|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#2
|
||||
|
||||
![]() وبعبارة أخرى، يستند التهجين إلى الجدل الخفي، والخلط بين حوارين أحدهما: حوار صريح ، والآخر حوار خفي، يشكلان معا جدلا بين شخصيتين: شخصية حاضرة مشخصة (بكسر الصاد)، وشخصية غائبة مشخصة (بفتح الصاد)، كما يتجلى ذلك واضحا في هذا الحوار الداخلي الذي يرد في شكل جدل خفي:" خضنا منذ أيام حديثا خاصا مع يغستافي إيفانوفيتش، يقال: إن أهم فضيلة في هذا البلد- أن تعرف كيف تجمع النقود.قالوا ذلك على سبيل النكتة(وأنا أعرف أنها نكتة)، الموعظة الأخلاقية هنا هي أنه لايتعين عليك أن تكون عالة على أحد، وأنا من ناحيتي لست عالة على أحد! لدي كسرتي من الخبز الذي آكله، صحيح أنها كسرة خبز بائسة، وأحيانا حتى تكون يابسة، ولكنها موجودة، حصلت عليها بعرقي، واستعملها بطريقة قانونية لاعيب فيها.على كل ما العمل! وأنا نفسي أعرف أنه ليس مما سيبعث على الاعتزاز أن يعمل المرء نساخا أجل، ومع ذلك فأنا فخور بذلك، فأنا أعمل، وأريق عرقي. ولكن ماهو المعيب، في الواقع، في أني استنسخ!وهل يرتكب المرء إثما إذا عمل في الاستنساخ؟" إنه، يزعمون يعمل نساخا!..." أجل، وما المخجل في ذلك؟... على الأقل إني بهذه الطريقة أعي الآن بأني مهم، وأن هناك من هو بحاجة إلي، وأنه ليس في هذا مايبرر إزعاج الإنسان بمثل هذه السخافات، على كل، دعهم يقولون إني جرذ.إذا كانوا قد وجدوا هناك شبها.إن هذا الجزء ضروري، إنه يقدم مايفيد، ثم إنهم يتمسكون بهذا الجرذ، وإنهم ينعمون على هذا الجرذ بمكافأة.هل رأيت أي جرذ هذا!بالمناسبة لقد تحدثنا كثيرا حول هذه المسألة ياعزيزتي.لا أخفي عليك، إني لم يكن في نيتي أن أحدثك حول هذه المسألة غير أني تحمست قليلا.مع ذلك، فإن المرء يشعر بالراحة، وهو ينصف نفسه من وقت لآخر"[41] يلاحظ المتلقي بأن هناك نوعا من التهجين والخلط بين الحوارات والأساليب داخل هذا الكلام الذي ورد في صيغة الأسلوب غير المباشر الحر. كأني بالشخصية المتحاورة تدافع عن نفسها، وترد على الآخرين، وتستحضر كلام الغير، فتفنده بالحجة والدليل والبرهان. ويعني هذا أن كلام الغير حاضر ، ولكن صاحبه غائب. ومن ثم، يبدو أن هذا الحوار هو نوع من الجدل الخفي. أما الأسلبة الروائية، فتقوم على تقليد الأساليب أو الجمع بين لغة مباشرة (أ)، من خلال لغة ضمنية (ب) في ملفوظ واحد[42]، أو الجمع بين أسلوبين : أسلوب معاصر وأسلوب تراثي داخل ملفوظ كلامي واحد، كما نجد ذلك في الكثير من الروايات العربية الحداثية ذات البعد التراثي، كروايتي: " مجنون الحكم"[43] و" العلامة"[44] لبنسالم حميش، ورواية:" الزيني بركات" لجمال الغيطاني[45]، ورواية"جارات أبي موسى" لأحمد توفيق[46]، حيث يقلد هؤلاء الكتاب أساليب السرد التراثي، من أجل تحقيق وظائف فنية وجمالية ودلالية... ومن الأمثلة على ذلك مقطع من رواية:" زمن بين الولادة والحلم" للمبدع المغربي أحمد المديني:" ...وقف الرجل، وأوقف، وبكى واستبكى، وكان موقفا جليلا مهيبا.سيرفع الكرب، يرخى اللجام، ترفع عقيرة مولانا الإمام...وبخ بخ: بلغني، فيما بلغني، وبلغت فيما بلغت، ولقد أبلغت وبلغ لي، وعن السلف الصالح، وغار حراء، وبحار المعرفة السبع، وصلنا أنه ياسيد الرجال، لابد من...(ويغضي من مهابته)...لابد من بناء سور من حديد على الجدران، فتنفس القوم الصعداء..عداء...داء وقام بعدها سيد الناس ليفاجىء الناس: لنشرب الليلة نخب معرفة حكمة الإمام...مام...مام."[47] في حين، تستند الباروديا أو المحاكاة الساخرة :" إلى الحديث بواسطة كلمة الآخرين.ولكنه- بعكس مايفعله في تقليد الأساليب- يدخل في هذه الكلمة اتجاها دلاليا يتعارض تماما مع النزعة الغيرية.إن الصوت الثاني الذي استقر في الكلمة الغيرية. يتصادم هنا بضراوة مع سيد الدار الأصلي، ويجبره على خدمة أهداف تتعارض مع الأهداف الأصلية تماما، الكلمة تتحول إلى ساحة لصراع صوتين اثنين.ولذلك، ففي المحاكاة الساخرة يتعذر امتزاج صوتين، بينما يكون ذلك ممكنا في تقليد الأساليب...من الممكن محاكاة أسلوب الغير محاكاة ساخرة باتجاهات مختلفة، وأن تدخل إليه نبرات جديدة، أما تقليده أسلوبيا فيكون ممكنا، في الحقيقة، في اتجاه واحد فقط- باتجاه وظيفته الخاصة. إن كلمة المحاكاة الساخرة يمكن أن تكون متنوعة لدرجة كبيرة يمكن أن نحاكي محاكاة ساخرة أسلوب الغير بوصفه أسلوبا. يمكن أن نحاكي محاكاة ساخرة طريقة نموذجية على المستوى الاجتماعي أو شخصية على المستوى الفردي، طريقة في الرؤية، في التفكير، في الكلام. بالإضافة إلى ذلك، فإن المحاكاة الساخرة تكون عميقة ، بهذه الدرجة أو تلك، يمكن أن تقتصر المحاكاة الساخرة على الأشكال اللفظية السطحية ، غير أن الممكن كذلك أن تغور هذه المحاكاة الساخرة لتصل إلى المبادىء والأسس العميقة لكلمة الغير.إضافة إلى ذلك، فإن كلمة المحاكاة الساخرة يمكن أن تستخدم من جانب المؤلف بصورة مختلفة: المحاكاة الساخرة تستطيع أن تكون هدفا بذاتها..."[48] ويعني هذا أن المحاكاة الساخرة هي طريقة أسلوبية قائمة على إيراد أساليب الآخرين تضمينا وتناصا وحوارا، ومحاكاتها بطريقة ساخرة قوامها: التناقض، و التضاد ، والسخرية، والكروتيسك، والروح الكرنفالية...وهذا النوع من الأساليب توجد بكثرة في الروايات العربية التراثية الساخرة كرواية:" الزيني بركات" لجمال الغيطاني، ورواية:" مجنون الحكم" لبنسالم حميش... أما الحوار أو الديالوغ البوليفوني، فهو بمثابة حوار مباشر خارجي، يستلزم تعدد الشخصيات، واختلاف المواقف والأفكار، وتصارع الإيديولوجيات.وفي المقابل، يتم الحديث عن الحوار الداخلي (المنولوج)، والحوار الصامت الدال على الصمت والسكوت والحذف والإضمار. وهناك أيضا ما يسمى بالعبارات المسكوكة (les expressions figées)، ويقصد بها تلك العبارات التراثية المأثورة والمتوارثة جيلا عن جيل، كالأمثال والحكم والعبارات المسنونة بدقة وإحكام ، مثل:" مات حتف أنفه"، و" من جد وجد ومن زرع حصد". ومن هنا، " يحتوي التراث على مجموعة من التراكيب المسكوكة.أي: بنيات لغوية ثابتة ذات قوالب مستقرة.وتوجد التراكيب المسكوكة التي يطلق عليها أحيانا مصطلح العبارة الجاهزة (Ready mode expressions) في اللغة، مثل: صيغة التعجب، أو في اقتران بعض الكلمات بعضها ببعض.ويطلق عليها أحيانا اسم الكليشيه، فتكون مضافا ومضافا إليه، مثل قولك: "سخرية القدر"، أو فعلا ومفعولا، مثل: "ولاه دبره" أو فعلا وشبه جملة، مثل: "أسقطه من حسابه"، وهلم جرا. غير أن هناك نوعية أخرى من التراكيب المسكوكة النابعة من النصوص الأدبية، والتي انتشرت بين الناطقين باللغة.وهي مجموعة من الكلمات تدخل في علاقات سياقية ثابتة لايجوز تغييرها أو تبديلها، فإن القالب أو الشكل الذي تأتي عليه، هو الطابع المميز لها، فإذا استقلت الوحدات، فقد التركيب المسكوك طابعه المميز.لأن خبرة القارىء بهذه التراكيب المسكوكة خبرة تعرف لاخبرة معرفة.ويقول ميكائيل ريفاتير :إن صفة الكليشيه الأساسية أنه يثير في القارىء الإحساس بأنه شاهد من قبل.إنه ممضوغ.إنه متحجر.ومن هذا الإحساس يستخلص ريفاتير أن كل كلمة على حدة لا تعني شيئا."[49] زد على ذلك، فللعبارات المسكوكة وظائف عدة: جمالية، ونفسية، وأخلاقية، وتأثيرية، وتناصية...ومن ثم، تثير التراكيب المسكوكة حسب ميكائيل ريفاتير:" ردود فعل جمالية وخلقية وتأثيرية في نفس القارىء، تتميز هذه التراكيب بمميزات الظاهرة الأسلوبية، من حيث إنها تسترعي انتباه القارىء في لحظة تعرفه عليها، غير أنها تدخل أيضا، في كثير من الأحيان، في نسق بلاغي، مثل التمثيل أو الاستعارة أو المبالغة او المفارقة.أما من حيث تفاعلها داخل السياق، فإنها تدخل في علاقة تضاد مع السياق، من حيث إنها مستعارة من كتاب معاصرين للكاتب."[50] وهناك ظاهرة الأجناس التعبيرية المتخللة، ويعني هذا أن الرواية قد تتخلها أجناس أدبية صغرى أو كبرى، كالحكاية الشعبية، أو الخرافة، أو الأسطورة، أو الأمثال، أو الشعر، أو المسرح، أو الرحلة، أو الرسالة، أو الخطبة، أو قصصات الصحافة والإعلام...إلخ وعليه، فاللسانيات الخارجية هي التي تنصب على الحوارية بالدرس والفحص والتمحيص؛ لأن اللغة حسب باختين ذات طابع مادي حواري. ومن ثم، فالخطاب المعروض في الخطاب الروائي قد يكون عبارة عن حوار مباشر (أحادي الصوت) ، أو يكون خطابا بوليفونيا متعدد الأصوات. 6- تعدد المنظورات السردية: تتعدد المنظورات السردية في الرواية البوليفونية، حيث ينتقل الكاتب من وجة نظر إلى أخرى، حيث ينطلق من الرؤية من الخلف ليمر إلى الرؤية الداخلية. وبعد ذلك، يستعمل الرؤية من الخارج. كما ينوع الضمائر السردية، حيث يشغل ضمير الغائب، فضمير المتكلم، ثم ضمير المخاطب. أو ينتقل من السارد الواحد إلى السارد المتعدد، كما ينتقل من السارد المطلق إلى السارد النسبي والسارد الشاهد، أو يتأرجح بين سارد حاضر وسارد غائب، أو بين سارد مشارك وسارد محايد. وكلما تعددت وجهات النظر، واختلفت المنظورات السردية، وتعددت الضمائر ، وتنوع الرواة والسراد، كانت الرواية أقرب إلى الرواية الحوارية منها إلى الرواية التقليدية ذات الصوت الواحد. ومن النماذج الروائية التي انشغلت كثيرا بتقنية تعدد الرواة والسراد نذكر رواية:" لعبة النسيان" لمحمد برادة، حيث يقول على لسان راوي الرواة:" لعلني تسرعت في الإفضاء بتأملاتي هذه حول ما حكاه لنا رواة هذا الفصل.وقد لايكون ذلك هو ماقصد إليه الكاتب لأن التعليقات التي أثبتها على الهوامش، تلح كثيرا على أن الزمان لايوقر أحدا، وأنه غير مطمئن إلى الطريقة التي تصور بها علاقة الطايع بالهادي. وفي رأيه- إذا جاز لي أن أغامر بالاستخلاص-أن استقصاء الحالات وتشخيصها، عملية لاتقف عند حد: فكلما توخينا الدقة، كلما اتسعت الدائرة، وبرزت عناصر أخرى لاتخلو من تأثير.فتتوالد افتراضات تتقاطع مع الأولى.من ثم، فإن أوراق ملحقة، تشتمل على بلاغات وخطب وقصاصات صحف، وربورتاجات مستنسخة عن الإذاعة... فوجدتني محتارا عند الاختيار.لذلك، آثرت أن أكتفي، هنا، بإيراد عينة فقط من تلك الأوراق الملحقة..."[51] ويعني هذا أن محمد برادة في روايته:" لعبة النسيان" يوظف أنواعا عدة من الرواة كراوي الرواة ، والرواة الفرعيين، والسراد، وكل ذلك من أجل خلق رواية بوليفونية حقيقية. 6- البناء المركب: يقترن البناء المركب بظاهرة الأجناس التعبيرية المتخللة، ويعني هذا أن الرواية قد تتخلها أجناس أدبية صغرى أو كبرى، كالحكاية الشعبية، أو الخرافة، أو الأسطورة، أو الأمثال، أو الشعر، أو المسرح، أو الرحلة، أو الرسالة، أو الخطبة، أو قصصات الصحافة والإعلام...إلخ ومن ثم، يستند البناء في الرواية البوليفونية إلى دمج العناصر المتناقضة والمتنافرة جدليا داخل إطار سردي متكامل ذي وحدة موضوعية وعضوية. ويعني هذا أنه لابد من إيجاد تعددية سردية وفنية لتركيب العمل الروائي، كأن يستدمج هذا العمل – مثلا- مجموعة من الأجناس والأنواع والأنماط الأدبية وغير الأدبية ، فيصهرها داخل بوتقة فنية وجمالية متعددة الأصوات والبنى التركيبية. بالإضافة إلى ذلك، " فإن تركيب السرد نفسه - سواء قدم هذا السرد بواسطة المؤلف أو بواسطة الراوي أو بواسطة إحدى الشخصيات- يجب أن يكون التركيب مغايرا تماما لما هو عليه في الروايات ذات الطبيعة المونولوجية.إن ذلك الموقف الذي ينطلق منه القص أو يستند إليه التصوير، أو يصدر عنه الإخبار، هذه المواقف يجب أن تكون قد تحددت في ضوء الموقف من هذا العالم الجديد- عالم الذوات المتساوية الحقوق، لاعوالم الموضوعات. والكلمة التي تقص، وتصور، وتخبر، يجب أن تعالج علاقة ما جديدة تجاه مادتها. وهكذا، فإن جميع عناصر البنية الروائية عند دويستفسكي ذات خصوصية كبيرة جدا. إنها تتحدد جميعها بتلك المهمة الفنية الجديدة التي استطاع دويستفسكي وحده أن يطرحها، ويحلها بكل ماتنطوي عليه من عمق وسعة: مهمة بناء عالم متعدد الأصوات، إلى جانب تحطيم الأشكال القائمة للرواية الأوروبية المونولوجية(المتجانسة) في الأصل."[52] ويعني هذا أن جنس الرواية بالمفهوم البوليفوني يحوي مجموعة من الأجناس والأنواع والأنماط الفرعية التي تتخلل الجنس الرئيس تعضيدا وتركيبا وتأليفا وإنشاء وشعرية. وللتوضيح أكثر، كأن تتضمن الرواية قصائد شعرية، وأهازيج ، وموشحات، وحكايات، وأساطير، ونصوصا وصفية، وقصاصات الصحف، ومسرحيات، ولقطات سينمائية، ولوحات تشكيلية، ومقاطع نقدية، وخطبا، ورسائل، وطلاسم السحر والشعوذة، والمقالة، والتاريخ، كما يتجلى ذلك واضحا في رواية:" الزيني بركات" لجمال الغيطاني...ويسمى كل هذا بالأجناس التعبيرية المتخللة (بكسر اللام الأولى) 7- التناص الحواري: إذا كانت جوليا كريستيفا (Julia kristeva) ، بمافيها جماعة تيل كيل (Tel Quel)، قد اهتمت كثيرا بالتناص (Intertextualité)، فإن الشكلانيين الروس هم الذين سبقوا إلى طرح هذا المفهوم، ولاسيما ميخائيل باختين الذي بلور ه في كتابه" شعرية دويستفسكي" بشكل جلي، وذلك ضمن حديثه عن الحوارية والباروديا والأسلبة ضمن تنظيره للرواية البوليفونية. وقد ربط باختين التناص بتداخل النصوص داخل ملفوظ حواري معين. لذا، استخدم مصطلحي " الحوارية" و" البوليفونية" للإحالة على مصطلح التناص الذي استخدمته جوليا كريستفا. هذا، وينبني التناص الحواري على التضمين، والاقتباس، والمعارضة، الاستشهاد، وتوظيف النص الغائب، واستحضار كلام الغير نقلا وامتصاصا وتفاعلا وحوارا... 8- الفضاء الكرونوطوبي: يرتبط الفضاء الكرونوطوبي داخل الرواية البوليفونية بالباحث الروسي ميخائيل باختين (Mikhaïl Bakhtine)، ويعتمد على إدماج الزمان في المكان لتشكيل فضاء واحد يسمى بالفضاء الزمكاني .ويتسم هذا الفضاء بالوحدة والتناسق والتداخل العضوي، ومن الصعب بمكان الفصل بينهما كما كان يفعل علماء الطبيعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين .ومن ثم، يرى ميخائيل باختين بأن الكرونوطوب (Chronotope) :" يعين الوحدة الفنية للعمل الأدبي في علاقاته مع الحقيقة، كما يتضمن أيضا وباستمرار مكونا أساسيا، بحيث لايمكن عزله عن مجموعة " الكرونوطوب" الأدبي إلا بتحليل تجريدي، ذلك أنه في الفن والأدب عموما، كل التعريفات الزمكانية (Spatio-temporeles) هي غير منفصلة عن بعضها، وتحمل دائما قيمة انفعالية ، إن التفكير على مستوى التجريد يمكن بالتأكيد أن يتأمل الزمان والمكان منفصلين، ويقصي القيم الاستعمالية، إلا أن المتأمل الحي (الذي يعنى بالتأمل الرزين غير المجرد) في أي عمل فني، لا يجزىء شيئا، ولايقصي شيئا، إنه : أي التفكير الحي يضبط الكرونوطوب في كليته واكتماله.ذلك، أن الفن والأدب مشبعان بالقيم الكرونوطوبية في مختلف الدرجات والأبعاد، وكل باعث أو مكون أساسي في أي عمل فني ينبغي أن يقدم مثلما تقدم أي قيمة من قيمه."[53] ويعني كل هذا أن الكرونوطوب يتحقق دائما في العمل الأدبي والفني، وذلك بحضور المؤشرات الزمانية والمكانية التي تحقق للنص أو الخطاب اتساقه العضوي وانسجامه الدلالي. ويرى الباحث المغربي محمد منيب البوريمي أن ميخائيل باختين أخذ مصطلح كرونوطوب من العلوم الصلبة كما في قوله: " لعل ميخائيل باختين، حين صاغ أو اقترض- من العلوم الصلبة- مصطلحه النقدي المشهور (كرونوطوب)، واستنبته في مجال النقد الأوروبي الحديث، قد ضمنه إلى جانب البعد المعجمي للكلمة (الحجم والكثافة)، مفهوم السيولة والاندلاق، الشيء الذي جعل الكلمة متصلا رباعي الأبعاد كما في تصور النظرية النسبية الخاصة التي تعتبر المكان والزمان غير قابلين للفصل موضوعيا."[54] بيد أن ميخائيل باختين أخذ هذا المصطلح من علم الموسيقى ، ويعني الكرونوطوب في هذا الميدان تعدد الأصوات والأنغام. ومن ثم، استعمله في النقد الأدبي ليدل على تعدد الشخصيات، وتعدد الأطروحات الفكرية، وتعدد المواقف الإيديولوجية، وتعدد اللغات والأساليب. 6- فضاء العتبة: من المعلوم أن فضاء العتبة (Seuil) في الرواية البوليفونية هو فضاء الصدمات والأزمات والمشاكل العضوية والنفسية. بمعنى أن الأماكن التي يعيش فيها البطل أو التي ينتقل عبرها هي أماكن موحشة وعدوانية، تثير الاشمئزاز والقلق والغثيان والموت. وبتعبير آخر، ففضاء العتبة هو فضاء الكوارث التي تعصف بالإنسان المقهور داخل مجتمع محبط ، تنعدم فيه القيم الأصيلة، وتهيمن عليه العلاقات التشييئية الرأسمالية، حيث تتحول القيم المعنوية أو الكيفية إلى قيم مادية واستعمالية قائمة على الغرضية والمنفعة والتبادل. وقد يكون هذا الفضاء عبارة عن فضاءات مفتوحة كالساحات أو الممرات أو العتبات الوسيطة التي تفصل الداخل عن الخارج. وترتبط بهذه الفضاءات أزمات خانقة تؤثر سلبا على حياة البطل، وتشكل موقفه الإيديولوجي من العالم، وتحدد مصيره في ضوء مصائر الآخرين الذين يعيشون معه في نفس العالم المحيط به.أما الزمان الذي يندغم فيه ذلك البطل المقهور، فهو زمن مشحون بالتوتر والقلق والسأم والتأزم والصراع التراجيدي. وهنا، نتحدث عن بطل يسمى بالشخصية غير المنجزة.أي : شخصية قلقة ومنهارة ومتضعضعة. وبالتالي، فهي غير منجزة حدثيا، وغير مستقرة في حياتها. وتعتبر روايات دويستفسكي ، كرواية : "الجريمة والعقاب"، ورواية:" الإخوة كرامازوف"، من الروايات المتعددة الأصوات (البوليفونية) التي سبقت إلى توظيف هذا النوع من الفضاء الإشكالي، كما يرد هذا النوع من الفضاء في الهجائيات المينيبية التي تأثر بها دويستفسكي كثيرا. وفي هذا الصدد، يقول ميخائيل باختين:" إنه، في الحقيقة، وصف صائب تماما للطريقة التكوينية لبناء المنيبية الخيالية.بالإضافة إلى ذلك، فإنه هذا الوصف يمكن أن يعم، باستثناء حالات قليلة، على كل المنهج الإبداعي عند دويستفسكي.إن دويستفسكي لايستخدم أبدا، تقريبا، في أعماله الزمن البيوغرافي التأريخي المستمر نسبيا. أي: الزمن الروائي بمعنى الكلمة.إنه يقفز من خلاله، إنه يركز الحدث في نقاط الأزمات، والانعطافات، والكوارث، حيث تصبح اللحظة معادلة من حيث قيمتها الداخلية لـ" بليون سنة".أي: إنها تفقد حدودها الزمانية.كذلك، إنه يقفز، في الحقيقة، عبر المسافة، ويركز الحدث فقط في نقطتين اثنتين: على العتبة (عند الباب، عند المدخل، عند السلم، في الممر إلى غير ذلك)، حيث تقع الأزمة والانعطاف، أو في الساحة، التي يستعاض عنها عادة بغرفة الاستقبال (صالة، مطعم)، حيث تقع الكارثة أو الخصومة.هكذا، هو بالضبط مفهومه الفني حول الزمان والمكان.إنه يقفز غالبا عبر حالة المماثلة للحقيقة، التجريبية والتفصيلية، وعبر المنطق العقلي. ولهذا، كان صنف المنيبية قريبا من نفسه."[55] ونفهم من هذا أن دويستفسكي قد وظف فضاء العتبة ضمن رواياته البوليفونية أو المتعددة الأصوات، وتأثر في ذلك بالهيجائيات المينيبية. ومن ثم، فلم يكن دويستفسكي يلتزم في رواياته الواقعية أو النفسية بالتعاقب الزمني الكرونولوجي، أو يلتزم بالخط الزمني المتسلسل من الحاضر نحو المستقبل، بل كان يقفز على الزمن البيوغرافي، ويختار منه اللحظات الحاسمة المؤرقة للإنسان، ولاسيما اللحظات المأساوية المبنية على الأزمات و"العواصف" والكوارث والخصومات. كما يرتبط هذا الزمان التراجيدي بأمكنة عدوانية مفتوحة، تحدد جدلية الداخل والخارج، وجدلية الذات والموضوع، وجدلية الأنا والغير، وجدلية الكائن والممكن، وجدلية الانغلاف والانفتاح... ويعني هذا أن البطل يعيشه قلقه الوجودي بين الأمكنة المحاصرة، ويعيش ضياعه واغترابه الذاتي والمكاني في ساحات الصراع الذاتي والموضوعي ،بعيدا كل البعد عن الفضاءات الراقية المغلقة كالقصور والمطاعم وصالات الرقص. وهكذا، يرى ميخائيل باختين:" بأن الفضاء الروائي يكتسي من خلال تداخل مكوناته- في أحيان كثيرة- طابعا رمزيا، فهناك الفضاء الخارجي، والفضاء الداخلي، وهناك الفضاء المغلق والفضاء المنفتح، والفضاء الحميمي والفضاء المعادي، بل إن باختين بعد دراسته القيمة لإنتاج دويستفسكي، لاحظ أنه استعمل في رواياته فضاء رمزيا خاصا، بعيدا عن الصالونات، وحجرات الأكل ، وقاعات الاحتفالات، وغرف النوم.هذا الفضاء الخاص الذي وظفه دويستفسكي في إنتاجه الروائي، سماه باختين : الفضاء العتبة le) seuil)، وهو فضاء يتمثل في المداخل والممرات والأبواب والنوافذ المشرعة على الشوارع، كما أنه فضاء يتمثل في الحانات والأكواخ والقناطر والخنادق والبواخر والسيارات والقطارات.وبعبارة أوضح: إن فضاء العتبة- كما يرى باختين- يمثل المواقف، والأفكار، والأشخاص الذين يعيشون بين/بين، كما أن الزمن الموجود في العتبة هو زمن أزمة (Temps des crises)؛ لأنه مشحون بالتوتر والقلق والاضطراب وطرح الأسئلة المصيرية."[56] ومن هنا، يتأرجح فضاء العتبة بين الداخل والخارج، وبين المغلق والمنفتح. وبالتالي، يجسد تمزق الشخصية غير المنجزة، وتآكلها داخل فضاءات الأزمات الخانقة الوسيطة. 7- الفضاء الكرنفالي: يمكن الحديث عن فضاء آخر توظفه الرواية المتعددة الأصوات (الرواية البوليفونية)، أو ما يسمة أيضا بالرواية الحوارية (الديالوجية)، كما يتضح ذلك جليا عند الروائي الروسي دويستفسكي، ويسمى هذا الفضاء بالفضاء الكرنفالي. ويقوم هذا الفضاء على الكروتيسك، والتشويه، والقبح، والجمع بين الأضداد والمتناقضات، والتأرجح بين الجد والهزل، والانطلاق من المحاكاة الساخرة، وتشغيل الباروديا والضحك، وتوظيف السخرية، والإكثار من النقد الهجائي، وتشغيل الأقنعة والرموز والعلامات الدالة، والتحرر من الطبقية والأعراف والقوانين والقواعد الرسمية، والانتقال من الكوميديا إلى التراجيديا، والعكس صحيح أيضا... وغالبا مايرتبط الفضاء الكرنفالي - مكانيا - بالساحة الشعبية العمومية التي تتجمع في داخلها المتناقضات الاجتماعية (السامي والسافل، والغني والفقير، والراقي والمنحط، والمؤمن والمحلد...). ومن جهة أخرى، يرتبط الفضاء الكرنفالي – زمانيا- بالحفلات الدينية ومواسم الطقوس والشعائر والأسرار الدينية. كما يتسم الفضاء الكرنفالي بمجموعة من السمات والمقومات، مثل: الغرابة ، والشذوذ، والفنتازيا، والارتجال، والاحتفال، والحميمية، والإنسانية، والشعبية، والانفتاح، والغيرية، والحوارية، والجدلية، والتنكر، والمجون... تركيب واستنتاج: وعليه، يتبين لنا- مما سبق- بأن الرواية البوليفونية- حسب ميخائيل باختين- هي رواية متعددة الأصوات واللغات واللهجات والأساليب، كما أنها رواية منفتحة قائمة على التناص الحواري، وتعدد الخطابات، وتفاعل الأجناس الأدبية والفنية، وتلاقح اللغات واللهجات؛ مما يجعل هذه الرواية تستجمع جميع الأصوات واللغات واللهجات الاجتماعية، لتعبر بكل حرية وديمقراطية عن وجهات نظرها ، مع حضور المؤلف الوهمي الذي يتنازل بشكل من الأشكال عن سلطته لراوي الرواة، أويتنازل للسراد المتعددين، أو يتنازل للشخوص لتعبر عن عوالمها الداخلية ومواقفها تجاه الموضوع. إذاً، تنبني الرواية البوليفونية على التعدد اللغوي والتجريب البوليفوني . وبهذا، تكون هذه الرواية مختلفة أيما اختلاف عن الرواية المنولوجية التي تستند إلى الأحادية في كل شيء: لغة، وأسلوبا، وفكرة، ومنظورا، وإيديولوجية، وضميرا، وصوتا... زد على ذلك، فقد استفادت الرواية العربية الجديدة سواء أكانت تجريبية أم تراثية بشكل من الأشكال من الرواية البوليفونية تصورا وصياغة ورؤية وتشكيلا. [1] محمد برادة: لعبة النسيان، دار الأمان، الرباط، المغرب، طبعة2003م. [2] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دارتوبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م، ص:59. [3] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:88. [4] B.Uspenski: Poetics of composition, traduction.CL.Kahn, Poétique9, 1972, P.10 [5] R.Scholes and R.Kellog: The nature of narrative, Oxford University Press, 1966, P.276. [6] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دارتوبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م. [7] M.Bakhtine:Esthétique et théorie du roman,Gallimard,Paris,ED.1978. [8] ميخائيل باختين: الماركسية وفلسفة اللغة، دارتوبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م. [9] أ.ف.تشيتشرين: الأفكار والأسلوب دراسة في الفن الروائي ولغته، ترجمة: د.حياة شرارة، منشورات وزارة الثقافة والفنون، العراق، طبعة 1978م. [10] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ص:396. [11] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:24. [12] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:27. [13] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:30. [14] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:32. [15] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:47. [16] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:54. [17] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:56. [18] B.Uspenski: Poetics of composition, traduction.CL.Kahn, Poétique9, 1972, P.11. [19] Tzvetan Todorov : Mikhail Bakhtine :Le Principe dialogique.Seuil.1981. [20] Julia kristeva: Séméiotiké,pour une sémanalyse,Seuil,Paris,1969. [21] د.حميد لحمداني: أسلوبية الرواية، منشورات دراسات سال، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1989م. [22] د.سيزا قاسم: بناء الرواية، دار التننوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1985م، صص:177-194. [23] محمد برادة: أسئلة الرواية وأسئلة النقد، شركة الرابطة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1996م. [24] عبد الحميد عقار: الرواية المغاربية: تحولات اللغة والخطاب، شركة النشر والتوزيع،المدارس، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2000م. [25] د.عبد الله حامدي: الرواية العربية والتراث: قراءة في خصوصية الكتابة، مؤسسة النخلة للكتاب، وجدة، الطبعة الأولى سنة 2003م. [26] الحبيب الدائم ربي: الكتابة والتناص في الرواية العربية، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى 2004م. [27] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ص:158-159. [28] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ص:163. [29] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ص:167. [30] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:117. [31] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:33. [32] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:34. [33] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:11. [34] ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي،ص:19-20. [35] ميخائيل باختين: نفس المرجع السابق،ص:67. [36] ميخائيل باختين: نفس المرجع السابق، ص:10-11. [37] ميخائيل باختين: نفس المرجع السابق، ص:9. [38] ميخائيل باختين: نفس المرجع السابق ،ص:111. [39] ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الأمان، الرباط، المغرب، الطبعة الثانية سنة 1987م، ص:54. [40] ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ص:108. [41] ميخائيل باختين: نفس المرجع السابق ، ص:302-303. [42] د.حميد لحمداني: أسلوبية الرواية، ص:88. [43] بنسالم حميش: مجنون الحكم، دار رياض الريس، لندن، 1990م. [44] بنسالم حميش: العلامة، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1997م. [45] جمال الغيطاني: الزيني بركات،دار الشروق،الطبعة الرابعة ، 2009م. [46] أحمد توفيق: جارات أبي موسى،منشورات دار القبة الزرقاء، الطبعة الثانية، سنة2000م. [47] أحمد الميني: زمن بين الولادة والحلم، دار النشر المغربية، طبعة 1976م، ص:71. [48]- ميخائيل باختين: نفس المرجع السابق ،ص:282-283. [49] د.سيزا قاسم: روايات عربية، وروايات مقارنة، شركة الرابطة، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1997م، ص:20-21. [50] د.سيزا قاسم: روايات عربية، وروايات مقارنة، ص:22. [51] محمد برادة: لعبة النسيان، ص:80. [52] ميخائيل باختين: نفس المرجع السابق ،ص:12. [53] Mikhaïl Bakhtine: Esthétique et théorie du roman, Edition Gallimard1978,Paris,p:384. [54] محمد منيب البوريمي: الفضاء الروائي في الرواية المغربية الحديثة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول، وجدة، رقم 52، سلسلة بحوث ودراسات، رقم:15، 40. [55] ميخائيل باختين: نفس المرجع السابق ، 219-220. [56] محمد منيب البوريمي: الفضاء الروائي في الغربة: الإطار والدلالة، ص:22-23.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |