
19-09-2022, 11:18 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,370
الدولة :
|
|
رد: ابن المقفع والثالوث القديم
ابن المقفع والثالوث القديم
د. أسعد بن أحمد السعود
وما أرى هنا إلاَّ أن آتي بمثالٍ للمقارنة في هذا الموقف:
لما دخل نبيُّ الله موسى عليه السلام على فرعون مصر، وقال له: إنَّك ظالم للرعيَّة ومتجبِّر وغير عادل، فبماذا أجاب فرعونُ موسى؟
أجاب بـ: نعَم، وماذا في ذلك؟!
قال موسى: عبَّدتَ بني اسرائيل، وقتَّلتَ أبناءهم، واستحييتَ نساءهم!
أجاب فرعون بـ: نعَم، وماذا في ذلك؟
قال موسى: لديَّ حلٌّ (نصيحةٌ) لك! أن تتوقَّف عن ادِّعائك أنَّك إله، فلا يَسجدوا لك مطلقًا، وأن تَرفع الظلم فلا تَقتل أحدًا إلاَّ بالحق، وأن تَعدِل بين الناس في حياتهم، وتُنصِف الرعيَّة في الطعام والشراب والمسكن، وأن تؤمِّنَهم من الخوف.
قال فرعون: وماذا عنِّي أنا؟ كيف أكون إلهًا في يوم، وفي يومٍ آخَر لا أكون أبدًا؟! فمَن يكون غيري إلهًا؟!
قال له موسى: الله إله، وهو إلهي وإلهك وإلهُ الناس والعالمين.
وبعد مجادلةٍ طويلة طلب فرعونُ (دليلاً أو آية) يُثبت بها موسى صحَّةَ نصيحته ومقولته، وجرَت الأمورُ بعدها مُتلاحِقةً متتابعة، وقد عرَفْنا تفاصيلها الدقيقةَ في آيات الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم.
وأمَّا ما جاء به ابنُ المقفَّع في وقائع أحداثِ كتابه فقد أسقَطَه بتوريةٍ وتقيَّةٍ ذكية، ولم يَذكُر الجانب المحرِجَ للفيلسوف وللملِك: (الدين والعبادة والإله)؛ وذلك لتمرير ما أبطَن له، وقد نجَح للوهلة الأولى (قاصدًا قُرَّاء لغة الضَّاد)، ولكنه سقَط سقطته النهائيَّة عندما عرَض الكتاب على الخليفة العباسيِّ (أبي جعفرٍ المنصور).
وبشهادة بعض فقهاء الدِّين واللغة والحكم والسياسة يومَها- وكان أشهَرُهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي- كان السؤال: (أين الله) في تدبير شؤون الحكم؟ لقد انعدَم التوكُّل عليه في تدبير حياة الدنيا للناس، وأصبح مَصيرهم خيرًا وسعادةً في الآخرة في حساب تقدير عقل وحكمة الفيلسوف فقط.
وقد سُئل ابن المقفع: وقيل له: هذا تدبير العقل، فأين خالق العقل؟ أين الله في الكتاب؟ قد غيَّبتَه من مُجرَيات أحداث الكتاب كُلِّيةً! فهل أحلَلتَ العقل محلَّ الله في تدبير شؤون الملك والرعيَّة؟! وهل تنصح الخليفة أمير المسلمين بأن يتخذ من العقل مندوحةً ومصدرًا لتسييس حياة المسلمين؛ لرفع الظُّلم والتجبُّر، ويأخذ بأمثال كتابك، ويترك أمثال كتاب الله وسُنَّة نبيه؟!
لقد ضمَّنت منهجك هذا غرَضَين باطِنيَّين اثنين:
الأول: استنبطتَ الحيلَ والألغاز والألاعيب وغيرَها التي تجري في حياة النَّاس اليومية، وهي من الصفات الخاصة المخلوقة أساسًا في النفس البشرية العاقلة، ونقَلتَها إلى البهائم غيرِ العاقلة وغيرِ الناطقة مثلما هي بلسانِ البشر.
الثاني: عندما تَجري تفاعلات هذه الحيل والألاعيب بكلِّ استخداماتها وعلى وجهها غيرِ المحدود في مجتمعَات البهائم غير العاقلة؛ فإنها تُحدِث الاندهاشَ ويَحدُث اللَّهو والتسلية، وهذا هو المراد المباشر منها، ولكن المراد الباطنيَّ هو القَبولُ البديهيُّ بأمورٍ لو كانت في حياة البشر العاقلة، لما تُقبِّل منها شيءٌ على الإطلاق، ولرُفِضَت رفضًا قاطعًا، وخاصة عندما يتعلَّق الأمر بالعقيدة والإيمان، والخالقِ والتوكُّل عليه، ومفهوم العقل وماهيته ووظيفته في الدِّين الإسلامي.
مقارنة ورصد الأحداث في كتاب كليلة ودمنة:
في الباب الخامس: الأسد والثَّور
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: اضرب لي مثلاً لمتحابَّين يقطع بينهما الكَذوب المحتال، حتى يَحمِلَهما على العداوة والبغضاء.
وفي هذا الباب يَظهر الأخَوان كليلة ودمنة، وهما ابنا آوى، وكانا ذوَيْ دَهاء وعلمٍ وأدب، وقد قرَّر أحدُهما- وهو دمنة- أن يكون قريبًا من الأسد مَلك السِّباع، مُستشارَه وناصِحَه، وقد فعَل ونال ما يُريد بعد أن أثبَت للأسد بدهائه أنه أهلٌ لذلك، ومِن ثَم تتابع الأحداث ويتوصَّل دمنةُ بالأسد إلى بُغض الثور (شتربة) صديقِه، فيَنشب بينهما قتال، ينتهي بمقتل الثَّور، ويكتشف الأسدُ أن الثور كان بريئًا، وأنه كان ذا عقلٍ ورأي وخلُقٍ كريم، وكان مَكذوبًا عليه، فحزن الأسد عليه وندم، ثم عَلم بكذب دمنة وفجوره، فقتله شرَّ قتلة.
وعلى المنوال ذاتِه؛ عندما تضرب الأمثلة لتأكيد حيثيَّات الموضوع، وهي سِلسلة لا تَنتهي تلفُّ حول الفكرة الأخلاقية، أو الصِّفة السيئة بفِعلها كيف يتعلَّم المرء خَباياها وبَواطنها، وكيف تُرسَم وتُحاك خيوطها، وينفذ بِحَذاقةٍ فائقةٍ وقائعَها، وبتجرُّدٍ بالغ من دون وجود أي وازع أخلاقي مضادٍّ حسَن، يفكِّر العقل في الصفة السيئة، ويُنفِّذها بتدبيره وحيلته، ويضَع لها النِّهايات العاقبة كما يَراها هو أيضًا مقدَّمًا، مهما كانت سيئة أو حسنة، وعلى ذات التخطيط العقلي؛ أي: إنَّ (القدر) و(الغيب)- وهما عَمودان مهمَّان في أركان الإيمان في الدين الإسلامي- مُغيَّبان تمامًا، ولم يَدخلا بتاتًا سواء في المقدمة أو في حبكة الأحداث أو في العاقبة، والمعنى الأدنى والسَّهل والمختصَر (للغيب وللقدَر) في الفقه يَعني وجودَ الله، عالِمِ الغيب والشهادة، مقدِّر الأقدار.
أمثلة متكرِّرة (العناوين): الواشي الماهر المحتال- المتحابَّين كيف قطع بينهما الكَذوبُ- العدوُّ الذي لا ينبغي أن يُغترَّ به- الرجل الذي يطلب الحاجة فإذا ظَفِر بها أضاعَها- الرجل العَجْلان في أمره- رجل كَثُر أعداؤه وأحدَقوا به من كلِّ جانب- من يدَع ضرَّ غيره إذا قدر عليه بما يصيبه من الضرر- أهل الترات (الثَّارات) الذين لا بدَّ لبعضهم من اتقاء بعض- الملك الذي يُراجع مَن أصابته منه عقوبةٌ من غير جُرمٍ أو جفوةٌ من غير ذنب... إلخ؛ حتى خمسةَ عشَر مثالاً، تدور كلُّها حول ذات الخصال... وكان آخرها في الباب التاسعَ عشَر: مثَل الرجل الذي يرى الرأيَ لغيره ولا يَراه لنفسِه.
والملاحَظ المهمُّ أنَّ ابن المقفع قد ابتعَد أو أُبعِد عن منهجه؛ موضوع السِّحر والسَّحَرة في ضرب أيِّ مثَل؛ كما ضرَب الله المثل: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ [البقرة: 102]، وكذلك ما كانت ﴿ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ [البقرة: 102]، والذي كان شائعًا ومُتداوَلاً في ذلك الزَّمان في بلاد الهند خاصَّة، حيث كان السِّحر والسَّحرة ينشطون كثيرًا بالتدخُّل في حياة الناس بكل مراتبها وألوانها، وفي الحكم بكلِّ أساليبه وغاياته، وقد كان ذكيًّا في استبعاده وعدَمِ ذِكره، ولو أنَّه فعل ذلك لتَحطَّمَت غاياته الظاهرةُ والباطنة منذ البداية.
ويا سبحان الله! إن العين لتَدْمع، وإن القلب ليَحزن على فراق خِصال كان يُقال عن صاحبها: إنه جَوَاد كريم، يُؤثِر على نفسه، جابرٌ شهمٌ مطيع، وفيٌّ صادق متوكِّل...
وجاء القرآن الكريم فأضاف: صَوَّام قوَّام مجاهدٌ، بارٌّ رحيم أمين، حفيظ زاهد...
وقال الله تبارك وتعالى في سورة الحج: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
وفي سورة البقرة قال الله تبارك وتعالى: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75].
هاتان الآيتان: كلامُ الله، ويقول: إن نشاط العقل بكلِّ ما يحتاجه الإنسانُ على الإطلاق مركزُه القلب، ومكانُ القلب في الصدر، وعندما يعقل الإنسان فإن معنى ذلك فَهْم كلام الله وتصديقه، أي: أن يُؤمن ويعتقد أنَّ العقل مكانه القلب الذي في الصَّدر، وليس الدماغ الذي هو في الرَّأس كما تقول الفلاسفة، ومن يقول هذا القولَ فهو تصريحٌ بائن بتحريفِ كلام الله وعدم الإيمان به.
ومن الطَّرَف الآخر من الحياة الدنيا؛ يقول الله تبارك وتعالى في سورة لقمان: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 10، 11].
ومِن كلام الله الذي اتَّقاه وتَدارى عنه ابن المقفَّع قولُه تبارك وتعالى في سورة الزمر: ﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49].
هذه هي كلمة الحقِّ التي يتدارى منها أصحابُ منهج العقل والعلم بالمسبَّبات؛ يصيبه الضرُّ، والضر قد يكون قاسيًا ومبرحًا، مثلما ساق ابنُ المقفَّع أمثالَه وألوانَه وأحداثَه في كتابه "كليلة ودمنة"، وهنا تَنكشِف التقيَّة التي أخفاها؛ إذ كيف يكون للبَهيمة الواقعِ عليها الضرُّ- مهما كان جِنسُها في الحادثة؛ سواء كانت جارحة مفترسة أو أليفةً غيرَ ذات نابٍ أو مخلب- أن تتَضرَّع إلى الله القويِّ خالقِها؛ لِيُنقذها وليُعينها، ويَكشف السوءَ عنها؟! إنَّ هذا محالٌ في كل حال؛ (مثَلاً في حالة الثور شتربة وما عاناه من كيدِ وكذبِ دمنة، كيف يتَضرَّع ويقول: اللهم ربِّي أنت المعين، أعنِّي على دمنة الكذَّاب الأشِر وخَلِّصني من الأسد الظالم المتجبِّر)، ومِن هنا لجَأ ابنُ المقفع إلى طَمس هذه المقتَلَة، فأبدلها بالنِّهاية (العقليَّة المنطقية)، فتَبدو لمن يَقرؤُها من العوامِّ أنها عاديَّة في مجتمع البهائم، بينما لو وقَعَت ذاتُ الأحداث في مجتمع الإنسان؛ فإن المظلوم لا بدَّ وأن يلجأ إلى أيِّ قوة خفيَّة، يعتقد ويؤمن بها فيتضرَّع إليها، ومن ثَم تَجري العواقبُ بقدَرِها الغيبي، وبالتالي يكون الرِّضا عنها متنوِّعًا بحسب درجة إيمان مَن تضرَّع بها.
وفي الآية الكريمة السابقة (49 من الزمر): يقول مَن خَوَّل بالنِّعمة والفرَج إنما هي مِن عقله وتدبيره؛ (كما ساقها ابن المقفع في حكاياتِه)، والله تبارك وتعالى خالقُ وعالِمُ كلِّ شيء في الآية يقول الحقَّ: ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49].
ولعلَّ القصة الأخيرة من الكتاب والتي جاءت في الباب التاسعَ عشر: بعنوان: الحمامة والثَّعلب ومالك الحزين، سوف نَختُم بها حديثنا كذلك، وقد جاءت في المثل في شأن الرجل الذي يَرى الرأيَ لغيره ولا يَراه لنفسه.
مفردات المثَل:
• الحمامة: تشكِّل محور المثل أو مركزه.
• الثعلب: يشكل خطَّ المحيط حول المركز.
• مالك الحزين: يشكل الخطَّ المستقيم الذي يقطع خطَّ المحيط من الخارج، ويصل إلى المركز.
رموز المثل:
• الحمامة: وبيضها ومِن ثَم فِراخُها تمثِّل الثَّروة أو الخير، أو الأمَّة، أو مختصَرة في شخص الملك، وهي ضعيفة لا حيلةَ لها وهي ضالَّة.
• الثعلب: يمثِّل العدوَّ الصريح، أو المبذِّرين أو الذين يَحصُلون على الثروة من دون خَسارة أو بأساليبِ الإرهاب والتخويف.
• مالك الحزين: يمثِّل الناصح بالرأي الراجح، وكذلك يمثل التخطيط؛ للحِفاظ على الثروة.
رموز المثل كما جاء في سياق الكتاب من أوله إلى آخره:
إذا أرجَعنا رموزَ شُخوص المثل إلى وقائعِ تسمياتِ شخصياتِ الكتاب؛ بحسب ما ورَد في واقع تأليف ابن المقفَّع؛ فإننا نجد التطابق التالي:
الحمامة في تسمية شخوص الكتاب تمثِّل الملك دبشليم، وأما مالك الحزين فيمثِّل بيدبا الفيلسوف، وأمَّا الثعلب فيمثِّل كلَّ بطانة الملك المنتفعين مع المتعاونين المستفيدين، من فَسادٍ لثرواتِ وخيرات البلاد، وبقيَّة ترجمة التفاصيل هي المكمِّلات كما جاءت في الكتاب، ومن هذا التطابق الافتراضيِّ نجد الكاتب ابنَ المقفع يختمها بنهايةٍ مفترضة مسبَقة؛ حيث يقول: مع أنه ليس المنصوحُ (الملك دبشليم) بأولى بالنَّصيحة من الناصح (بيدبا الفيلسوف)، ولا الآمرُ بالخير بأسعدَ مِن المطيع له فيه، ولا المتعلِّمُ بأبعدَ عن العلم ممن يعلِّمه.
وقد استَند ابنُ المقفع إلى هذه (الحكمة) الواقعيَّة وعمَّمها بتورية ذكية؛ حتى لا يَستشعر المنصوحُ أو المتعلِّمُ أو المطيعُ (الملك دبشليم، الخليفة أبو جعفر المنصور، ومَن يأتي مِن السلسلة) بالخوف والرهبة واستِباق نتائج النهايات، فألقى ذلك عليه؛ هو (ابن المقفع) أو (الفيلسوف بيدبا) (أو من سيركب الدَّورَ ذاتَه فيما بعد).
رموز المثل بواقع تطابق التفسير الديني:
لا شك أنَّ ابن المقفع- مِن خلال الترجمة الشخصيَّة له، وأحداث الزمن الذي عاصرَه- ألقى بظلال ثقيلةٍ على مؤلَّفِه هذا: (كليلة ودمنة)؛ سيَّما وقد وضع النِّهاية والحكمة كما رأَيناها بخطِّ يده، وقد ختمَها بقوله: ومن تدبَّر هذا الكتابَ بعَقلِه وأعمَل فيه رأيَه بأصالةٍ مِن فكرته، كان قَمِنًا للمَراتب العِظام والأمور الجِسام، مع مساعدة القدَر، ووَقتِه إذا حضَر، فافهَمْ ذلك أيُّها الملك.
وكما فعَلنا سابقًا؛ فالحمامة تَعني أمَّة العرب، كما كانت في الجاهليَّة، وهذه نظرة ابن المقفَّع الفارسيِّ المجوسي، كانت تتمتَّع بكثيرٍ من المزايا والخيرات، وكان الثَّعلب يُحيط بها من كلِّ جانب: (الفُرس والرُّوم والأحباش)، وكلٌّ مِن هؤلاء موغِلٌ في العداء والاعتداء واقتسام أراضيها وخَيراتها، فيقَع عليها وفيها ظلمٌ شديد، وفجأةً يَظهر مالك الحزين، ويقدِّم النصيحة الثَّمينة (الدِّين الإسلامي؛ ممثَّلاً في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والقرآنِ الكريم)، سهم نور مستقيم يأتي من خارج حكر وحرص كل هؤلاء، ورغم القوَّة والدَّهاء فإنه يخترق حُدودهم وخُطوطهم، ويَصِل إلى مركز الصَّميم؛ إلى مكة حِصْنِ العربِ جميعًا.
ورغم ذلك أين المفارَقة؟ وأين يَكمُن الهدفُ الأسمى للثَّعلب؟
• أولاً: اقتنَع ابنُ المقفَّع بأن الحمامة لم تَعُد أبدًا كما كانت؛ فقد شَربت النَّصيحة وتعلَّمَت الدَّرس عندما أخبرَته قائلةً: لو وصلتَ إلى عُشِّي فسأطير وأنجو بنفسي، ولا يُهمُّ إن أكلتَ الفراخ فسوف آتي بغيرهم، المهمُّ هو انكشاف مكرِ الثعلب وأهدافه، والمحافظةُ على بقاء وجودها، وهذا جوهر النَّصيحة والدرس (بقاء الحمامة حرة طليقة يَعني بقاءَ قوتها).
• ثانيًا: تحوُّل تركيز مكرِ ودهاء الثعلب (الفُرس والرُّوم والأحباش) إلى (القرآن خاصة، والدين الإسلاميِّ عامة)، رمزُهم (مالك الحزين)، واتَّهمَه ابنُ المقفع صراحةً بأنه (عدوُّ نفسِه)؛ أي: يَنصح ويُقوِّم غيره ولا يَنصح نفسَه، فالمعنى الظَّاهر أنه شخَّصه وجعَله كائنًا ضعيفًا سهلاً الانقضاضُ عليه، وقد قدَّم الدليل الماديَّ المحسوس، فَظاهِره المتمثِّل في هذا المثل: (دق عنق مالك وأكَله)، وباطنُه هدَفُ الكتاب كلِّه، بأحداثه كلِّها، والمتمثل في إعلاء شأن العقل والفلسفة، ودَحضِ مبدأ العقيدة الإسلاميَّة بالتوكُّل على الله حقَّ التوكل في كل أمور الدنيا؛ صغيرها وكبيرها، دقها وجلُّها.
• ثالثًا: في هدفه المزدوَج ذي الوجهَين؛ فإنَّ ابن المقفع بمثاله (الحمامة والثَّعلب ومالك الحزين) يضَع ويُرسِّخ أركان العلمانيَّة منذ ذلك الزمان المتقدِّم بثالوثها القديم الجديد، وينصَح بوحدانيَّة الحل النَّاجع:
1- فصل الحمامة الدَّائم عن فراخها وعن ابن مالك، وإحداث كل وسيلة تبقيها في رهبةٍ وخوف وعدمِ استقرار؛ (فصل أمَّة العرب عن دينها).
2- الهجوم المباشر وغير المباشر الدَّائمَينِ بكل وسيلة؛ إمَّا بحيلة أو تشويش أو تحريف أو تشكيك أو القتل المتعمَّد لابن مالك؛ (القرآن والدِّين)، وهذا هو الهدَف الرَّئيس.
3- إحياء وإبقاء قوة وعِلم وحكمة الثَّعلب بشكلٍ دائم؛ وذلك لبَقاء توفُّر الطعام اللَّذيذ والمجَّاني بمواصفاته من دون تقديم أيِّ خسائر.
4- جعل المؤلِّف ابن المقفع قارئَ الكتاب يتقبَّل فكرة قتل مالكٍ الحزين كعُقوبة له؛ لأنَّه لم يَستطِع نُصح نفسه، وهذا هدفٌ باطنيٌّ أخذَت به العلمانية الحديثة؛ مَفادُه أنَّ (الدين الإسلامي يقدِّم النُّصح للفرد، ولا يستطيع أو يَفشل عندما يكون في مواجهةٍ فعليَّة مع العقل وخُططِه في المجموع)!
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|