من سورة الأنعام: غبش الشرك على الفطرة بين البأساء والنعماء - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 349 - عددالزوار : 44528 )           »          حكم قراءة الحائض القرآن عن طريق الحاسوب المحمول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          آدم عليه السلام ، قصة ادم عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          نساء لم يذكر القرآن أسمائهن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          ° l|l° ♥♥ حملة الحجاب الشرعي ♥♥ °l|l° (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          أقوال الإمام الشافعي،من أقوال الإمام الشافعي رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          الآثار السلبية للحمية القاسية وما يعالج منها معنوياً وكيميائياً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          من هو الذي ألقي عليه شبه عيسى عليه السلام ؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          {قال إن فيها لوطًا} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          تقسيم الأعمال والمشاريع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 14-07-2020, 03:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,445
الدولة : Egypt
افتراضي من سورة الأنعام: غبش الشرك على الفطرة بين البأساء والنعماء

من سورة الأنعام: غبش الشرك على الفطرة بين البأساء والنعماء
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي





بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآلِه وصحبه والتابعين.

قال الله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ * وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 40 - 51].

التعلق بالله في حالتي الرخاء والشدة من أهم مَعالم الإيمان، والدعاءُ - التجاءً إليه وحده؛ تضرعًا وخوفًا وطمعًا - دليلُه ومِسْباره؛ لأن ما جُبِلت عليه فطرةُ الإنسان مِن معرفته تعالى وتوحيده عز وجل راسخٌ فيها منذ خُلِق أولَ أمره، وإنما تَعترض المرءَ شواغلُ في أوقات الرَّفْهِ والغفلة، تكبت فطرته وتعطلها وتحجبها، فيَرتكس في ظلمات الجهل والشرك، فإنْ واجهَته محنة من بأس الله أيقظَته من غفلته، فانزاحت عنه شُبه الشِّرك، وانهار ركام الجهل، وضلت عنه آلهة الهوى، وازدهرت فطرة الإيمان في القلب نورًا هاديًا، وعلى اللسان دعاء نديًّا، وعاد الشاردُ إلى مَعطِنه تائبًا راجيًا، لا يسأل غيرَ الله، ولا يتوكل على سواه.

هذا هو الأصل في الإنسان السوي، تَنتابه الغفلة حينًا من الدهر، فإن ابتُلي بمحنةٍ أبصَر وتذكَّر، فتاب وأناب؛ لأن الضلال عارض يَسهُل على ذَوي الألباب تجاوزُه، والشرك ظلمة طارئة تنقشع لذوي البصائر، والقرآن الكريم في سورة الأنعام التي نحن بصدَدِ تفسيرها ينطلق من هذا الأصل في حواره مع المشركين؛ كي يتذكروا ما أودع الله تعالى في فطرتهم الأولى من معرفةٍ وتوحيد.

إذْ بعدَ أن ميَّز فيما سبق من السورة بين الأسوياء أحياءِ القلوب الذين يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَه، وبين أموات العقول والأفئدة صُمِّ الآذان عن الموعظة، بُكمِ الألسُنِ عن القول السديد، وقال: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [الأنعام: 36]، وبعد أن ذكَّر بحكمة الله في الاختيار، ومشيئته المطلقة في الابتلاء والاصطفاء، وقال: ﴿ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الأنعام: 39] - أخذ يحض الرسولَ صلى الله عليه وسلم على المصابرة في حوار المشركين، ومُحاجَجتِهم بما يَكمُن في نفوسهم من عقيدة التوحيد التي قد تنبعث عند الشدائد والمحن، فتنبثق نورًا هاديًا من بين ركام العقائد الضالَّة، والتصورات المنحرفة، وذلك بقوله عز وجل: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأنعام: 40]، وقوله عز وجل: ﴿ أَرَأَيْتَكُمْ ﴾ تركيبٌ عربي مشهور؛ للتحريض على الرؤية الواعية العميقة، المصحوبة بالاستخبار والاستفهام، يُفتتَح به وبمثله ما يُراد التنبيه له والاهتمام به، والتحريض على رؤيته، والإمعان في استخلاص مُؤَدَّاه، كأنَّ قائله يَلفِت نظرك إلى شيء أغفلتَه، أو لم تكن رأيته من قبل، ويحضك على إمعان التأمل فيه.

وهمزة الاستفهام في أوله تقريرية، وحرف التاء بالفتح ضميرُ المخاطب في المذكر والمؤنث، والواحدِ والجمع؛ تقول: أرأيتَك، وأرأيتَكما، وأرأيتَكم، وأرأيتكن، وتسهيل همزة الفعل من قراءة ورش عن نافع، والمعنى: أخبروني عن حالكم إخبارَ من يرى ويتفكر في الحال والمآل.

وصيغة ﴿ قُلْ ﴾ في مستهلِّ الآية الكريمة أمرٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يَسأل المشركين ويُحاجِجَهم، مُعرِّضًا بتناقضهم العقَدي؛ إذ يعبدون في رخائهم غيرَ الله، ثم يتوجَّهون إليه سبحانه في الشدة؛ أي: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد سائلًا مُشركي قومك: ﴿ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ ﴾ إن أتاكم بلاء من عذاب الله في الدنيا لا تُطيقونه، أو دهَمتكم زلزلةُ الساعة بشدتها وهولها؛ هل تتوجهون بالدعاء لدفع ذلك إلى غير الله من الأنداد والأوثان، أم تتوجهون به إلى الله تعالى؟! وعلَّق سبحانه وتعالى جوابهم بالصدق إذ قال عز وجل: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأنعام: 40]؛ أي: إن صدَقتُم الجواب فلم تُموِّهوا، ولم تَركنوا إلى الأوهام والأهواء، وسَتْرِ حقيقة مشاعركم.

وفي هذه الآية الكريمة استفهام بليغ معجِز، موجَّه إلى المشركين، يَستبطن حقيقة مشاعرهم في أشد حالَين قد يُواجهونهما في الدنيا:
أول الحالين: عقابٌ منه تعالى؛ لجَراءتهم على الشرك وتمسُّكهم به، وإهلاكهم بما أهلك به أقوامًا غيرهم، زَلازلَ وعواصفَ مدمرةً، أو خسفًا أو طوفانًا.

وثاني الحالين: أن تَدْهمهم الساعة فجأة بعذابها الشديد الذي تذهل له ﴿ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2].

هل يتوجَّهُ المرء بطلب النجاة في أحد هذين الحالين أو كِليهما إلى غير الله؟ أم أن فطرته تستعيد أصالتها وسواءها، وتستشعر ضعفها وصَغارها وعجزها أمام قدرة ربها وجبروته، فتتوجه بالدعاء إليه وحده، وتنسى ما كانت تعبد من دونه أوثانًا أو أهواء أو أخيلة فاسدة أو طواغيت؟ ولذلك عقَّب الحق سبحانه مقررًا حقيقة توجههم ودعائهم، فقال: ﴿ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾ [الأنعام: 41]، وحرف "بل" في هذا السِّياق للإضراب عمَّا سبق ذكره، والآية تعبير عن الجواب السليم الذي ينبغي أن يصدر عنهم إن صدَقوا القول، وتخلصوا من جميع أصناف الشرك ورواسبه وأوهامه.

وقد ورد التعبير القرآني بتقديم المفعول على الفعل في قوله تعالى: ﴿ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ﴾؛ لِقَصْرِ دعائهم على الله تعالى وحده، وهو التوحيد الصحيح؛ أي: لَا تدعون إلا إياه، تدعونه عند الشدة، وتنصرفون عن دعوة آلهتكم؛ لأنكم في وقت الخطر لا تستطيعون الكذب على أنفسكم، وخيانتها بدعوة الأوثان التي تعبدونها وأنتم موقنون بعدم جدواها، وفطرتكم الأولى لا تثق بها ولا تركن لها، كالساحر الذي يعالج الناس بسحره، فإذا مرض عرض نفسه على الطبيب، وكالشيطان عندما تبرأ من المشركين في غزوة بدر وقد رأى الملائكةَ يقودهم جبريل عليه السلام يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48].

إن الأصل في الإنسان عند المخاطر والشدائد أن يسترجع سواءه، ويُعرض عن ضلالاته، ويتوجه إلى ربه مقيمًا على التوبة، متمسكًا بها، بذلك تتميز التوبة النَّصُوح عن التوبة الزائفة التي قال عنها الحق سبحانه: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ ﴾ [يونس: 12]، وقال: ﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49]؛ لذلك عقَّب الحق تعالى، وهو الحكيم العليم بخبايا نفوس العباد، ومآلات أعمالهم، وحقيقة توبتهم، وسلامة نواياهم، بقوله: ﴿ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ ﴾ [الأنعام: 41]، وحرف "الفاء" في هذا السياق لترتيب الفعل على الدعاء وسرعة الإجابة، فيكشف عز وجل، في الدنيا والآخرة، ما نزل من الضر، ويرفعه كما يُرفَع الغطاء عن الإناء، ﴿ إِنْ شَاءَ ﴾ [الأنعام: 41]، إن أراد أن يرحمكم ويتفضل عليكم بما سألتم، فعَل، وإن لم يشأ لم يفعل، يكشف الضر عن الداعي، مؤمنًا كان أو كافرًا في الدنيا، بمقتضى مشيئته عز وجل وحكمته، إن شاء كَشْفَ الضُّرِّ كَشَفه، وإن شاء ضاعفه وعوَّض الأجر، وإن شاء ترك الحال على ما كان، واختار لعبده المؤمن خيرًا مما سأل، وهو عز وجل في جميع الأحوال فعَّال لما يريد، إرادته لا تُعارَض، ومشيئته لا تُغالَب؛ ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، إلا أن مشيئته عز وجل لا تكون مبررًا للإقامة على الشرك، كما كان يقول بعض المشركين: ﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 148]، إن الله تعالى لا يفرض على الناس الشرك، ولا يرضاه لهم أو يقهرهم به، وقد قال: ﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [الزمر: 7]، إلا إذا استدعَوْه اختيارًا له، وإصرارًا عليه، وحرصًا على الإقامة به، وإسرافًا على أنفسهم فيه، فيركسهم فيه، ويَكِلهم إلى أنفسهم؛ لأنه تعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، وقد قال: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ﴾ [الزمر: 7]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ [غافر: 28]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وفي الحديث القدسي يقول عز وجل: ((أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشِرْكَه)).

ثم قال عز وجل يصف حال المشركين عند الشدة: ﴿ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ تنسون أصنامكم وتتركونها، عبَّر عن الترك بأشد وجوهه، وهو الإعراض مع الذهول؛ أي: إنكم في غمرة محنتكم وتوجهكم بالدعاء إلى الله معرضون عن الأوثان والأنداد، لا تذكرونها ولا تستنجدون بها، نسيانًا لها وذهولًا عنها، أو يأسًا من نفعها أو ازدراءً لها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ ﴾ [يونس: 22].

وظاهر من هذه الآية الكريمة أن كشْفَ الشدائد في الدنيا معلق بمشيئة الله وحكمته، أما شدائد المشركين في الآخرة حسابًا وعقابًا، فلا تكشف؛ لأنها معلَّقة بوعيده عز وجل وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، كما أن فيها حثًّا صريحًا واضحًا على التوحيد؛ عقيدة ومنهج حياة، وشجبًا ضمنيًّا للشرك والكفر، ودعوة صريحة إلى نبذ عبادة الأوثان المادية والمعنوية، وازدراء أهلها والمتعلقين بها، وتهديدًا بالعذاب لمن يستمر على عبادتها بعد هذا البيان.

وكما هو الأسلوب القرآني في التربية والتعليم والترغيب والترهيب وضرْبِ المثل، ذكَّرهم تعالى بأمم سابقة، فسَدت فطرتها، وأعرضت عن دعوة ربها، واستكبرت عن التضرع إليه والانقياد لأمره، فقال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم معرِّضًا بجفاء مشركي قريش وقسوتهم وعنادهم، ومواسيًا له فيما يلقاه من عدوانيتهم وتطاولهم، ومذكرًا بما لقيه إخوتُه من الأنبياء والرسل قبله:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ﴾ [الأنعام: 42] بعثنا رُسُلَنا بالبينات والهدى ﴿ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ [الأنعام: 42] إلى أممٍ مِن قبلك أشد من مشركي قومك وأقوى، فكذبوا الرسل، وبهتوهم، ونبَذوا رسالة الله إليهم، واستكبروا عما دُعوا إليه من التوحيد وإخلاص العبودية، ومدُّوا إليهم الأيديَ بالأذى والعدوان ﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴾ [الأنعام: 42]، والبأساء والضراء لغةً: هي كل أصناف المحن؛ أي: فابتليناهم، كما هي سنَّتنا في الاختبار، بأصنافٍ من البؤس والضرر؛ شدةَ فقرٍ، وضيقَ معيشة، وأسقامًا وعِللًا وأمراضًا، وخوفًا وجوعًا ونقصًا من الأموال والأنفس والثمرات؛ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ [الأنعام: 42]، والتضرُّع: هو التخشع والتذلل والانقياد والخضوع في الدعاء؛ أي: كي يخضعوا ويتطامنوا، وتذهب كبرياؤهم عندما يُحسُّون بضعفهم وحاجتهم إلى الله؛ لأن المرء كلما أحس بالضعف اقترب من الإيمان، وتخلى عن الغرور والكبرياء والعزة بالنفس، وتذكر قدرة ربه وفضلَه عليه، وحاجته واضطراره إليه، فيُفرده بالتوحيد والعبادة والتوجه، ويتضرع خاشعًا له، سائلًا رفع الشدة والمعافاة من الفتنة، والشأن في النفوس القابلةِ للشفاء من أمراضها والعودة عن ضلالها أن الشدة لا تَزيدها إلا تطهُّرًا من أدرانها، وانقشاعًا لظلمتها، وقربًا من الحق وأهله، فإذا هي مبصرة أوابة تائبة.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 129.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 128.17 كيلو بايت... تم توفير 1.68 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]