
13-09-2021, 11:00 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 151,734
الدولة :
|
|
الأسلوب الطيب بوابة العبور إلى القلوب
الأسلوب الطيب بوابة العبور إلى القلوب
د. محمد جمعة الحلبوسي
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأُثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فيا أيها المسلم الكريم، إن الأسلوب الطيب الراقيَ له مكانة في حياة الآخرين؛ فهو بوابة العبور إلى عقول وقلوب الآخرين دون استئذان، فبالأسلوب الجميل تُكتسب المحبة، وتدوم المودة والألفة بين الناس، وبالأسلوب السيئ تُشعل نيران العداوة والشحناء والبغضاء.
لذلك لا بد على كل واحد منا أن يتعلم الأسلوب الراقيَ في تعامله مع الآخرين؛ فالحياة أسلوب، وليست تصيُّدَ عيوب، فالإنسان الذي لا همَّ له إلا أن يتصيد أخطاء الآخرين وينتقدهم، هذا إنسان مريض، وبعمله هذا ينشر الحقد والفساد والضغينة بين الآخرين.
وعندما تقرأ كتاب الله تعالى، تجد أن الله تعالى أرشد الأمة إلى الأسلوب الجميل في التعامل مع الآخرين؛ فقال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [الإسراء: 53]، وتأمل أخي الكريم هذه الآية؛ فالله تعالى لم يأمر عباده بأن يقولوا القول الحسن، بل أن يقولوا القول الأحسن، فجاء بكلمة (أحسن)، وهي أفعل تفضيل؛ ليُعلِّمنا أن نكون دائمًا في تعاملاتنا على أحسن حال، وأن نختار الأسلوب الأحسن والأفضل والأجمل في تعاملنا مع الآخرين، فهو الذي يسُرُّ القلوب، ويشرح الصدور، ويُبهج النفوس، ويُشيع الرضا.
حتى عندما أرسل الله تعالى سيدنا موسى وأخاه هارون إلى فرعون، بماذا أمرهما؟ وبأي أسلوب أمرهما أن يخاطبا فرعون؟
أتدري من هو فرعون؟ فرعون كان ملكًا طاغية جبارًا في الأرض؛ فرعون الذي قال: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38]، فرعون الذي وصفه الله بقوله: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]، ومع هذا كله، اسمع ماذا قال الله لسيدنا موسى وهارون؟ قال تعالى:﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44]؛ أي: اذهبا إليه، وخاطباه بالقول اللين، وبالكلام الرقيق؛ فإن الكلام السهل اللطيف من شأنه أن يكْسِرَ حِدَّةَ الغضب، وأن يُوقِظَ القلب للتذكر، وأن يحمِلَهُ على الخشية من سوء عاقبة الكفر والطغيان.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]: "هذه الآية فيها عبرة عظيمة؛ وهو أن فرعون في غاية العُتُوِّ والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه، ومع هذا أُمر ألَّا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين"[1].
فإذا كان هذا في مخاطبة فرعون، وهو من أفجر البشر، فكيف بمخاطبة المؤمنين الموحدين؟!
فالأسلوب الطيب ينفع صاحبه في الدنيا، ويرفع من شأنه، وفي الآخرة يقيه النار، ويدخله الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد، فبكلمة طيبة))[2] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غرفةً يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلَّى والناس نيام))[3].
وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]؛هذا إرشاد من الله تعالى إلى ما يجب أن يتحلى به المؤمن، وهو أن يدفع السيئة إذا جاءته من المسيء، بأحسنِ ما يمكن دفعها به من الحسنات، بأن يقابل ذنبه بالعفو، وغضبه بالصبر، وقطعه بالصلة، وفظاظته بالسماحة.
ثم بيَّن تعالى الآثار الجميلة التي تترتب على دفع السيئة بالحسنة: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]؛ والولي: هو الصديق المحب الشفيق عليك، فأنت إذا دفعت السيئة بالحسنة، صار عدوك الذي أساء إليك، كأنه قريب منك؛ لأن من شأن النفوس الكريمة أنها تحب من أحسن إليها، ومن عفا عنها، ومن قابل شرها بالخير، ومنْعَها بالعطاء.
هذا سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُزْرِموه، دعوه - يعني: لا تقطعوا عليه بوله - فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القَذَرِ، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلًا من القوم، فجاء بدلْوٍ من ماء فشَنَّه - صبَّه - عليه))[4].
أرأيتم إلى أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك الأعرابي الجاهل؛ لم يُعنِّفْه، ولم يُوبِّخْهُ، بل تركه حتى أكمل حاجته، وأمر أصحابه ألَّا يقربوه حتى يُكْمِلَ حاجته؛ خشية أن يؤذيه ذلك، فلما انتهى الأعرابي، أوضح له النبي صلى الله عليه وسلم - معلمًا ومؤدبًا برفق - ما لهذه المساجد من الحرمة والقدسية، وأنها لا تصلح لفعل مثل ذلك القذر.
هكذا أراد أن يُعلِّمَ الأمة الترفق بالجاهلين، والتعليم بأحسن أسلوب وألطف عبارة.
وهذا سيدنا أبو الدرداء رضي الله عنه ذات يوم مرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا والناس يسبُّونه، فنهاهم، وقال: "أرأيتم لو وجدتموه في قَليبٍ - بئر - ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تُبغضه؟ قال: إنما أُبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي".
انظروا كم هي جميلة تلك المقارنة! فلنتأمل تلك العبارة جيدًا: "أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه؟"؛ فإصابة الذنب كالسقوط في البئر، لا شماتةَ ولا بغضَ، ولا أي شيء من ذلك، بل ساعدوا من جنى ذنبًا على تجاوزه وعدم الوقوع فيه مستقبلًا.
وعندما سألوا أبا الدرداء: أفلا تُبغضه؟ أجابهم: "إنما أُبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي"، نعم، هذا هو التصور الحقيقي لجزء من مفهوم رسالة الإسلام، فليس الهدف أن تُشعِر الإنسان أن الخطأ ثابت في شخصه، بل أشعره بأن الخطأ في عمله، وهذا قابل للتغيير، هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لكل واحد منا أن يعامل به الآخرين.
فنحن بحاجة في هذا الزمان إلى الأسلوب الطيب والجميل في تعاملنا مع بعضنا، نحن بحاجة إلى الكلمة الطيبة التي غابت من واقع الكثير من الناس اليوم، بحاجة إلى أن نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر، نحفز الناس نحو الخير ونشجعهم، ونأخذ بأيديهم ونمنحهم الأمل والتفاؤل.
ذات يوم سأل شابٌّ عالمًا عن حكم تارك الصلاة، وعلى ما يبدو أن الشاب كان يريد أن يقول هذا العالم بأن تارك الصلاة كافر وفاسق، ولكن العالم أجابه بأسلوب جميل، فقال: حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد.
يعني: أنت بأسلوبك الجميل، وبتعاملك الطيب، وبأخلاقك الحسنة، أقْنِعْه بأن يحب المصلين والمساجد، حتى يكون من أهل الصلاة.
فنحن بحاجة إلى الأسلوب الطيب؛ الأب بحاجة إلى الأسلوب الطيب في تعامله مع أولاده، الأم بحاجة إلى الأسلوب الطيب في تعاملها مع أولادها، المعلم بحاجة إلى الأسلوب الطيب في تعامله مع تلاميذه، المدرس بحاجة إلى الأسلوب الطيب في تعامله مع طلابه، المدير في كل دائرة بحاجة إلى الأسلوب الطيب في تعامله مع موظفيه، المجتمع كله بحاجة إلى الأسلوب الطيب في تعامله مع الآخرين؛ فَبِهِ تُكتسب المحبة، وتدوم المودة والألفة بين الناس.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم أجمعين الأسلوب الراقيَ الذي يرضاه لنــا... أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
فيا أيها المسلم الكريم، من المسائل التي ينبغي التنبيه عليها أن قراءة القرآن بالعين فقط دون تحريك اللسان لا تعتبر قراءة، ولكن لا مانع من النظر في القرآن من دون قراءة للتدبر وفهم المعنى، فالنظر إلى المصحف عبادةٌ؛ كما قال الإمام النووي رحمه الله: "القراءة في المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب؛ لأنها تجمع القراءة والنظر في المصحف، وهو عبادة أخرى"[5].
ولا يُعَدُّ قارئًا، ولا يحصل له فضل القراءة إلا إذا تلفَّظ بالقرآن؛ وسُئل الإمام مالك رحمه الله عن الذي يقـرأ في الصلاة، لا يسمع أحدًا ولا نفسه، ولا يحرك به لسانًا، فقـال رحمه الله: "ليست هذه قراءة، وإنما القراءة ما حُرِّك له اللسان"[6].
فالقراءة لا بد أن تكون باللسان، فإذا قرأ الإنسان القرآن بقلبه في الصلاة لا يُجزِئه، وإذا قرأ القرآن خارج الصلاة بالعين فقط دون تحريك اللسان، فلا تعد قراءة، ولا يُثاب عليها ثواب القراءة، وإنما هي تدبر للقرآن، ويُرجى أن يُثاب عليها المسلم.
[1] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، (5/ 260).
[2] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب: من نُوقش الحساب عُذِّب، (8/ 140)، برقم: (6540)، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، (2/ 704)، برقم: (1016).
[3] أحمد في مسنده، (37/ 539)، برقم: (22905)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
[4] صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب: وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض تطهر بالماء، من غير حاجة إلى حفرها، (1/ 236)، برقم: (285).
[5] المجموع شرح المهذب، للنووي، (2/ 166).
[6] البيان والتحصيل، لابن رشد، (1/ 490).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|