأن الله رحم به الأرض وأهلها رحمة ما يقدر لها قدر، وأراد بهم ربهم رشداً، فأراد أن يظهر من دينه وشرعه ومعرفته في الأرض، ما تبتهج له القلوب، وتفرح به أولو الألباب، وتظهر به شعائر الإسلام، وينقمع به أهل الأوثان والأصنام.
ومنها: شدة حرص الجن لاستماع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتراكمهم عليه. ومنها: أن هذه السورة، قد اشتملت على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وبينت حالة الخلق، وأن كل أحد منهم لا يستحق من العبادة مثقال ذرة، لأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، إذا كان لا يملك لأحد نفعاً ولا ضراً، بل ولا يملك لنفسه، علم أن الخلق كلهم كذلك، فمن الخطأ والغلط اتخاذ من هذا وصفه إلهاً [آخر] مع الله. ومنها: أن علوم الغيب قد انفرد الله بعلمها، فلا يعلمها أحد من الخلق، إلا من ارتضاه الله وخصه بعلم شيءٍ منها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 05-09-2020, 04:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,765
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير السعدى ___متجدد إن شاء الله

الحلقة (611)
تفسير السعدى
(سورة المزمل)
من (1)الى (20)
عبد الرحمن بن ناصر السعدى
تفسير سورةالمزمل

{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } 1 { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } 2 { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } 3 { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } 4 { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } 5 { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } 6 { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } 7 { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } 8 { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } 9 { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } 10 { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِي نَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً }11


المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف حصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أكرمه الله برسالته، وابتدأه بإنزال [وحيه بإرسال] جبريل إليه، فرأى أمراً لم ير مثله، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون، فاعتراه في ابتداء ذلك انزعاج حين رأى جبريل عليه السلام، فأتى إلى أهله، فقال: " زملوني زملوني " وهو ترعد فرائصه، ثم جاءه جبريل، فقال: " اقرأ " فقال: " ما أنا بقارئ " ، فغطه حتى بلغ منه الجهد، وهو يعالجه على القراءة، فقرأ صلى الله عليه وسلم، ثم ألقى الله عليه الثبات، وتابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغاً ما بلغه أحد من المرسلين. فسبحان الله، ما أعظم التفاوت بين ابتداء نبوته ونهايتها، ولهذا خاطبه الله بهذا الوصف الذي وجد منه في أول أمره. فأمره هنا بالعبادات المتعلقة به، ثم أمره بالصبر على أذية أعدائه، ثم أمره بالصدع بأمره، وإعلان دعوتهم إلى الله، فأمره هنا بأشرف العبادات، وهي الصلاة، وبآكد الأوقات وأفضلها، وهو قيام الليل. ومن رحمته تعالى، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال: { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } ، ثم قدر ذلك فقال: { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ } أي: من النصف { قَلِيلاً } بأن يكون الثلث ونحوه، { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي: على النصف، فيكون الثلثين ونحوها. { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وتحريك القلوب به، والتعبد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له، فإنه قال: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه. ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } أي: الصلاة فيه بعد النوم { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي: أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنه لا يحصل به هذا المقصود، ولهذا قال: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } أي: تردداً على حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام، { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } شامل لأنواع الذكر كلها { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي: انقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه. { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب [كلها]، فهو تعالى رب المشارق والمغارب، وما يكون فيها من الأنوار، وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي، فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره. { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي: لا معبود إلا وجهه الأعلى، الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم، والإجلال والتكريم، ولهذا قال: { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } أي: حافظاً ومدبراً لأمورك كلها.
فلما أمره الله بالصلاة خصوصاً، وبالذكر عموماً، وذلك يحصل للعبد ملكة قوية في تحمل الأثقال، وفعل الثقيل من الأعمال، أمره بالصبر على ما يقول فيه المعاندون له ويسبونه ويسبون ما جاء به، وأن يمضي على أمر الله، لا يصده عنه صاد، ولا يرده راد، وأن يهجرهم هجراً جميلاً، وهو الهجر حيث اقتضت المصلحة الهجر الذي لا أذية فيه، فيقابلهم بالهجر والإعراض عنهم وعن أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن. { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِي نَ } أي: اتركني وإياهم، فسأنتقم منهم، وإن أمهلتهم فلا أهملهم، وقوله: { أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } أي: أصحاب النعمة والغنى، الذين طغوا حين وسع الله عليهم من رزقه، وأمدهم من فضله كما قال تعالى:{ كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7]. ثم توعدهم بما عنده من العقاب، فقال: { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً... }.

{ إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } 12 { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } 13 { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً }14


أي: إن عندنا { أَنكَالاً } أي: عذاباً شديداً، جعلناه تنكيلاً للذي لا يزال مستمراً على الذنوب. { وَجَحِيماً } أي: ناراً حامية { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } وذلك لمرارته وبشاعته، وكراهة طعمه وريحه الخبيث المنتن، { وَعَذَاباً أَلِيماً } أي: موجعاً مفظعاً، وذلك { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ } من الهول العظيم، { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ } الراسيات الصم الصلاب { كَثِيباً مَّهِيلاً } أي: بمنزلة الرمل المنهال المنتثر، ثم إنها تبس بعد ذلك، فتكون كالهباء المنثور.
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } 15 { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً }16


يقول تعالى: احمدوا ربكم على إرسال هذا النبي الأمي العربي البشير النذير، الشاهد على الأمة بأعمالهم، واشكروه وقوموا بهذه النعمة الجليلة، وإياكم أن تكفروها، فتعصوا رسولكم، فتكونوا كفرعون حين أرسل الله إليه موسى بن عمران، فدعاه إلى الله، وأمره بالتوحيد، فلم يصدقه، بل عصاه، فأخذه الله أخذاً وبيلاً أي: شديداً بليغاً.
{ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } 17 { ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً }18


أي: فكيف يحصل لكم الفكاك والنجاة من يوم القيامة، اليوم المهيل أمره، العظيم قدره، الذي يشيب الولدان، وتذوب له الجمادات العظام، فتتفطر به السماء وتنتثر به نجومها { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } أي: لا بدَّ من وقوعه، ولا حائل دونه.

{ إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً }19


[أي:] إن هذه الموعظة التي نبأ الله بها من أحوال يوم القيامة وأهواله، تذكرة يتذكر بها المتقون، وينزجر بها المؤمنون، { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } أي: طريقاً موصلاً إليه، وذلك باتباع شرعه، فإنه قد أبانه كل البيان، وأوضحه غاية الإيضاح، وفي هذا دليل على أن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم، ومكنهم منها، لا كما يقوله الجبرية: إن أفعالهم تقع بغير مشيئتهم، فإن هذا خلاف النقل والعقل.

{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُوا ْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }20


ذكر الله في أول هذه السورة أنه أمر رسوله بقيام نصف الليل، أو ثلثه أو ثلثيه، والأصل أن أمته أسوة له في الأحكام، وذكر في هذا الموضع، أنه امتثل ذلك هو وطائفة معه من المؤمنين. ولما كان تحرير الوقت المأمور به مشقة على الناس، أخبر أنه سهل عليهم في ذلك غاية التسهيل فقال: { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي: يعلم مقاديرهما وما يمضي منهما ويبقى. { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } أي: [لن] تعرفوا مقداره من غير زيادة ولا نقص، لكون ذلك يستدعي انتباهاً وعناءً زائداً أي: فخفف عنكم، وأمركم بما تيسر عليكم، سواء زاد على المقدر أو نقص، { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } أي: مما تعرفون ومما لا يشق عليكم، ولهذا كان المصلي بالليل مأموراً بالصلاة ما دام نشيطاً، فإذا فتر أو كسل أو نعس، فليسترح، ليأتي الصلاة بطمأنينة وراحة. ثم ذكر بعض الأسباب المناسبة للتخفيف، فقال: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } يشق عليهم صلاة ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه، فليصل المريض المتسهل عليه، ولا يكون أيضاً مأموراً بالصلاة قائماً عند مشقة ذلك، بل لو شقت عليه الصلاة النافلة، فله تركها [وله أجر ما كان يعمل صحيحاً]. { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } أي: وعلم أن منكم مسافرين يسافرون للتجارة، ليستغنوا عن الخلق، ويتكففوا عن الناس أي: فالمسافر، حاله تناسب التخفيف، ولهذا خفف عنه في صلاة الفرض، فأبيح له جمع الصلاتين في وقت واحد، وقصر الصلاة الرباعية. وكذلك { وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فذكر تعالى تخفيفين، تخفيفاً للصحيح المقيم، يراعي فيه نشاطه، من غير أن يكلف عليه تحرير الوقت، بل يتحرى الصلاة الفاضلة، وهي ثلث الليل بعد نصفه الأول. وتخفيفاً للمريض أو المسافر، سواء كان سفره للتجارة، أو لعبادة، من قتال أو جهاد، أو حج، أو عمرة، ونحو ذلك، فإنه أيضاً يراعي ما لا يكلفه، فلله الحمد والثناء، الذي ما جعل على الأمة في الدين من حرج، بل سهل شرعه، وراعى أحوال عباده ومصالح دينهم وأبدانهم ودنياهم. ثم أمر العباد بعبادتين، هما أم العبادات وعمادها: إقامة الصلاة، التي لا يستقيم الدين إلا بها، وإيتاء الزكاة التي هي برهان الإيمان، وبها تحصل المواساة للفقراء والمساكين، ولهذا قال: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } بأركانها، وشروطها، ومكملاتها، { وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } أي: خالصاً لوجه الله، من نيةٍ صادقة، وتثبيتاً من النفس، ومال طيب، ويدخل في هذا، الصدقة الواجبة والمستحبة، ثم حث على عموم الخير وأفعاله، فقال: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.
وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، وما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات والشهوات، وأن الخير والبر في هذه الدنيا، مادة الخير والبر في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه، فواأسفاه على أوقات مضت في الغفلات، وواحسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات، وواغوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها. فلك اللهم الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك. { وَٱسْتَغْفِرُوا ْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وفي الأمر بالاستغفار بعد الحث على أفعال الطاعة والخير، فائدة كبيرة، وذلك أن العبد ما يخلو من التقصير فيما أمر به، إما أن لا يفعله أصلاً أو يفعله على وجه ناقص، فأمر بترقيع ذلك بالاستغفار، فإن العبد يذنب آناء الليل والنهار، فمتى لم يتغمده الله برحمته ومغفرته، فإنه هالك.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 306.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 300.81 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.91%)]