|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (36) التدابير التي اتخذها يزيد ضد ابن الزبير كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ "حملة الحصين بن نمير - وحصار ابن الزبير - وحريق الكعبة": ذكرنا في المقال السابق تفاصيل حملة عمرو بن الزبير، ونستكمل في هذا المقال محاولات يزيد للسيطرة على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-. لم يقم مسلم بن عقبة في المدينة أكثر مِن ثلاثة أيام بعد موقعة الحرة، ومات في السابع مِن شهر المحرم وهو في طريقه لابن الزبير، وتولى القيادة مِن بعده الحصين بن نمير السكوني، ووصل إلى مكة قبْل انقضاء شهر المحرم بأربع ليالي تقريبًا، وعسكر الحصين بن نمير بالحجون -الجبل المشرف حذاء مسجد البيعة بينه وبيْن الحرم ميل ونصف- إلى بئر ميمون -حفرها ميمون بن الحضرمي، وهي في طريق منى-، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة، والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة. وقام ابن الزبير -رضي الله عنهما- يحثُّ الناس على قتال جيش أهل الشام، وانضم المنهزمون مِن معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدِم على ابن الزبير أيضًا نجدة بن عامر الحنفي في ناسٍ مِن الخوارج، وذلك لمنع البيت مِن أهل الشام (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وقيل: إن النجاشي -لقب لكل مَن حكم الحبشة- أرسل جماعة مِن جيشه للدفاع عن الكعبة (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثيرٍ مِن المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة، وعرض الحصين بن نمير الصلح والتسليم على عبد الله بن صفوان أحد أمراء عبد الله بن الزبير، فرفض ابن صفوان وأصر على الحرب والقتال ووافقه مَن معه (المحن لأبي العرب ص 203). وكان مسلم بن عقبة عند موته قد أوصى الحصين، فقال: "فاحفظ عني ما أقول لك: لا تطيلنّ المقام بمكة، فإنها أرضٍ جردية لا تحتمل الدواب، ولا تمنع أهل الشام مِن الحملة، ولا تمكن قريشًا مِن أذنك فإنهم قوم خدع، وليكن أمرك الْوِقَافُ، ثُمَّ الثِّقَافُ -أي الخصام والجلاد، يريد المناجزة بالسيف- ثم الانصراف، أفهمت يا حصين؟ قَال: نعم. قَال: واعلم أنك تقدم على قوم لا منعة لهم ولا عدة ولا سلاح، ولهم جبال مشرفة عليهم، فانصب عليهم المجانيق فإن عاذوا بالبيت فارمه فما أقدرك على بنائه" (الطبقات لابن سعد). وفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت مِن صفر، نشب القتال شديدًا بيْن الطرفين، ويبدو أن ابن الزبير قد حقق في البداية شيئًا مِن التكافؤ مع جيش الحصين (الطبقات لابن سعد)، لكن سرعان ما تحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن ابتلي ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخويه: المنذر وأبي بكر ابني الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير (جمهرة نسب قريش وأخبارها للزبير بن بكار). وبعد ثلاثة أيام مِن ربيع الأول سنة 64 هـ - 683م: قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس -هو أحد أخشبي مكة، وهو جبل مطل على الصفا- وجبل قعيقعان -جبل بمكة مقابل لأبي قبيس-، وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبقَ مأمن لابن الزبير مِن أحجار المنجنيق سوى الحِجر (المحن لأبي العرب)، وحوصر ابن الزبير حصارًا شديدًا، ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح (تاريخ خليفة لابن خياط). وقد عمد ابن الزبير إلى وضع ألواحٍ حول البيت وعلى المسجد، وألقى عليها الفرش؛ حتى توفر لهم غطاءً مِن كثرة الحجارة المنهمرة عليهم مِن أعالي الجبال، وحتى يتمكنوا مِن أداء الصلاة والطواف حول الكعبة، وقد جعل ابن الزبير فسطاطًا في المسجد فيه نساء يسقين الجرحى ويطعمن الجائع (تاريخ دمشق لابن عساكر). وفي أثناء احتدام االمعارك بيْن ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة، وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرَّم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- القتال فيه، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول (تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة للحافظ ابن حجر)، ولم يعلم أحدٌ بموته؛ نظرًا لبعد المسافة بيْن مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين. ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق، بل كان نتيجة حريق في الخيام المحيطة بها، والدليل على ذلك: ما أحدثه حريق الكعبة مِن ذهولٍ وخوفٍ مِن الله في كلا الطائفتين: جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير؛ فقد نادى رجل مِن أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة، وقال: "هلك الفريقان! والذي نفس محمد بيده" (تاريخ خليفة لابن خياط). وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفًا مِن أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجدًا، ويقول: "اللهم إني لم أتعمد ما جرى؛ فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بيْن يديك" (مواقف المعارضة للشيباني). ولا شك أن أحدًا مِن أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين (منهاج السنة لابن تيمية)، ولكن يُؤخذ على أهل الشام أنهم يعلمون جيدًا أن إحتمالية وقوع الضرر بالكعبة قائمة، ومع ذلك لم يراعوا هذا الأمر. وهناك بعض الروايات التى تشير إلى أن الحصين بن نمير قد عرض على ابن الزبير بعد موت يزيد أن يتولى الخلافة حقنًا لدماء المسلمين، ولكن بشرط أن يتوجه معه إلى بلاد الشام؛ فرفض ابن الزبير هذا العرض وطلب المقام في مكة(تاريخ الرسل والملوك للطبري). ثم انسحب جيش الشام بعد ذلك، وحينما نحاول أن نقوِّم حركة ابن الزبير، ومدى تأثيرها على المجتمع الإسلامي في تلك الفترة، فإننا نجد أن نتيجة الحرب التي دارت بيْن الحصين وابن الزبير، لم تصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ بسبب وفاة يزيد بن معاوية وانسحاب جيش الشام، ولكننا نشير إلى عدم رضا كثيرٍ مِن الصحابة عن معارضة ابن الزبير وموقفه، وهذا يظهر جليًّا في موقف ابن عمر -رضي الله عنهما-، وهو أفضل وأفقه أهل زمانه حيث إن يزيد بن معاوية -في نظره- يمثِّل الخليفة الشرعي للمسلمين، وأنه قد أعطي البيعة؛ ولذا لا يجوّز الخروج عليه. وقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يعلم نتائج معارضة ابن الزبير، حيث سيكون هناك حربٌ و قتالٌ بيْن المسلمين، ويُقتل الناس تبتلى الأمة، وتُعَطّل الثغور ويتوقف الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مِن المفاسد التي يعتقد ابن عمر أنها ستحدث لا محالة إذا استمر ابن الزبير في معارضته. ولكي يصرف ابن عمر الناس عن مناصرة ابن الزبير فقد قال بأن قتال ابن الزبير إنما هو لأجل الدنيا (المصنف لابن أبي شيبة بسندٍ صحيح)، وأخذ يخبر الناس ويحذرهم أن قتالهم ومناصرتهم لابن الزبير إنما هو قتال على الملك فقط (البخاري مع الفتح (4513) كتاب التفسير، وأحمد المسند (5690) وصحح إسناده أحمد شاكر)، ولم يكتفِ ابن عمر بذلك، بل كان دائم المناصحة لابن الزبير و يحذِّره مِن عواقب الفتن، وكان يعرّفه بأن نهاية هذه المعارضة ستكون بائسة له (شرح النووي على مسلم). ولا شك أن كلام ابن عمر وموقفه في الفتن يستحق التوقف والتدبر للخروج بحصيلةٍ علميةٍ راسخةٍ نستفيد منها في واقعنا المعاصر. وهكذا كان موقف ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو فقيه عالمٌ مفسّرٌ للقرآن، مِن أشد المعارضين لموقف ابن الزبير، فلم يُنقل عنه أنه كان راضيًا عن ابن الزبير أو أنه تعاطف مع معارضته، بل إنه لم يبايعه بعد وفاة يزيد بن معاوية، وكان يصرِّح بأنه إذا كان تحت حكم بني أمية خيرٌ له مِن حكم ابن الزبير (البخاري مع الفتح 8/ 177)، ولم يكن راضيًا عن شخص ابن الزبير، ويفضِّل عليه معاوية بن أبي سفيان (المعجم الكبير للطبراني، والمصنف لعبد الرزاق)، بل وكان يحمِّله جزءًا مِن المسؤولية عن إحلال القتال ببيت الله (البخاري مع الفتح 8/ 177). وهكذا كان موقف أبي برزة الأسلمي وجندب بن عبد الله البجلي -رضي الله عنهما-، و قولهم جميعًا بأن قتاله مِن أجل الدنيا إنما كان بسبب النظرة إلى الفتن التي تجري بيْن المسلمين في ذلك الحين، ويهدفون إلى تحذير كل مَن يلتحق، أو ينوي لانضمام لأيٍ مِن الطائفتين. ومراد هؤلاء الصحابة الذين نقلنا عنهم رأيهم في قتال ابن الزبير وأنه كان مِن أجل الدنيا، هو تثبيط الناس عن الاشتراك معه، ومعرفتهم بأن النتائج التي ستترتب على أي قتالٍ يحدث هي أعظم مِن المنفعة المرجوة بعده؛ فهذا ابن عمر يترحم على ابن الزبير بعد أن قتله الحَجّاج، ويقول: "لقد كنتَ صوّامًا قوّامًا تصِل الرّحم". و يقول أيضًا: "رحمك الله، لقد سَعِدَتْ أمة أنت شرُّها!" (مسلم بشرح النووي 16/ 99). ولا شك أن هؤلاء الصحابة قد آلمهم تعريض ابن الزبير الحرم للقتال والحرب؛ لما له مِن مكانةٍ وحرمةٍ، فهذا عمر -رضي الله عنه- يقول عن الحرم: "لو وجدتُ فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه!" (المصنف لابن أبي شيبة). وبالرغم مِن القتال الذي دار بسببه؛ إلا أن القتل الذي أصاب إخوته وأصحابه وأصابه هو نفسه، فإنه مكفِّرٌ -بإذن الله- عما اقترف مِن الذنوب، ولذا قال ابن عمر -رضي الله عنهما- مخاطبًا ابن الزبير وهو مصلوب: "أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما قد عملت مِن الذنوب ألا يعذبك الله" (أخرجه الحاكم في المستدرك). ثم إن بعض الذين قاموا مع ابن الزبير -رضي الله عنهما- همْ مِن الصحابة الأجلاء، فمعاذ الله أنهم قاموا وقاتلوا وقٌتِلوا مِن أجل الدنيا، بل لقد كان مقصدهم -رضي الله عنهم- هو تغيير الواقع بالسيف، لمّا رأوا تحول الخلافة إلى وراثة وملك، ولقد كان ابن الزبير -رضي الله عنهما-يهدف مِن وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى، ويتولى الأمة أفضلها، وكان يخشى مِن تحول الخلافة إلى مُلك. وكان يرى -رضي الله عنه- أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حدًّا لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة، ولهذا لم يدعو لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية (الطبقات لابن سعد). فهو وإن أخطأ؛ فإنه مجتهد مأجور بلا أدنى شك. ومع ذلك فإن التمسك بنصوص الكتاب والسُّنة بلزوم الجماعة، والتي تحذر مِن شق عصا الطاعة، هو أولى مِن الذي أقدم عليه ابن الزبير وأهل المدينة؛ فكم مِن دمٍ أريق وامرأة ترمَّلت وطفلٍ تيتَّم، ومالٍ نُهِب وأضيع، وغير ذلك مِن المفاسد، وبما أن كل طرفٍ يقاتل ويرى أنه على حق؛ فلهذا سمَّى السلف معارضة ابن الزبير فتنة (التاريخ الكبير للبخاري، وتاريخ دمشق لابن عساكر). وذلك لأنه قتال بيْن المسلمين لا نفع مِن وراءه ولا خير، فالكل يقاتل عن تأويل، ومع ذلك نقول كما قال الذهبي: "فليته -أي ابن الزبير- كفَّ عن القتال لمّا رأى الغلبة، بل ليته ما التجأ إلى البيت. نعوذ بالله مِن الفتنة الصَّـمَّـاء" (سير أعلام النبلاء للذهبي).
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (37) قراءة حول الملك والخلافة كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فهذه نبذة مختصرة نريد أن نلقي الضوء مِن خلالها على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-؛ لا سيما فتنة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، ورفضه بيعة يزيد، ومِن ثَمَّ رفضه لخلافته. فهناك عدة مسائل نلخصها في عدة نقاط لتخرج القراءة بصورةٍ بنائية متكاملة. أولًا: شروط يجب توافرها في الإمام أو الخليفة: ذكر أهل العلم شروطًا معينة يجب توافرها في الخليفة ليصلح لتولي أمر الأمة، ومنها: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والعلم، والعدالة، والقرشية، وغير ذلك مِن الشروط، لكننا نريد أن نسلِّط الضوء على شرطي العلم والعدالة؛ فلابد أن يكون الخليفة عدلًا أمينًا، والعدالة هي عبارة عن الالتزام بالفرائض والفضائل، وتجنب الفواحش والرذائل. وقد ذكر أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن أن في قوله -تعالى- لإبراهيم -عليه السلام-: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124)، إجابة لسؤاله أن يجعل مِن ذريته أئمة، وتعريفًا له بذلك، وبأن الظالمين منهم لا يكونون أئمة. ثم قال: "فلا يجوز أن يكون الظالم نبيٍّا ولا خليفة لنبي ولا قاضيًا، ولا مَن يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين مِن مفتٍ أو شاهد أو مخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرًا، فقد أفادت الآية أن شرط جميع مَن كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح" (انتهى). وذكر القاضي البيضاوي أن الجملة تفيد إجابة إبراهيم إلى ملتمسه، وأن الظالمين مِن ذريته لا ينالون الإمامة؛ لأنها أمانة مِن الله وعهد، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة. والمراد: أن إمامة غير العدل لا تصح؛ فلا يكون إمامًا شرعيٍّا، لا أنها لا تقع، وقد نقل الجصاص وغيره عن ابن عباس -رضي لله عنهما- أنه قال: لا يلزم الوفاء بعهد الظالم، فإن عقد عليك في ظلم فانقضه، هذا بالنسبة لشرط العدالة، علمًا بأن يزيد كانت تلاحقه الإشاعات التي تقدح في عدالته. وقد كان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يقول بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه-: "أما والله، ما كان يبدّل بالقرآن الغناء ولا البكاء مِن خشية الله الحداء -صوت الغناء للإبل-، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر -الركض في طلب الصيد- يعرّض بيزيد -فسوف يلقون غيًّا" (أنساب الأشراف للبلاذري)، ثم يدعو إلى الشورى وينال مِن يزيد ويشتمه (أنساب الأشراف للبلاذري)، ويذكر شربه للخمر، ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية (أخبار مكة وما جاء فيها مِن الآثار للأرزقي). وقد كان بعض الناس في المدينة أيضًا يذكرون هذا الكلام، ولعل هذه الاتهامات التي تقدح في العدالة كانت مِن الأسباب التي جعلت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- يرفض بيعة يزيد بالإضافة إلى السبب الرئيسي، وهو طريقة ترشيح يزيد وتوليه الخلافة. وأما بالنسبة لشرط العلم، فيعنون به العلم بأمور الدين ومصالح الأمة وسياستها. ومِن الآثار في ذلك: سيرة عمر -رضي الله عنه- في أمرائه الذين كان يؤمِّرهم في البلاد، أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع فيها؛ فلأجل ذلك أَمَّرَ معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاصم مع وجود مَن هو أفضل منهم في أمر الدين والعلم: كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة. جاء في الموسوعة الفقهية في بيان المقصد الأساس للدولة: "هُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. يَقُول الْمَاوَرْدِيُّ: الإْمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلاَفَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَالإْمَامُ هُوَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الْوِلاَيَاتِ فِي الدَّوْلَةِ. وَيَقُول ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلاَيَاتِ إِصْلاَحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِصْلاَحُ مَا لاَ يَقُومُ الدِّينُ إِلاَّ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. وَيَقُول ابْنُ الأْزْرَقِ: إِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ يَعْنِي وُجُوبَ نَصْبِ الإْمَامِ رَاجِعَةٌ إِلَى النِّيَابَةِ عَنِ الشَّارِعِ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ، وَسُمِّيَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النِّيَابَةِ خِلاَفَةً وَإِمَامَةً وَذَلِكَ لأِنَّ الدِّينَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي إِيجَادِ الْخَلْقِ لاَ الدُّنْيَا فَقَطْ" (انتهى). إذن فلا بد مِن وجود العلم للحفاظ على أمري الدين والدنيا؛ لأن جهل الخليفة أو الإمام سيعود بلا شك بالضرر البالغ على العباد والبلاد، وأما مَن كان مستجمعًا لأكثر الشروط ولم يجمعها كلها؛ فيجوز مبايعته، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها. ومثال ذلك: مَن تغلب وهو جاهل، يفقد شرط العلم مثلًا، وكان صرفه ومنابذته فتنة وفساد؛ حكمنا بانعقاد إمامته حفاظًا على وحدة الكلمة، وكيان الأمة؛ فلقد قُتل عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- وقد كان أميرًا للمؤمنين، ودخلت في طاعته ومبايعته: "الكوفة، والبصرة، ومصر، وخراسان، والشام -معقل الأمويين-"، ولم يبقَ سوى الأردن في عهد عبد الملك بن مروان، وقد قتله الحجاج؛ فماذا كان موقف عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-؟! عن نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أَتَاهُ رَجُلاَنِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: إِنَّ النَّاسَ صَنَعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: "يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي"، فَقَالاَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ) (الأنفال:39)، فَقَالَ: "قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ" (رواه البخاري). وعن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: "لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَصَلَبَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ يُغَايِظُ بِهِ قُرَيْشَ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَاللَّهِ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، ثَلاثًا، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لَأُمَّةٌ خَيْرٌ" (رواه مسلم). بل كان -رضي الله عنه- يصلي خلف الحجاج، بل وحج معه، وبايع عبد الملك بن مروان، ولم يخرج على الحاكم أو يأمر بالخروج عليه؛ لأنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال؛ لما في ذلك مِن سفك الدماء، وإضعاف لوحدة الجماعة المسلمة، فلما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: "أما بعد, فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت, وإن بنيّ قد أقروا بذلك" (الطبقات لابن سعد). فالعلة ليست في ثبوت الولاية الشرعية مِن عدمها، ولكن العلة هي سفك الدماء، علمًا بأننا لا نثبت الولاية الشرعية في النظام الجمهوري الحديث؛ فانتبه، ولقد قامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية على يد أبي العباس السفاح الذي قضى على الدولة الأموية، وقتل عشرات الآلاف مِن المسلمين. وهنا سؤال: ماذا فعل العلماء في عصره؟! لقد بايعوه ولم يأمروا بقتاله؛ نظرًا لعدم القدرة على ذلك، وللمفاسد المحتملة، بل وربما المفاسد المحققة. قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- في شرح العقيدة السفارينية: "(وشرطه): أي شرط الإمام الذي يكون خليفة على المسلمين -وعدد شروطًا-... ومنها: (الإسلام): وهذا لابد منه، فلا يمكن أن يتولى على المسلمين غير مسم أبدًا، بل لابد أن يكون مسلمًا؛ فلو استولى عليهم كافر بالقهر، وعندهم فيه مِن الله برهان أنه كافر؛ بأن يعلن أنه يهودي أو نصراني مثلاً، فإن ولايته عليهم لا تنفذ ولا تصح، وعليهم أن ينابذوه، ولكن لابد مِن شرط مهم وهو القدرة على إزالته، فإن كان لا تمكن إزالته إلا بإراقة الدماء وحلول الفوضى؛ فليصبروا حتى يفتح الله لهم بابًا؛ لأن منابذة الحاكم بدون القدرة على إزالته لا يستفيد منها الناس إلا الشر والفساد والتنازع، وكون كل طائفة تريد أن تكون السلطة حسب أهوائها... ثم قال: ولابد أن يكون على دراية ومعرفة بالسياسة، ومعرفة بالأحوال حتى يدير الحكم على ما تقتضيه الشريعة، وتقتضيه المصالح". وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (38) قراءة حول الملك والخلافة كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-. ثانيًا: مَن يرشح الخليفة ويوليه وينصبه؟ يرشح الخليفة "أهل الحل والعقد" عن طريق الشورى، وأهل الحل والعقد هم أهل العلم وأولو المكانة، ووجوه الناس وزعماؤهم، وموضع الثقة بالنسبة للناس؛ فالأمة تتبعهم في طاعة مَن يولونه، ولا يلزم اجتماعهم جميعًا، بل ما يتيسر اجتماعهم منهم، وهذا هو المأخوذ مِن عمل الصحابة -رضي لله عنهم- في تولية الخلفاء الراشدين؛ فإن عمر -رضي الله عنه- عدَّ البدء في بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- فلتة؛ لأنه وقع قبْل أن يتم التشاور بيْن جميع أهل الحل والعقد؛ إذ لم يكن في سقيفة بني ساعدة أحد مِن بني هاشم. وتضافرت الروايات بأن أبا بكر -رضي لله عنه- أطال التشاور مع كبراء الصحابة في ترشيح عمر -رضي الله عنه-، ولما طُعن عمر -رضي الله عنه- رأى حصر الشورى الواجبة في الستة الزعماء الذين مات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ؛ لعلمه بأنه لا يتقدم عليهم أحدٌ، ولا يخالفهم فيما يتفقون عليه أحد. وإذا تأملنا حال أولئك الستة نرى أنه لم يكن في أهل الإسلام أحد له مِن المنزلة في الدين، والهجرة والسابقة، والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة، ما للستة الذين جعل عمر -رضي الله عنه- الأمر شورى بينهم. وقد صح أن عمر -رضي الله عنه- أنكر على مَن زعم أن البيعة تنعقد بواحدٍ مِن غير مشاورة الجماعة؛ فلقد قال على منبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "بلغني أن قائلًا منكم يقول: ولله لو مات عمر لبايعت فلانًا، فلا يغترنَّ امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم مَن تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر". وقد أقرت جماعة الصحابة عمر -رضي الله عنه- على ذلك، فكان إجماعًا؛ فتحرر بهذا: أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين، واختيار أهل الحل والعقد، ولا نعتبر مبايعة غيرهم إلا أن تكون تبعًا لهم، وإمامة عثمان -رضي الله عنه- لم تكن بمبايعة عبد الرحمن بن عوف وحده، بل كانت عامة لا خاصة به، وكان يملك تفويضًا بذلك، وكذلك مبايعة عمر لأبي بكر -رضي الله عنهما-. ثالثًا: الأمة تابعة لأولي الأمر: وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء:59). عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ): "يعني أهل الفقه والدين". وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني: العلماء. وقال ابن كيسان: "هُمْ أُولُو الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ النَّاسِ". وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "هم الأمراء". وقال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ساق أقوال مِن قال هم العلماء، وأقوال مَن قال هم الأمراء: "والظاهر -والله أعلم- أن الآية في جميع أولي الأمر مِن الأمراء والعلماء". وإذا تأملنا نجد أن ولي الأمر واحد منهم، وإنما يطاع بتأييد جماعة المسلمين الذين بايعوه وجعلوا ثقتهم به، ويدل على هذا المعنى ما ورد مِن الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة، وقد جاء في الحديث: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (متفق عليه)، فقد أجمع أهل العلم على وجوب طاعة خليفة المسلمين إذا كان عادلًا، وحرمة خلعه والخروج عليه؛ لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). وفي الصحيحين -وغيرهما- عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "دَعَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ". والكفر البواح هو الظاهر الذي لا يحتمل تأويلًا. وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) (رواه مسلم). وللأمة خلع الإمام وعزله بسببٍ يوجبه، فإذا ثبت كفر الخليفة فقد سقطت بيعته شرعًا، وفى حال بغيه وجوره فإن حكم الخروج عليه وخلعه يدور مع المصلحة وجودًا وعدمًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع". وقال الدسوقي المالكي: "يحرم الخروج على الإمام الجائر؛ لأنه لا يُعزل السلطان بالظلم والفسق، وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه، وعدم الخروج عليه، إنما هو تقديم أخف المفسدتين؛ إلا أن يقوم إمام عادل فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم". والخلع يعني تنحية الإمام عن الحكم فتسقط طاعته وتنحل بيعته، ولا تكون له حقوق عند الرعية زائدة عن حقوق المسلم على المسلم. وأضرب مثالين في هذة المسألة: أولهما: موقعة "الحرة"؛ فلا شك أن موقعة الحرة مِن الفتن التي حدثت بيْن المسلمين، وقد ظن أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدات المفسدة؛ فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا! والمثال الثاني: هو مقتل الملك المعز "عز الدين أيبك"، ثم قُتلت بعده زوجته "شجرة الدر"، ثم تولى الحكم السلطان الطفل "المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك"، ثم تولى "سيف الدين قطز" الوصاية على السلطان الصغير، وإن كان "قطز" يدير الأمور فعليًّا في مصر؛ إلا أن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا يضعف مِن هيبة الحكم في مصر، ويزعزع مِن ثقة الناس بملكهم، ويقوي مِن عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلًا! وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشكلات الداخلية الطاحنة، وثورات بعض المماليك، وأطماع بعض الأمراء لم يجد "قطز" أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل "نور الدين علي" على كرسي أهم دولة في المنطقة "وهي مصر"، والتي لم يعد هناك أمل في صد التتار إلا فيها؛ فتم مبايعة "قطز" ليتولى الأمر في مصر، وتم عزل السلطان الطفل، وقد تم ذلك في اجتماع حضره كبار أهل الرأي مِن العلماء والقضاة. وقد أجرى "قطز" بعض التعديلات في المناصب القيادية، وولَّى أصحاب الخبرة والكفاءة والأمانة، وقام ببعض الإصلاحات الداخلية لتستقر الأمور في مصر، ثم كانت الوحدة بيْن مصر والشام. قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد اجتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام". يعني اجتمعت الكلمة لقواد وأمراء المسلمين. وتحرك قطز بجيوش المسلمين وانتصر على التتار، وانتهت أسطورة الجيش الذي أرهب العالم، وسيطر على نصف الكرة الأرضية تقريبًا؛ لذا نقول: إن الأمة تابعة لأهل الحل والعقد، وعدم الطاعة يترتب عليها مفاسد كبرى، وقد ظهر ذلك جليًّا في عدم مبايعة معاوية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وما ترتب على ذلك مِن قتالٍ وفسادٍ وشرٍّ. وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (39) قراءة حول الملك والخلافة كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالمُلك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، فقد تحدثنا سابقًا عن بعض الشروط التي يجب توافرها في الخليفة، ثم تحدثنا عن أهل الحل والعقد، وأن الأمة تابعة لأولي الأمر، ونطوف الآن حول قضية مِن أهم القضايا في مسألة الملك؛ ألا وهي مسألة توريث الحكم. رابعًا: مسألة توريث الحكم: إن مسألة توريث الحكم مِن الأمور التي انتشرت واستمرت في العصور المختلفة، فقد بدأت في عصر معاوية -رضي الله عنه- وترشيحه لابنه يزيد، ثم استمرت في عصر الدولة الأموية، وكذلك في عصر الدولة العباسية، ثم في عصر الدولة العثمانية. ولا شك أن مسألة التوريث كان لها أثر سلبي على الأمة في كثيرٍ مِن المواطن والأزمنة. قال الشيخ محمد الغزالي في كتابه: "الإسلام والمناهج الاشتراكية": "إن الإسلام الذي أقر مبدأ التوارث المالي رفض بشدة مبدأ توارث الزعامات الروحية أو المدنية أو غيرها، فعندما اختار الله إبراهيم -عليه السلام- نبيًّا، طلب منه هذا النبي الكريم أن تنتقل نعمة الاختيار في بنيه فأبى الله عليه ذلك (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124). فتعاليم الإسلام تقطع دابر هذا التوريث ولا ترشح للزعامة إلا الذين يدركونها عن جدارة وكفاية" (انتهى). لذا امتنع بعض الصحابة -رضي الله عنهم- عن مبايعة يزيد في عصر معاوية -رضي الله عنه-، وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض، وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير، والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، كما عبَّر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عن اعتراضه بقوله: "يا معشر بني أمية اختاروا منها بيْن ثلاثة: بيْن سنة رسول الله، أو سنة أبي بكر أو سنة عمر؛ ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية، كلما مات قيصر كان قيصر!". وكم عانى المسلمون مِن أمر التوريث في الحكم خلال العصر العباسي، وقد بدأت الفتن بما حدث بيْن الأمين وأخيه المأمون بسبب ولاية العهد، فولاية العهد كانت مِن الكوارث التي حلت بنظام الحكم، وكانت تؤدي في كثيرٍ مِن الأحيان إلى فساد العلاقات ووقوع القتال بيْن أفراد الأسرة الواحدة، وكم قامتْ ثورات مسلحة بيْن أبناء البيت الواحد بسبب ولاية العهد وتوريث الحكم؛ فضلًا عن توريث الحكم أحيانًا لبعض الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بعد! ويكفي أن نعلم أن الخليفة العباسي المقتدر بالله بويع له بالخلافة عند موت أخيه المكتفي وعمره ثلاث عشرة سنة! وكان عصره مِن أشد العصور وبالًا على المسلمين؛ نظرًا للصراعات العنيفة التي وقعت بيْن النظام الحاكم المتمثل في الخليفة الضعيف والتيارات السياسية المختلفة التي تمثلت في القصر ونسائه، والخدم والحاشية، وبيْن القيادات العسكرية مِن جهة أخرى. وقد اشتهر عصر المقتدر بالله، بعصر نفوذ النساء، ولكَ أن تتخيل أن فترة حكمه استمرت ربع قرن مِن الزمان، مِن عام 295هـ، وحتى 320هـ، وحدث في عهده للمرة الأولى في التاريخ أن تولت امرأة منصب القضاء، وهي ثمل القهرمانة إحدى نساء القصر، فكانت تقضي في الخصومات والنزاعات ويحضر مجلسها الوزراء والقضاة وكبار رجال الدولة! فكانت تشبه الآن مجلس الدولة والمحاكم الإدارية العليا، وكانت شٌغب أم الخليفة هي المسيطرة على المسرح السياسي في الدولة، إلى غير ذلك مِن التدهور الذي حدث في عصر المقتدر بالله في النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغير ذلك. وحدث مثل هذا في عصر الدولة العثمانية؛ فقد تولى السلطان "محمد الرابع" المسؤولية وهو ابن سبع سنين، وهنا رأت أوروبا أن الوقت قد حان للنيل مِن الدولة العثمانية؛ فبعد عصر الفتوحات والانتصارات التي تمثلت في فتح القسطنطينية وبلجراد، والبلقان وبلغاريا، وغاليبول بإيطاليا، والمجر، وفتح جزيرتي قبرص ورودس باليونان، وغير ذلك مِن الفتوحات التي سطرتها صفحات التاريخ المشرقة للدولة العثمانية؛ لك أن تتخيل أن يتولى صبي مقاليد الحكم وهو في السابعة مِن عمره! وكذا تولى "عثمان الثاني" وهو في الثالثة عشرة مِن عمره، وتولى السلطان أحمد الأول وهو في الرابعة عشرة من عمره، و هذا يعد من أسباب ضعف الدولة وتدهور أحوالها على كافة المستويات والنواحي والمختلفة؛ لذا نقول كان عبد الله بن الزبير وغيره مِن الصحابة -رضي الله عنهم- على حق عندما رفضوا مبدأ التوريث في الحكم، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- "يتعوذ مِن إمارة الصبيان والسفهاء" (أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني). وعلى الشق الآخر: لقد عاشتْ الأمة أزهى عصورها يوم تخلت عن توريث الحكم للأبناء؛ فإذا تأملنا حال سليمان بن عبد الملك -رحمه الله-، نرى أنه مِن أفضل خلفاء بني أمية؛ فلقد حرص والده على تربيته تربية عالية، وتعليمه أصول الحكم، كما كانت أخلاقه مضربًا للأمثال؛ ولذلك كانت بطانته مِن العلماء والحكماء والصالحين، أمثال رجاء بن حيوة، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهما. توفي سليمان بن عبد الملك في مرج دابق مرابطًا في سبيل الله في شهر صَفَر سنة 99هـ، وبُويِعَ في اليوم نفسه لابن عمه عمر بن عبد العزيز الذي عهد له مِن بعده. وكان محمد بن سيرين يترحم على سليمان بن عبد الملك، ويقول: "افتتح خلافته بخير وختمها بخير؛ افتتحها بإجابة الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز". فلقد توج سليمان بن عبد الملك أعماله بما يدل على حرصه على مصلحة المسلمين؛ فاختار عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قبْل موته ليكون وليًّا للعهد ويخلفه مِن بعده، ولم يعهد لأحد ممَن هم أقرب إليه مِن عمر بن عبد العزيز. ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (40) قراءة حول الملك والخلافة كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ولقد تحدثنا في المقال السابق عن مسألة توريث الحكم، ونريد أن نلقي الضوء على مسألة ترشيح معاوية -رضي الله عنه- لابنه يزيد، وأخذ البيعة له في حياته. الواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-: الحكم على الشيء فرع عن تصوره: ذهب كثيرٌ مِن المؤرخين إلى أن معاوية -رضي الله عنه- قد أخطأ يوم أخذ البيعة لابنه يزيد في حياته، ولكننا نريد أن نلقي الضوء على الواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-، وذلك مِن باب الإنصاف حتى نستطيع أن نحسن الحكم على مسألة التوريث ليزيد بن معاوية، وأريد أن أشير إلى شيءٍ يسيرٍ مِن فضائله -رضي الله عنه-؛ لأنه مِن الشخصيات التي نالها الكثير مِن التشويه، فمِن فضائل معاوية -رضي الله عنه- دعاء النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- له بالهداية وبالوقاية مِن العذاب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: (اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (هَادِيًا): أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَي: مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ. وثَبَتَ أن النبيَّ -صلى الله عليه وآله وسلم- دعا لمعاوية فقال: (اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ) (رواه أحمد وابن حبان، وقال الألباني: صحيح لغيره)؛ فضلًا عن أنه كان مِن كتبة الوحي لرسول اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-. قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما، وعندكم معاوية"، ويقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ أحدًا أسود مِن معاوية! قال: قلتُ: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه". وفي رواية: "ما رأيت أحدًا بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسود مِن معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه, وهو أسود منهم -أحكم منهم وأكثرهم سيادة-". ويقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "ما رأيتُ رجلًا كان أخلق بالملك مِن معاوية" (البداية والنهاية). وقال ابن أبي العز الحنفي: "وأول ملوك المسلمين معاوية، وهو خير ملوك المسلمين". وقال ابن تيمية -رحمه الله-: "واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك, كان ملكه ملكًا ورحمة" (مجموع الفتاوى لابن تيمية). وقال: "فلم يكن مِن ملوك المسلمين خيرًا منهم في زمان معاوية إذا نسبتْ أيامه إلى أيام مَن بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل", وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز، فقال: "فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا، والله في عدله" (منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية). ثم نعود إلى استقراء الواقع وذكر الملامح العامة للواقع في عصر معاوية -رضي الله عنه-، فبعد انتهاء عصر الخلافة الراشدة كانت بنو أمية قادرة فعلًا على الحكم، واستطاع معاوية أن يحكم الدولة بحكمته وأن يحافظ على وحدتها، بعد سنواتٍ مِن الفرقة والقتال الذي وقع بيْن أبناء الأمة، وكان معاوية يرى -والله أعلم- أن الأمة يصعب أن تجتمع على شخصٍ واحدٍ بعد موته عن طريق الشورى، وكان يعلم أيضًا أن بني أمية لن ترضى بأحدٍ مِن غيرها. وفي هذا الصدد يرى ابن خلدون أن الفترة النبوية هي فترة استثنائية، انتصر فيها الوازع الديني على الوازع العصبي (القبلي - العشائري)، الذي تقوم عليه الملك، لكن لما بدأ هذا الوازع يقل عند الناس كان لا بد مِن عودة قانون العصبية إلى مسار التاريخ" (انتهى). فالذي دعا معاوية -رضي الله عنه- لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون مَن سواه: إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاقهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذٍ مِن بني أمية؛ إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وأما مَن بعدهم مِن لدن معاوية، فكانت العصبية قد أشرفتْ على غايتها مِن المُلك، والوازع الديني قد ضعف، فلو عهد إلى غير مَن ترتضيه العصبية لردتْ ذلك العهد وانتقض أمره سريعًا، وصارت الجماعة إلى الفُرقة والاختلاف، والقتال الذي توقف بيْن المسلمين يسهل أن يعود مرة أخرى، فمعاوية -رضي الله عنه- قد عدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع. قال محب الدين الخطيب -رحمه الله- في تعليقه على "العواصم من القواصم": "عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس مِن الفتن والمجازر إذا جعلها شورى، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه" (انتهى). يروي الذهبي -رحمه الله- في تاريخ الإسلام: "خطب معاوية، فقال: اللهم إن كنتُ إنما عهدتُ ليزيد لما رأيتُ مِن فضله فبلغه ما أمَّلت وأعنه، وإن كنتُ إنما حملني حب الوالد لولده، وإنه ليس بأهل فاقبضه قبْل أن يبلغ ذلك". ها هو معاوية -رضي الله عنه- يدعو في خُطبه بمثل هذا الدعاء، ويستمع إلى قول السامعين: آمين، بل لما تنازل حفيده معاوية الثاني عن الخلافة وتركها للأمة نشبت الخلافات بالفعل، ثم حسمها البيت الأموي لثاني مرة وأمسك بالحٌكم مروان بن الحكم، ولقد واجهت الدولة الأموية كثيرًا مِن الثورات وحركات الخروج والتمرد عليها، وكانت كثير مِن هذه الثورات يتزعمها أناس لهم ثقلهم الكبير ووزنهم الضخم في وجدان كل المسلمين، لكنها انتصرت عليهم برغم كل هذا، ومِن أقوى الثورات التي قامت ضد الدولة الأموية ثورة العراق بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث، ودارت معارك طاحنة مثل معركة: "دير الجماجم"، حتى عرض عليهم عبد الملك أن يعزل الحجاج عن العراق إنْ كان هذا يرضيهم، لكن الثوار رفضوا ثم هزموا، واستطاعت الدولة الأموية القضاء على حركة الخوارج أيضًا في خراسان وما بعدها، واستقرت أمور الدولة وبدأت الفتوحات مِن جديدٍ في عهد عبد الملك بن مروان. إذن، خلال عشرين سنة تقريبًا ظل البيت الأموي يواجِه ثوراتٍ متعددةٍ وقويةٍ، وقياداتها مِن كبار الزعماء، لكنها استطاعت أن تهزمها كلها ثم تستقر، ثم تبدأ في حركة الفتوحات... فأيُّ البيوت العربية كان يستطيع ذلك في هذا الوقت؟! ومِن شهادة التاريخ أيضًا: أن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، مع كل تقواه وورعه وزهده، وتلك الطفرات التي أحدثها في الحكم والإدارة؛ إلا أننا لا نجد في أي مرجعٍ تاريخي أنه كان يستطيع إلغاء نظام الوراثة وإعادتها إلى الشورى، بل ورد عنه ما يفيد العجز عن هذا صراحة، فقد قال عند الموت: "لو كان لي مِن الأمر شيء ما عدوتُ بها القاسم بن محمد"، فبلغت هذه المقولة القاسم بن محمد، فترحم عليه، وقال: "إن القاسم ليضعف عن أهليه؛ فكيف يقوم بأمر أمة محمد؟!" (الطبقات الكبرى لابن سعد)، لكن الذي تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز يزيد بن عبد الملك؛ بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى ومائة، بعهدٍ مِن أخيه سُليمان بن عبد الملك على أن يكون الخليفة بعد عمر بن عبد العزيز. إذن لابد أن نعلم أن الواقع يفرض نفسه أحيانًا؛ فعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان يرى أن القاسم هو الأفضل، ولكن المصلحة كانت تقتضي خلاف ذلك؛ لذا نقول: لعل معاوية -رضي الله عنه- كان معذورًا فيما فعل، أو أنه اجتهد حسب معطيات الواقع آنذاك. وقد فعل معاوية -رضي الله عنه- ذلك وهو يرى أن هذا هو الأصلح للأمة، وأن مقام اجتماع الأمة وعدم تفرقها أولى مِن أي اعتباراتٍ أخرى؛ فلقد اجتهد -رضي الله عنه- فلعله أصاب، ولعله أخطأ، وفي الحالتين هو مأجور -بإذن الله تعالى-، ولا يصح بأي حال مِن الأحوال إهدار فضل معاوية -رضي الله عنه-؛ فله في الإسلام سعي مشكور، وعمل مبرور، وآثار حسنة، وإن كان الأصل -كما ذكرنا- أن يكون الأمر شورى في المسلمين. وختامًا، كانت هذه قراءة مختصرة حول بعض مسائل الملك والخلافة لعلها تساعدنا في إبراز بعض حقائق التاريخ. والله المستعان.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (41) وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد، وبيعة ابن الزبير -رضي الله عنهما- كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فما زلنا نلقي الضوء على أحداث الفتن السياسية في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد انتهينا سابقًا مِن ذكر تفاصيل الأحداث التي وقعتْ بعد موت معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وما كان مِن أمر الحسين -رضي الله عنه-، ونستكمل في هذا المقال تفاصيل الأحداث. وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد: في عام 64 هـ - 683م توفي يزيد بن معاوية، وكانت وفاته بقرية مِن قرى حمص يُقال لها حوّارين مِن أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت مِن ربيع الأول سنة 64هـ، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة أو وهو ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر أو ثمانية أشهر (تاريخ للطبري)، فتولى الخلافة بعده معاوية بن يزيد وهو ثالث الخلفاء الأمويين، ولد سنة 44هـ، ونشأ في بيت الخلافة، بويع له بالخلافة بعد موت أبيه، في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية. ويختلف المؤرخون كثيرًا في المدة التي حكمها معاوية بن يزيد، ويتراوح الخلاف بيْن عشرين يومًا إلى ثلاثة أشهر (تاريخ الطبري)، وكان مريضًا مدة ولايته، ولهذا لم يؤثر له عمل ما مدة خلافته، حتى الصلاة، فإن الضحاك بن قيس هو الذي كان يصلي بالناس، ويسيّر الأمور، وظل الضحاك يصلي بالناس حتى بعد وفاة معاوية، حتى استقر الأمر لمروان بالشام. ولما أحس معاوية بن يزيد بالموت نادي في الناس الصلاة جامعة، وخطب فيهم، وكان مما قال: "أيها الناس، إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم مَن هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم مَن يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات -رحمه الله تعالى-" (البداية والنهاية لابن كثير). فقد أراد معاوية بن يزيد أن يقول لهم: إنه لم يجد مثل عمر، ولا مثل أهل الشورى، فترك لهم أمرهم يولون مَن يشاءون، وقد جاء ذلك صريحًا في رواية أخرى للخطبة عند ابن الأثير، قال فيها: "أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له مَن أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات" (الكامل في التاريخ لابن الأثير). واعتبر هذا الموقف منه دليلًا على عدم رضاه عن تحويل الخلافة مِن الشورى إلى الوراثة (العالم الإسلامي في العصر الأموي، عبد الشافي محمد عبد اللطيف، ص137)، فقد رفض أن يعهد لأحدٍ مِن أهل بيته حينما قالوا له: "اعهد إلى أحدٍ مِن أهل بيتك"، فقال: "والله ما ذقتُ حلاوة خلافتكم؛ فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها؟! اللهم إني بريء منها، مُتخلِّ عنها". وجاء في رواية: "قيل له ألا توصي؟"، فقال: "لا أتزوّد مرارتها، واترك حلاوتها لبني أمية" (البداية والنهاية لابن كثير)، وتعتبر حادثة تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة حادثة نادرة في التاريخ الإنساني، وإذا كان معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أول الخلفاء الأمويين قد حول الخلافة مِن الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية الثاني، ثالث خلفاء الأمويين أيضًا، قد أعاد الخلافة مِن الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لمما يستوجب الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً مِن التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط (الدولة الأموية المفترى عليها، د.حمدي شاهين، ص293). لقد مات معاوية بن يزيد عن إحدى وعشرين سنة. وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يومًا. وقيل: تسع عشرة سنة. وقيل عشرين سنة. وقيل ثلاث وعشرين سنة. وقيل غير ذلك. بيعة عبد الله بن الزبير: بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك مِن خليفة، وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية، فإن هذا لا يكفي للبيعة، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها، ثم إن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً، وترك الأمر شورى، ولم يستخلف أحدًا، ولم يوصِ إلى أحدٍ، وكان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، قد بويع له في الحجاز بعد موت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكذا في العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضًا إلا بعض جهات منها ولم يكن رافضًا بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء(الأردن) وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي (سير أعلام النبلاء)، وهكذا تّمت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام، وأصبح الخليفة الشرعي، وعين نواّبه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة للمسلمين. قال ابن كثير -رحمه الله-: "ثم هو -أي ابن الزبير- الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد مِن مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر" (البداية والنهاية لابن كثير)، ويؤكد كلٌّ مِن ابن حزم (المحلى)، والسيوطي (تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص212) شرعية ابن الزبير، ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه، خارجين على خلافته، كما يؤكِّد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين (سير أعلام النبلاء للذهبي 3/ 363)، وهذا الذي عليه المؤرخون والعلماء. ونستكمل في المقال القادم -بإذن الله-.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (42) موقف أهل الشام مِن بيعة ابن الزبير كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فنستعرض في هذا المقال موقف أهل الشام مِن بيعة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، وكيف تمت بيعة مروان بن الحكم في بلاد الشام. موقف أهل الشام مِن بيعة ابن الزبير: إن تنازل معاوية بن يزيد قد أحدث أزمة في الشام، فقد كان أخوه خالد بن يزيد صبيًّا صغيرًا، وكان أمر ابن الزبير قد استفحل وبايع له الناس مِن أنحاء الدولة، فرأى فريقٌ مِن جند الشام على رأسهم الضحاك بن قيس أمير دمشق أن يبايعوا لابن الزبير، وحتى مروان بن الحكم(1) كبير بني أمية فكَّر في الذهاب إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان، ولكن سائر الجند والقادة بزعامة حسان بن مالك زعيم القبائل اليمنية الذين كانوا أقوى المؤيدين لبني أمية وهم أخوال يزيد رفضوا أن يخرج الأمر عن بني أمية وأن يبايعوا لابن الزبير، وهناك روايات تذكر أن مروان بن الحكم كان قد عزم على مبايعة ابن الزبير؛ لولا أن تدخل عبيد الله بن زياد وغيره في آخر لحظة وأثنوه عن عزمه، وأقنعوه أن يدعو لنفسه ولبث الشام ستة أشهر بدون إمام؛ نظرًا للاختلاف الشديد الذي وقع بيْن القبائل. وأخيرًا: اتفق القوم على أن يعقدوا مؤتمرًا للشورى؛ ليبحثوا فيه مَن يصلح للخلافة، وحتى يصلوا في ذلك إلى قرارٍ، وانعقد المؤتمر في الجابية، وكانت أهم قرارات مؤتمر الجابية -بلدة مِن أعمال دمشق مِن ناحية الجولان قرب مرج الصفّر في شمالي حوران-، عدم مبايعة ابن الزبير, واستبعاد خالد بن يزيد بن معاوية مِن الخلافة؛ لأن البعض كان ينادي ببيعته، فتم استبعاده؛ لأنه صغير السن, ومبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك, ونجح مروان في لم الشمل بالشام بعد معركة مرج راهط(3)، وقد نجح كذلك في إعادة مصر إلى الحكم الأموي(2). ثم دعا مروان بن الحكم بعد ذلك إلى أن يعهد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وذلك سنة 65هـ، ولم تدم مدة حكمه طويلًا، فقد توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاث خلون مِن شهر رمضان سنة 65هـ وهو ابن ثلاث وستين سنة, وصلى عليه ابنه عبد الملك, وكانت مدة حكمه تسعة أشهر وثمانية عشر يومًا (تاريخ الرسل والملوك للطبري). ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ (1) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الأموي، أبو عبد الملك، ويقال: أبو الحكم، ويقال: أبو القاسم، وهو صحابي عند طائفة كثيرة؛ لأنه وُلِدَ في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أما ابن سعد فقد عَدَّه في الطبقة الأولى مِن التابعين. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثًا في صلح الحديبية، والحديث في صحيح البخاري عن مروان والمسور بن مخرمة، كما روى مروان عن عمر وعثمان، وكان كاتبَه -أي كان كاتب عثمان-، وروى عن علي وزيد بن ثابت، وروى عنه ابنه عبد الملك وسهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلي بن الحسين (زين العابدين) ومجاهد وغيرهم. كان مروان بن الحكم مِن سادات قريش وفضلائها، وقد قاتل مروان يوم الدار قتالاً شديدًا، وقَتَلَ بعض الخارجين على عثمان، وكان على الميسرة يوم الجمل، وكان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يكثر السؤال عن مروان حين انهزم الناس يوم الجمل، يخشى عليه مِن القتل، فلما سُئِلَ عن ذلك قال: إنه يعطفني عليه رحم ماسة، وهو سيد مِن شباب قريش. كان مروان قارئًا لكتاب الله، فقيهًا في دين الله، شديدًا في حدود الله، ومِن أجل ذلك: ولاه معاوية -رضي الله عنه- المدينة غير مرة، وأقام للناس الحج في سنين متعددة، كما كان مروان قضاءً يتتبع قضايا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وكان جوادًا كريمًا فقد روى المدائني عن إبراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد أن مروان أسلف علي بن الحسين -رضي الله عنهما- حين رجع إلى المدينة بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- ستة آلاف دينار، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عبد الملك أن لا يسترجع مِن علي بن الحسين شيئًا، فبعث إليه عبد الملك بذلك فامتنع مِن قبولها، فألح عليه فقبلها، وقال: الشافعي: إن الحسن والحسين كان يصليان خلف مروان ولا يعيدانها، ويعتدان بها. وكان مروان حكيمًا ذا عقلٍ وكياسةٍ، ومما يدل على حكمته وعقله أنه كان أثناء ولايته على المدينة إذا وقعت مشكلة شديدة جمع مَنْ عنده مِن الصحابة فاستشارهم فيها، وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها فنسب إليه الصاع، فقيل: صاع مروان (انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 476)، والبداية والنهاية لابن كثير (8/ 260). وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: "مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ابن عم عثمان بن عفان، يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على مَن تكلم فيه، وقال عروة بن الزبير: كان مروان لا يٌتهم في الحديث، وقد روى عنه سهل بن سعد الساعدي الصحابي اعتمادًا على صدقه وإنما نقموا عليه أنه رمى طلحة يوم الجمل بسهم فقتله ثم شهر السيف في طلب الخلافة حتى جرى ما جرى، فأما قتل طلحة فكان متأولًا فيه كما قرره الاسماعيلي وغيره، وأما ما بعد ذلك فإنما حمل عنه سهل بن سعد وعروة وعلي بن الحسين وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهؤلاء أخرج البخاري أحاديثهم عنه في صحيحه لما كان أميرًا عندهم بالمدينة قبْل أن يبدو منه في الخلاف على ابن الزبير ما بدا، والله أعلم. وقد اعتمد حتى مالك على حديثه ورأيه والباقون سوى مسلم" (انتهى). هذا وقدِ اختَلف العلماءُ في صِحَّة نِسبة رمْي مرْوان لطلحةَ يوم الجمل إلى فريقين: الفريق الأول: مَن ذهَب إلى أنَّ مَرْوان بنَ الحكَم ليس بقاتلِ طلحة بن عُبَيد الله، منهم: أبو بكر بن العربي وابن كثير، وظاهِر كلامِ ابنِ حزْم. واستدلوا: بأنَّه لم يصحَّ أثَر في قِصة رمْي مروان لطلحة. قال أبو بكر بن العربي: وقدْ رُوي أنَّ مروان لما وقعَتْ عينه في الاصطفافِ على طلحة، قال: لا أطلُب أثرًا بعد عَين، ورَماه بسهمٍ فقتَله، ومَن يعلم هذا إلاَّ علاَّمُ الغيوب؟! ولم ينقُلْه ثبْتٌ، وقد رُوي أنَّه أصابه سهمٌ بأمر مرْوان، لا أنَّه رماه، وقد خرَج كعبُ بن سور بمصحفٍ منشور بيدِه يُناشد الناسَ ألاَّ يريقوا دِماءَهم، فأصابه سهمٌ غرب فقتَلَه، ولعلَّ طلحةَ مِثله، ومعلومٌ أنَّه عند الفِتنة وفي ملحمة القتال، يتمكَّن أولو الإحَنِ والحقود، مِن حَلِّ العُرَى ونقض العهود، وكانت آجالاً حضرت، ومواعد انتجزَت. وقال ابنُ كثير: يُقال: إنَّ الذي رماه بهذا السهم مَرْوان بن الحَكم، وقال لأبان بن عثمان: قدْ كفيتُك رجالاً مِن قتَلَةِ عثمان، وقد قيل: إنَّ الذي رماه غيرُه، وهذا عندي أقربُ، وإنْ كان الأوَّل مشهورًا، والله أعلم. الفريق الثاني: مَن ذهَب إلى أنَّ مرْوان بن الحَكم هو قاتلُ طلحة بن عُبيد الله، منهم: ابن قتيبة، والبلاذري وأحمد بن إسحاقَ اليعقوبي، وابن حِبَّان، والإسماعيلي والمطهِّر بن طاهِر، وابن عبد البر، والذَّهبي، والصَّفدي، وابن حجر العَسقلاني، والعيني، وابن تَغرِي بَرْدي، والسخاوي، وغيرهم، واستدلوا بوفرةِ وشُهرة الأدلَّة التي تناقلها المؤرِّخون. (2) بعد السيطرة على الشام، خرج مروان بجيشه إلى مصر التي كانت قد بايعت عبد الله بن الزبير، فدخلها في غُرَّة جمادى الأولى سنة 65هـ، فأخذها من نائبها الذي كان لعبد الله بن الزبير، وهو عبد الرحمن بن جحدم، وولى ابنه عبد العزيز بن مروان عليها. وأقام مروان بن الحكم في مصر نحو شهرين ثم غادرها في أول رجب سنة 65هـ بعد أن وطَّد أمورها وأعادها ثانية للحكم الأموي (الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/169)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/ 679). (3) انقسمت الشام معقل نفوذ الأمويين بيْن مبايعين لمروان بن الحكم ومبايعين لعبد الله بن الزبير، وعلى رأسهم: الضحاك بن قيس الذي سيطر على دمشق، وكان يَدعو لبيعة ابن الزبير، فهاجم مروان جيش الضحاك فواقعه بمرج راهط وهزمه، وقد استغرقت المعركة 20 يومًا، وانتهت بنصر مروان بن الحكم، ومقتل الضحاك، وكان ذلك في أواخر عام 64هـ (الكامل في التاريخ لابن الأثير (4/165)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/ 669).
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (43) عبد الملك بن مروان وصراعه مع أهل العراق كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد ذكرنا في المقال السابق كيف تمت البيعة لمروان في بلاد الشام، وكان ذلك في وجود الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه-، ونستعرض في هذا المقال الأحداث بيْن عبد الملك بن مروان وأهل العراق. عبد الملك بن مروان(1) وصراعه مع أهل العراق: تولى عبد الملك بن مروان بعد وفاة أبيه، فبعث عبد الملك إلى عبيد الله بن زياد يقرُّه على ما ولاّه عليه أبوه مروان في العراق، وتقدم ابن زياد نحو العراق وهدفه إجلاء ولاة ابن الزبير، ولكنه اضطر إلى أن يغير خطته، فقد ظهر في الميدان أعداء جدد لم يكونوا في حسبان ابن زياد، وهم "التوابون"(2). عَلِمَ التوّابون بقدوم ابن زياد إلى العراق، فرأوا الخروج لقتاله وقتل ابن زياد أخذًا بثأر الحسين، وكان عددهم في بادئ الأمر ستة عشر ألفًا، فلما جاء وقت العمل الجاد نكصوا وتقاعسوا حتى وصل عددهم إلى أربعة آلاف، وحتى الآلاف الأربعة الذين تجمعوا حول زعيم التوابين سليمان بن صرد تخلَّى عنه منهم ألف، وبقي معه ثلاثة آلاف فقط، أما جيش الشام فكان عدده ستين ألفًا، عليهم عبيد الله بن زياد ليعيد العراق إلى سلطان الأمويين بعد أن بسط حكمهم على الشام، فالتقى بالتوابين في عين الوردة مِن أرض الجزيرة، ودارت معركة غير متكافئة قُتِلَ فيها معظم التوابين وزعيمهم سليمان بن صرد، وكان عمر سليمان بن صرد -رضي الله عنه- يوم قٌتل ثلاثًا وتسعين سنة (البداية والنهاية 11/ 697)، وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 65هـ -684م. وفَرَّ الباقون عائدين إلى الكوفة لينضموا إلى المختار الثقفي(3) الذي انفرد بزعامة الشيعة؛ فقويت حركته وكثُر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه -وهو مِن زعماء الكوفة-، فثار على عبد الله بن مطيع العدوي أمير الكوفة من قِبَلِ عبد الله بن الزبير فأخرجه منها، وأحكم سيطرته عليها، ولكي يثبت صحة دعواه في المطالبة بدم الحسين تتبع قتلته، فقتل معظمهم في الكوفة، ثم أعد جيشًا جعل على قيادته إبراهيم بن الأشتر، وأرسله إلى قتال عبيد الله بن زياد، فالتقى به عند نهر الخازر بالقرب مِن الموصل، وحلَّت الهزيمة بجيش ابن زياد الذي خَرَّ صريعًا في ميدان المعركة سنة 67هـ -686م (الكامل في التاريخ 2/ 7)، وكان مقتل عبيد الله بن زياد في يوم عاشوراء سنة سبع وستين, ثم بعث إبراهيم بن الأشتر برأس ابن زياد إلى المختار (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وتعاظم نفوذ المختار بعد انتصاره على ابن زياد، وسيطر على شمال العراق والجزيرة، وأخذ يولي العمال مِن قِبَله على الولايات ويجبي الخراج، وانضمَّ إليه عددٌ كبيرٌ مِن الموالي لبغضهم لبني أمية مِن ناحية؛ ولأنه أغدق عليهم الأموال مِن ناحية ثانية، وبدا كما لو أنه أقام دولة خاصة به في العراق بيْن دولتي: ابن الزبير في الحجاز، وعبد الملك بن مروان في الشام، ولكنه لم ينعم طويلًا بهذه الدولة. كان المتوقع أن تكون نهاية المختار على يد عبد الملك بن مروان الذي وتره بقتل ابن زياد أبرز أعوانه، ولكن عبد الملك كان سياسيًّا حكيمًا، وقائدًا محنكًا، فقد ترك لابن الزبير مهمة القضاء على المختار؛ لأن عبد الملك كان يعلم أن ابن الزبير لا بد أن يتحرك للقضاء عليه (العالم الإسلامي في العصر الأموي ص 484)، فهو لا يسمح لنفوذ المختار أن يتسع ويهدد دولته؛ علمًا أن عبد الله بن الزبير هو الخليفة الشرعي ومِن حقه أن يقاتل مَن خرج عليه؛ فلذلك آثر عبد الملك بن مروان الانتظار؛ لأن نتيجة المواجهة ستكون حتمًا في صالحه، فسوف يقضي أحدهما على صاحبه، ومَن يبقى تكون قوته قد ضعفت فيسهل القضاء عليه. وبالفعل حدث ما كان توقعه عبد الملك بن مروان، فالمختار لم يكتفِ بانتصاره على جيش عبد الملك وبَسْطِ نفوذه على شمال العراق والجزيرة، بل أخذ يُعِدُّ نفسه للسير إلى البصرة لانتزاعها مِن مصعب بن الزبير الذي أصبح واليًا عليها مِن قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير، فسار مصعب بنفسه إلى المختار قبْل أن يُعاجِله في البصرة، والتقى به عند حروراء فدارت الدائرة على المختار فأسرع بالفرار إلى الكوفة، وتحصن بقصر الإمارة، إلا أن مصعبًا حاصره في القصر حتى قُتِلَ سنة 67هـ - 686م، وهكذا انتهت حركة هذا الكذاب الضال الذي كان همه الوصول إلى الحكم بأية وسيلة، ولم تنفعه ادعاءاته بحب آل البيت والطلب بثأرهم! فقد انكشفت حيله، وتخلى عنه أهل العراق وأسلموه إلى مصيره المحتوم. وبعد أن استعاد ابن الزبير سيطرته على العراق كان مِن الطبيعي أن يحدث الصدام بينه وبيْن عبد الملك بن مروان، فعزم عبد الملك على السير إلى العراق وانتزاعها مِن ابن الزبير، وكان ذلك سنة 71هـ - 690م، وكان ذلك بعد أربع سنين مِن القضاء على المختار (الكامل في التاريخ 3/ 51)، ولعل عبد الملك بن مروان أخَّر هذا الصدام بينه وبيْن ابن الزبير إلى هذا الوقت؛ لكي يوطد دعائم حكمه في بلاد الشام، فقضى هذه السنين في حل بعض مشاكله، وبعد أن اطمأن عبد الملك إلى استقرار حكمه ببلاد الشام توجَّه لقتال مصعب بن الزبير، فنزل عبد الملك "مسكن" -بالفتح ثم السكون، وكسر الكاف، موضع قريب مِن أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق- وزحف مصعب نحو باجميرا، وعلى مقدمة جيشه إبراهيم بن الأشتر، ثم أخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق مِن جيش مصعب يعدهم ويمنيهم، بل إن عبد الملك بن مروان صرَّح أن كتب أهل العراق أتته يدعونه إليهم قبْل أن يكاتبهم هو -وهذا ليس غريبًا عن أهل العراق- وفي الوقت الذي كان عبد الملك يكاتب فيه زعماء أهل العراق مِن قواد مصعب والذين قبلوا التخلي عنه والانضمام إلى عبد الملك، كان حريصًا على ألا يقاتل مصعبًا للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما؛ فأرسل إليه رجلًا مِن كلب وقال له: "أقرئ ابن أختك السلام -وكانت أم مصعب كلبية- وقل له: يَدَع دعاءه إلى أخيه، وأدَعُ دعائي إلى نفسي، ويُجْعَل الأمرُ شورى. فقال له مصعب: قل له: السيف بيننا" (الكامل في التاريخ 3/ 52، البداية والنهاية 8 /316). ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى: فأرسل إليه أخاه محمدًا ليقول له: "إن ابن عمك يعطيك الأمان"، فقال مصعب: "إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبًا أو مغلوبًا" (تاريخ الرسل والملوك 7/ 45)، ثم دارت المعركة، وقُتل إبراهيم بن الأشتر وقٌتل معه جماعة مِن الأمراء، وجعل مصعب ينادي في أتباعه بأن يتقدموا إلى الأمام فلا يتحرك أحد، فجعل يقول: "يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم!"، وبدأت خيانات أهل العراق تظهر، وتخلى أهل العراق عن مصعب وخذلوه حتى لم يبقَ معه سوى سبعة رجال! (الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/ 53-54)، ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة حتى أثخنته الجراح، وأخيرًا قتله عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وكان مقتله في المكان الذي دارت فيه المعركة على قصر دجيل عند دير الجاثليق في جمُادَى الآخرة سنة 72هـ - 691م. فلما بلغ عبد الملك مقتله سجد شكرًا لله، وقال: "واروه، فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة"، وقد كان عبد الملك يحب مصعبًا حبًّا شديدًا، وكان خليلًا له قبْل الخلافة، ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك, بكى وقال: "متى تلد النساء مثل مصعب، ما كنتُ أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة مِن حبي له, حتى دخل السيف بيننا، ولكن هذا المُلْك عقيم" (تاريخ الرسل والملوك للطبري 7/ 44)، والبداية والنهاية 8/ 321)، وكان ابن ظبيان فاتكًا رديئًا، وكان يقول: "ليتني قتلت عبد الملك حين سجد يومئذٍ؛ فأكون قد قتلت ملكي العرب!". وبمقتل مصعب عادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية، وعيَّن عبد الملك أخاه بشرًا واليًا عليها، وقبْل أن يغادرها أَعَدَّ جيشًا للقضاء على عبد الله بن الزبير في مكة. هذا ونشير إلى أن مِن أهم أسباب هزيمة مصعب بن الزبير: خيانة أهل العراق لاسيما بعض قادة الجيش، ومَن تبعهم، ثم إنهاك الجيش في معارك كثيرة طاحنة وشديدة، وربما كذلك عدم مد الخليفة عبد الله بن الزبير أخاه بالقوات قدر المستطاع؛ لا سيما مع كثرة العدد والعدة في جيش عبد الملك، ثم إقباله على القتال بعد انسحاب معظم الجيش، فكان لابد مِن نظرةٍ واقعيةٍ للواقع، وإعمال فقه الموازنات. ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ (1) هو عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص بن أمية, أبو الوليد الأموي, وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، ولد سنة 26هـ في خلافة عثمان، شهد يوم الدار وعمره عشر سنوات، وكان أميرًا على أهل المدينة وله ست عشرة سنة، ولاه إياها معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء. روى عبد الملك بن مروان الحديث عن أبيه، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عمر، ومعاوية، ويزيد بن معاوية، وأم سلمة، وبريرة مولاة عائشة -رضي الله عنهم أجمعين-. وروى عنه جماعة، منهم: خالد بن معدان، وعروة بن الزبير، والزهري، وعمرو بن الحارث، ورجاء بن حيوة، وجرير بن عثمان وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وربيعة بن يزيد، ويونس بن ميسرة، وابنه محمد بن عبد الملك -رحمهم الله تعالى-، روى ابن سعد بسنده أَنَّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يوم ومعه عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، فمر بهما عبد الملك بن مروان فقال معاوية: ما آدَبَ هذا الفتى وأحسن مُرُوَّتَهُ؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع، وترك خصالًا ثلاث: "أَخَذَ بِحُسْنِ الْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ، وَحُسْنِ الِاسْتِمَاعِ إِذَا حُدِّثَ، وَحُسْنِ الْبِشْرِ إِذَا لَقِيَ، وَخِفَّةِ الْمُئُونَةِ إِذَا خُولِفَ. وَتَرَكَ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَعْتَذِرُ مِنْه، وَتَرَكَ مُخَالَطَةَ اللِّئَامِ مِنَ النَّاسِ، وَتَرَكَ مُمَازَحَةَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِعَقْلِهِ وَلَا مُرُوَّتِه" (الطبقات الكبرى 5/ 224). وعن الشعبي، قال: "ما جالستُ أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عَبد المَلِك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثًا إلا زادني فيه، ولا شعرًا إلا زادني فيه". وقال الأصمعي: "قيل لعبد الملك: عجل بك الشيب. قال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة" (تهذيب الكمال في أسماء الرجال). اشتهر عبد الملك بن مروان بالعلم والفقه والعبادة، فقد كان أحد فقهاء المدينة الأربعة، قال الأعمش عن أبي الزناد: "كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان". حتى قال نافع مولى عبد الله بن عمر: " أدركت المدينة وما بها شاب أنسك، ولا أشد تشميرًا، ولا أكثر صلاة، ولا أطلب للعلم، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله مِن عبد الملك بن مروان". وعن ابن عمر أنه قال: "ولد الناس أبناء، وولد مروان أبًا يعني عبد الملك!"، ورآه يومًا وقد ذكر اختلاف الناس، فقال: "لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه". وقال رجاء بن أَبي سلمة، عن عبادة بن نسي: "قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن ينقرضوا، فمن نسأل بعدكم. فقال: إن لمروان ابنًا فقيهًا فسلوه" (تاريخ بغداد 10/ 388). وقد عُرف عن عبد الملك بن مروان فقهه وتقواه وملازمته لكتاب الله، فكان يسمى حمامة المسجد؛ لحرصه على المكث فيه، ومداومته قراءة القرآن، وقد استشهد الإمام مالك في الموطأ بفقهه وأحكامه وقضاياه، قال أبو بكر بن العربي: "فهذا مالك -رضي الله عنه- قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان في موطئه وأبرزه في جملة قواعد الشريعة... وأخرج البخاري عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب: "إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك" (العواصم مِن القواصم). وكان عبد الملك بن مروان يحض الناس في خلافته على طلب العلم، فيقول: "إن العلم سيقبض قبضًا سريعًا، فمَن كان عنده علم فليظهره غير غال فيه ولا جاف عنه"، وكان يجد في الأذكار الصالحة، ويوصي بذلك أصحابه، فقد روي ابن أبي الدنيا أن عبد الملك كان يقول لمَن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة: سبحوا بنا حتى تأتي تلك الشجرة، كبروا بنا حتى تأتي تلك الشجرة، ونحو ذلك (البداية والنهاية 9/ 64)، وكان في حياته الخاصة قد ترك سبل اللهو مِن الشراب والخمر والموسيقى والغناء، وقال الأصمعي عن أبيه عن جده: "وخطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، فبلغ ذلك القول زاهد العراق الحسن البصري فبكى، وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام" (البداية والنهاية 9/ 67)، وقال الشعبي: خطب عبد الملك، فقال: "اللهمّ إن ذنوبي عظام، وهي صغار في جنب عفوك، فأغفرها لي يا كريم" (تاريخ الإسلام للذهبي 6/146). (2) التوابون مجموعة مِن الشيعة، كان كثير منهم ممَن كتبوا إلى الحسين بن علي وهو في مكة بعد موت معاوية ليسير إليهم في الكوفة؛ فلما سار إليهم خذلوه وتخلوا عن نصرته، وأسلموه إلى المصير المؤلم الذي آل إليه، ولكن بعد استشهاده هزتهم الفاجعة، وعضهم الندم على تقصيرهم نحوه، فلم يجدوا طريقة يكفِّرون بها عن هذا التقصير الكبير، ويتوبون إلى الله بها مِن هذا الذنب العظيم سوى الثأر للحسين بقتل قتلته، فسُمُّوا بذلك: التوابين، وتزعمهم سليمان بن صرد الخزاعي، وسموه: أمير التوابين، وعلَّق ابن كثير على جيش التوابين بقوله: "لو كان هذا العزم والاجتماع قبْل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر مِن اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين!" (البداية والنهاية 11/ 697). (3) هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب, كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة الثقفي, أسلم في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-, ولم تعلم له صحبة, استعمله عمر بن الخطاب على جيشٍ, فغزا العراق, وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد, ونشأ المختار فكان مِن كبراء ثقيف, وذوي الرأي والفصاحة والشجاعة والدهاء، لكن قد تغيرت أحواله فيما بعد، وكان يزعم أن الوحي ينزل عليه على يد جبريل يأتي إليه، ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64هـ, وهو مِن الشخصيات التي حفل بها العصر الأموي, والتي كانت تسعى لها عن دور, وتسعى إلى السلطان بأي ثمن، فتقلب مِن العداء الشديد لآل البيت على ادعاء حبهم والمطالبة بثأر الحسين (البداية والنهاية 11/ 66).
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (44) عبد الملك بن مروان وصراعه مع عبد الله بن الزبير كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد ذكرنا في المقال السابق أحداث الصراع بيْن عبد الملك وأهل العراق، والتي انتهت بمقتل مصعب -رحمه الله-، ولما بلغ عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- قتل أخيه مصعب، قام فخطب في الناس، فقال: "الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك مَن يشاء، وينزع الملك ممَن يشاء، ويعز مَن يشاء، ويذل مَن يشاء؛ ألا إنه لن يذل الله مَن كان الحق معه، وإن كان فردًا، ولن يعز مَن كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طُرًّا -أي جميعًا-، ألا وإنه قد أتانا مِن العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتانا قتل مصعب -رحمه الله- فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر، وكريم العزاء، ولئن أصبت بمصعبٍ، لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا مِن عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد مِن عبيد الله، وعون مِن أعواني، إلا أن أهل العراق -أهل الغدر والنفاق- أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا -والله- ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام، وما نموت إلا قعصًا -القعص: الموت السريع- بالرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف؛ ألا إنما الدنيا عارية مِن الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشِر البطر، وإن تدبر لا أبكي عليها بكاء الحَرِق المهين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم" (تاريخ الرسل والملوك). وبعد مقتل مصعب انحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فَتَّ في عَضُدِه، ولكنه لم يُلْقِ الراية، وظل يقاوم حتى النهاية، وقد واجَه ابن الزبير عدة حملات عسكرية مِن الشام كحملة ابن دلجة القيني التي أتت في أواخر عهد مروان مِن الشام لقتال ابن الزبير، واستطاع ابن الزبير أن يتغلب على هذا الجيش (أنساب الأشراف للبلاذري)، ثم جاءت حملة عروة بن أنيف في ستة آلاف إلى المدينة، وأمرهم عبد الملك ألا ينزلوا على أحدٍ، ولا يدخلوا المدينة إلا لحاجة ضرورية وأن يعسكروا "بالعَرْصة" -البقعة الواسعة بيْن الدور لا بناء فيها، وهما عرصتان بنواحي المدينة بالعقيق-، وسار عروة بن أنيف وعسكر بالعرصة، ومكث عروة على هذا الوضع شهرًا، ولم يبعث إليه ابن الزبير أحدًا، ولم تحدث أي مواجهة بين جيشي عروة وابن الزبير، عندها أمر عبد الملك هذا الجيش بالعودة إلى الشام فرجع، ثم كانت حملة عبد الملك بن الحارث بن الحكم، وكان قوامها أربعة آلاف، وكانت مهمتها الحفاظ على المنطقة ما بيْن الشام والمدينة، ثم كانت حملة طارق بن عمرو، وكانت هذه الحملة هي آخر حملة وجهها عبد الملك بن مروان تجاه الحجاز (الدولَة الأمويَّة عَواملُ الازدهارِ وَتَداعيات الانهيار)، ثم لم يضع عبد الملك بن مروان وقتًا بعد انتصاره على مصعب، وقرر أن يقضي نهائيًّا على دولة ابن الزبير (العالم الإسلامي في العصر الأموي، عبد الشافي محمد عبد اللطيف). ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف، وتوجَّه بجيشه إلى الحجاز واستقر بالطائف، وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة، وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها، وفي محاولة لإنهاك ابن الزبير قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة، وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير، وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه (أنساب الأشراف للبلاذري)، وفي الوقت نفسه كانت العير تحمل إلى أهل الشام مِن عند عبد الملك، السويق، والكعك والدقيق، وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة، أن بدأ التخاذل يدب بيْن أنصار ابن الزبير، وبدأوا ينسحبون واحدًا تلو الآخر. ومما شجَّع على تخاذل هؤلاء: إعطاء الحَجّاج الأمان لكل مَن كف عن القتال، وانسحب مِن جيش ابن الزبير (أنساب الأشراف للبلاذري)، وأراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته، فأجابه عبد الملك بقوله: افعل ما ترى (أنساب الأشراف للبلاذري)، فتوجه الحجاج ابن يوسف بجميع جيشه إلى مكة ونصب المنجنيق على جبالها (تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف لابن الضياء)، وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضربًا متواصلاً (أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه للفاكهي)، وفي الوقت نفسه كانت بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير. وتوسط بعض أعيان مكة "وعلى رأسهم ابن عمر" لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق، فأجابهم: "والله إني لكاره لما ترون، ولكن ماذا أصنع وقد لجأ هذا إلى البيت؟ وكانت وفود الحج قد جاءت إلى مكة مِن كافة الأقطار الإسلامية، وقد منعهم مِن الطواف حول البيت ما يتعرض له الطائفون مِن خطر المنجنيق، ولما كان في ذلك تعطيل لركنٍ مِن أركان الحج، فقد تدخل في الأمر ابن عمر فكتب إلى الحجاج يقول له: اتقِ الله، فإنك في شهر حرام، وبلد حرام، وقد قدمت وفود الله مِن أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله، ويزدادوا خيرًا" (أنساب الأشراف للبلاذري)، فأرسل الحجاج إلى طارق بن عمرو بأن يكف عن استعماله حتى ينتهي الناس مِن الحج، وقال لهم: والله إني لكاره لما ترون، ولكن ابن الزبير لجأ إلى البيت، وبعد ما انتهى موسم الحج، نادى الحجاج في الناس بالانصراف إلى البلاد، وأن القتال سيستأنف ضد ابن الزبير" (أنساب الأشراف للبلاذري). وذكر غير واحد أنهم لما رموا بالمنجنيق جاءت الصواعق والبروق والرعود حتى جعلت تعلو أصواتها على صوت المنجنيق، ونزلت صاعقة فأصابت مِن الشاميين اثني عشر رجلًا؛ فضعفت عند ذلك قلوبهم عن المحاصرة، فلم يزل الحجاج يشجعهم ويقول: "إني خبير بهذه البلاد، هذه بروق تهامة ورعودها وصواعقها، وإن القوم يصيبهم مثل الذي يصيبكم، وجاءت صاعقة مِن الغد فقتلت مِن أصحاب ابن الزبير جماعة كثيرة أيضًا، فجعل الحجاج يقول: ألم أقل لكم: إنهم يصابون مثلكم، وأنتم على الطاعة وهم على المخالفة" (البداية والنهاية لابن كثير). ويروي البلاذري: أن العديد ممَن كانوا مع ابن الزبير حاولوا إقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف، فلم يستجب ابن الزبير لمحاولاتهم، وأصر على القتال، وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير -رضي الله عنه- في مواجهة كتائب الحجاج، وبالفعل بدأ الحجاج يضرب بعد انصراف الناس، وشدد على ابن الزبير، وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه، وما زال أهل مكة يخرجون إلى الحجاج بالأمان ويتركون ابن الزبير حتى خرج إليه قريب مِن عشرة آلاف، فأمنهم وقل أصحاب ابن الزبير جدًّا، حتى خرج ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لأنفسهما! (الكامل في التاريخ لابن الأثير). فلما رأى ابن الزبير ذلك دخل على أمه فقال لها: "يا أمه، خذلني الناس حتى ولديّ وأهلي، فلم يبقَ معي إلا اليسير ممَن ليس عنده مِن الدفع أكثر مِن صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردتُ مِن الدنيا، فما رأيك؟! فقالت: أنتَ -والله- يا بني أعلم بنفسك، إن كنتَ تعلم أنك على الحق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قٌتل عليه أصحابك، ولا تمكِّن مِن رقبتك يلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنتَ إنما أردتَ الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت مَن قٌتل معك، وإن قلتَ: كنتُ على حقٍّ فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس مِن فعل الأحرار، ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن، والله لضربة بالسيف في عزٍّ، أحب إلي مِن ضربة بسوط في ذلٍّ، قال: إني أخاف إن قتلوني أن يمثِّلوا بي، قالت: يا بني إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها" (جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت). فدنا منها وقبَّل رأسها، وقال: "هذا والله رأيي، والذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنتُ إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أماه فإني مقتول مِن يومي هذا، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد منكرًا، ولا عمل بفاحشة قط، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي مِن رضا ربي، اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني، فقالت أمه: إني لأرجو مِن الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيرًا، فلا تدعي الدعاء لي قبْل وبعد. فقالت: لا أدعه أبدًا، لمَن قُتل على باطلٍ فقد قٌتلت على حق، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين" (تاريخ الرسل والملوك). فتناول يديها ليقبلها فقالت: "هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئتُ مودعًا؛ لأني أرى هذا آخر أيامي مِن الدنيا، قالت: امضِ على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه، واعتنقها ليودعها، وكانت قد أضرت في آخر عمرها، فوجدته لابسًا درعًا مِن حديد، فقالت: يا بني، ما هذا لباس مَن يريد ما تريد مِن الشهادة. فقال: يا أماه، إنما لبسته لأطيب خاطرك، وأسكن قلبك به. فقالت: لا يا بني، ولكن انزعه. فنزعه، وجعل يلبس بقية ثيابه ويتشدد، وهي تقول: شمر ثيابك. وجعل يتحفظ مِن أسفل ثيابه؛ لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبي بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قُتل شهيدًا، ثم خرج مِن عندها، فكان ذلك آخر عهده بها -رضي الله عنهما- وعن أبيه وأبيها، ثم قالت: امضِ على بصيرة فودعها وخرج" (البداية والنهاية لابن كثير)، قال مصعب بن ثابت: "فما مكثتْ بعده إلا عشرًا"، ويقال: خمسة أيام (تاريخ الرسل والملوك للطبري). ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() صفحات مِن ذاكرة التاريخ (45) استشهاد ابن الزبير -رضي الله عنهما كتبه/ زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد ذكرنا في المقال السابق ما كان مِن أمر عبد الله بن الزبير -رضى الله عنهما- وحديثه مع أمه أسماء -رضي الله عنها-، وقد قرر ابن الزبير أن يستمر في المواجهة ولو أدى ذلك إلى مقتله. كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يخرج مِن باب المسجد الحرام، وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمينًا وشمالًا، ولا يثبت له أحد، وكانت أبواب الحرم قد قل مَن يحرسها مِن أصحاب ابن الزبير، وكان لأهل حمص حصار الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وعلى كل باب قائد، ومعه أهل تلك البلاد، وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح -المكان المتَّسعُ يَمُرّ به السيل، فيترك فيه الرملَ والحصى الصغار ومنه أَبطح مكَّة، هو مسيل واسع يقع بيْن مكة ومنى-، وكان ابن الزبير لا يخرج على أهل باب إلا فرقهم وبدد شملهم (البداية والنهاية لابن كثير). وفي آخر يوم مِن حياته صلى ركعتي الفجر ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: (ن وَالْقَلَمِ) (القلم:1)، حرفًا حرفًا، ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة، ثم قال: "احملوا على بركة الله". ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون -جبل بأعلى مكة- فرُمي بحجر، فأصاب جبهته، فسقط، ودمي وجهه (الأخبار الطوال للدينوري، ص 315)، وقاتلهم قتالًا شديدًا، فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء مِن جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، وتولى قتله رجل مِن قبيلة مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، فخر ساجدًا -قبحه الله-، وسار الحجاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه، فقال طارق: "ما ولدت النساء أذكر مِن هذا!". فقال الحجاج: "أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، إنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا، بل يفضل علينا، فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقًا" (الكامل في التاريخ 3/ 73). وقد ذٌكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: "ما أُراني اليوم إلا مقتولاً، لقد رأيتُ في ليلتي كأن السماء فرجت لي فدخلتها، فقد -والله- مللت الحياة وما فيها" (سير أعلام النبلاء، 3/ 378)، ولما قٌتل عبد الله خرجتْ إليه أمه حتى وقفت عليه، وهي على دابة، فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: "كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق، فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله -تعالى-: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج:25)، وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم! قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسُرّ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذٍ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله، فمَن كان فرح يومئذ خير منك ومِن أصحابك، وكان مع ذلك برًّا بالوالدين، صوامًا قوامًا بكتاب الله، معظمًا لحُرم الله، يُبْغِض أن يُعصى الله -عز وجل-" (البداية والنهاية لابن كثير). وقد دافعت عن ابنها دفاعًا مجيدًا؛ فانكسر الحجاج وانصرف، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء -رضي الله عنها-، وقال: "مالك ولابنة الرجل الصالح" (البداية والنهاية لابن كثير). وقيل: إن الحجاج دخل عليها بعد أن قتل ابنها فقال: "يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لكِ مِن حاجة؟ فقالت: لستُ لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة، ولكن أحدثك إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا) فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ -الذي يسفك الدماء، ويعتدي على الناس، ويظلمهم- فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ. (رواه مسلم). ولما قتل ابن الزبير ارتجت مكة بكاءً على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، فخطب الحجاج الناس، فقال: "أيها الناس، إن عبد الله بن الزبير كان مِن خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة، ونازعها أهلها، وألحد في الحرم، فأذاقه الله مِن عذاب أليم، وإن آدم كان أكرم على الله مِن ابن الزبير، وكان في الجنة، وهي أشرف مِن مكة، فلما خالف أمر الله وأكل مِن الشجرة التي نهي عنها؛ أخرجه الله مِن الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله". وقيل: "إنه قال: يا أهل مكة، بلغني إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير، فإن ابن الزبير كان مِن خيار هذه الأمة، حتى رغب في الدنيا، ونازع الخلافة أهلها، فخلع طاعة الله، وألحد في حرم الله، ولو كانت مكة شيئًا يمنع القضاء لمنعت آدم حرمة الجنة، وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه مِن روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، فلما عصاه أخرجه مِن الجنة، وأهبطه إلى الأرض، وآدم أكرم على الله مِن ابن الزبير، وإن ابن الزبير غيَّر كتاب الله"، فقال له عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "لو شئتُ أن أقول لك: كذبت لقلتُ، والله إن ابن الزبير لم يغيِّر كتاب الله، بل كان قوامًا به، صوامًا، عاملًا بالحق" (تاريخ دمشق لابن عساكر). ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كداء عند الحجون، فما زالت مصلوبة حتى مرَّ به عبد الله بن عمر فقال: "رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنتَ صوامًا قوامًا وصولًا للرحم، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، والله لأمة أنت شرها لأمة خير"، ثم قال: "أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟"، فبعث الحجاج، فأنزل عن الجذع. (البداية والنهاية لابن كثير)، ودفن هناك. ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك (الكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/ 74). ودخل الحجاج إلى مكة، فأخذ البيعة مِن أهلها لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ولم يزل الحجاج مقيمًا بمكة حتى أقام للناس الحج عامه هذا أيضًا، وهو على مكة واليمامة واليمن، وقد كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف ألا يخالف عبد الله بن عمر في الحج لما يعرفه مِن فضله وفقهه. ولما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: "أما بعد، فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بنيّ قد أقروا بذلك، وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون، والسلام" (الطبقات لابن سعد، 4/ 152). ولا شك أن مذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلومًا، وأن الحجاج ورفقته خارجون عليه، وقد ذكرنا سابقًا آراء العلماء في ذلك، وأن مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغين على ابن الزبير خارجين على خلافته؛ فهو أمير المؤمنين، وقد انعقدت له البيعة، وكانت مدة خلافته تسع سنين، وتوفي وله اثنان وسبعون سنة، وبهذا انتهت التوترات السياسية، واستقر الأمر لعبد الملك وسيطر على الدولة في كافة أنحائها، واستمرت الدولة الأموية دون خلافاتٍ مع أهل الحجاز، لكن الخلافات لم تنتهِ في أرض العراق. فإن قال قائل: لماذا لم يستسلم ابن الزبير -رضي الله عنهما- بعد مقتل أخيه مصعب، وسيطرة عبد الملك بن مروان على بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، ويكون تنازله دفعًا للمفسدة الكبرى، وهي سفك الدماء، واستحلال الحرم، ولقد فعل ذلك الحسن -رضي الله عنه- عندما تنازل لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، وقد نال الحسن على فعله هذا الثناء مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فالجواب: نعم، كان هذا بإمكانه -رضي الله عنه-، وقد كان كثير مِن أصحابه يرون ذلك، ويتضح ذلك ويظهر في قول ابن عمر: "لقد كنت أنهاك عن هذا"، ولكن ابن الزبير اجتهد فأخطأ، ولعله أراد أن يتأسى في ذلك بأمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- الذي رفض التنازل عن الخلافة، ولكن عثمان -رضي الله عنه- كان يملك النص الصريح في عدم تنازله؛ فلقد قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، ولعله أيضًا غلب على ظنه أنه مقتول في جميع الأحوال حتى لو استسلم للحجاج. وفي النهاية نقول: أن الترجيح بيْن المصالح والمفاسد يختلف مِن شخصٍ لآخر، ومِن زمنٍ إلى زمنٍ، ومِن مكانٍ إلى مكانٍ، ولكل واقع معطياته، والواقع يفرض نفسه أحيانًا. والله المستعان.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |