|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#191
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (191) صـ171 إلى صـ 180 ومنه ألا يذكر للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي ، بل يربي بصغار [ ص: 171 ] العلم قبل كباره ، وقد فرض العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحة في نظر الفقه ، كما ذكر عز الدين بن عبد السلام في مسألة الدور في الطلاق لما يؤدي إليه من رفع حكم الطلاق بإطلاق ، وهو مفسدة . من ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات ، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة ، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت : لم تقضي الحائض الصوم ، ولا تقضي الصلاة ؟ وقالت لها : أحرورية أنت ؟ وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغا وشرد به لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل ، وربما أوقع خبالا وفتنة وإن كان صحيحا وتلا قوله تعالى : وفاكهة وأبا [ عبس : 31 ] فقال هذه الفاكهة فما الأب ؟ ثم قال : ما أمرنا بهذا . إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علم يبث وينشر ، وإن كان حقا ، وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ، ولا حدث بها ، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل ، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون [ ص: 172 ] ذلك فتنبه لهذا المعنى . وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة; فإن صحت في ميزانها; فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله; فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول; فإن قبلتها; فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم ، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم ، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ; فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية . فصل . هذه الفرق ، وإن كانت على ما هي عليه من الضلال; فلم تخرج من الأمة ، ودل على ذلك قوله : " تفترق أمتي " فإنه لو كانت ببدعتها تخرج من الأمة لم يضفها إليها . وقد جاء في الخوارج : " في هذه الأمة كذا " فأتى ب " في " المقتضية [ ص: 173 ] أنها فيها وفي جملتها . وقال في الحديث : " وتتمارى في الفوق " ولو كانوا خارجين من الأمة لم يقع تمار في كفرهم ، ولقال : إنهم كفروا بعد إسلامهم . [ ص: 174 ] فإن قيل : فقد اختلف العلماء في تكفير أهل البدع ; كالخوارج والقدرية وغيرهما . [ ص: 175 ] فالجواب : أنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل دلالة قطعية على خروجهم عن الإسلام ، والأصل بقاؤه حتى يدل دليل على خلافه ، وإذا قلنا بتكفيرهم; فليسوا إذا من تلك الفرق ، بل الفرق من لم تؤدهم بدعتهم إلى [ ص: 176 ] الكفر ، وإنما أبقت عليهم من أوصاف الإسلام ما دخلوا به في أهله ، والأمر بالقتل في حديث الخوارج لا يدل على الكفر ; إذ للقتل أسباب غير الكفر ، كقتل المحارب والفئة الباغية بغير تأويل ، وما أشبه ذلك; فالحق ألا يحكم بكفر من هذا سبيله ، وبهذا كله يتبين أن التعيين في دخولهم تحت مقتضى الحديث صعب ، وأنه أمر اجتهادي لا قطع فيه; إلا ما دل عليه الدليل القاطع للعذر ، وما أعز وجود مثله . [ ص: 177 ] المسألة العاشرة النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه ، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية; فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها; فيكون [ ص: 178 ] هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد ، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية ، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة . والدليل على صحته أمور : أحدها : أن التكاليف - كما تقدم - مشروعة لمصالح العباد ، ومصالح العباد إما دنيوية وإما أخروية ، أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم ، وأما الدنيوية; فإن الأعمال - إذا تأملتها - مقدمات لنتائج المصالح; فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع ، والمسببات هي مآلات الأسباب; فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب ، وهو معنى النظر في المآلات . لا يقال : إنه قد مر في كتاب الأحكام أن المسببات لا يلزم الالتفات إليها عند الدخول في الأسباب ، لأنا نقول - وتقدم أيضا - : أنه لا بد من اعتبار المسببات [ ص: 179 ] في الأسباب ، ومر الكلام في ذلك والجمع بين المطلبين ، ومسألتنا من الثاني لا من الأول; لأنها راجعة إلى المجتهد الناظر في حكم غيره على البراءة من الحظوظ; فإن المجتهد نائب عن الشارع في الحكم على أفعال المكلفين ، وقد تقدم أن الشارع قاصد للمسببات في الأسباب ، وإذا ثبت ذلك لم يكن للمجتهد بد من اعتبار المسبب ، وهو مآل السبب . والثاني : أن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة; فإن اعتبرت فهو المطلوب ، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال ، وذلك غير صحيح; لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد ، ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد . وأيضا; فإن ذلك يؤدي إلى ألا نتطلب مصلحة بفعل مشروع ، ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع ، وهو خلاف وضع الشريعة كما سبق . والثالث : الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية; كقوله تعالى : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] . [ ص: 180 ] وقوله : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 183 ] . وقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام الآية [ البقرة : 188 ] . وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية [ الأنعام : 108 ] . وقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية [ النساء : 165 ] . وقوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج [ الأحزاب : 37 ] . وقوله : كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية [ البقرة : 216 ] . وقوله : ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب [ البقرة : 179 ] . وهذا مما فيه اعتبار المآل على الجملة .
__________________
|
#192
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (192) صـ181 إلى صـ 190 وأما في المسألة على الخصوص; فكثير ، فقد قال في الحديث حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه : أخاف أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل [ ص: 181 ] أصحابه . وقوله : لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم بمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم ، فقال له : لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله ، هذا معنى الكلام دون لفظه . وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه حتى يتم بوله وقال : لا تزرموه . وحديث النهي عن التشديد على النفس في العبادة خوفا من الانقطاع . وجميع ما مر في تحقيق المناط الخاص مما فيه هذا المعنى حيث يكون العمل في الأصل مشروعا ، لكن ينهى عنه لما يؤول إليه من المفسدة أو ممنوعا ، [ ص: 182 ] لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة ، وكذلك الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها; فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز ، فالأصل على المشروعية ، لكن مآله غير مشروع ، والأدلة الدالة على التوسعة ورفع الحرج كلها; فإن غالبها سماح في عمل غير مشروع في الأصل لما يؤول إليه من الرفق المشروع ، ولا معنى للإطناب بذكرها لكثرتها واشتهارها . قال ابن العربي حين أخذ في تقرير هذه المسألة : اختلف الناس بزعمهم فيها ، وهي متفق عليها بين العلماء; فافهموها وادخروها . فصل وهذا الأصل ينبني عليه قواعد : - منها قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه; لأن [ ص: 183 ] حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة; فإن عاقد البيع أولا على سلعة بعشرة إلى أجل ظاهر الجواز من جهة ما يتسبب عن البيع من المصالح على الجملة ، فإذا جعل مآل ذلك البيع مؤديا إلى بيع خمسة نقدا بعشرة إلى أجل; بأن يشتري البائع سلعته من مشتريها منه بخمسة نقدا; فقد صار مآل هذا العمل إلى أن باع صاحب السلعة من مشتريها منه خمسة نقدا بعشرة إلى أجل ، والسلعة لغو لا معنى لها في هذا العمل; لأن المصالح التي لأجلها شرع البيع لم يوجد منها شيء ، ولكن هذا بشرط أن يظهر لذلك قصد ويكثر في الناس [ ص: 184 ] بمقتضى العادة . ومن أسقط حكم الذرائع كالشافعي; فإنه اعتبر المآل أيضا; لأن [ ص: 185 ] البيع إذا كان مصلحة جاز ، وما فعل من البيع الثاني فتحصيل لمصلحة أخرى منفردة عن الأولى; فكل عقدة منهما لها مآلها ، ومآلها في ظاهر أحكام الإسلام مصلحة ، فلا مانع على هذا; إذ ليس ثم مآل هو مفسدة على هذا التقدير ، ولكن هذا بشرط ألا يظهر قصد إلى المآل الممنوع . ولأجل ذلك يتفق الفريقان على أنه لا يجوز التعاون على الإثم والعدوان بإطلاق واتفقوا في خصوص المسألة على أنه لا يجوز سب الأصنام حيث يكون سببا في سب الله ، عملا بمقتضى قوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم [ الأنعام : 108 ] وأشباه ذلك من المسائل التي اتفق مالك مع الشافعي على منع التوسل فيها . وأيضا ، فلا يصح أن يقول الشافعي : إنه يجوز التذرع إلى الربا بحال; إلا أنه لا يتهم من لم يظهر منه قصد إلى الممنوع ومالك يتهم بسبب ظهور فعل اللغو ، وهو دال على القصد إلى الممنوع; فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة ، وإنما الخلاف في أمر آخر . [ ص: 186 ] [ ص: 187 ] - ومنها : قاعدة الحيل; فإن حقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر ، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع; كالواهب ماله عند رأس الحول فرارا من [ ص: 188 ] الزكاة; فإن أصل الهبة على الجواز ، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعا; فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة ، فإذا جمع بينهما على هذا القصد; صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة ، وهو مفسدة ، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية . ومن أجاز الحيل كأبي حنيفة; فإنه اعتبر المآل أيضا ، لكن على حكم الانفراد; فإن الهبة على أي قصد كانت مبطلة لإيجاب الزكاة; كإنفاق المال عند رأس الحول ، وأداء الدين منه ، وشراء العروض به ، وغيرها مما لا تجب فيه زكاة ، وهذا الإبطال صحيح جائز; لأنه مصلحة عائدة على الواهب والمنفق ، لكن هذا بشرط ألا يقصد إبطال الحكم ; فإن هذا القصد بخصوصه ممنوع; لأنه عناد للشارع كما إذا امتنع من أداء الزكاة ، فلا يخالف أبو حنيفة في أن قصد إبطال الأحكام صراحا ممنوع ، وأما إبطالها ضمنا ، فلا ، وإلا امتنعت الهبة عند رأس الحول مطلقا ، ولا يقول بهذا واحد منهم . ولذلك اتفقوا على تحريم القصد بالإيمان والصلاة وغيرهما إلى مجرد إحراز النفس والمال; كالمنافقين والمرائين ، وما أشبه ذلك; وبهذا يظهر أن التحيل على الأحكام الشرعية باطل على الجملة نظرا إلى المآل ، والخلاف إنما وقع في أمر آخر . - ومنها : قاعدة مراعاة الخلاف ، وذلك أن الممنوعات في الشرع إذا [ ص: 189 ] وقعت; فلا يكون إيقاعها من المكلف سببا في الحيف عليه بزائد على ما شرع له من الزواجر أو غيرها ، كالغصب مثلا إذا وقع; فإن المغصوب منه لا بد أن يوفى حقه ، لكن على وجه لا يؤدي إلى إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف ، فإذا طولب الغاصب بأداء ما غصب أو قيمته أو مثله ، وكان ذلك من غير زيادة صح ، فلو قصد فيه حمل على الغاصب لم يلزم; لأن العدل هو [ ص: 190 ] المطلوب ، ويصح إقامة العدل مع عدم الزيادة ، وكذلك الزاني إذا حد لا يزاد عليه بسبب جنايته; لأنه ظلم له ، وكونه جانيا لا يجنى عليه زائدا على الحد الموازي لجنايته ، إلى غير ذلك من الأمثلة الدالة على منع التعدي على المتعدي أخذا من قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] وقوله : والجروح قصاص [ المائدة : 45 ] ونحو ذلك . ![]()
__________________
|
#193
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (193) صـ191 إلى صـ 200 وإذا ثبت هذا; فمن واقع منهيا عنه فقد يكون فيما يترتب عليه من الأحكام زائد على ما ينبغي بحكم التبعية لا بحكم الأصالة ، أو مؤد إلى أمر أشد عليه من مقتضى النهي; فيترك وما فعل من ذلك ، أو نجيز ما وقع من الفساد على وجه يليق بالعدل ، نظرا إلى أن ذلك الواقع وافق المكلف فيه دليلا على [ ص: 191 ] الجملة ، وإن كان مرجوحا; فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه; لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي; فيرجع الأمر إلى أن النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع ، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع; لما اقترن به من القرائن المرجحة ، كما وقع التنبيه عليه في حديث تأسيس البيت على قواعد إبراهيم ، وحديث ترك قتل المنافقين ، وحديث البائل في المسجد; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله; لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ، ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر ، وبأنه ينجس موضعين ، وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد . وفي الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ثم قال : فإن دخل بها; فلها المهر بما استحل منها وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه ، ولذلك يقع فيه الميراث ويثبت النسب للولد ، وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام ، وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة ، وإلا كان في حكم الزنى ، وليس في حكمه باتفاق; فالنكاح المختلف فيه قد يراعى فيه الخلاف فلا تقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح [ ص: 192 ] جانب التصحيح . وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة مقتضى النهي أو تزيد . ولما بعد الوقوع دليل عام مرجح تقدم الكلام على أصله في كتاب المقاصد ، وهو أن العامل بالجهل مخطئا في عمله له نظران : نظر من جهة مخالفته للأمر والنهي ، وهذا يقتضي الإبطال . ونظر من جهة قصده إلى الموافقة في الجملة; لأنه داخل مداخل أهل الإسلام ومحكوم له بأحكامهم وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام ، بل يتلافى له حكم يصحح له به ما أفسده بخطئه وجهله ، وهكذا لو تعمد الإفساد لم يخرج بذلك عن الحكم له بأحكام الإسلام; لأنه مسلم لم يعاند الشارع ، بل اتبع شهوته غافلا عما عليه في ذلك ، ولذلك قال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية [ النساء : 17 ] . وقالوا : إن المسلم لا يعصي إلا وهو جاهل; فجرى عليه حكم الجاهل; إلا أن يترجح جانب الإبطال بالأمر الواضح; فيكون إذ ذاك جانب التصحيح ليس له مآل يساوي أو يزيد ، فإذ ذاك لا نظر في المسألة ، مع أنه لم يترجح جانب الإبطال إلا بعد النظر في المآل ، وهو المطلوب . [ ص: 193 ] ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان ، وهو - في مذهب [ ص: 194 ] مالك - الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي ، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس; فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه ، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة; كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمرا; إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى ، أو جلب مفسدة كذلك ، وكثير ما يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي ، والحاجي مع التكميلي; فيكون إجراء القياس مطلقا في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده; فيستثنى موضع الحرج ، وكذلك في الحاجي مع التكميلي ، أو الضروري مع التكميلي ، وهو ظاهر . وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلا; فإنه ربا في الأصل; لأنه الدرهم [ ص: 195 ] بالدرهم إلى أجل ، ولكنه أبيح لما فيه من المرفقة والتوسعة على المحتاجين ، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين ، ومثله بيع العرية بخرصها تمرا ; فإنه بيع الرطب باليابس ، لكنه أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعري والمعرى ، ولو امتنع مطلقا لكان وسيلة لمنع الإعراء ، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه . ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر ، وجمع المسافر ، وقصر الصلاة ، والفطر في السفر الطويل ، وصلاة الخوف ، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل; فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص ، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك; لأنا لو بقينا مع أصل الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة; فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه ، ومثله الاطلاع على العورات في التداوي ، والقراض ، والمساقاة ، وإن كان الدليل العام يقتضي المنع ، وأشياء من هذا القبيل كثيرة . هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة ، وعليها بنى [ ص: 196 ] مالك وأصحابه . وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص; لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته ، ثم جعله أقساما; فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف ، وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك ، أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي ، وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة ، وإيثار التوسعة على الخلق; كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة ، وإجازة بيع وصرف في اليسير . وقال في أحكام القرآن : الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل [ ص: 197 ] بأقوى الدليلين; فالعموم إذا استمر ، والقياس إذا اطرد; فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان ، من ظاهر أو معنى ، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد [ ص: 198 ] بخلاف القياس ، ويريان معا تخصيص القياس ونقض العلة ، ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصا ، وهذا الذي قال هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام . وفي المذهب المالكي من هذا المعنى كثير جدا . وفي العتبية من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي بولد; فينكر أحدهما الولد دون الآخر ; أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به; فإن كان في صفته ما يمكن فيه الإنزال; لم يلتفت إلى إنكاره ، وكان كما لو اشتركا فيه ، وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به ، فقال أصبغ : إني أستحسن هنا أن ألحقه بالآخر ، والقياس أن يكونا سواء; فلعله غلب ولا يدري ، وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا : إن الوكاء قد يتفلت . قال : والاستحسان في العلم قد يكون أغلب من القياس ، قال : وقد سمعت ابن القاسم يقول ويروي عن مالك أنه قال : تسعة أعشار العلم الاستحسان . فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة; إلا أنه [ ص: 199 ] نظر إلى لوازم الأدلة ، ومآلاتها; إذ لو استمر على القياس هنا كان الشريكان بمنزلة ما لو كانا يعزلان أو ينزلان; لأن العزل لا حكم له إذ أقر بالوطء ، ولا فرق بين العزل وعدمه في إلحاق الولد ، لكن الاستحسان ما قال; لأن الغالب أن الولد يكون مع الإنزال ، ولا يكون مع العزل إلا نادرا; فأجرى الحكم على الغالب ، وهو مقتضى ما تقدم فلو لم يعتبر المآل في جريان الدليل لم يفرق بين العزل والإنزال ، وقد بالغ أصبغ في الاستحسان حتى قال : إن المغرق في القياس يكاد يفارق السنة ، وإن الاستحسان عماد العلم ، والأدلة المذكورة تعضد ما قال . ومن هذا الأصل أيضا تستمد قاعدة أخرى ، وهي أن الأمور الضرورية أو غيرها من الحاجية أو التكميلية إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضى شرعا; فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج; كالنكاح الذي يلزمه طلب قوت العيال مع ضيق طرق الحلال ، [ ص: 200 ] واتساع أوجه الحرام والشبهات ، وكثيرا ما يلجئ إلى الدخول في الاكتساب لهم بما لا يجوز ، ولكنه غير مانع لما يئول إليه التحرز من المفسدة المربية على توقع مفسدة التعرض ، ولو اعتبر مثل هذا في النكاح في مثل زماننا; لأدى إلى إبطال أصله ، وذلك غير صحيح . وكذلك طلب العلم إذا كان في طريقه مناكر يسمعها ويراها ، وشهود الجنائز ، وإقامة وظائف شرعية إذا لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى ، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور عن أصولها; لأنها أصول الدين ، وقواعد المصالح ، وهو المفهوم من مقاصد الشارع فيجب فهمها حق الفهم; فإنها مثار اختلاف وتنازع ، وما ينقل عن السلف الصالح مما يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة ما تقرر إن شاء الله ، والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال; فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق ، والله أعلم . ![]()
__________________
|
#194
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (194) صـ201 إلى صـ 215 [ ص: 201 ] المسألة الحادية عشرة تقدم الكلام على محال الخلاف في الجملة ، ولم يقع هنالك تفصيل ، وقد ألف ابن السيد كتابا في أسباب الخلاف الواقع بين حملة الشريعة ، وحصرها في ثمانية أسباب : أحدها : الاشتراك الواقع في الألفاظ ، واحتمالها للتأويلات ، وجعله ثلاثة أقسام : اشتراك في موضوع اللفظ المفرد; كالقرء ، وأو في آية الحرابة . واشتراك في أحواله العارضة في التصرف نحو : ولا يضار كاتب ولا شهيد [ البقرة : 282 ] . [ ص: 202 ] واشتراك من قبل التركيب ، نحو : والعمل الصالح يرفعه [ فاطر : 10 ] ، وما قتلوه يقينا [ النساء : 157 ] . والثاني : دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز ، وجعله ثلاثة أقسام : ما يرجع إلى اللفظ المفرد ، نحو حديث النزول ، [ ص: 203 ] و الله نور السماوات والأرض [ النور : 35 ] . [ ص: 204 ] وما يرجع إلى أحواله نحو : بل مكر الليل والنهار [ سبأ : 33 ] ولم يبين وجه الخلاف . [ ص: 205 ] وما يرجع إلى جهة التركيب; كإيراد الممتنع بصورة الممكن ، ومنه [ ص: 206 ] " لئن قدر الله علي " الحديث ، وأشباه ذلك مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره; كالأمر بصورة الخبر ، والمدح بصورة الذم ، والتكثير بصورة التقليل ، وعكسها . والثالث : دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه كحديث الليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة في مسألة البيع والشرط ، [ ص: 207 ] وكمسألة الجبر والقدر والاكتساب . والرابع : دورانه بين العموم والخصوص ، نحو : لا إكراه في الدين [ البقرة : 256 ] [ ص: 208 ] وعلم آدم الأسماء كلها [ البقرة : 31 ] . والخامس : اختلاف الرواية ، وله ثماني علل قد تقدم التنبيه عليها . والسادس : جهات الاجتهاد والقياس . والسابع : دعوى النسخ وعدمه . [ ص: 209 ] والثامن : ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها ، كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز ووجوه القراءات . هذه تراجم ما أورد ابن السيد في كتابه ، ومن أراد التفصيل فعليه به ، ولكن إذا عرض جميع ما ذكر على ما تقدم تبين به تحقيق القول فيها ، وبالله التوفيق . [ ص: 210 ] المسألة الثانية عشرة من الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف ، وهو ضربان : أحدهما : ما كان من الأقوال خطأ مخالفا لمقطوع به في الشريعة ، وقد تقدم التنبيه عليه . والثاني : ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك ، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة; فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر ، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد ، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل; فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه ، وهكذا يتفق في شرح السنة ، وكذلك في فتاوى الأئمة ، وكلامهم في مسائل العلم ، وهذا الموضع مما يجب تحقيقه; فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح . فإذا ثبت هذا; فلنقل الخلاف هنا أسباب : [ ص: 211 ] أحدها : أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم ، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ أيضا; فينصهما المفسرون على نصهما ، فيظن أنه خلاف ، كما نقلوا في المن أنه خبز رقاق ، وقيل : زنجبيل ، وقيل : الترنجبين ، وقيل : شراب مزجوه بالماء; فهذا كله يشمله اللفظ; لأن الله من به عليهم ، ولذلك جاء في الحديث : الكمأة من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل فيكون المن جملة نعم ، ذكر الناس منها آحادا . والثاني : أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد; فيكون التفسير فيها على قول واحد ، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق ، كما قالوا في السلوى إنه طير يشبه السماني ، وقيل : طير أحمر صفته كذا ، وقيل : طير بالهند أكبر من العصفور ، وكذلك قالوا في المن : شيء يسقط على الشجر فيؤكل ، وقيل : صمغة حلوة ، وقيل : الترنجبين ، وقيل : مثل رب غليظ ، وقيل : عسل جامد; فمثل هذا يصح حمله على الموافقة ، وهو الظاهر فيها . [ ص: 212 ] والثالث : أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة ، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي ، وفرق بين تقرير الإعراب وتفسير المعنى ، وهما معا يرجعان إلى حكم واحد ; لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع ، والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال ، كما قالوا في قوله تعالى : ومتاعا للمقوين [ الواقعة : 73 ] أي : المسافرين ، وقيل : النازلين بالأرض القواء وهي القفر ، وكذلك قوله : تصيبهم بما صنعوا قارعة [ الرعد : 31 ] أي : داهية تفجؤهم ، وقيل : سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشباه ذلك . [ ص: 213 ] والرابع : ألا يتوارد الخلاف على محل واحد ; كاختلافهم في أن المفهوم له عموم أو لا ، وذلك أنهم قالوا : لا يختلف القائلون بالمفهوم أنه عام فيما سوى المنطوق به ، والذين نفوا العموم أرادوا أنه لا يثبت بالمنطوق به ، وهو مما لا يختلفون فيه أيضا ، وكثير من المسائل على هذا السبيل ، فلا يكون في المسألة خلاف ، وينقل فيها الأقوال على أنها خلاف . والخامس : يختص بالآحاد في خاصة أنفسهم; كاختلاف الأقوال بالنسبة إلى الإمام الواحد ، بناء على تغير الاجتهاد ، والرجوع عما أفتى به إلى خلافه; [ ص: 214 ] فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة; لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني اطراح منه للأول ، ونسخ له بالثاني ، وفي هذا من بعض المتأخرين تنازع ، والحق فيه ما ذكر أولا ، ويدل عليه ما تقدم في مسألة أن الشريعة على قول واحد ، ولا يصح فيها غير ذلك ، وقد يكون هذا الوجه على أعم مما ذكر كأن يختلف العلماء على قولين ثم يرجع أحد الفريقين إلى الآخر ، كما ذكر عن ابن عباس في المتعة ، وربا الفضل ، وكرجوع الأنصار إلى المهاجرين في مسألة الغسل من التقاء الختانين ، فلا ينبغي أن يحكى مثل هذا في مسائل الخلاف . والسادس : أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم ; كاختلاف القراء في وجوه القراءات ، فإنهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره ، بل على [ ص: 215 ] إجازته ، والإقرار بصحته ، وإنما وقع الخلاف بينهم في الاختيارات ، وليس في الحقيقة باختلاف; فإن المرويات على الصحة منها لا يختلفون فيها . والسابع : أن يقع تفسير الآية أو الحديث من المفسر الواحد على أوجه من الاحتمالات ، ويبني على كل احتمال ما يليق به من غير أن يذكر خلافا في الترجيح ، بل على توسيع المعاني خاصة; فهذا ليس بمستقر خلافا; إذ الخلاف مبني على التزام كل قائل احتمالا يعضده بدليل يرجحه على غيره من الاحتمالات حتى يبني عليه دون غيره ، وليس الكلام في مثل هذا . والثامن : أن يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد; فيحمله قوم على المجاز مثلا ، وقوم على الحقيقة ، والمطلوب أمر واحد ; كما يقع لأرباب التفسير كثيرا في نحو قوله : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي [ يونس : 31 ] فمنهم من يحمل الحياة والموت على حقائقهما ، ومنهم من يحملهما على المجاز ، ولا فرق في تحصيل المعنى بينهما ، ونظير هذا قول ذي الرمة : وظاهر لها من يابس الشخت ![]()
__________________
|
#195
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (195) صـ216 إلى صـ 230 وبائس الشخث وقد مر بيانه ، وقول ذي الرمة فيه : إن " بائس " و " يابس " واحد ، ومثل ذلك قوله : فأصبحت كالصريم [ القلم : 20 ] 4 [ ص: 216 ] فقيل : كالنهار بيضاء لا شيء فيها ، وقيل : كالليل سوداء لا شيء فيها ، فالمقصود شيء واحد وإن شبه بالمتضادين اللذين لا يتلاقيان . والتاسع : أن يقع الخلاف في التأويل وصرف الظاهر عن مقتضاه إلى ما دل عليه الدليل الخارجي ، فإن مقصود كل متأول الصرف عن ظاهر اللفظ إلى وجه يتلاقى مع الدليل الموجب للتأويل ، وجميع التأويلات في ذلك سواء ، فلا خلاف في المعنى المراد ، وكثيرا ما يقع هذا في الظواهر الموهمة للتشبيه ، وتقع في غيرها كثيرا أيضا ، كتأويلاتهم في حديث خيار المجلس بناء على رأي مالك فيه ، وأشباه ذلك . [ ص: 217 ] والعاشر : الخلاف في مجرد التعبير عن المعنى المقصود وهو متحد ، كما اختلفوا في الخبر ، هل هو منقسم إلى صدق وكذب خاصة ، أم ثم قسم ثالث ليس بصدق ولا كذب ؟ فهذا خلاف في عبارة ، والمعنى متفق عليه ، وكذلك الفرض والواجب يتعلق النظر فيهما مع الحنفية بناء على مرادهم فيهما . قال القاضي عبد الوهاب في مسألة الوتر ، أواجب هو ؟ إن أرادوا به أن تركه حرام يجرح فاعله به ، فالخلاف بيننا وبينهم في معنى يصح أن تتناوله الأدلة ، وإن لم يريدوا ذلك وقالوا : لا يحرم تركه ، ولا يجرح فاعله ، فوصفه [ ص: 218 ] بأنه واجب خلاف في عبارة لا يصح الاحتجاج عليه ، وما قاله حق ، فإن العبارات لا مشاحة فيها ، ولا ينبني على الخلاف فيها حكم ، فلا اعتبار بالخلاف فيها . هذه عشرة أسباب لعدم الاعتداد بالخلاف ، يجب أن تكون على بال من المجتهد ، ليقيس عليها ما سواها ، فلا يتساهل فيؤدي ذلك إلى مخالفة الإجماع . فصل وقد يقال : إن ما يعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق أيضا . وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا ، والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضا يتعارضان في أنظار المجتهدين ، وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الاطلاع عليه . [ ص: 219 ] أما هذا الثاني فليس في الحقيقة خلافا ؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله ، فلذلك ينقض لأجله قضاء القاضي . أما الأول : فالتردد بين الطرفين تحر لقصد الشارع المستبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين ، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده ، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه ، ولوافق صاحبه فيه ، فقد صار هذا القسم في المعنى راجعا إلى القسم الثاني ، فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد ، إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقا ، وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أو قلنا بالتصويب ، إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على [ ص: 220 ] قول غيره وإن كان مصيبا أيضا ، كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئا ، فالإصابة على قول المصوبة إضافية ، فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار ، فإذا كان كذلك فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون . ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد ، حتى لم يصيروا شيعا ولا تفرقوا فرقا ؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع ، فاختلاف الطرق غير مؤثر ، كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة ، كرجل تقربه الصلاة ، وآخر تقربه الصيام ، وآخر تقربه الصدقة ، إلى غير ذلك من العبادات ، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود ، وإن اختلفوا في أصناف التوجه ، فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدة وقولهم واحدا ؛ ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم ؛ لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى ، لا إلى تحري مقصد الشارع ، والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها ، بل ليتعرف منها المقصد المتحد ، فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة وإلا لم يصح ، والله أعلم . [ ص: 221 ] فصل وبهذا يظهر أن الخلاف - الذي هو في الحقيقة خلاف - ناشئ عن الهوى المضل لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل ، وهو الصادر عن أهل الأهواء ، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف ، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء ، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها ، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق ، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى ، وذلك مخالفة الشرع ، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء ، فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع ، ولذلك سميت البدع ضلالات ، وجاء " إن كل بدعة ضلالة " ؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب ، ودخول الأهواء في الأعمال خفي ، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع ، فلا خلاف حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة . فإن قيل : هذا مشكل ، فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي ، ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول ، وفرعوا عليها الفروع ، واعتبروهم في [ ص: 222 ] الإجماع والاختلاف ، وهذا هو الاعتداد بأقوالهم . فالجواب من وجهين : أحدهما : أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها ، بل إنما أتوا بها ليردوها ، ويبينوا فسادها ، كما أتوا بأقوالاليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها ، وذلك في علمي الأصول معا بين ، وما يتفرع عنها مبني عليها . والثاني : إذا سلم اعتدادهم بها ، فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق ، وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسا ، وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره ، فمثله لا يقال فيه : إنه متبع للهوى مطلقا ، بل هو متبع للشرع ، ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه ، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته ، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة . وأيضا ، فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد ، وهو اتباع الشريعة ، وأشد مسائل الخلاف مثلا مسألة إثبات الصفات ، حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة ، فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا ، وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية . وإلى هذا فإن منها ما يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه ؛ ولهذا [ ص: 223 ] لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم . وأيضا ، فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين ، وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال ، وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم ، ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم ، ومدارك الاجتهاد تختلف - لم يمكن والحال هذه إلا حكاية أقوالهم ، والاعتداد بتسطيرها ، والنظر فيها ، واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه ، وإلا أدى إلى عدم الضبط ، ولهذا تقرير في كتاب الإجماع ، فلما اجتمعت هذه الأمور ، نقل خلافهم . وفي الحقيقة ، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف ، ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة ، وإذا كان كذلك ، فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة ، لصحتها واتحاد حكمها ، وجهة الاختلاف هم مخطئون فيها قطعا ، فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف ، فالاتفاق حاصل إذا على كل تقدير . فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية ، ولولا الإطالة لبسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية ، ولكن ما ذكر فيها كاف ، والله الموفق للصواب . [ ص: 224 ] المسألة الثالثة عشرة مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم ، وأنه إذا حصلها فله الاجتهاد بالإطلاق . وبقي النظر في المقدار الذي إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله ، وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة : أحدها : أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ ، والبحث عن أسبابه ، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل ، لكنه مجمل بعد ، وربما ظهر له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا ، وربما لم يظهر بعد ، فهو ينهي البحث نهايته ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة ، ويرفع عنه أوهاما وإشكالات تعرض له في طريقه ، يهديه إلى مواقع إزالتها ويطارحه في الجريان على مجراه ، مثبتا قدمه ، ورافعا وحشته ، ومؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم . فهذا الطالب حين بقائه هنا ، ينازع الموارد الشرعية وتنازعه ، ويعارضها وتعارضه ، طمعا في إدراك أصولها ، والاتصال بحكمها ومقاصدها ، ولم تتلخص له بعد - لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه ؛ لأنه لم يتخلص له مستند الاجتهاد ، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه ، فاللازم له الكف والتقليد . [ ص: 225 ] والثاني : أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي ، بحيث يحصل له اليقين ، ولا يعارضه شك ، بل تصير الشكوك - إذا أوردت عليه - كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه ، فهو يتعجب من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار ، لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكما ، وإن كان موجودا عنده ، فلا يبالي في القطع على المسائل ، أنص عليها أو على خلافها أم لا . فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة ، فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا ؟ هذا محل نظر والتباس ، ومما يقع فيه الخلاف . [ ص: 226 ] وللمحتج للجواز أن يقول : إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس ، وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت ، وصار بعضها عاضدا للبعض ، ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب ، فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة ، وعمدة النحلة ، ومنبع التكليف ، فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا ، إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة ، إذ لو كان كذلك لم يكن واصلا بعد إلى هذه المرتبة ، وقد فرضناه واصلا ، هذا خلف . ووجه ثان ، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي ، حتى يبني عليه فتياه ، ويرد إليه حكم اجتهاده ، فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل ، وهو محال . ووجه ثالث ، وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصيات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه ، فإن تكن في الحال [ ص: 227 ] غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي ، فهي حاكمة في الحقيقة ؛ لأن المعنى الكلي منها انتظم ، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة ، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته ، فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد ، وهو المطلوب . وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه : - منها أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها ، وتعاضدت مراميها ، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعا حتى صارت الشريعة في حقه أمرا متحدا ، ومسلكا منتظما ، لا يزل عنه من مواردها فرد ، ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضا من اعتباره ؛ إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس ، وإذا كان كذلك لم يستحق من هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله . ومنها : أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل [ ص: 228 ] آخر كما في النكاح مثلا ، فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات من كل وجه ، كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه ، وكما في مال العبد ، وثمرة الشجرة ، والقرض ، والعرايا ، وضرب الدية على العاقلة ، والقراض ، والمساقاة ، بل لكل باب ما يليق به ، ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره ، وكما في الترخصات في العبادات ، والعادات ، وسائر الأحكام . وإذا كان كذلك - وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلا إلى حفظ الضروريات ، والحاجيات ، والتكميليات - فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن ، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب ، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية ، فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي ، لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة ، فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي ، وأنه هو مقصود الشارع ؟ هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع . - ومنها : أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها ، وهي أفعال المكلفين ، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على [ ص: 229 ] الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم ، وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع ، فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة ، فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد ، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد . وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذا كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال . ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة ، وأخذ بالنصوص على الإطلاق ، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة ، فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطرادا لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير ، بل على مقتضى قوله : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] . [ ص: 230 ] فصاحب الرأي يقول : الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم ، وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا ، دل على ذلك الاستقراء ، فكل فرد جاء مخالفا فليس بمعتبر شرعا ؛ إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر ، لكن على وجه كلي عام ، فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام ؛ لأن دليله قطعي ، ودليل الخاص ظني ، فلا يتعارضان . والظاهري يقول : الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملا ، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع ، لا على حسب أنظارهم ، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة ، من حيث إن الشارع إنما تعبدنا بذلك ، واتباع المعاني رأي ، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر ؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة ، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي . فأصحاب الرأي جردوا المعاني ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات الألفاظ ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية ، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة . ![]()
__________________
|
#196
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (196) صـ231 إلى صـ 240 [ ص: 231 ] ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج ثابت في الدلائل عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : وجدت في كتاب جدي : أتيت مكة ، فأصبت بها أبا حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، فأتيت أبا حنيفة فقلت له : ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا ؟ قال : البيع باطل ، والشرط باطل ، وأتيت ابن أبي ليلى ، فقال : البيع جائز ، والشرط باطل ، وأتيت ابن شبرمة ، فقال : البيع جائز ، والشرط جائز ، فقلت : سبحان الله ! ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة ، فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : اشتري بريرة ، واشترطي لهم الولاء ، فإن الولاء لمن أعتق فأجاز البيع وأبطل الشرط ، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما ، فقال : ما أدري ما قالاه ، حدثني مسعود بن حكيم ، عن محارب بن دثار ، عن جابر بن عبد الله قال : " اشترى مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة فشرطت حملاني " فأجاز البيع والشرط . اهـ . [ ص: 232 ] فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه ، ولم ير غيره من الجزئيات معارضا ، فاطرح الاعتماد عليه ، والله أعلم . والحال الثالث : أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ، ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية ، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر ، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين ، فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها ، لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عموما وخصوصا . وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها ، وحاصله أنه متمكن فيها ، حاكم لها ، غير مقهور فيها ، بخلاف ما قبلها ، فإن صاحبها محكوم عليه فيها ، ولذلك قد تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات ، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها ، وإن كانت محكوما [ ص: 233 ] عليها تحت نظره وقهره ، فهو صاحب التمكين والرسوخ ، فهو الذي يستحق الانتصاب للاجتهاد ، والتعرض للاستنباط ، وكثيرا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة ، فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه ، والله أعلم . ويسمى صاحب هذه المرتبة : الرباني ، والحكيم ، والراسخ في العلم ، والعالم ، والفقيه ، والعاقل ؛ لأنه يربى بصغار العلم قبل كباره ، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به ، وقد تحقق بالعلم ، وصار له كالوصف المجبول عليه ، وفهم عن الله مراده من شريعته . ومن خاصيته أمران : أحدهما : أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص ، بخلاف صاحب الرتبة الثانية ، فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص . والثاني : أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات ، وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك ، ولا يبالي بالمآل إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما ، وكان في مساقه كليا ، ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة في مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل ، وفي مذهب مالك من ذلك كثير . [ ص: 234 ] المسألة الرابعة عشرة تقدم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء ، والعام لجميع المكلفين ، ولكن لا بد من إعادة شيء من ذلك على وجه يوضح النوعين ، ويبين جهة المأخذ في الطريقين . وبيان ذلك أن المشروعات المكية وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة ، وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول ، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس بكل ما هو معروف في محاسن العادات ، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات ، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها ، فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات ، ومصروفا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به ، وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات ، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود ، من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة ، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ، ومواساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة ، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ، ومراعاة حقوق الجوار ، وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب ، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق ، والدفع بالتي هي أحسن ، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد . [ ص: 235 ] وكذلك الأمر فيما نهي عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح ، فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن . فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم ، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم ، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وبعد وفاته ، وفي زمان التابعين ، إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات ، ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق ، أو عرضت لهم خصوصيات ضروريات تقتضي أحكاما خاصة ، أو بدرت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات ، وارتكاب الممنوعات ، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة ، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات ، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات ؛ إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة ، فضلا عن غيرها ، كما لم تستقل بأصول العبادات ، وتفاصيل التقربات ، ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره ، أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها فريقه ، ومال إليها طبعه ، وهي في نفسها على غير ذلك ، وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها ، وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر ، هذا إلى ما أمر الله به [ ص: 236 ] [ ص: 237 ] من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم ، وطولبوا بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان : تارة بالقرآن ، وتارة بالسنة ، فتفصلت تلك المجملات المكية ، وتبينت تلك المحتملات ، وقيدت تلك المطلقات ، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا ، وأصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وليكون ذلك تماما [ ص: 238 ] لتلك الكليات المقدمة ، وبناء على تلك الأصول المحكمة ، فضلا من الله ونعمة . فالأصول الأول باقية ، لم تتبدل ولم تنسخ ؛ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات ، وما لحق بها ، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات . وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية ، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس ، وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين . وأما الأحكام المدنية ، فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات ، والرخص ، والتخفيفات ، وتقرير العقوبات - في الجزئيات لا الكليات ، فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة - وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكية على حالها ، ولذلك يؤتى بها في السور المدنيات تقريرا ، وتأكيدا فكملت جملة الشريعة - والحمد لله - بالأمرين ، وتمت واسطتها بالطرفين ، فقال الله تعالى عند ذلك : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] . وإنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان [ ص: 239 ] التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة ، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة ، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم ، حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم ، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة ، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل ، فهم يزعونهم عن مقاربته ويمنعونهم عن مداخلة الحمى ، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة ، وتارة باللين ، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء ، وإياه تحروا . وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلا وتركا ، فلم يفصلوا القول فيه ؛ لأنه غير محتاج إلى التفصيل ، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه ، فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده ؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه ، وقد تشتبه فيه أمور ، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل ، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول ، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان إغراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر . وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين وبون ما بين المنزلتين ، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم [ ص: 240 ] بمقتضى تلك الأصول ، وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف ، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات ، فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا ، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك ، فعاملوا ربهم في الجميع ، ولا يقدر على هذا إلا الموفق الفذ ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير . ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها ، حتى صارت كالنسي المنسي ، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله ، وهو داخل تحت معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : بدأ هذا الدين غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء . ![]()
__________________
|
#197
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (197) صـ241 إلى صـ 255 [ ص: 241 ] فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة ، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء ، واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه . فصل كان المسلمون قبل الهجرة آخذين بمقتضى التنزيل المكي على ما أداهم إليه اجتهادهم واحتياطهم ، فسبقوا غاية السبق حتى سموا " السابقين " بإطلاق ، ثم لما هاجروا إلى المدينة ولحقهم في ذلك السبق من شاء الله من الأنصار ، وكملت لهم بها شعب الإيمان ومكارم الأخلاق ، وصادفوا ذلك وقد رسخت في أصولها أقدامهم ، فكانت المتممات أسهل عليهم ، فصاروا بذلك نورا حتى نزل مدحهم والثناء عليهم في مواضع من كتاب الله ، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقدارهم ، وجعلهم في الدين أئمة ، فكانوا هم القدوة العظمى في أهل الشريعة ، ولم يتركوا بعد الهجرة ما كانوا عليه ، بل زادوا في الاجتهاد ، وأمعنوا في الانقياد لما حد لهم في المكي والمدني معا . لم تزحزحهم الرخص المدنيات عن الأخذ بالعزائم المكيات ، ولا صدهم عن بذل المجهود في طاعة الله ما متعوا به من الأخذ بحظوظهم ، وهم منها في سعة : والله يختص برحمته من يشاء [ البقرة : 105 ] . فعلى تقرير هذا الأصل ، من أخذ بالأصل الأول واستقام فيه كما استقاموا فطوبى له ، ومن أخذ بالأصل الثاني فبها ونعمت ، وعلى الأول جرى [ ص: 242 ] الصوفية الأول ، وعلى الثاني جرى من عداهم ممن لم يلتزم ما التزموه ، ومن هاهنا يفهم شأن المنقطعين إلى الله فيما امتازوا به من نحلتهم المعروفة ، فإن الذي يظهر لبادئ الرأي منهم أنهم التزموا أمورا لا توجد عند العامة ، ولا هي مما يلزمهم شرعا ، فيظن الظان أنهم شددوا على أنفسهم ، وتكلفوا ما لم يكلفوا ، ودخلوا على غير مدخل أهل الشريعة . وحاش لله ما كانوا ليفعلوا ذلك ، وقد بنوا نحلتهم على اتباع السنة ، وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة ، لكن إذا فهمت حالة المسلمين في التكليف أول الإسلام ، ونصوص التنزيل المكي المحكم الذي لم ينسخ ، وتنزيل أعمالهم عليه - تبين لك أن تلك الطريق سلك هؤلاء ، وباتباعها عنوا على وجه لا يضاد المدني المفسر . فإذا سمعت مثلا أن بعضهم سئل عما يجب من الزكاة في مائتي درهم ، فقال : أما على مذهبنا فالكل لله ، وأما على مذهبكم فخمسة دراهم ، وما أشبه ذلك علمت أن هذا يستمد مما تقدم ، فإن التنزيل المكي أمر فيه بمطلق إنفاق المال في طاعة الله ، ولم يبين فيه الواجب من غيره ، بل وكل إلى اجتهاد المنفق ، ولا شك أن منه ما هو واجب ومنه ما ليس بواجب ، والاحتياط في مثل هذا المبالغة في الإنفاق في سد الخلات ، وضروب الحاجات إلى غاية تسكن إليها نفس المنفق ، فأخذ هذا المسئول في خاصة نفسه بما أفتى به والتزمه [ ص: 243 ] مذهبا في تعبده ، وفاء بحق الخدمة ، وشكر النعمة ، وإسقاطا لحظوظ نفسه ، وقياما على قدم العبودية المحضة حتى لم يبق لنفسه حظا وإن أثبته له الشارع اعتمادا على أن لله خزائن السماوات والأرض ، وأنه قال : لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] وقال : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 57 ] وقال : وفي السماء رزقكم وما توعدون [ الذاريات : 22 ] ونحو ذلك ، فهذا نحو من التعبد لمن قدر على الوفاء به ، ومثله لا يقال في ملتزمه : إنه خارج عن الطريقة ، ولا متكلف في التعبد ، لكن لما كان هذا الميدان لا يسرح فيه كل الناس قيد في التنزيل المدني حين فرضت الزكوات ، فصارت هي الواجبة انحتاما ، مقدرة لا تتعدى إلى ما دونها ، وبقي ما سواها على حكم الخيرة ، فاتسع على المكلف مجال الإبقاء جوازا ، والإنفاق ندبا ، فمن مقل في إنفاقه ومن مكثر ، والجميع محمودون ؛ لأنهم لم يتعدوا حدود الله ، فلما كان الأمر على هذا استفسر المسئول السائل ليجيبه عن مقتضى سؤاله . ومنهم من لا ينتهي في الإنفاق إلى إنفاذ الجميع ، بل يبقي بيده ما تجب في مثله الزكاة حتى تجب عليه ، وهو مع ذلك موافق في القصد لمن لم يبق شيئا ، علما بـ " أن في المال حقا سوى الزكاة " وهو لا يتعين تحقيقا ، وإنما فيه الاجتهاد ، فلا يزال ناظرا في ذلك ، مجتهدا فيه ما بقي بيده منه شيء ، [ ص: 244 ] متحملا منه أمانة لا ينفك عنها إلا بنفاذه ، أو كالوكيل فيه لخلق الله ، سواء عليه أعد نفسه منهم أم لا . وهذا كان غالب أحوال الصحابة ، ولم يكن إمساكهم مضادا لاعتمادهم على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، إلا أن هذا الرأي أجري على اعتبار سنة الله تعالى في العاديات ، والأول ليس للعاديات عنده مزية في جريان الأحكام على العباد . وأما من أبقى لنفسه حظا ، فلا حرج عليه ، وقد أثبت له حظه من التوسع في المباحات على شرط عدم الإخلال بالواجبات ، وهكذا يجب أن ينظر في كل خصلة من الخصال المكية حتى يعلم أن الأمر كما ذكر ، فالصواب - والله أعلم - أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ ، فيجوز لهم ذلك ، بخلاف القسمين الأولين ، وهما من لا يأخذ بتسببه أو يأخذ به ، ولكن على نسبة القسمة ونحوها . فإن قيل : فلم لا تقع الفتيا بمقتضى هذا الأصل عند الفقهاء ؟ فاعلم أن النظر فيه خاص لا عام ، بمعنى أنه مبني على حالة يكون المستفتي عليها ، وهو كونه يعمل لله ويترك لله في جميع تصاريفه ، فسقط له طلب الحظ لنفسه ، فساغ أن يفتي على حسب حاله ؛ لأنه يقول : هذه حالتي فاحملني على مقتضاها ، فلا بد أن يحمله على ما تقتضيه ، كما لو قال أحد للمفتي : إني عاهدت الله على ألا أمس فرجي بيميني ، أو عزمت على ألا أسأل أحدا شيئا ، وألا تمس يدي يد مشرك ، وما أشبه هذا ، فإنه عقد عقدا [ ص: 245 ] لله على فعل فضل ، وقد قال تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] . ومدح الله في كتابه الموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وهكذا كان شأن المتجردين لعبادة الله ، فهو مما يطلب الوفاء به ما لم يمنع مانع . وفي الحديث : " إن خيرا لأحدكم ألا يسأل من أحد شيئا " فكان أحدهم يقع له سوطه من يده فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه . وقال عثمان : ما مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقصة حمى الدبر ظاهرة في هذا المعنى ؛ إذ عاهد الله ألا يمس مشركا ، فحمته الدبر حين استشهد أن يمسه مشرك ، الحديث كما وقع . [ ص: 246 ] غير أن الفتيا بمثل هذا اختصت بشيوخ الصوفية ، لأنهم المباشرون لأرباب هذه الأحوال ، وأما الفقهاء فإنما يتكلمون في الغالب مع من كان طالبا لحظه من حيث أثبته له الشارع ، فلا بد أن يفتيه بمقتضاه ، وحدود الحظوظ معلومة في فن الفقه ، فلو فرضنا أحدا جاء سائلا وحاله ما تقدم ، لكان على الفقيه أن يفتيه بمقتضاه ، ولا يقال : إن هذا خلاف ما صرح به الشارع ؛ لأن الشارع قد صرح بالجميع ، لكن جعل إحدى الحالتين وهي المتكلم فيها من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، ولم يلزمها أحدا ؛ لأنها اختيارية في الأصل بخلاف الأخرى العامة ، فإنها لازمة ، فاقتضى ذلك الفتيا بها عموما كسائر ما يتكلم الفقهاء فيه . فإن قيل : فإذا كانت غير لازمة ، فلم تقع الفتيا بها على مقتضى اللزوم ؟ قيل : لم يفت بها على مقتضى اللزوم الذي لا ينفك عنه السائل من حيث القضاء عليه بذلك ، وإنما يفتي بها ، وهو طالب أن يلزم نفسه ذلك حسبما استدعاه حاله ، وأصل الإلزام معمول به شرعا ، وأصله النذر والوفاء بالوعد في [ ص: 247 ] التبرعات ، ومن مكارم الأخلاق ما هو لازم ، كالمتعة في الطلاق ، وحديث : لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره . وكان - عليه الصلاة والسلام - يعامل أصحابه بتلك الطريقة ، ويميل بهم إليها ، كحديث الأشعريين إذا أرملوا . وقوله : من كان له فضل ظهر ، فليعد به على من لا ظهر له الحديث بطوله . وقوله : من ذا الذي تألى على الله لا يفعل الخير . [ ص: 248 ] وإشارته إلى بعض أصحابه أن يحط عن غريمه الشطر من دينه . وقد أنزل الله في شأن أبي بكر الصديق حين ائتلى ألا ينفق على مسطح : ولا يأتل أولو الفضل منكم الآية [ النور : 22 ] ، وبذلك عمل عمر بن الخطاب في حكمه على محمد بن مسلمة بإجراء الماء على أرضه ، وقال : والله ليمرن به ولو على بطنك . [ ص: 249 ] إلى كثير من هذا الباب . وأخص من هذا فتيا أهل الورع إذا علمت درجة الورع في مراتبه ، فإنه يفتي بما تقتضيه مرتبته كما يحكى عن أحمد بن حنبل أن امرأة سألته عن الغزل بضوء مشاعل السلطان ، فسألها : من أنت ؟ فقالت : أخت بشر الحافي ، فأجابها بترك الغزل بضوئها ، هذا معنى الحكاية دون لفظها . وقد حكى مطرف عن مالك في هذا المعنى أنه قال : كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يفتي به الناس - يعني العوام - ويقول : لا يكون العالم عالما حتى يكون كذلك ، وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم ، هذا كلامه . وفي هذا من كلام الناس والحكايات عنهم كثير ، والله أعلم . [ ص: 250 ] [ ص: 251 ] الطرف الثاني فيما يتعلق بالمجتهد من الأحكام من جهة فتواه . والنظر فيه في مسائل : [ ص: 252 ] [ ص: 253 ] المسألة الأولى المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم . والدليل على ذلك أمور : أحدها : النقل الشرعي في الحديث : إن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم . وفي الصحيح : بينا أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظافري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : العلم ، وهو في معنى الميراث . [ ص: 254 ] وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - نذيرا لقوله : إنما أنت نذير [ هود : 12 ] وقال في العلماء : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم الآية [ التوبة : 122 ] ، وأشباه ذلك . والثاني : أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام ، لقوله : ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب . وقال : بلغوا عني ولو آية . وقال : " تسمعون ويسمع منكم ، ويسمع ممن يسمع منكم " . [ ص: 255 ] وإذا كان كذلك ، فهو معنى كونه قائما مقام النبي . ![]()
__________________
|
#198
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (198) صـ256 إلى صـ 270 والثالث : أن المفتي شارع من وجه ؛ لأن ما يبلغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها ، وإما مستنبط من المنقول ، فالأول يكون فيه مبلغا ، والثاني يكون فيه قائما مقامه في إنشاء الأحكام ، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع ، فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع ، واجب اتباعه والعمل على وفق ما قاله ، وهذه هي الخلافة على [ ص: 256 ] التحقيق ، بل القسم الذي هو فيه مبلغ لا بد من نظره فيه من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية ، ومن جهة تحقيق مناطها وتنزيلها على الأحكام ، وكلا الأمرين راجع إليه فيها ، فقد قام مقام الشارع أيضا في هذا المعنى ، وقد جاء في الحديث : " أن من قرأ القرآن ، فقد أدرجت النبوة بين جنبيه " . [ ص: 257 ] وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي ، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ، ولذلك سموا أولي الأمر ، وقرنت طاعتهم بطاعة الله ورسوله في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ النساء : 59 ] والأدلة على هذا المعنى كثيرة . فإذا ثبت هذا انبنى عليه معنى آخر ، وهي : [ ص: 258 ] المسألة الثانية وذلك أن الفتوى من المفتي تحصل من جهة القول ، والفعل والإقرار . فأما الفتوى بالقول فهو الأمر المشهور ، ولا كلام فيه . وأما بالفعل فمن وجهين : أحدهما : ما يقصد به الإفهام في معهود الاستعمال ، فهو قائم مقام القول المصرح به ، كقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الشهر هكذا ، وهكذا ، وهكذا " وأشار بيديه . وسئل - عليه الصلاة والسلام - في حجته ، فقال : ذبحت قبل أن أرمي ، فأومأ بيده ، قال : ولا حرج . [ ص: 259 ] وقال : يقبض العلم ، ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج . قيل : يا رسول الله : وما الهرج ؟ فقال هكذا بيده ، فحرفها كأنه يريد القتل . وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء ، قلت : آية ؟ فأشارت برأسها ، أي نعم . وحين سئل - عليه الصلاة والسلام - عن أوقات الصلوات ، قال للسائل : صل معنا هذين اليومين . ثم صلى ، ثم قال له : الوقت ما بين هذين . [ ص: 260 ] أو كما قال ، وهو كثير جدا . والثاني : ما يقتضيه كونه أسوة يقتدى به ، ومبعوثا لذلك قصدا ، وأصله قول الله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] . وقال قبل ذلك : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ الأحزاب : 21 ] . وقال في إبراهيم : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم [ الممتحنة : 4 ] إلى آخر القصة . [ ص: 261 ] والتأسي : إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله ، وشرع من قبلنا شرع لنا . وقال - عليه الصلاة والسلام - لأم سلمة : ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم . وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي و : خذوا عني مناسككم . وحديث ابن عمر وغيره في الاقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى ، ولذلك [ ص: 262 ] جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله . وإذا كان كذلك ، وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه ، لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضا ، فما قصد بها البيان والإعلام فظاهر ، وما لم يقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين : أحدهما : أنه وارث ، وقد كان المورث قدوة بقوله وفعله مطلقا ، فكذلك الوارث ، وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة ، فلا بد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله . والثاني : أن التأسي بالأفعال - بالنسبة إلى من يعظم في الناس - سر مبثوث في طباع البشر ، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال ، لا سيما عند الاعتياد والتكرار ، وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسى به ، ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس ، فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر ، وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في محلين : أحدهما : حين دعاهم - عليه الصلاة والسلام - إلى الخروج من الكفر إلى الإيمان ، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله ، فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء ، كقوله : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا [ لقمان : 21 ] [ ص: 263 ] وما أشبهه من الآيات . وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ ص : 5 ] . ثم كرر عليهم التحذير من ذلك ، فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم إلى أن نوصبوا بالحرب ، وهم راضون بذلك حتى كان من جملة ما دعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم ، وأضيفت الملة المحمدية إليه ، فقال تعالى : ملة أبيكم إبراهيم [ الحج : 78 ] فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم ، وبين لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها ، وتعمل بكثير منها ، فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي ، وهو من أبلغ ما دعوا به من جهة التلطف بالرفق ، ومقتضى الحكمة ، وبذلك جاء في القرآن بعد قوله : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا [ النحل : 123 ] . وقوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ النحل : 125 ] . فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان - عليه الصلاة والسلام - يدعو بها . وأيضا ، فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصدق الفعل القول بالنسبة إليهم ، فكان ذلك مما دعا إلى اتباعه والتأسي [ ص: 264 ] به ، فانقادوا ورجعوا إلى الحق . والمحل الثاني : حين دخلوا في الإسلام ، وعرفوا الحق ، وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي - عليه الصلاة والسلام - ونواهيه ، فربما أمرهم بالأمر ، وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم ، فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول ، وقضيته - عليه الصلاة والسلام - معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم حتى قال لأم سلمة : أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون ؟ فقالت : اذبح واحلق ، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعوه . ونهاهم عن الوصال فلم ينتهوا ، واحتجوا بأنه يواصل ، فقال : إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا ، وقال : لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم . وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما ، فتوقفوا أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا . [ ص: 265 ] وكانوا يبحثون عن أفعاله كما يبحثون عن أقواله ، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب ، وقد تقدم له بيان آخر في باب البيان لكن على وجه آخر ، والمعنى في الموضعين واحد . ولعل قائلا يقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصوما ، فكان عمله للاقتداء محلا بلا إشكال بخلاف غيره ، فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر فضلا عن الإيمان ، فأفعاله لا يوثق بها ، فلا تكون مقتدى بها . فالجواب : أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي ، فليعتبر مثله في نصب أقواله ، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا ؛ لأنه ليس بمعصوم ، ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال ، لم يكن معتبرا في الأفعال ، ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم كما تبين في هذا الكتاب وفي باب البيان ، فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله ، بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة . وأما الإقرار فراجع في المعنى إلى الفعل ؛ لأن الكف فعل ، وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه ، وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذلك يكون بالنسبة إلى [ ص: 266 ] المنتصب بالفتوى ، وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال ، ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه ، ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه ، واستخفى بنفسه ، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار ، فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما ، وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه . [ ص: 267 ] المسألة الثالثة تنبني على ما قبلها ، وهي أن الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم ، وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه ، فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا . فأما فتياه بالقول ، فإذا جرت أقواله على غير المشروع فلا يوثق بما يفتي به ، لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع ، وهذا من جملة أقواله ، فيمكن جريانها على غير المشروع ، فلا يوثق بها . وأما أفعاله ، فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم ، لم يصح الاقتداء بها ، ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح . وكذلك إقراره ؛ لأنه من جملة أفعاله . وأيضا ، فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير ، فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله ، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه ؛ لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي . هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة . [ ص: 268 ] وأما على التفصيل ، فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني ، فإن كان صامتا عما لا يعني ففتواه صادقة ، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة ، وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه ، وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة ، وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت فتياه ، وإلا فلا . وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر ، ومثلها النواهي ، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات من النساء ، وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه ، أو نهى عن الكذب وهو صادق اللسان ، أو عن الزنى وهو لا يزني ، أو عن التفحش وهو لا يتفحش ، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم ، وما أشبه ذلك ، فهو الصادق الفتيا ، والذي يقتدى بقوله ويقتدى بفعله ، وإلا فلا ؛ لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل ، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء ، ولذلك قال تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] . وقال في ضده : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ، إلى قوله : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 - 77 ] . فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل ، وفي الكذب مخالفته . وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] . [ ص: 269 ] وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهي فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة ، فإن وافق صدق ، وإن خالف كذب ، فالفتيا لا تصح مع المخالفة ، وإنما تصح مع الموافقة . وحسب الناظر من ذلك سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاق والتمام ، حتى أنكر على من قال : يحل الله لرسوله ما شاء . وحين سأله الرجل عن أمر ، فقال : إني أفعله ، فقال له : إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، غضب - صلى الله عليه وسلم - وقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي . وفي القرآن عن شعيب عليه السلام : قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [ الأعراف : 89 ] . وقوله : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ هود : 88 ] . [ ص: 270 ] فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول ، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا ، وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله ، وعبادة غير الله : إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله ، وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها ، فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف ولا يفعلونه ، وناهين عن المنكر ويأتونه - عياذا بالله من ذلك - لكان ذلك أولى منفر ، وأقرب صاد عن الاتباع ، فمن كان في رتبة الوراثة لهم ، فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول . ولما نهى عن الربا قال : وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب . وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال : وأول دم أضعه دمنا دم ربيعة بن الحارث . ![]()
__________________
|
#199
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (199) صـ271 إلى صـ 285 [ ص: 271 ] وقال حين شفع له في حد السرقة : والذي نفسي بيده ، لو سرقت فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها . وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته ، وأن الناس في أحكام الله سواء . والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى . وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول ، فقال الله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] . وقال : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف : 2 - 3 ] . [ ص: 272 ] عن جعفر بن برقان قال : سمعت ميمون بن مهران يقول : إن القاص المتكلم ينتظر المقت ، والمستمع ينتظر الرحمة ، قلت : أرأيت قول الله : يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] هو الرجل يقرظ نفسه ، فيقول : فعلت كذا وكذا من الخير ؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وإن كان فيه تقصير ؟ فقال : كلاهما . فإن قيل : إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى ، وبالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقد قال العلماء : إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا ، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل ، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة ، فكذلك هنا ، ومثله الانتصاب للفتوى ، ومن الذي يوجد لا يزل ، ولا يضل ، ولا يخالف قوله فعله ، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة ؟ نعم ، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب ، وأما أن يقال إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب هذا مشكل جدا . [ ص: 273 ] فالجواب : أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر ؛ لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي ، فنحن نقول : واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق ، طابق قوله فعله أم لا ، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل ، وذلك أنه إن كان موافقا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا ، أو كان مظنة للحصول ؛ لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه ، وإن خالف فعله قوله ، فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أو لا ، فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء ، وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة ، ومن اقتدى به كان مخالفا مثله ، فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم ، وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف ، فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات ، وهو في فعله على حسب فتواه لك - حصل تصديق قوله بفعله ، وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ، ويخالط من نهاك عن مخالطتهم - فلم يصدق القول الفعل . هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله ، فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله ؛ لأنه وارث النبي فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة ، وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال . [ ص: 274 ] فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ، ولا الفتوى على كمالها في الصحة ، إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق ، وقد قال أبو الأسود الدؤلي : ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى وهو معنى موافق للنقل والعقل ، لا خلاف فيه بين العقلاء .بالرأي منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم فصل فإن قيل : فما حكم المستفتي مع هذا المفتي الذي لم يطابق قوله فعله ، هل يصح تقليده في باب التكليف أم لا ؟ بمعنى أنه يؤخذ بقوله ، ويعمل عليه أو لا . فالجواب : أن هذه المسألة مبنية على ما تقدم ، فإن أخذت من جهة الصحة في الوقوع فلا تصح ؛ لأنها إذا لم تصح بالنسبة إلى المفتي فكذلك يقال بالنسبة إلى المستفتي ، هذا هو المطرد والغالب ، وما سواه كالمحفوظ النادر الذي لا يقوم منه أصل كلي بحال ، وأما إن أخذت من جهة الإلزام الشرعي ، فالفقه فيها ظاهر ، فإن كانت مخالفته ظاهرة قادحة في عدالته ، فلا يصح إلزامه ، [ ص: 275 ] إذ من شرط قبول القول والعمل به صدقه ، وغير العدل لا يوثق به وإن كانت فتواه جارية على مقتضى الأدلة في نفس الأمر ، إذ لا يمكن علم ذلك إلا من جهته ، وجهته غير موثوق بها ، فيسقط الإلزام عن المستفتي ، وإذا سقط الإلزام عن المستفتي فهل يبقى إلزام المفتي متوجها أم لا ؟ يجري ذلك على خلاف في مسألة حصول الشرط الشرعي : هل هو شرط في التكليف أم لا ؟ وذلك مقرر في كتب الأصول ، وإن لم تكن مخالفته قادحة في عدالته فقبول قوله صحيح ، والعمل عليه مبرئ للذمة ، والإلزام الشرعي متوجه عليهما معا . [ ص: 276 ] المسألة الرابعة المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال . والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين . وأيضا ، فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأكرمين ، وقد رد - عليه الصلاة والسلام - التبتل . وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة : أفتان أنت يا معاذ ؟ . [ ص: 277 ] وقال : إن منكم منفرين . وقال : سددوا ، وقاربوا ، واغدوا ، وروحوا ، وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا . وقال : عليكم من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا . وقال : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه ، وإن قل . ورد عليهم الوصال ، وكثير من هذا . وأيضا ، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق ، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة ، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا ؛ لأن المستفتي إذ ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ، وهو مشاهد ، وأما إذا ذهب به مذهب [ ص: 278 ] الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى ، واتباع الهوى مهلك ، والأدلة كثيرة . فصل فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط ، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا . وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد ، فلا يجعل بينهما وسطا ، وهذا غلط ، والوسط هو معظم الشريعة ، وأم الكتاب ، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك ، وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي ، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه ، وحرج في حقه ، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى ، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة ، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة ، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها ، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى ، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف ، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ، ومخالف للهوى ، ولا على مطلق التشديد ، فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره ، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه . [ ص: 279 ] فصل قد يسوغ للمجتهد أن يحمل نفسه من التكليف ما هو فوق الوسط بناء على ما تقدم في أحكام الرخص ، ولما كان مفتيا بقوله وفعله كان له أن يخفي ما لعله يقتدى به فيه ، فربما اقتدى به فيه من لا طاقة له بذلك العمل فينقطع ، وإن اتفق ظهوره للناس نبه عليه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ، إذ كان قد فاق الناس عبادة وخلقا ، وكان - عليه الصلاة والسلام - قدوة ، فربما اتبع لظهور عمله فكان ينهى عنه في مواضع ، كنهيه عن الوصال ، ومراجعته لعمرو بن العاص في سرد الصوم . وقد قال تعالى : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] . وأمر بحل الحبل الممدود بين الساريتين . [ ص: 280 ] وأنكر على الحولاء بنت تويت قيامها الليل . وربما ترك العمل خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم . ولهذا - والله أعلم - أخفى السلف الصالح أعمالهم ؛ لئلا يتخذوا قدوة مع ما كانوا يخافون عليه أيضا من رياء أو غيره ، وإذا كان الإظهار عرضة للاقتداء لم يظهر منه إلا ما صح للجمهور أن يحتملوه . فصل إذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع ، وهو الذي كان عليه السلف الصالح فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع ، وأولى بالاعتبار ، وإن كانت المذاهب كلها طرقا إلى الله ، ولكن الترجيح فيها لا بد منه ؛ لأنه أبعد من اتباع الهوى كما تقدم ، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد ، فقد قالوا في مذهب داود لما وقف مع الظاهر مطلقا : إنه بدعة حدثت بعد المائتين ، وقالوا في مذهب أصحاب الرأي : لا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة ، فإن كان ثم رأي بين هذين فهو الأولى بالاتباع ، والتعيين في هذا المذهب موكول إلى أهله ، والله أعلم . [ ص: 281 ] الطرف الثالث فيما يتعلق بإعمال قول المجتهد المقتدى به ، وحكم الاقتداء به . ويحتوي على مسائل . [ ص: 282 ] [ ص: 283 ] المسألة الأولى إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة ، لأن الله لم يتعبد الخلق بالجهل ، وإنما تعبدهم على مقتضى قوله سبحانه : واتقوا الله ويعلمكم الله [ البقرة : 282 ] لا على ما يفهمه كثير من الناس ، بل على ما قرره الأئمة في صناعة النحو أي : إن الله يعلمكم [ ص: 284 ] على كل حال فاتقوه ، فكأن الثاني سبب في الأول ، فترتب الأمر بالتقوى على حصول التعليم ترتبا معنويا ، وهو يقتضي تقدم العلم على العمل ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة ، وهي قضية لا نزاع فيها ، فلا فائدة في التطويل فيها ، لكنها كالمقدمة لمعنى آخر ، وهي : [ ص: 285 ] المسألة الثانية وذلك أن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يعتبر في الشريعة جوابه ، لأنه إسناد أمر إلى غير أهله ، والإجماع على عدم صحة مثل هذا ، بل لا يمكن في الواقع ؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه : أخبرني عما لا تدري ، وأنا أسند أمري لك فيما نحن في الجهل به على سواء ، مثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء ؛ إذ لو قال له : دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني ، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء - لعد من زمرة المجانين ، فالطريق الشرعي أولى ؛ لأنه هلاك أخروي ، وذلك هلاك دنيوي خاصة ، والإطناب في هذا أيضا غير محتاج إليه ، غير أنا نقول بعده : إذا تعين عليه السؤال فحق عليه ألا يسأل إلا من هو من أهل ذلك المعنى الذي يسأل عنه ، فلا يخلو أن يتحد في ذلك النظر أو يتعدد ، فإن اتحد فلا إشكال ، وإن تعدد فالنظر في التخيير وفي الترجيح قد تكفل به أهل الأصول ، وذلك إذا لم يعرف أقوالهم في المسألة قبل السؤال ، أما إذا كان قد اطلع على فتاويهم قبل ذلك ، وأراد أن يأخذ بأحدها ، فقد تقدم قبل هذا أنه لا يصح له إلا الترجيح ؛ لأن من مقصود الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله ، وتخييره يفتح له باب اتباع الهوى ، فلا سبيل إليه البتة ، وقد مر في ذلك تقرير حسن في هذا الكتاب ، فلا نعيده . ![]()
__________________
|
#200
|
||||
|
||||
![]() ![]() الموافقات أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الجزء الخامس الحلقة (200) صـ286 إلى صـ 300 [ ص: 286 ] المسألة الثالثة حيث يتعين الترجيح ، فله طريقان : أحدهما عام ، والآخر خاص . فأما العام فهو المذكور في كتب الأصول ، إلا أن فيه موضعا يجب أن يتأمل ، ويحترز منه ، وذلك أن كثيرا من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم ، أو على أهلها القائلين بها ، مع أنهم يثبتون مذاهبهم ، ويعتدون بها ، ويراعونها ، ويفتون بصحة الاستناد إليهم في الفتوى ، وهو غير لائق بمناصب المرجحين ، وأكثر ما وقع ذلك في الترجيح بين المذاهب الأربعة ، وما يليها من مذهب داود ونحوه ، فلنذكر هنا أمورا يجب التنبه لها : أحدها : أن الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد الاشتراك في الوصف الذي تفاوتا فيه ، وإلا فهو إبطال لأحدهما ، وإهمال لجانبه رأسا ، ومثل هذا لا يسمى ترجيحا ، وإذا كان كذلك ، فالخروج في ترجيح بعض المذاهب على بعض إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين - خروج عن نمط إلى نمط آخر مخالف له ، وهذا ليس من شأن العلماء ، وإنما الذي يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه وليس من أهله ، والأئمة المذكورون برآء من ذلك فهذا النمط لا يليق بهم . [ ص: 287 ] والثاني : أن الطعن في مساق الترجيح يبين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه ؛ لأن الذي غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ، ويظهر محاسنه ، فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام المذهب ، وإن كان مرجوحا ، فكأن الترجيح لم يحصل . والثالث : أن هذا الترجيح مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضا ، فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح من الجانبين ، فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ، ومذاهبها ، وسائر ما يتعلق بها ، فمن غض من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه ، فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه ، فإنه تسبب في ذلك كما في الحديث : إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : وهل يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه . فهذا من ذلك . وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع ، كقوله : لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] . وقوله : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية [ الأنعام : 108 ] ، وأشباه ذلك . [ ص: 288 ] والرابع : أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب ، وربما نشأ الصغير منهم على ذلك حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعا ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الآية [ آل عمران : 105 ] . وقال : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] وقد مر تقرير هذا المعنى قبل ، فكل ما أدى إلى هذا ممنوع ، فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع . ونقل الطبري عن عمر بن الخطاب - وإن لم يصحح سنده - أنه لما أرسل الحطيئة من الحبس في هجاء الزبرقان بن بدر قال له : إياك والشعر ، قال : لا أقدر يا أمير المؤمنين على تركه ، مأكلة عيالي ، ونملة على لساني ، قال : فشبب بأهلك ، وإياك وكل مدحة مجحفة ، قال : وما هي ؟ قال : تقول بنو فلان خير من بني فلان ، امدح ولا تفضل ، قال : أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني . فإن صح هذا الخبر ، وإلا فمعناه صحيح ، فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفا ، والعوائد شاهدة بذلك . والخامس : أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى [ ص: 289 ] التغالي والانحراف في المذاهب زائدا إلى ما تقدم ، فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة . قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء ، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة ، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل ، هذا ما قال ، وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية . [ ص: 290 ] وقد جاء في حديث الذي لطم وجه اليهودي القائل : والذي اصطفى موسى على البشر - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب وقال : لا تفضلوا بين الأنبياء أو : " لا تفضلوني على موسى " مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالتفضيل أيضا ، فذكر المازري في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد : لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم ، قال : وقد خرج الحديث على سبب ، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي ، فقد يكون - عليه الصلاة والسلام - خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص حق موسى عليه السلام ، فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق ، قال عياض : وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته ، لكن نهاه عن الخوض فيه ، والمجادلة به ؛ إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى [ ص: 291 ] ذكر ما لا يحب منهم عند الجدال ، أو ما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء ، فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك . هذا ما قال ، وهو حق فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء ، فإنهم ورثة الأنبياء . فصل وأما إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة ، فلا حرج فيه ، بل هو مما لا بد منه في هذه المواطن ، أعني : عند الحاجة إليه ، وأصله من الكتاب قول الله تعالى : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية [ البقرة : 253 ] ، فبين أصل التفضيل ، ثم ذكر بعض الخواص والمزايا المخصوص بها بعض الرسل . وقال تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ الإسراء : 55 ] وفي الحديث من هذا كثير ، كقوله لما سئل : من أكرم الناس ؟ فقال : أتقاهم ، فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فيوسف نبي الله ابن نبي الله [ ص: 292 ] ابن نبي الله ابن خليل الله ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : فعن معادن العرب تسألوني ؟ : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا . وقال - عليه الصلاة والسلام - : بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل ، فقال : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال : لا ، فأوحى الله إليه : بلى ، عبدنا خضر . وفي رواية : أن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، قال له : بلى ، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك الحديث . [ ص: 293 ] واستب رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين ، في قسم يقسم به ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين . . إلى أن قال - عليه الصلاة والسلام - : لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق ، أو كان ممن استثنى الله وفي رواية : " لا تفضلوا بين الأنبياء ، فإنه ينفخ في الصور " الحديث . فهذا نفي للتفضيل مستند إلى دليل ، وهو دليل على صحة التفضيل في الجملة إذا كان ثم مرجح ، وقال : كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام [ ص: 294 ] وقال للذي قال له : يا خير البرية : " ذاك إبراهيم " . وقال في الحديث الآخر : " أنا سيد ولد آدم " . وأشباهه مما يدل على تفضيله على سائر الخلق ، وليس النظر هنا في وجه التعارض بين الحديثين ، وإنما النظر في صحة التفضيل ، ومساغ الترجيح على الجملة ، وهو ثابت من الحديثين ، وقال : " خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم . وقال ابن عمر : " كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان " . [ ص: 295 ] وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة ، وهم عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام : " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنما نزل بلسانهم ، ففعلوا ذلك . وقال - صلى الله عليه وسلم - : خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ، ثم بنو الحارث بن الخزرج ، ثم بنو ساعدة ، وفي كل دور الأنصار خير . وقال : أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي بن كعب ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح . [ ص: 296 ] وقال عبد الرحمن بن يزيد : سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نأخذ عنه ، فقال : ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم عبد . [ ص: 297 ] ولما حضر معاذا الوفاة ، قيل له : يا أبا عبد الرحمن أوصنا ، قال : أجلسوني ، قال : إن العلم والإيمان مكانهما ، من ابتغاهما وجدهما - يقول ذلك ثلاث مرات - والتمسوا العلم عند أربعة رهط ، عند عويمر أبي الدرداء ، وعند سلمان الفارسي ، وعند عبد الله بن مسعود ، وعند عبد الله بن سلام . . الحديث . وقال - عليه الصلاة والسلام - : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر . [ ص: 298 ] وما جاء في الترجيح والتفضيل كثير ؛ لأجل ما ينبني عليه من شعائر الدين ، وجميعه ليس فيه إشارة إلى تنقيص المرجوح ، وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم ، والحكم المنبرم الذي لا يتعدى إلى سواه ، وكذلك فعل السلف الصالح . فصل وربما انتهت الغفلة أو التغافل بقوم ممن يشار إليهم في أهل العلم أن صيروا الترجيح بالتنقيص تصريحا أو تعريضا دأبهم ، وعمروا بذلك دواوينهم ، وسودوا به قراطيسهم ، حتى صار هذا النوع ترجمة من تراجم الكتب المصنفة في أصول الفقه أو كالترجمة ، وفيه ما فيه مما أشير إلى بعضه ، بل تطرق الأمر إلى السلف الصالح من الصحابة فمن دونهم ، فرأيت بعض التآليف المؤلفة في تفضيل بعض الصحابة على بعض على منحى التنقيص بمن جعله مرجوحا ، وتنزيه الراجح عنده مما نسب إلى المرجوح عنده ، بل أتى الوادي فطم على القرى ، فصار هذا النحو مستعملا فيما بين الأنبياء ، وتطرق ذلك إلى شرذمة من الجهال ، فنظموا فيه ونثروا ، وأخذوا في ترفيع محمد - عليه الصلاة والسلام - وتعظيم شأنه بالتخفيض من شأن سائر الأنبياء ، ولكن مستندين إلى منقولات أخذوها على غير وجهها ، وهو خروج عن الحق ، وقد علمت السبب في قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا تفضلوا بين الأنبياء وما قال الناس فيه ، فإياك والدخول في هذه المضايق ، ففيها الخروج عن الصراط المستقيم . وأما الترجيح الخاص ، فلنفرد له مسألة على حدة ، وهي : [ ص: 299 ] المسألة الرابعة وذلك أن من اجتمعت فيه شروط الانتصاب للفتوى على قسمين : أحدهما : من كان منهم في أفعاله وأقواله وأحواله عند مقتضى فتواه ، فهو متصف بأوصاف العلم ، قائم معه مقام الامتثال التام ، حتى إذا أحببت الاقتداء به من غير سؤال أغناك عن السؤال في كثير من الأعمال ، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤخذ العلم من قوله ، وفعله ، وإقراره . فهذا القسم إذا وجد ، فهو أولى ممن ليس كذلك ، وهو القسم الثاني ، وإن كان في أهل العدالة مبرزا ، لوجهين : أحدهما : ما تقدم في موضعه من أن من هذا حاله ، فوعظه أبلغ ، وقوله أنفع ، وفتواه أوقع في القلوب ممن ليس كذلك ؛ لأنه الذي ظهرت ينابيع العلم عليه ، واستنارت كليته به ، وصار كلامه خارجا من صميم القلب ، والكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب ، ومن كان بهذه الصفة ، فهو من الذين قال الله فيهم : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ فاطر : 28 ] بخلاف من لم يكن كذلك ، فإنه وإن كان عدلا وصادقا وفاضلا لا يبلغ كلامه من القلوب هذه المبالغ ، حسبما حققته التجربة العادية . والثاني : أن مطابقة الفعل القول شاهد لصدق ذلك القول ، كما تقدم بيانه أيضا ، فمن طابق فعله قوله صدقته القلوب ، وانقادت له بالطواعية النفوس ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المقام ، وإن كان فضله ودينه معلوما ، ولكن التفاوت الحاصل في هذه المراتب مفيد زيادة الفائدة أو عدم زيادتها ، فمن زهد الناس في الفضول التي لا تقدح في العدالة ، وهو زاهد فيها ، وتارك لطلبها - فتزهيده أنفع [ ص: 300 ] من تزهيد من زهد فيها وليس بتارك لها ، فإن ذلك مخالفة وإن كانت جائزة ، وفي مخالفة القول الفعل هنا ما يمنع من بلوغ مرتبة من طابق قوله فعله . فإذا اختلف مراتب المفتين في هذه المطابقة ، فالراجح للمقلد اتباع من غلبت مطابقة قوله بفعله . والمطابقة أو عدمها ينظر فيها بالنسبة إلى الأوامر والنواهي ، فإذا طابق فيهما فهو الكمال ، فإن تفاوت الأمر فيهما - أعني فيما عدا شروط العدالة - فالأرجح المطابقة في النواهي ، فإذا وجد مجتهدان أحدهما مثابر على ألا يرتكب منهيا عنه ، لكنه في الأوامر ليس كذلك ، والآخر مثابر على ألا يخالف مأمورا به ، لكنه في النواهي على غير ذلك - فالأول أرجح في الاتباع من الثاني ؛ لأن الأوامر والنواهي فيما عدا شروط العدالة إنما مطابقتها من المكملات ومحاسن العادات ، واجتناب النواهي آكد وأبلغ في القصد الشرعي من أوجه : أحدها : أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح ، وهو معنى يعتمد عليه أهل العلم . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |