|
|||||||
| الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (58) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [4] إن الله عز وجل أمر عباده المؤمنين بعبادته والإقامة على طاعته، وبين لهم كيفية الإتيان بهذه العبادات والطاعات في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن العبادات التي حرص الشرع على بيان أحكامها وشروطها: الصلاة، التي هي عمود الدين، فلا يتأتى للعبد أن يؤدي صلاته صحيحة إلا بمعرفة شروطها وأركانها وواجباتها، ومن الشروط الواجب توافرها لمن أراد أن يصلي صلاة صحيحة: أداء الصلوات في أوقاتها التي بينها الشرع، وستر العورة عند أداء الصلاة، مع الإحاطة بما يتفرع عن هذه الشروط من أحكام. ستر العورة تعريف ستر العورة لغةً واصطلاحاًبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها ستر العورة] أي: ومن شروط الصلاة التي يلزم بها المكلف لصحتها ستر العورة. والستر هو: التغطية، تقول: سترتُ الشيء.إذا غطيته. والعَوْرَة: أصلها من العَوَر وهو النقص، وقولهم: (ستر العَوْرَة) أي: تغطيتها. والمراد بالعورة في إطلاق العلماء رحمة الله عليهم أحد أمرين: فمنهم من يقول: القبل والدبر وهذا على الأصل، ومنهم من يقول: القبل والدبر وما أُمِر بستره؛ لأن المرء يؤمر بستر ما عدا القبل والدبر خاصةً مع الأجانب. [أدلة وجوب ستر العورة] وهذا الشرط أمر الله به في كتابه المبين، وكذلك في هدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وأجمعت الأمة على أنه لازمٌ وواجب، لكن حُكِي عن مالك أنه يراه مستحباً ولا يراه واجباً، والصحيح وجوبه. ودليل وجوب ستر العورة للصلاة قول الحق تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].ووجه الدلالة من الآية الكريمة أن الله أمر المكلف أن يأخذ الزينة عند كل مسجد، والمراد بقوله: (عند كل مسجدٍ) أي: عند كل صلاةٍ، فيكون قوله: (خُذُوا) أمراً، والأمر للوجوب حتى يدل الدليل على صرفه، ولا صارف له هنا.وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام بستر العورة وهديه صلوات الله وسلامه عليه فيها، حتى نهى الرجل أن يصلي وليس على عاتقيه من ثوبه شيء، ففي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: (لا يصل أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ستر عورته، وأمر بستر العورة في أحاديث منها حديث بهز بن حكيم رضي الله عنه عند أبي داود قال: (يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك. قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها. قال: قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: الله أحق أن يستحيا منه).ولذلك ورد: (إن معكم من لا يفارقونكم فاستحيوا منهم)، وهم الكرام الكاتبون. وفي حديث أم سلمة أنه لما سئل عليه الصلاة والسلام عن صلاة المرأة في درعٍ وخمار قال: (في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها)، والصحيح وقفه على أم سلمة رضي الله تعالى عنها. وكذلك حديث جرهد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغطي فخذه)، وحديث جرهد وحديث بهز بن حكيم فيهما كلام، وإن كان بعض أهل العلم يميل إلى التحسين بمجموع طرق هذه الأحاديث.وقد أجمع العلماء رحمهم الله على وجوب ستر العورة للصلاة، وأن المكلَّف لو صلى الصلاة وهو كاشفٌ عن عورته وقادرٌ على سترها فصلاته غير صحيحة، إلا ما ورد في رواية عن مالك رحمه الله أنه كان يستحب ذلك ولا يوجبه، وإن كان بعضهم يضعفها. [الشروط اللازم توافرها في الساتر] وأما من ناحية أحكام ستر العورة فيُعتبر ستر العورة من الشروط التي تتعلق بصحة الصلاة؛ لأننا قدمنا أن من الشروط ما يتعلق بالوجوب ومنها ما يتعلق بالصحة، وشرط الصحة -كما هو معلوم- فقده يُوجِب الحكم بعدم صحة الصلاة.وبناءً على ذلك لا يُحكم بصحة صلاة المكلف إلا إذا حَصَّل هذا الشرط، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يتكلموا على ستر العورة، فيقررون وجوبها، ثم يقررون الضابط المعتبر لستر العورة، ثم يتكلمون بعد ذلك على المسائل المستثناة وأحكام الضرورة، كالعراة الذين لا يجدون ما يسترون به عوراتهم، ونحوها من الأحكام المتعلقة بالاستثناءات. والمصنف رحمه الله راعى ذلك في كلامه على الشروط هنا فقال رحمة الله عليه: [فيجب بما لا يصف بشرتها]. الفاء: للتفريع، فبعد أن قال: (ومنها) أي: من شروط صحة الصلاة ستر العورة، قال: (فيجب) أي: فيلزم المكلف بسترها، والواجب يتفرع منه الحكم أن من صلَّى عارياً يحكم بإثمه إذا كان مختاراً دون اضطرار، وبعدم صحة صلاته، فالتعبير بالوجوب يتفرَّع منه الحكم بالإثم عند الترك في الاختيار، وزيادة شرطية الصحة يتعلق بها الحكم بالمطالبة بإعادة الصلاة. فقوله: [فيجب بما لا يصف بشرتها] أي: فيجب على المكلف أن يستر العورة بما لا يصف بشرتها. فستر العورة على حالتين: إما أن يكون ساتراً مانعاً من رؤية لون البشرة، فهذا لا إشكال في إجزائه واعتباره، كالثوب الثخين، وإما أن يكون الساتر رقيقاً يشف ما تحته، فهذا يقول العلماء: وجوده وعدمه على حدٍ سواء، كالقماش الرقيق الذي ترى معه لون البشرة، فإن وجوده وعدمه على حدٍ سواء. بل قال بعض العلماء: إن ما شفّ أعظم فتنةً مما كشف؛ لأنه يُغرِي، وتكون الفتنة بدعوته إلى النظر أكثر، بخلاف المتعري فإنه ربما اشمأزت النفوس من نظره، لكن لبس الشفاف أبلغ فتنةً وأعظم جُرأةً كما يقول بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فالشفاف وجوده وعدمه على حدٍ سواء. فانقسم الساتر إلى قسمين: ما كان غليظاً غير رقيقٍ يمنع من معرفة أو رؤية لون البشرة، وما كان رقيقاً تُرَى معه البشرة بحمرتها أو ببياضها أو غير ذلك.فبيَّن رحمه الله أنه لابد من الساتر الذي لا يشف، والكلام في الساتر يكون في جرمه، ويكون في صفة تغطيته.أما في الجِرم فيبحث العلماء فيه من حيث السماكة والرقة، وقد بيَّنا حكم السميك والرقيق.وأما بالنسبة لصفة تغطية الساتر، فإنه يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون فضفاضاً، بحيث لا يكون ضيقاً يُحدد تفاصيل الجسم، فهذا بالإجماع يُعتبر ساتراً، لكن كره بعض العلماء المبالغة في الفضفاض إلى درجةٍ قد يكشف العورة في بعض الحالات، كما ذكروه في السراويل، فإنها إذا كانت واسعةً، وكانت أكمامها التي تخرج منها الرجلين مبالغاً في سعتها، وكانت قريبةً من الركبتين فإنها طريقٌ للكشف، ولذلك يُعتبر لبسها سبيلاً أو سبباً لسهولة النظر إلى العورة، ومظنة أن يرفع ركبته فينكشف ما قارب السوءة أو السوءة نفسها. ولذلك قالوا: يُشدَّد فيما كان فضفاضاً واسعاً بحيث يبالَغ فيه إلى درجةٍ لا يُؤمَن معها انكشاف العورة. الحالة الثانية: أن يكون ضيقاً، وهو الذي يحدد جرم العضو، فإن كان من المرأة فإنه بالإجماع يَحرُم عليها لبسه، ولذلك شدَّد بعض العلماء في تفصيل المرأة للعباءة التي تكون فيها اليد منفصلة عن الجسم؛ لأنها إذا كانت على هذه الصفة استطاع الناظر أن يدرك تفاصيل جسمها، وهل هي طويلةٌ أو قصيرةٌ أو رقيقةٌ أو غير ذلك. ولذلك قالوا: تكون عباءتها، ويكون تفصيل يدها على حالٍ لو أنها حركت يدها لا يستطيع الإنسان أن يدرك طبيعة جسمها، أما لو كانت بهذه التفاصيل التي تستخدم عند بعض النساء اليوم بحيث إذا رأيت المرأة تستطيع أن تدرك تفاصيل جسمها، خاصةً في اليدين، وأعالي البدن فقالوا: مثل هذا يحرم عليها لبسه؛ لأنه يحدد تفاصيل جسمها.وبعض المحدد -كما يقول العلماء- أشد إغراء بالفتنة لأنها إذا حددت تفاصيل الجسم كانت مغرية بالنظر إليها، فتكون الفتنة فيها أشد، ولذلك ينبغي على المرأة أن تكون عباءتها مغطيةً لها، ولا يكون هناك تفصيل لأعضاء الجسم، حتى لا تشابه الرجال، ولا يستطيع الرجل أن يدرك جِرم جسمها.وكذلك الحال إذا كان سترها في أسفل البدن، كلبسها للسراويل، أو ما يسمى في عُرف اليوم (البنطال)، فهذا اللبس لا يجوز للمرأة مع وجود الرجل الأجنبي، وأما مع محارمها فأقل درجاته الكراهة؛ فإنه يُفصِّل تفاصيل الجسم، ومن أهل العلم من جزم بالتحريم حتى ولو مع وجود محرمها، وقال: لأنه لا يُعرَف في نساء المؤمنين، وإنما هو من باب التشبه، (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم)؛ إذ لا يعرف بين النساء المؤمنات أن المرأة تأتي بلباسٍ بهذه الصفة، وإنما هو شيءٌ واردٌ على المسلمين من غيرهم، ولذلك أنا أميل إلى هذا القول، وأرى أنه تشبُّه، وأرى أن المرأة لا يجوز لها أن تلبس البنطلون ولو كان أمام محارمها، إلا إذا اضطرت إلى ذلك فهذا أمرٌ آخر.فلا تلبس مثل هذا اللباس الضيق الذي يفصِّل تقاطيع الجسم في مواضع الفتنة، حتى ولو كان أمام محارمها. فإن الإمام أحمد رحمة الله عليه لما سُئِل عن كشف المرأة عن صدرها وساقيها لمحرمها كأخيها ونحوه قال: (أخشى عليه الفتنة)، وهو إمام في زمانٍ الخير فيه شائع، وفي قرنٍ شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل، فكيف بنا اليوم؟! فلذلك ينبغي التحذير من هذا والنهي عنه، ويعتبر من التشبه الذي لا يجوز للمرأة أن تتعاطاه.وأما بالنسبة لحكمه في الصلاة لو صلَّت به، فإن المفصِّل لتقاطيع الجسم مع ستر العورة يُوجِب الحكم بالصحة، ولكنها آثمةٌ من جهة الإخلال بما ذكرناه. [حد عورة الرجل والأمة] قال المصنف رحمه الله: [وعورة رجلٍ وأمةٍ وأم ولدٍ ومعتق بعضها من السرة إلى الركبة].هؤلاء كلهم عورتهم ما بين السرة إلى الركبة، وقد جاء في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين السرة إلى الركبة عورة)، وقوله: (العورة ما بين السرة والركبة) بهذه الألفاظ، لكنه يأتي على وجهين: الوجه الأول: يأتي مقيداً بالصلاة، وهذا حسَّنه بعض أهل العلم. والوجه الثاني: أن يأتي مطلقاً، وقد تكلم العلماء رحمهم الله على سنده وضعفوه. وقال العلماء: أما بالنسبة للرجل فما بين السرة والركبة. وأما السرة نفسها فقول الجماهير: إنها ليست بعورة.والركبة نفسها عورةٌ في قول بعض العلماء، وليست بعورة في قول طائفة، وإن كان الأقوى أنها ليست بعورة؛ لأن التعبير بالبينية يُشعِر بأن الغاية خارجةٌ عن المغيا، كما هو معلوم في القواعد. وبناءً على ذلك قالوا: إن الركبة كشفها لا يؤثِّر. وقوله: (وأمة) أي: كذلك الأمة، قالوا: لمكان الغالبِ من انصراف النفوس عنها؛ لأن النفوس كانت تأنف من وطء الإماء والزنا بهن، وهذا في الغالب، وإنما كن يتبعن الحرائر، ولمكان تسخير الشَّرْع لهنّ بالرق لخدمة أسيادهن فخُفِّفَت عورتهن، ولذلك قالوا: إنها لا تستطيع القيام بحق أسيادها إلا إذا خرجت ودخلت في قضاء الحوائج والمصالح، فهي أشبه ما تكون بالرجل، فقالوا: عورتها عورة الرجل.ولكن من أهل العلم رحمة الله عليهم من فرَّق بين الأمة الفاتنة وغير الفاتنة لاختلاف النساء في ذلك، وقال: إنه إذا كانت غير فاتنة فالحاجة غير داعية إليها، كما نبه عليه الإمام ابن قدامة رحمة الله عليه في المغني، ودرج على هذا القول، وهو قول الجماهير. وإن كانت فاتنة قالوا: إنه لا يجوز لها الكشف ولو كانت أمةً، فإن بعض الإماء أشد فتنةً من الحرائر، وليس في دين الله الحكم بجواز وشرعية الشيء الذي يُفضي إلى محارم الله عز وجل، والوقوع في حدوده إلا ما استثناه الشرع من الضرورات. وقوله: (ومُعتَقٌ بعضها) كالتي تكون نصفها حرة ونصفها أمة، فعورتها ما بين السرة إلى الركبة، قالوا: لأن الْمُعْتَق بعضها تُعتبر في حكم الرقيقة؛ لأن القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك، وفرعوا على هذه القاعدة قاعدة تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل أنها رقيقة، فإذا أُعتِق بعضها ترددت بين أن تُلحق بالحرة وبين أن تُلحق بالأمة، فروعي الأصل، ولأنه إذا تُرُدِّدَ بين الأضعف والأقوى فالأصل حمله على الأضعف حتى يدل الدليل على ما هو أقوى منه ولا دليل، فالْمُعْتَق بعضها تُنَزَّل منزلة الأمة، وليس منزلة الحرة.وهكذا المكاتَبَة، فقد أضاف بعض أهل العلم رحمة الله عليهم أن المكاتَبَة مُنَزَّلَة منزِلة المعتق بعضها. وقوله: [وأم ولدٍ] ذكر أم الولد لشائبة أنه طريقها إلى العتق. وأم الولد: هي الأمة التي يجامعها سيدها فتلد منه، فإن هذه تبقى أم ولد، فإن مات سيدها عتقت، وبناءً على ذلك يقولون: إنها آيلة إلى العتق، فهل ننزلها منزلة الحرة أو الأمة؟ قالوا: تبقى على الأصل من كونها أمةً، فعورتها عورة من ذكرنا. [حد عورة الحرة] قال المصنف رحمه الله: [وكل الحرة عورةٌ إلا وجهها].هذا كلامه على الصلاة، فالحرة في الصلاة وجهها ليس بعورة، وهذا مذهب الحنابلة. وقال الشافعية والمالكية: إن الحرة وجهها وكفاها ليسا بعورة، وتكشف الوجه والكفين، وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: وظاهر القدمين.فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم رحمة الله عليهم، أصحُّها وأقواها ما اختاره المصنف من استثناء الوجه، وفيه آثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.وبقيت اليدان والرجلان على الأصل، ويدل على ذلك أنه لما سُئِل عليه الصلاة والسلام عن المرأة تصلي في درعٍ وخمار قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها)، والسابغ: أصله في الساتر، فدل على أن أصل البدن يُستر، واستثني الوجه لما ذكرناه من الآثار.والصحيح في هذا -أعني حديث أم سلمة - وقفه، كما ذكر غير واحدٍ من أهل العلم رحمة الله عليهم.وإذا وُجِد الأجنبي؟ قال بعض العلماء تغطي وجهها؛ لأنه حق لله، وقال بعض العلماء: إنها تبقى على الأصل من كونها كاشفةً للوجه والإثم على من نظر. [حكم الصلاة في ثوبين] قال المصنف رحمه الله: [وتستحب صلاته في ثوبين] قوله: (وتستحب صلاته) الاستحباب يدل على أنه لا يلزمه؛ لأن المقصود أن تستر العورة، فلو أن إنساناً صلَّى بثوبٍ واحدٍ ساترٍ لعورته صحت صلاته، كالحال الآن فلو لبس الثوب المعروف دون أن يكون عليه ملابس داخلية، وهذا الثوب له لون غامق يمنع النظر إلى ما وراءه وصلَّى صحت صلاته، فهذا من ناحية الأصل؛ لأنه ثوبٌ ساتر، والعبرة بالستر.ولكنهم استحبوا أن يصلي في ثوبين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أو كلكم يجد ثوبين؟)، لكن قال العلماء: إن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم خرج لمكان الضرورة والضيق على عهد الصحابة، أما بعد أن وسَّع الله عز وجل فإنه يستحب للإنسان أن يصلي في ثوبين؛ لأنه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى بالإزار والرداء صلوات الله وسلامه عليه، وهذا أفضل وأكمل.والثوبان أعلاهما لأعلى البدن، وأسفلهما لأسفل البدن، فما يكون أسفل البدن كالفوط ونحوها يقولون: هذا إزار، وأما الذي يكون على الأعلى فيقولون عنه: رداء، وفي الإحرام تلبس الرداء الذي هو على الكتف، وتلبس الإزار الذي يكون على أسافل البدن.فقد يُصلي في ثوبين من غير الإزار والرداء، يصلي -مثلاً- بقميص وسروال، والقميص قد يكون إلى أنصاف العضد، أو إلى نصف الساعد، هذا بالنسبة لأعلاه، وأما بالنسبة للأسفل فقد يكون إلى الركب، وقد يكون إلى نصف الفخذ، فيكون السروال ساتراً لما هو أدنى منه.وقد يكون قميصاً مع الإزار، وقد كان لبس العرب للقميص في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك قال: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس).فكان من لباسهم السروال والقميص، فالقميص يكون لأعالي البدن غالباً، وقد يكون القميص طويلاً، وهذا يقع في لباس النساء في القديم، فيكون قميصها طويلاً كالثوب، ويكون ساتراً لجميع البدن إلا ظهور القدمين، إلا إذا كان سابغاً، فيقولون: إن هذا القميص يجوز للرجل أن يصلي به إذا كان معه سروال، أو ما يستر أسافل البدن.وفي الوقت الحاضر لو صلى بما يستر أعلى بدنه بما يسمى (الفنائل) وصلى بالسروال أجزأه ذلك وصح؛ لأنه ساتر وعلى عاتقه شيءٌ، ولكن لا يصلي بذلك في مجامع الناس، ولا في مساجدهم؛ لأن من فعل ذلك سقطت مروءته، ومن كمال المروءة أن يستر بدنه بما جرى به العرف، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قالوا: والحياء ألا يلبس مثل هذه الملابس في مجامع الناس، ولذلك تصح صلاته ولكن تسقط مروءته وعدالته، إلا إذا كان مضطراً، أو كان عنده عمل، فلو أن إنساناً عنده عمل فصلى في السروال أو البنطلون أو في القميص فصلاته صحيحة ومجزئة؛ لأن تكليف الناس أن يخلعوا هذه الألبسة وأن يلبسوا ثيابهم فيه مشقة، وفيه حرج عليهم، فيجوز لهم أن يصلوا بمثل هذه الألبسة، لكن الأكمل والأفضل كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته).فيستحب لمثل هؤلاء الذين عندهم أعمال أو مهن أن يجعلوا ثوباً قريباً من العمل، فإذا جاء وقت الصلاة نزع ثياب العمل ولبس ثوبه، أو لبس الثوب النظيف على ثياب العمل حتى يكون أستر له وأكمل لمروءته.وهنا تنبيه، وهو أنه شاع في هذه الأزمنة أن بعض الناس -أصلحهم الله- يخرج إلى بيوت الله عز وجل خاصةً في صلاة الفجر والعصر بثياب النوم، وهذه الثياب لها أكمام قصيرة، وهذا لا شك أنه خلاف السنة؛ لأن السنة إبداء الزينة في المساجد، ومثل هذا لا مروءة عنده؛ لأن المروءة أن يلبس ما يستره، ويكون أكمل بصيانة ماء وجهه وهذا من الحياء، فالذي يستحيي لا يخرج بثياب نومه، وهل يليق أن يخرج إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض الذي أطعمه وسقاه وكساه بهذا المنظر، وكأنه يستكثر أن يقف بين يديه بثيابٍ يتجمل بها لعبادته.فلا شك أنه من ضَعف الإيمان ونقص العقل أن يخرج الإنسان بثياب نومه أمام الناس لكي يصلي فيها، وهذا يدل على استخفافه بالصلاة، وإلا لو كان يُعظِّم الوقوف بين يدي الله لأحسن له عدته ولتجمَّل.ولو أن إنساناً -ولله المثل الأعلى- أراد أن يقف بين يدي عظيم من عظماء الدنيا لتجمَّل وتزين وطلب أحسن الملابس، مع أن الذي أطعمك وكساك ورزقك هو الله جل وعلا.أتستكثر أن تلبس من رزقه، وأن تحسن لباسك وزينتك للموقف بين يديه؟ فهذا ينبغي التنبيه عليه، وينبغي على الأئمة إذا رأوا أحداً بهذه الصفة أن ينبهوه، فإن المسلمين -خاصةً في هذه البلاد- يعظمون شعيرة الصلاة، فإحداث مثل هذه الأمور تُخِل بإكرام بيوت الله عز وجل، وإكرام شعائر الإسلام التي أَمَر الله بتعظيمها وإجلالها، وصدق الله إذ يقول: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] أي: الذي يتقي الله، وكملت تقواه لله عز وجل يُعظِّم الموقف بين يديه، ويحسن التهيؤ لهذه الصلوات.فلذلك ينبغي التنبيه على مثل هذا الأمر، والنصح بلطف وإرشاد، إلا إذا كان الإنسان عنده حاجة أو ضرورة، كشخص نسي أو ذُهِل؛ لأن الناس قد يحصل منهم هذا، ولا ينبغي التعنيف والمبالغة في التقريع، بل ينبغي أخذ الناس بلطف؛ لأن ذلك أدعى لقبول الحق والرضا به. [ستر العاتقين في النافلة والفريضة] قال المصنف رحمه الله: [ويكفي ستر عورته في النفل ومع أحد عاتقيه في الفرض] الصلوات تنقسم إلى نافلة وإلى فريضة، والنفل: الزيادة.فالنفل أخف شأناً من الفريضة، بما عُهِد من أدلة الشرع، ولذلك يجوز أن تصلى النافلة في السفر على الدابة بخلاف الفريضة، فخُفِّف أمر النافلة أكثر من الفريضة، ومشى عليه الصلاة والسلام لفتح الباب في النافلة، ولم يمشِ في الفريضة.فالمقصد أن النافلة أخف من الفرض، وإذا كانت أخف قالوا: إنه إذا صلى النافلة ساتراً عورته أجزأه. وبناءً على ذلك: لو صلى في سروالٍ دون أن يستر أحد عاتقيه، أو في إزارٍ دون أن يستر أحد عاتقيه، قالوا: تجزيه. لكن عموم نهيه عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر في الصحيح أنه: (نهى أن يصلي الرجل بثوبٍ ليس على عاتقه منه شيء) يدل على العموم، ويشمل النافلة والفريضة، فالأقوى أنه يشمل الفرض والنفل، ولذلك يصلي الإنسان الفريضة والنافلة مع ستر العاتقين والعورة. [صفة ما يستر عورة المرأة] قال المصنف رحمه الله: [وصلاتها في درعٍ وخمارٍ وملحفةٍ، ويجزئ ستر عورتها]. قوله: [وصلاتها] أي: المرأة، [في درعٍ وخمارٍ وملحفةٍ] الدرع الثوب الموجود لبعض النساء يكون كالثوب الموجود للرجل، وهو ما يسمى بالفساتين تقريباً، فهو على تفصيل الفساتين الموجودة في الوقت الحالي، لكن ليس بالتفصيل المعروف المبالغ به؛ لأن السلف ما كان عندهم هذه المبالغة، إنما كان عندهم أن يُفَصَّل كالثوب. قال بعض العلماء: إن الدرع كالقميص بالنسبة للرجل يكون إلى ساتراً لأعالي البدن، ويكون بعض الأحيان سابغاً بحيث يصل إلى ظهور القدمين، وأحياناً أرفع من أن يستر ظهور القدمين -أي: غير سابغ-، ويختلف بحسب بُعدِه، وقد يرتفع. وأما بالنسبة للخمار فهو مأخوذٌ من خمَّر الشيء يُخَمِّره تخميراً: إذا غطَّاه. فأصل التخمير: التغطية، ومنه سميت الخمر خمراً لأنها تغطي العقول -والعياذ بالله-، فالخمار يغطي الرأس وتضعه من تحت الحنك، فتغطي به شعرها، وتغطي به طرف الرأس من ناحية الأذنين.وأما بالنسبة للملحفة فهي الثوب الذي يكون على سبيل الغطاء من خارج، كما هو موجود الآن بما يسمى بالعباء، فيكون في حكم العباء، وإلا هو عادةً يكون من قطع القماش التي تأخذها المرأة وتلتحف بها، وهذا موجود إلى اليوم.وهذا على سبيل الاستحباب، لكن لو أنها سترت عورتها بما يستر أو يكفي للستر، فأخذت قماشاً فسترت به جميع العورة وبقي وجهها صحت صلاتها؛ إذ لا يُشترط تعيين الدرع، ولا يشترط تعيين الخمار، ولا يشترط تعيين الملحفة؛ لأن مقصود الشرع سترها، فإذا حصل الستر فقد حصل مقصود الشرع، فتصح صلاتها.
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (61) صـــــ(14) إلى صــ(21) [حكم الصلاة في الثوب المعصفر والمزعفر] قال المصنف رحمه الله: [ويكره المعصفر والمزعفر للرجال] قوله: (ويكره المعصفر) الصحيح تحريم المعصفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ونهى عن لبسه، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث، والمعصفر نوعٌ من الثياب يُصبَغ بالعُصْفر، وهذا النوع يكون أقرب إلى لون البرتقال إذا اشتدت حمرته، فيكون الصفار داخلاً في الحمار الغامق، فهذا لون العُصْفُر، وتصبغ به الثياب، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه. وقال بعض العلماء: إن هذا يقتضي تحريم الحُمرة، أن يلبس اللباس الأحمر وهذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه لبس حلةً حمراء، فلا حرج في لبس الأحمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبسه، والمعصفَر شيء والأحمر شيء آخر، ولا يمكن الحكم بتعارض النصين إلا إذا استويا دلالةً وثبوتاً، وما ورد من الأحاديث التي فيها النهي عن الأحمر فضعيفة لا تخلو من مقال، ولذلك يبقى الأصل جواز لبس الأحمر، بل قد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لبس حلةً حمراء. والمزعفر: الذي به زعفران، وكانت تصبغ به الثياب، وثبت قوله عليه الصلاة والسلام في الْمُحْرِم في حديث ابن عمر في الصحيحين: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فالزعفران كانت تصبغ به الثياب، فيجمع بين الأمرين: طيب رائحته، وجمال لونه. قالوا: هذا يختص بهذين النوعين، لورود النهي عن لبسهما عن النبي صلى الله عليه وسلم للرجال دون النساء، أما المرأة فإنه يجوز.لكن المرأة لا يجوز لها أن تلبس المعصفر في الحداد، كما سيأتي إن شاء الله في باب الحداد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس المعصفر والممشق، وسيأتي الكلام على هذا الحديث في باب الحداد إن شاء الله. الأسئلة الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم في رحله ... ) وقوله: (لا تصلوا صلاة في يوم مرتين) q كيف يجمع بين حديث: (إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، فإنها له نافلة)، وحديث: (لا تصلوا صلاةً في يوم مرتين)؟ a أما أمره عليه الصلاة والسلام بإعادة الصلاة لمن دخل المسجد فهو ثابتٌ في أكثر من حديث: أولها: ما ثبت في الصحيح في قصة الرجلين في خيف منى: (أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح، ورآهما لم يصليا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله! كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة). ومنها: حديث أبي ذر رضي الله عنه: (صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة).فهذه الأحاديث تقتضي جواز الإعادة، وأنه يُشرع إعادة الصلاة، بل ظاهرها الأمر الذي يدل على الوجوب، وأما كيف يُجمع بينها وبين حديث ميمونة: (لا تعاد الصلاة في يوم مرتين) فقال بعض العلماء: درجة الأحاديث التي توجِب الإعادة أقوى في الصحة من حديث ميمونة، فيقدَّم الأصح على الصحيح، والأعلى ثبوتاً على ما هو أدنى، فهذا وجهٌ من يُقَدِّم حديث الأمر بالإعادة. والوجه الثاني قالوا: لا تعارض بين عامٍ وخاص، فالنهي على عمومه وهذه حالةٌ خاصة، والقاعدة: لا تعارض بين عامٍ وخاص، وهذا أقوى الأوجه، وأميل إليه، فهذان الوجهان مسلك من يقول: إنه يعيد. وأما من يقول: لا يعيد، فيتفرقون على طوائف: الطائفة الأولى يقولون: لا يعيد في صلاة كصلاة الصبح والفجر لورود النهي عن الصلاة بعد الصبح والفجر، وهذا ضعيف؛ لأن حديث خيف مِنى وقع في صلاة الصبح. وقالت الطائفة الثانية: لا يعيد المغرب؛ لأنه إذا أعادها أوتر في الليلة مرتين. ويُجاب عنه من وجهين: أحدهما: إما أن يؤمر بنقض الوتر بركعة، وهذا وجه، أو يقال: إن الوتر يبتدئ وقته بدخول وقت العشاء لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر)، فوقت الوتر جعله بين صلاة الصبح وصلاة العشاء، فإذا وقعت إعادته للمغرب وقعت قبل دخول وقت الوتر، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وتران في ليلة) أي: في وقت الوتر، وهذا مسلك صحيح وأميل إليه. فأصحاب المذهب الثاني الذي يُقدِّم حديث النهي قالوا: لا يجوز للإنسان أن يُعيد الصلاة مطلقاً فهذا يقوي حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها في نهيه أن تعاد الصلاة مرتين، ولهم أوجه في الأصول، الوجه الأول: قالوا: لأن القاعدة إذا تعارض الأمر والنهي يُقدَّم النهي على الأمر. والوجه الثاني: قالوا: إن أحاديث الأمر منسوخة بالنهي وهذا ضعيف؛ لأن الإثبات النسخي محل نظر لأمور: أولها: أحاديث الأمر بالإعادة فيها قرائن تدل على البقاء وعدم النسخ، فإنك إذا تأملت حديث خيف مِنىً وجدته من آخر ما يكون؛ لأنه في حجة الوداع، وما عاش النبي بعد حجه صلى الله عليه وسلم إلا شهوراً يسيرة، ولذلك يقوى بقاء الحكم. الأمر الثاني: أن القاعدة في الأصول أن النسخ لا يثبُت في الأخبار، فكيف إذا ترتبت الأحكام على الأخبار؟ فلو قال لك: إن النهي عن إعادة الصلاة أقوى من الأمر بإعادتها، وتقول له: كيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر أنه إذا كان أميراً عليه مَن يؤخِّر الصلاة أنه يُعيد، ويتعلق الحكم بما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.فلا يتأتى الحكم بالنسخ، ولذلك الذي تميل إليه النفس أننا نقول: أحاديث النهي عامة، وأحاديث الأمر بإعادة الصلاة خاصة، فيُقَدَّم الأمر بالإعادة على النهي.وهناك وجه ثان أشار إليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد، وهو قويٌ أيضاً، يقول: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إعادة الصلاة مرتين محمولٌ لمن يعتقد الفرض فيهما، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (فإنها لكما نافلة)، فيكون نهيه عليه الصلاة والسلام عن إعادة الصلاة مرتين فيه إطلاق، وأمره بالإعادة بنية النفل فيه تقييد.وهذا أيضاً وجه قوي يعتضد مع المسلك الأصولي الذي قلناه، وبهذا لا تعارض بين هذه الأحاديث، والله تعالى أعلم. [حكم شراء كاميرا لتصوير الأهل عند الحاجة والضرورة] q هل يجوز شراء كاميرا لتصوير الأهل لعمل جواز سفر أو لاستخراج الهوية؟ a لا حرج إذا كان الإنسان يريد أن يصور أهله بدلاً أن يصورهم الغريب، فلا حرج في ذلك؛ لأنه مضطر وهي مضطرة، فلا إثم على الفاعل ولا على المفعول به، بل هذا من كمال الغيرة على الأهل، حتى لا يطلع الأجنبي عليهم، بل قد يجب هذا، ولذلك قرر العلماء أنه إذا أريد ختان المرأة، وأمكن ختانها عن طريق زوجها قالوا: إنه في هذه الحالة يتولَّى ختانها زوجها، ولا يجوز أن يُعدل إلى الأجنبي أن يختنها، حتى ولو كانت امرأةً مثلها. [حكم رسم الحيوان أو جزء من الإنسان للطلاب في المدارس] q ما حكم رسم صور الحيوانات للطلاب في المدارس، وما حكم رسم جزء من جسم الإنسان أو رسم خيال لرأس الإنسان؟ a أما بالنسبة لمسألة التصوير فإذا كان الإنسان مضطراً إليها غير مختار فقلنا: إن هذا لا يكون في حكم المحرم، فلو أن إنساناً ألزم بها فلا حرج، لكن عليه أن يتقي الله ويتقيد بقدر الحاجة، والزائد عن الحاجة لا يجوز.أما رسم الظل، فبعض العلماء يقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الصورة الوجه) يقتضي التحريم إذا كان التصوير بالمماثلة والمشابهة بحيث يحاكي المصوَّر في رسم أعضائه وبيانها، فإذا كانت الصورة تتضمن أجزاء الوجه من العينيين والأنف فإنها محرمة، وأما إذا كانت ظلاً؛ كأن يظلل بالجِرم دون وجود التفاصيل قالوا: هذا يُغتفر والحقيقة أن فيه شبهةً، فيكون بمقام المتردد بين الحلال والحرام؛ لأنه ليس بالصورة المحضة، ولا بخالٍ عن وصف الصورة لوجود الشبهة في الظل، ولذلك يُتَّقى لما فيه من بالغ التورع كما قال صلى الله عليه وسلم: (وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، والله تعالى أعلم. [حكم تغطية الفم في الصلاة لبرد] q ما الحكم إذا تلثم الشخص لبردٍ أو حساسية من ريح؟ a أما بالنسبة للتلثم للبرد والريح أو بسبب عطر أو رائحةٍ كريهة فهذا مستثنى؛ لأنه مضطر، والله عز وجل لا يكلِّف الإنسان ما ليس بوسعه، فإنه إذا شم هذه الرائحة تضرر، ولربما شُغِل عن الخشوع في الصلاة، والتفكر في الآيات والتدبر فيها بسبب ما يختلج النفس من الضعف بسبب هذه الرائحة، فلا حرج في تلثمه كما ذكر العلماء رحمهم الله ذلك، أما إذا لم توجد الحاجة فإنه لا يتلثم ويبقى على الأصل، والله تعالى أعلم. [حكم السجود على طرف العمامة] q ما الحكم إذا سجد الشخص على طرف العمامة إذا كان لابساً لها؟ a مذهب طائفة من العلماء أنه إذا حصَّل السجود على الأنف أنه يصح سجوده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنفه. وقال بعض العلماء: لا يصح إلا إذا سجد على جبهته، وكور العمامة إذا منع السجود على الجبهة لا يصح، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة وخلاف العلماء فيها. [حكم الإسبال من غير خيلاء للحاجة] q قال شارح الزاد: ويجوز الإسبال من غير الخيلاء للحاجة فما توجيهكم لهذا القول؟ a مذهب الجمهور أن من أسبل إزاره لا حرج عليه إذا كان لغير خيلاء، واحتجَّوا له بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه لما سأله أبو بكر وقال: (يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهده، فقال: إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء).؟ واحتجوا أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، وكلا النصيين محل نظر، فإن الصحيح أنه لا يجوز إسبال الإزار مطلقاً ولو كان لغير الخيلاء، وذلك لورود النصوص التي تدل على ذلك، منها: ما ثبت في الحديث الصحيح من قوله: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار). وأما حديث: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) فإن الوعيد في جر الثوب بالخيلاء مبنيٌ على نفي النظر، والوعيد لمن أرخى ثوبه أسفل من الكعبين بالنار، والقاعدة أن حمل المطلق على المقيد شرطه اتحاد المورد، فهذا واردٌ في الجر، وهذا واردٌ في الإسبال.وبناءًَ على ذلك يبقى حديث الإسبال على الأصل أنه للتحريم، ونقول: الوعيد بنفي النظر وعيدٌ خاص زائدٌ على العقوبة بالنار؛ لأن هذا النص دل على حكم وهذا النص دل على حكم. فنقول: كل من أسفل عن الكعبين فإنه يعذب بالنار، كما ثبت في الحديث الصحيح، ومن جر فقد زاد على كونه ظالماً بما أسفل عن الكعبين بالخيلاء. ويبقى الإشكال في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء).والحقيقة هذا الحديث يحتاج إلى نظر، وتأمل ألفاظ الحديث: (إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهده)، والإزار مثل الفوطة أو الإحرام الموجود الآن، فعند ربطك له قد ينحل بسبب المشي فيسقط، فقال أبو بكر رضي الله عنه: (إن أحد شقي إزاري يسترخي)، فهل معناه أن الثوب بذاته طويل، أم أن الوصف بالسقوط والزيادة على الموضع وصفٌ عارض؟ الجواب: وصفٌ عارض، وإذا كان وصفاً عارضاً فإنه لا يُشبه الثوب بحال.وهذا واضح جداً ولا إشكال فيه، فقوله: (إن أحد شقي إزاري يسقط إلا أني أتعاهده، فقال: إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء) معناه: أنني أسهو ولا أنتبه إلا أن أتعاهده، أي: انتبه له، ومعناه أنه إذا انتبه إلى وجوده جره، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنك لست ممن يصنع ذلك خيلاء)، فدل على أن من ترك ثوبه يُجر أنه ممن جرّه خيلاء؛ لأن أبا بكر كان يسقط الإزار عنه دون علم؛ لقوله: (إلا أني أتعاهده)، وأنه متى علم كف، فكيف يُقال لك أن تُرخي الإزار مع علمك ولا حرج عليك ولا تكفُّه؟ فهذا شيء وهذا شيء.ولذلك حديث أبي بكر يحتاج إلى تأمل، وليس فيه دليل على جواز الجر من غير الخيلاء البتة؛ لأنه ذكر صورةً معينة قيَّد الحكم بها، فقال: (إنك) أي: ما دمت على هذه الصفة من كونك رافعاً له عند العلم فلست ممن يتوعد بالعذاب بالخيلاء. وهذا أمر واضح جداً ليس فيه معارضة للنص الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار). قال العلماء: إن العبد يعذب بالعضو الذي عصى الله به، كقوله عليه الصلاة والسلام: (ويلٌ للأعقاب من النار) قالوا: لما ترك العقِب في الوضوء، عذب في الموضع الذي عصى الله به، فإذا نزل الإزار عن الكعبين فقد عصى الله بالزيادة، فيعذب في موضعهما، أي: تكون النار في هذا الموضع، وإذا بلغت النار إلى الكعبين فقد ثبت في الحديث الصحيح أن أهون الناس عذاباً يوم القيامة هو أبو طالب حين يوضع في ضحضاح من نار يغلي بهما دماغه -والعياذ بالله-، وهو يظن أنه أشد الناس عذاباً في النار، وهو أهونهم، فكيف إذا كان ما أسفل الكعبين كله في النار؟! نعوذ بالله، فنسأل الله أن لا يعرضنا لسخطه، ونسأل الله تعالى أن يعصمنا بعصمته، وأن يلطف بنا برحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (66) صـــــ(7) إلى صــ(10) [العلامات التي يستدل بها المسافر ونحوه على القبلة] قال رحمه الله تعالى: [ويُستدل عليها في السفر بالقطب والشمس والقمر ومنازلهما]. قوله: [ويستدل عليها بالسفر] أي: في حال السفر؛ لأن الباء تأتي بعشرة معانٍ، ومنها الظرفية.تعد لصوقاً واستعن بتسبب وبدِّل صحاباً قابلوك بالاستعلاء وزد بعضهم يميناً تحز معانيها كلا فمن معانيها الظرفية، تقول: محمدٌ بالبيت، أي: في البيت.فُستدل على القبلة بالسفر -أي: في حال السفر- بالقطب، والقطب نجمٌ صغير خفي، والمراد به القطب الشمالي، ويكون بين بنات نعش الصغرى، وهو لا يكاد يظهر إلا في الليالي المقمرة، ويستدل عليه بالجَدي وبالفَرقَدَين، والفرقدان: النجمان اللذان يدوران على القطب، والقطب ثابت لا يتحول، ولكن دورتهما خفيفة، وبقية النجوم التي تراها حوله تدور حوله ومحيطة به كإحاطة الرحى، ولذلك يقولون: سمِّي قُطباً من هذا الوجه، ويستدل عليه إما بالجدي، وإلا بالفرقدين، ويحتاج إلى إنسان له علم وبصيرة بموضعه.وهذا القطب يكون في الجهة الشمالية، وفي بعض المواضع يمكن للإنسان أن يحدد موضع القبلة على حسبه، فإذا كان الإنسان في الشام، أي: في جهة الشمال، ووَضَعه وراء ظهره، ووراء أذنه، قالوا: هذا يُعد مستقبلاً للقبلة، وإذا كان في جهة اليمن يجعله في وجهه، كما قيل: مَن واجه القطب بأرض اليمن وعكسه الشام وخلف الأذُن يُمنى عراقٍ ثم يُسرى مصر قد صححوا استقبالها في العمر ففي اليمن يجعله في وجهه؛ لأنه يكون في الجنوب فيَعكِس؛ لأن من كان في جنوب الجزيرة تكون قبلته في الشمال، فيجعل القُطب في شماله، وإذا كان في الشمال سيكون الأمر بالعكس، فيجعل القطب وراءه، ويكون في يمين مَن كان في جهة العراق، ويَسار من كان في جهة مصر، فهذا المشرق وهذا المغرب، فيُستدل بالقطب، وهو دليلٌ ثابت، هذا إذا كان يعرفه، ويمكنه أن يهتدي إليه. قوله: [والشمس والقمر ومنازلهما].كذلك الشمس والقمر، فلو فرَضنا أن إنساناً أراد أن يصلي الصبح قضاءً، حيث استيقظ بعد طلوع الشمس، فهو يعلَم أن الجهة التي فيها الشمس الآن هي المشرق، ويقابلها تماماً المغرب، فإذا كانت قبلته في جهة الشرق استقبل جهة طلوع الشمس، وإذا كانت في جهة الغرب استقبل جهة غروب الشمس العكسية، وجعل الشمس وراء ظهره عند الإشراق.لكن ينتبه لفصل الشتاء وفصل الصيف؛ لأنها في فصل الشتاء تنحرف إلى جهة الشمال، وتكون عند مهب الصبا في الشتاء، فينتبه لهذا الانحراف في الدرجات حتى يُراعِي السمت والجهة، ويكون أقرب إلى إصابة جهة الكعبة.وكذلك منازل القمر، فلو أنه في الليلة الأولى رأى الهلال فإنه يعلم أنها جهة المغرب، فإذا أراد أن يستقبل القبلة وكانت هذه جهة المغرب التي فيها الهلال فمعناه أن التي يخالفها المشرق.فإن كان من أهل المغرب جعل الهلال وراء ظهره واستقبل عكس الجهة التي هو فيها، وإن كان من أهل المشرق جعله في جهة المغرب؛ لأن قبلته ستكون في المغرب. قوله: [ومنازلهما] للقمر منازل، فمثلاً في الليلة السابعة لو أن الإنسان في المشرق يكون القمر مواجهاً له، بحيث لو استقبله يكون على القبلة، فهذا في الليلة السابعة؛ لأنه في كل ليلة يكون للقمر منزلة، وهي ثمانٍ وعشرون منزلة.والمقصود أنه يتعلم هذه الأمارات والعلامات ويطبِّقها، وهذا إذا كانت السماء صحواً وأمكنه أن يعلم، أما إذا كانت مغيمة فحينئذٍ يكون الحكم شيئاً آخر، فيستدل إذا وُجِد الإمكان للاستدلال، لكن لو لم يمكن له الاستدلال لوجود الغيم فحينئذٍ لا يُكلَّف بالاستدلال لعدم وجود الأمارات والعلامات، والأصل في اعتبار هذا الدليل وهذه الأمارات قول الله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، وهذه من نعم الله عز وجل.وذكر لنا بعض مشايخنا رحمة الله عليهم -وقد كان يفسِّر لنا قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63]- أنه كان في صِغَرِه مسافراً من مصر إلى مكّة من أجل الحج، وهذا الكلام قبل قرابة ثمانين سنة، وقد توفِّي الشيخ وكان من العلماء الأجلاء رحمة الله عليه، يقول: كنا في الليل في السفينة، وكنت بجوار الذي يقود السفينة، فوجدته ينظر إلى السماء ويقود، وكنت صغير السن، فعجبت؛ فسألته وقلت له: كيف تقود وأنت تنظر إلى السماء؟ قال: إن بعض الشعاب المرجانية الموجودة في البحر يُستدَل عليها بالنجوم، فبعض النجوم تدل على مواضعها.ولا يقف الأمر عند العلامات والأمارات التي تكون بالجهات، بل حتى ساعات الليل من ناحية أوله وأوسطه وآخره، فالثلث الأول والثلث الأوسط والثلث الأخير يدل على ذلك إذا ضبطها الإنسان، فكل شيء موزون، وليس في الكون اختلاج؛ لأنه من صنع اللطيف الخبير والحكيم البصير سبحانه الذي لا يمكن أن تجد في خِلقته أو صنعه أي خلل، وخلَق كل شيءٍ فقدَّره تقديراً.وقد وضع بعض الخبراء في موضع ما ثقباً صغيراً لا يدخل ضوء الشمس منه إلا في لحظة معينة من السنة كلها، وهذا يدل على أن مجرى الشمس ثابت لا يمكن أن يتحول شعرةً واحدة، وهو يوم معين في السنة خاصة على الأيام التي تكون منضبطة بالأشهر الشمسية، فالشاهد من هذا أن هذه العلامات والأمارات ثابتة، وعلم النجوم محرَّم إذا كان يُتوصل به إلى ادعاء علم الغيب، أو يتوصل به للاعتقاد بالنجوم كما هو مذهب السامرة الذين يعبدون النجوم والكواكب -والعياذ بالله-، وهم قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهذا كفر -والعياذ بالله-، ويعتبر ردة وخروجاً عن الإسلام إذا اعتقد الإنسان أنها تنفع وتضر، كالاعتقاد في بعض النجوم أنها إذا ظهرت كان بلاءٌ وشقاءٌ على الناس، أو إذا اختفت أن ذلك نعمة ويسر، ويسمون هذا سعد السعود، وهذا سعد الذابح ونحو ذلك، فلا يجوز الاعتقاد في الكواكب ولا في النجوم، وإنما يعتقد في الله سبحانه وتعالى الذي يحكم ولا يعقَّب حكمه وهو الحكيم الخبير، فالمقصود أنه يجوز الاهتداء بالنجوم وبالكواكب وبالشمس وبالقمر لمن يعرف هذا الدليل. قال بعض العلماء: يجب على الإنسان إذا سافر أن يكون على علم بهذا الدليل، وإذا تركه يأثم؛ لأنه تلبَّس بالحاجة، وإذا تلبس الإنسان بالحاجة يجب عليه تعلم علمها، وكذلك يقولون: يجب تعلم أحكام البيع لمن تلبس بالبيع، ويجب تعلم أحكام التجارة لمن تلبس بالتجارة، وأحكام الحج لمن أراد الحج، وكذلك هنا من أراد السفر ينبغي أن يتعلم هذه الأمارات والعلامات حتى يكون آمناً أو سالماً في دينه.وهناك أدلة أخرى لم يذكرها المصنف، ومن أضعفها الرياح، فقد ذكر الإمام النووي رحمه الله أن للقبلة أدلة كثيرة، حتى أُلِّفت فيها مؤلفات، وكثيرٌ منها مخطوط، ويقول: إن أضعفها الرياح.فالريح أحياناً يستدل بها على القبلة، كالصبا والدبور والشمال والجنوب، فهذه كلها رياح يُستدل بها على الجهات، خاصةً إذا كان الإنسان غالب حاله في البر فإنه يضبط هذا، فأهل البر عندهم علم وخبرة بذلك.وأذكر أنني ذات مرة زرت بعض المناطق التي على الساحل، فقال أحد المشايخ الفضلاء: إنه إذا جاء الزوال هبت الرياح من البحر، وكانت في أول النهار تهب الرياح إلى داخل البحر، وإذا جاء الزوال هبت من البحر، ثم لا نلبث أن نمكث ثلاث ساعات إلى ساعتين ونصف حتى تهب إلى داخل البحر، ثم إذا جاء العشي أو آخر النهار هبت من البحر، فانظر إلى رحمة الله ولطفه؛ لأنهم في أول النهار يحتاجون الدخول إلى البحر، فسخرها سبحانه على البحر، ثم إذا قضوا معاشهم في منتصف النهار احتاجوا للرجوع فسخرها الله على البر، ثم إذا قضوا واستجموا كانوا أحوج ما يكونون للدخول، فيسخرها الله على البحر ويرسلها على البحر ثم يعيدها إلى البر، وهذا كله من لطف الله سبحانه وتعالى. [اختلاف مجتهدين في القبلة] قال رحمه الله تعالى: [وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهةً لم يتبع أحدهما الآخر ويتبع المقلد أوثقهما عنده]. إذا اجتهد المجتهدان فلن يخلو اجتهادهما من حالتين: إما أن يتفقا وإما أن يختلفا، فإذا اتفقا على الجهة وجب عليهما أن يصليا على هذه الجهة، ويأتمُّ كلٌ منهما بالآخر والجماعة فرضٌ في حقهما؛ لأن صلاة الجماعة خاصة على المذهب واجبة، وهذا هو الصحيح لدلالة السنة، ففي هذه الحالة إذا اتفق اجتهادهما لزمتهما الجماعة، ووجب عليهما أن يقيما الجماعة، ويأتم أحدهما بالآخر؛ لأنه يعتقد أنه يصلي إلى القبلة. لكن لو أن أحدهما قال: القبلة هنا، وقال الثاني: القبلة هنا، فحينئذٍ ينبغي النظر في دليل كلٍ منهما، فإن كان لا يمكن الجمع بين الدليلين والنظر إلى الأصوب منهما فحينئذٍ يصلي كل واحدٍ منهما إلى جهته، ولا يأتم أحدهما بالآخر؛ لأنه إذا ائتم به اعتقد بطلان صلاته؛ لأنه يصلي على غير جهة القبلة. وقال بعض العلماء: الشروط مسامحٌ فيها إذا اختلف حال المأموم والإمام.لكن لا أحفظ أن منها القبلة، والمحفوظ في شرط الطهارة والوقت، مثال ذلك: لو أن حنبلياً يرى صلاة الجمعة قبل الزوال، قالوا: يسوغ للمالكي والحنفي أن يصلي الجمعة وراءه؛ لأنها صحيحةٌ في أصلها من جهة المكلف، وقالوا: كذلك أيضاً لو أن من يرى أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء جاز لمن يرى أنه ناقض أن يصلي وراءه، قالوا: فالخلاف في الفروع يرتفع في الاقتداء.وهذا مذهب المحققين، وقد نبه على ذلك ابن عابدين في حاشيته، وابن الهُمَام في فتح القدير، وأئمة المالكية كما في شروح المختصر، حيث يقولون: يرتفع الخلاف في الفروع في مسائل الاقتداء، ونبه عليه الشافعية ومنهم الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم، وفي روضة الطالبين، فذكر أن الخلاف في الفروع يرتفع، ويجوز للإنسان أن يصلي وراء من يرى أن مذهبه مرجوحٌ.وعلى هذا فرّع بعض العلماء مسألة الاقتداء، ولكن فُرِّق بينهما بأن الجهة تخالف الطهارة؛ لأن الطهارة أنت متطهر، قالوا: إنه متطهر في نفسه فصحَّت الصلاة.فالشاهد أن اقتداء المجتهدين بعضهما ببعض لا يتفرع إلا على مسألة من يرى اغتفار الخلاف في الفروع.لكن لو فرضنا أن الخلاف في الفروع مرتفع، وأنه يجوز أن يقتدي أحدهما بالآخر فمن الذي يكون إماماً؟ إذ ربما يقول أحدهما: أنا أريد أن أكون إماماً حتى أخرج من الإشكال ومن خلاف العلماء. ويقول الآخر: لا، بل أنا الإمام. فقالوا: العبرة بالإمام في الأصل، فإن تشاحَّا جرت بينهما القرعة، فمن خرجت القرعة له فالقبلة ما رجَّحه، هذا بالنسبة إذا حصل خلاف بينهما.وهذا على القول بأنه يأتم أحدهما بالآخر، أما على القول أنهما لا يأتم أحدهما بالآخر كما ما رجح المصنف فلا إشكال. قوله: [ويتبع المقلد أوثقهما عنده] المقلد: هو الذي لا يستطيع أن يجتهد، وليس عنده علم بأدلة القبلة، ولا يعرف القطب، ولا يعرف منازل القمر، ولا يعرف كيف يهتدي إلى جهة القبلة.فلو كان هناك مجتهدان واختلفا، وكان معهما عوام، فمن يتبع العوامُ؟ قالوا: ينظر العامي إلى أقربهما أو أعدلهما أو أوثقهما في نظره، فإن رأى أن أحدهما أكثر ضبطاً وأكثر علماً ائتم به، وهذه المسألة التي يلغزون فيها ويقولون: عاميٌ يجتهد في المجتهد لأن المجتهدين كلٌ منهما توفرت آلته، قالوا: فيجتهد فيهما، فينظُر أيهما أقرب إلى الخير أو أكثر علماً ويصلي وراءه. وقال بعض العلماء: يُستثنى من هذا إذا كان أحدهما أميراً في السفر وهو إمامهم، فحينئذٍ تتبعه لمكان حق الإمارة؛ لأن إمامته هي المنعقدة، فالمأموم تبعٌ لهذا الأمير في سفره. [حكم الصلاة بغير اجتهاد ولا تقليد إلى غير القبلة] قال رحمه الله تعالى: [ومن صلى بغير اجتهادٍ ولا تقليدٍ قضى إن وجد من يقلده].لو أن شخصاً لا يعرف أن يجتهد، وعنده إنسان عنده علم ومعرفة بجهة القبلة ولم يسأله ولا تابعه بجهة القبلة، وإنما جاء من نفسه وصلى إلى غير القبلة، فإنهم قالوا: صلاته باطلة؛ لأنه اجتهد من نفسه، وهو لا يحق له أن يجتهد، مع إمكان اطلاعه على جهة القبلة من جهة الاجتهاد، ولذلك ما دام أنه بوسعه أن يسأل هذا المجتهد، وأن يرجع إلى مَن هو أعلم منه يُلزم بعاقبة تقصيره، ويُطالب بإعادة الصلاة ولو طالت مدة هذه الصلاة، فلو جلس شهراً ثم سأل يلزم بإعادة الصلاة؛ لأنه صلى إلى غير قبلة، فالذي ليس عنده علم أو إلمام بجهات القبلة مع إمكانه أن يسأل مفرط، فيلزم بعاقبة تفريطه؛ لأن الله لا يأذن له أن يجتهد لنفسه ما دام أنه غير محصِّلٍ لآلة الاجتهاد. [الاجتهاد في تحديد القبلة لكل صلاة] قال رحمه الله تعالى: [ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاةٍ].قررنا أن المجتهد يجتهد، فإن كان عندك علم أن جهة القبلة في هذه الناحية، فصليت البارحة العشاء في هذه الجهة، فإن أصبحت وجاء الفجر فهل تبقى على اجتهادك الأول أم تجتهد اجتهاداً جديداً؟ لأنه ربما في الليل تهتدي بالقطب، ولكن في ليلة ثمانٍ وعشرين ربما تجتهد بطلوع القمر هلالاً من جهة المشرق، فيكون عندك دليل قد يكون أقوى من استدلالك بالقطب في الليل، فبعض الأحيان قد يحصل عند الإنسان في اجتهاده اختلاف على حسب الأدلة والأوقات، ولذلك قالوا: كل صلاةٍ يستأنف الاجتهاد فيها وهذا هو الصحيح، حتى يكون محصِّلاً للأصل، وهو كونه مطالباً بالنظر والاستدلال. قال رحمه الله تعالى: [ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول]. إذا اجتهد ثانية لا يخلو من حالتين: إما أن يوافق اجتهاده الثاني اجتهاده الأول فلا إشكال، كما لو صلى العشاء على هذه الناحية، فلما استيقظ الفجر اجتهد فوجد أن القبلة على هذه الناحية، لكن الإشكال لو أنه صلى العشاء على هذه الناحية، ثم اجتهد فوجد أن القبلة في هذه الناحية أو على العكس تماماً من الجهة التي استقبلها، قالوا: يصلي على اجتهاده الثاني ومضت صلاته على اجتهاده الأول؛ لما ثبت عند أبي داود والدارقطني والبيهقي وحسنه غير واحد من حديث سعد بن عامر رضي الله عنه: (أنهم كانوا في سفر في ليلةٍ ذات غيم فأرادوا الصلاة فنظروا -أي: اجتهدوا-، فلما أصبحوا إذا بهم على غير قبلة، قال: فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد مضت صلاتكم) أي: ما دمتم أنكم اجتهدتم وتحرَّيتم فقد مضت صلاتكم، أي أنها معتبرةٌ وصحيحة.
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (68) صـــــ(1) إلى صــ(6) شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [8] من المعلوم أن النية في العبادة لها شأن عظيم، خاصة في الصلاة؛ لأنها هي التي تميز بين الفريضة والنافلة، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على اشتراطها في الصلاة، ومحلها هو القلب، ولها أحوال وأحكام ينبغي معرفتها. [شرط النية في الصلاة ودليله] بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها النية] ما زال المصنف رحمه الله يبين شروط الصلاة، وقد تقدمت جملٌ منها وبقي هذا الشرط الأخير وهو شرط النية، فقوله رحمه الله: [منها] أي من الشروط التي ينبغي توفرها للحكم بصحة الصلاة وجود النية. والنية في اللغة: القصد، يقال: نوى الشيء ينويه نيةً (بالتشديد) ونيةً (بالتخفيف)، أي: قَصَدَه. وأما في الاصطلاح: فهي القصد لفعل العبادة تقرباً إلى الله عز وجل، وقد تقدم الكلام على هذا الضابط وبيان الفرق بينه وبين من عبر بالعزم. أي: يشترط لصحة الصلاة أن تنويها، فإذا فقدت النية حكم بعدم اعتبار الصلاة، وهذا ينبني عليه أنه لا تصح فريضةٌ إلا بنية، ولا نافلةٌ معينةٌ إلا بنية، أما إذا كانت الصلاة من النفل المطلق فإنها لا تُشترط لها النية، وإنما يقصد التقرب إلى الله عز وجل بفعل الصلاة. والدليل على اشتراط النية قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، فهذا الحديث المتفق على صحته دل على أن اعتبار الأعمال وصحتها مترتبٌ على النية، وإذا ثبت أن الأعمال اعتبارها موقوفٌ على النية يتفرع عليه ألا عمل إلا بنية.والصلاة من الأعمال، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها عملاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملاً، وقال في حديث عمر في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات). فللإنسان أن يقول: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت بحديث عمر أن الأعمال اعتبارها وصحتها بالنية، والصلاة عملٌ كما ثبت في الحديث الصحيح الذي ذكرنا، إذاً لا صلاة إلا بنية.وعلى هذا فإنه إذا لم ينو الصلاة فإنها لا تصح، فلو لم ينو الظهر وصلى أربعاً لم تصح لإبراء ذمته، فيُطالب بإعادة الظهر، ولو صلى أربعاً في وقت العصر ولم ينو أنها عن العصر فإنها تقع نفلاً محضاً، ويُلزم بفعل صلاة العصر، وهكذا في المغرب والعشاء والفجر، فلا بد من قصد الصلاة وتعيينها. [حكم استحضار النية عند الصلاة] قال المصنف رحمه الله: [فيجب أن ينوي عين صلاةٍ معينةٍ، ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن]. قوله: (فيجب) الفاء للتفريع، أي: إذا علمت أن النية لازمةٌ فإنه يتفرع على ذلك أنه يجب على المكلف أن ينوي الصلاة المعينة، ويستوي في ذلك أن تكون فريضةًَ أو نافلة، فالصلاة المعينة من الفرائض كصلاة الظهر ينوي أنها ظهر، وصلاة العصر ينوي أنها عصر، وهكذا المغرب والعشاء والفجر، وهكذا لو نذر صلاةً؛ فإن الصلاة المعينة تنقسم إلى قسمين: نفل وفرض، فالفرض كالصلوات الخمس، وفي حكمها الصلاة المنذورة، فلو أن إنساناً قال: لله عليّ أن أصلي اليوم مائة ركعة؛ فإنه حينئذٍ يُلزم بهذه المائة، ويُعتبر نذراً يجب الوفاء به؛ لأنه نذر طاعة، فيجب عليه أن يعين هذه الصلوات التي يصليها لنذره.وهكذا بالنسبة للنافلة، والنافلة تنقسم إلى قسمين: النافلة المعينة والنافلة المطلقة التي هي غير مقيدةٍ، كإنسانٍ يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل بصلاةٍ دون أن تكون لراتبةٍ أو وترٍ أو نحو ذلك، فالمقصود أن النافلة تنقسم إلى هذين القسمين: نافلةٍ معينة كالوتر والسنن الراتبة القبلية والبعدية وصلاة الضحى، فهذه توصف بكونها نافلةً معينة، ونافلةٌ مطلقةٌ، كإنسانٍ يريد أن يتقرب إلى الله، فتوضَّأَ وصلى ركعتين -على القول بأن ركعتي الوضوء ليست من النوافل المعينة-، أو صلى ناوياً التقرب إلى الله عز وجل بمطلق النفل، فهذه تعتبر نافلةً غير مقيدة.فإذا ثبت أن الفرائض معينة، وهناك نوافل معينة وغير معينة فيجب عليك إذا أردت أن تؤدي الفرائض أن تعيِّنها، فتعيِّن الظهر وتعين العصر وهكذا بقية الفروض، وتعيِّن الوتر وتعين السنن الراتبة في النوافل، فلو أن إنساناً أحرم قبل صلاة الظهر بين الأذان والإقامة دون أن يُعيِّن أنها للراتبة القبلية صحت نفلاً مطلقاً، ولا نقول: إنها تحل محل الراتبة القبلية؛ لأن الراتبة القبلية نافلةٌ مقيدة ومعينة، فلا بد من تعيينها والقصد إليها، فإذا لم يُعينها ولم يَقصد إليها فإنها لا تعتبر لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فهذا نوى النافلة المطلقة فلا تجزيه عن النافلة المقيدة. وقوله: [ولا يشترط في الفرض والأداء والقضاء والنفل والإعادة نيتهن] أي: ولا يشترط في الفرض أن ينوي فرضاً، فالإنسان إذا أراد أن يصلي الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر لا يُشترط أن ينوي الظهر فريضةً، وإنما ينوي الظهر، فإذا نوى الظهر أجزأه ذلك.أما تفصيل المنوي فإنه يؤدي إلى الاسترسال، والمؤدي إلى الاسترسال باطل؛ فإنه لو قلنا بوجوب أن ينوي الفرض فرضاً، لزِمه أن ينوي أداءً أو قضاءً، ثم حاضراً أو مسافراً، أربع ركعات أو ركعتين، مع إمامٍ أو منفرد، فيسترسل إلى ما يضر بالناس ويوجب الوسوسة لهم والحرج عليهم، وكل ما أدى إلى باطلٍ فهو باطل، ولذلك اكتُفي بتعيين الفرض، فإن نوى أنها للظهر فهي ظهر، فلا نلزمه بنية أنها فرض، ولا نلزمه بنية أنها أداءٌ أو قضاء.ويتفرَّع على هذا لو دار بخلده أن الشمس لم تطلع بعد في صلاة الفجر، فأحرم بالصلاة ظاناً أن الشمس لم تطلع وفي نيته أنه يؤدي، ثم تبين أن الشمس قد طلَعت، فحينئذٍ يجزيه ولا يُطالب بالإعادة؛ لأنه لا يشترط تعيين الأداء والقضاء، فإذا أُلزِم بتعيين المؤاداة والمقضية لم يصح إيقاع إحداهما عن الأخرى، وهذا وجه إسقاط اشتراط الأداء والقضاء والفرض.فغاية ما يطالب به المكلف أن ينوي عين الفرض، سواءٌ أكان من الفروض الخمسة أم كان من الفرائض التي جاءت بأسبابها، كركعتي تحية المسجد عند من يقول بوجوبها، ينوي أنها تحيةٌ للمسجد.وهكذا لو قلنا بوجوب ركعتي الطواف في الطواف الركن، فإنه ينوي أنها عن طوافه الركن، وقس على هذا. [وقت استحضار النية] قال المصنف رحمه الله: [وينوي مع التحريمة].بعد أن بين لك رحمه الله لزوم النية، وما هو الشيء الذي يُنوى له، يردq أين موضع النية؟ فقال: [ينوي مع التحريمة]، أي: مع تكبيره للإحرام. وللعلماء قولان: القول الأول: المعتبر في النية أن تصاحب تكبيرة الإحرام، ولا يصح أن تقع قبل تكبيرة الإحرام ولو باليسير. والقول الثاني: المعتبر في النية وقوعها مع التكبير أو قبله ولو بزمنٍ يسير ما دام أنه في الوقت، كما درج عليه المصنف، والسبب الذي جعل بعض العلماء يقول: لا بد في النية أن تصحب تكبيرة الإحرام، هو البناء على أنها ركن، والركن لا بد وأن يكون من الشيء لا خارجاً عن الشيء، ولذلك قالوا: لا بد أن تصحب النية تكبيرة الإحرام.ومن هنا لو أنها سبقت تكبيرة الإحرام فهو ركنٌ منفصلٌ عن الماهية وذات الشيء، وإذا انفصل الركن عن الماهية وذات الشيء لم يُعتد به، فهذا وجه من يقول: إذا سبقت نيته تكبيرة الإحرام لم تُجزِه، والعبرة بوقت التكبيرة. والقول الثاني: -وهو أقوى، وإن شاء الله أنه أصح كما درج عليه المصنف رحمه الله- أن العبرة بالمصاحبة أو ما قاربه، فالصحيح أنها شرطٌ للصحة وأنها ليست بركن، وشروط الصحة منها ما يكون قبل فعل الصلاة ومنها ما يكون داخل الصلاة، ولذلك فإنه ينوي ولو قبل الصلاة بيسير، فإذا كان الفاصل يسيراً أجزأه ولا حرج عليه، بل قال بعض العلماء: إنه لو خرج من بيته بعد أذان الظهر قاصداً إلى المسجد فإنَّا نستصحب نيته التي خرج من أجلها وهي السبب الباعث، فلا نلتفت للتفصيل بعد ذلك.والأولى والأقوى ما قلناه أنه ينبغي أن يقارب الفعل؛ لظاهر دليل السنة على لزوم أن تكون النيات مع تكبيرة الإحرام.ومما يُصَحِّح أنه يجوز تقدمها على تكبيرة الإحرام بقليل أن المكلف عند تكبيره للإحرام يستشعر الذكر الذي يذكره وهو تكبيره لله عز وجل؛ لأن المسلم مطالبٌ أن يذكر الله وهو حاضر القلب لا غافلاً عما يقول، فلو قلنا: إن النية يلزم أن تكون مصاحبةً من كل وجه فإن هذا يؤدي إلى الاشتغال، ويكون لفظه بالتكبير دون التفاتٍ إلى المعنى؛ لأن الله تعالى ما جعل لرجلٍ من قلبين في جوفه، فأنت إذا قلت له: انو الصلاة وكبر وأنت مستشعرٌ للتكبير امتنع أن يجتمع الأمران في محلٍ واحد لا يقبل الاجتماع. ولذلك نقول: صحة جواز كونه قاصداً قبل الصلاة بيسير يُنَزَّل منزلة القصد المصاحب، ومن القواعد المعلومة أن ما قارب الشيء أخذ حكمه، ولذلك نقول: إنه يصح منه أن ينوي وهو قريبٌ من الصلاة، ولا حرج عليه في ذلك.وهذه النية التي تكون مصاحبةً لتكبيرة الإحرام تكون بالقلب ولا يتلفظ بها، وعلى هذا ظاهر سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول الأئمة الأربعة، وإنما خرَّج بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي من قول الشافعي أن الصلاة تنعقد بالقول، خرَّجوا منه وجوب النية أن تكون باللفظ ولا تكون سراً، وهذا القول الذي قاله الإمام الشافعي -أعني: إلزامه الدخول في الصلاة بالقول- المراد به تكبيرة الإحرام، وليس المراد به أن يكون متلفظاً بالنية، ولذلك لا يُتلفظ بالنية إلا في موضعين ثبتت السنة بهما: الموضع الأول: عند نية الإحرام سواءٌ أكان في حجٍ أم عمرة، والدليل على ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة)، ولذلك قال أنس: (كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يقول: لبيك عمرةً وحجاً). أما الموضع الثاني: فهو عند ذبح النسك، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأضحية: (اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمد)، وقوله في الحديث الثاني: (اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فدل هذا على موضعين يشرع فيهما التلفظ: عند الإحرام، وعند النسك.أما في الصلاة فإنه لا يشرع التلفظ بالنية، ولا شك أن القول بالتلفظ بالنية متأخر عن القرون المفضلة، وهو إلى الحدَث أقرب، وقد فتح على الناس باب الوسوسة والشكوك، ولذلك تجد الرجل يقول: نويت نويت ويتردد، ويكون عنده التباس، وربما خالف لفظه ما في قلبه فيحصل عنده من الارتباك والوسوسة شيءٌ كثير، ولذلك الأولى أن يبقى على سماحة الشرع ويُسره من القصد ووجود توجه القلب بقصد القربة بهذا الفعل وهذه الطاعة لله عز وجل. [حكم استحضار النية قبل دخول وقت الصلاة] قوله: [وله تقديمها عليها بزمنٍ يسيرٍ في الوقت] أي: يجوز له أن يقدمها على الصلاة بيسيرٍ، لكن بشرط أن يكون في الوقت، وبناءً على ذلك فمن سبقت نيته الصلاة المفروضة لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن تسبق نيته وتكون خارج الوقت. والحالة الثانية: أن تسبق نيته وتكون داخل الوقت.فإذا سبقت نيته وكانت خارج الوقت فإنه لا يُعتد بها ولو كانت بيسير، مثال ذلك: لو أن إنساناً قبل أذان الظهر بخمس دقائق خرج من بيته ناوياً أن يصلي الظهر، فأذَّن عليه الأذان، فانقطعت نيته قبل الأذان، ثم بعد الأذان اشتغل عن النية، ثم دخل وكبر دون أن يستحضر أو يعين الصلاة التي يريد أن يصليها، فإن نيته لاغية؛ لأن النية وقعت قبل لزوم الذمة وانشغالها بفعل الصلاة، ولذلك لا يعتد بها.وإذا كان الفاصل اليسير سابقاً للصلاة، ولكن بعد دخول الوقت، فبعد أن أذن المؤذن نويت أن تصلي الظهر وكان في نيتك أن تصلي الظهر، ثم انشغلت بقراءة كتابٍ فأقيمت الصلاة، فقمت وكبرت أجزأتك نيتك، وكانت صلاتك معتبرة. [حكم قطع النية في أثناء الصلاة] قال رحمه الله تعالى: [فإن قطعها في أثناء الصلاة أو تردد بطلت].بعد أن بين رحمه الله أنه يلزمك أن تنوي، وألا حرج أن تنوي والفاصل يسير بشرط أن يكون داخل الوقت شَرَع في مسائل النية بعد وقوعها، وهذا من ترتيب الأفكار، فبعد أن بيّن لزومها شرع في الأحكام المتعلقة بالنية بعد وقوعها، فهذه النية التي دلّ دليل الشرع على لزومها، لو أن إنساناً تردد فيها أو شك أو قطعها فما الحكم؟ فبعد أن أثبتها بيّن ما ينقضها، فلو أن إنساناً كبّر لصلاة الظهر، ثم قطع هذه النية ونواها نافلةً أجزأه ذلك، ولكن لا تقع عن فرضه، فالنية الأولى وهي نيته للفرض ملغية بقطعه لها، فقوله بالبطلان أي: للنية الأولى.فقطع النية الأولى بفرضٍ أو نفلٍ يوجب إلغاءها، فلا بد وأن تكون النية باقية؛ لأنه إذا قطعها لم يكن ناوياً، والشرع لا يصحح الصلاة إلا بنية. فلذلك قالوا: حديث عمر في إثبات النية يدل على أن من قطعها لم ينو، وبناءً على ذلك إذا لم ينو فإن صلاته لا تصح ولا تعتبر لما نواه في ابتدائها، وعلى هذا لو نوى الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الفجر، وفي أثناء الصلاة قطع هذه النية عن فرضه فإن هذا القطع يؤثر ويوجب إلغاء نيته الأولى، لكن لا يُحكم ببطلان صلاته؛ لأنه يمكن الانتقال من الفرض إلى النفل ومن الأعلى إلى الأدنى، فنقول: إذا قطعها واستمر متقرِّباً لله عز وجل فهذا عملٌ صالح، وتبقى نية النافلة المطلقة؛ لأن هذا عمل، فتكون نيته الأولى قد حَلَّ محلها النفل، فتقع صلاته نافلةً وتُجزيه قربةً وطاعة، هذا إذا قطعها أو تردد، أو علق على فعلٍ بالشرط -أي: علّق القطع على الشرط- كما إذا نوت امرأة في نفسها إن قام طفلها فإنها تقطع هذه النية وتقطع صلاتها أو تنتقل إلى النافلة، فهي تريد أن تصلي الظهر أربعاً وتخشى على صبيها، فقالت: لو أتممتها أربعاً ربما خرج، ولكن إذا تحرك الصبي فسأقلِبها نافلة؛ لأن الركعتين أستطيع أن أُسلِّم منهما فأدركه فحينئذٍ إذا علّقت على حركة الصبي، أو على فعلٍ ما فإن النية غير مستصحبة، ولذلك يكون هذا من التردد الموجب لعدم الاعتداد بنية الفرض، وتكون نافلةً كما ذكرنا.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (71) صـــــ(1) إلى صــ(7) شرح زاد المستقنع - باب صفة الصلاة [1] تنقسم صفة الصلاة إلى: صفة كمال، وصفة إجزاء، فالأولى هي أتم الصفتين، وهي المشتملة على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في صلاته، والثانية هي التي يجب على المسلم أن يأتي بها، فإن أخل بشيء منها نقص من صلاته بقدر ما أخل منها.ويذكر العلماء في صفة الصلاة المشي إلى المساجد وآدابه وسننه. [من آداب المشي إلى الصلاة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب صفة الصلاة].بعد أن تكلم المصنف رحمه الله على الأمور التي ينبغي على المكلف أن يحصلها قبل الصلاة شرع رحمه الله في بيان صفة الصلاة.وصفة الشيء: حليته وما يتميز به، فقوله رحمه الله: (باب صفة الصلاة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل يستدل بها على هدي الصلاة. وصفة الصلاة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يسمى صفة الكمال، وهذه الصفة هي أتم الصفتين وأكملها، وذلك أنها تشتمل على هدي النبي صلى الله عليه وسلم الكامل في صفة صلاته. والقسم الثاني من صفة الصلاة: صفة الإجزاء، وهي الصفة التي ينبغي على المسلم أن يأتي بها كاملةً، فإن أخلّ بشيءٍ منها فإنه يعتبر مخلاً إما بركنٍ أو بواجب، فإن ترك الركن فإن صلاته تبطل ما لم يكن نسياناً وكان نسيانه مقارباً للصلاة في مسجده، فلو ترك ركناً وهو في المسجد، ثم ذكر قبل الخروج وأمكنه التدارك أتم صلاته، وصفة الإجزاء تشتمل على الأركان والواجبات، وقد يقتصر بعض العلماء فيها على الأركان وحدها.ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يعتنون بذكر وصف العبادة حتى يحكم على صلاة المكلف بكونها معتبرة أو غير معتبرة، وبعض العلماء يقدِّم على هذا الباب باباً، وهو باب آداب المشي إلى الصلاة، كما اعتنى به الإمام ابن قدامة رحمه الله في كتابه العمدة، وهكذا غيره من العلماء، ومنهم من يقتصر على ذكر الصفة ولا يذكر آداب المشي، والأكمل الاعتناء بآداب المشي في الصلاة، وهي تنحصر في أمورٍ من أهمها ما يلي: [استحضار النية] أولاً: ينبغي للمكلف إذا أراد أن يذهب إلى المسجد للصلاة أن يستحضر النية، وهي قصد وجه الله عز وجل بخروجه إلى المسجد، وهذه النية معتبرة للحكم بكونه في قربة وعبادة، وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الرجل تضعّف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأصبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة)، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يخرجه إلا الصلاة)؛ لأن الناس منهم من يذهب إلى المسجد للآخرة، ومنهم من يذهب للدنيا، ومنهم من يذهب جامعاً بين الدنيا والآخرة، فمن خرج وقصده الآخرة كأن يخرج وقصده العبادة والتقرب لله، وشغل الوقت في طاعة الله، وأداء ما افترض الله عليه فهو في قربة، ومثاب من خروجه إلى رجوعه إلى بيته، حتى ورد في الخبر أنه لو هلك فعلى الله أجره، بمعنى أنه لو أصابته مصيبة فمات في طريقه إلى المسجد، أو أصابته بلية فإن أجره على الله، ولذلك كانوا يعتبرون من حسن الخاتمة موت الإنسان في خروجه إلى الصلاة، أو خروجه إلى المسجد؛ لأنها طاعةٌ وقربة، فإذا خرج يستحضر النية. [ذكر الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم] ثانياً: أن يأخذ بآداب الخروج من الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (باسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة الله إلا بالله)، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (فإذا قالها تنحى عنه الشيطان، وقال الملك: أمنت وكفيت ووقيت، فقال: ما لكم في رجلٍ كفي ووقي من حاجةٍ) أي أنه في رحمة الله وضمانه. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من بيته إلى صلاة الفجر، فدعا بثمان كلمات -كما في صحيح مسلم وغيره- وقال: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، وأعطني نوراً)، فهذه ثمان كلمات من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الإنسان عند خروجه من بيته يريد التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم فليحرص على هذا الذكر، فما أكثر فلاحه، وما أنجحه حين يخرج وهو يسأل الله أن يجعل في قلبه نوراً، ومن جعل الله في قلبه نوراً فإنه في أمنٍ وعافيةٍ من الفتن، وقال: (اجعل في لساني نوراً)، فلا يقول إلا خيراً، ولا يتكلم إلا بخير، ويعصم في كلامه، وإذا عُصِم الإنسان في كلامه ومنطقه كان على سدادٍ ورشاد، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [الأحزاب:70 - 71] فيحرص على هذه الأدعية النبوية،وهذا من آداب الخروج. المشي راجلاً دون أن يركب ثالثاً: أن يمشي ولا يركب؛ لأن مشيه أعظم أجراً وثواباً له في الطاعة، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى)، (وكان رجلٌ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تخطئه صلاة، وكان يمشي على رجله، فقالوا له: لو أنك أخذت دابة تقيك حر الرمضاء والهوام، فقال: ما أحب لو أن بيتي معلقٌ طنبه بطنب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أحتسب عند الله أن يكتب أجري في ذهابي ورجعتي، فأخبر صلى الله عليه وسلم بقوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد جمع الله لك بين ذلك)، فإذا كان خروجك ماشياً بقصد أن يكتب الله لك أجر المشي، وكانت نيتك أن يجمع الله لك بين أجر الذهاب والرجعة كتب لك الأجران، فهذا من فضل السعي إلى المسجد. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، كثرة الخطا إلى المساجد)، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (إذا رفع العبد قدمه وهو ماضٍ إلى الصلاة لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة)، فهذا خيرٌ كثير.وكان العلماء رحمهم الله يستحبون للإنسان إذا خرج إلى الصلاة أن لا يسرع، وأن يقارب الخطا حتى يكثر أجره بناءً على هذا الحديث، وأذكر من العلماء رحمهم الله من كان يمشي كأنه معقول الرجلين، يخفف من المشي حتى تكون خطاه أكثر وأجره عند الله أعظم؛ لظاهر هذا الحديث الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. [المشي إلى المسجد بالسكينة والوقار] رابعاً: والسنة لمن خرج إلى المسجد أن لا يشبك بين أصابعه، وأن لا يشتد سعيه.أما عدم التشبيك بين الأصابع فلأنه في صلاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبيك الأصابع في الصلاة؛ لأن اليهود إذا صلوا شبّكوا، فنهي المسلمون عن التشبيك حتى لا يتشبهوا باليهود، فإذا خرج إلى الصلاة يمتنع من تشبيك الأصابع، وقد جاء في حديث أبي داود تأكيد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أن لا يشتد في سعيه فمعناه: لا يجري ولا يهرول، ولا يسعى حثيثاً حتى ولو سمع الإقامة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا أقيمت فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى إلى الصلاة أن لا يسعى، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليأتها بسكينة ووقار)، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما خرج إلى الصلاة -أعني صلاة الاستسقاء- خرج متخشعاً متذللاً متبذلاً) صلوات الله وسلامه عليه.فلا بد من العناية بهذه الآداب. وقد يقال: هل الأفضل أن يركب الإنسان حتى يحصل الصف الأول في المسجد، أو الأفضل أن يمشي فيحصل فضل السعي إلى المسجد؟ فإن الإنسان لو مشى قد يكون بعيداً عن المسجد، بحيث لو مشى على قدميه ربما فاته الصف الأول، وإذا ركب سيارته أو دابته أدرك الصف الأول، فهل الأفضل مشيه إلى الصلاة تحصيلاً لهذه الفضائل، أو تبكيره بالركوب وفوات فضل المشي عليه بإدراك الصف الأول؟ في هذه المسألة وجهان للعلماء: أقواهما أنه يركب، فيكون فضل الصف الأول مقدّماً على فضل المشي، ووجه هذا الترجيح أن القاعدة: (إذا تعارضت الفضائل قدمت الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة)، فإن المشي إلى الصلاة فضيلة منفصلة عن الصلاة، والصف الأول فضيلة متصلة بالصلاة، ولذلك تقدم الفضيلة المتصلة على الفضيلة المنفصلة، فالأفضل له أن يركب، ولكن كما قال بعض العلماء رحمة الله عليهم: يستحب له أن يجعل في نيته أنه لولا ضيق الوقت لمشى على قدميه، حتى يكتب له الفضلان. [ذكر الدعاء المأثور عند دخول المسجد] خامساً: إذا دخل المسجد قال الدعاء المأثور: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك)، والسنة أن يقدم يمناه ويؤخر يسراه، والسنة إذا دخل إلى المسجد أن يكفّ أذاه عن الناس بعدم تخطي الرقاب ورفع الصوت تشويشاً على المصلين، حتى ولو كان ذاكراً، إذا أمكنه ذلك، وذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في الجمعة، فجاء رجلٌ يتخطى الرقاب، فقال عليه الصلاة والسلام: اجلس فقد آذيت وآنيت)، ومعنى قوله: (فقد آذيت) أي بتخطيك لرقاب الناس، ومعنى (آنيت): أي تأخرت، فالذي يريد الصفوف الأول، والذي يريد الفضائل التي تكون في الصفوف الأول فليبكر، أما أن يأتي متأخراً ويتخطى رقاب الناس ويؤذيهم ويشوش عليهم فإن هذا لا يجوز له لما فيه من الضرر، والقاعدة في الشريعة: (إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم درأ المفسدة على جلب المصلحة)، وهذا من حيث الإطلاق، فكيف إذا كانت المصلحة عامة والمفسدة خاصة؟! لأن تخطي الرقاب يؤذي العامة، أي: عامة الناس، وكونه يدرك الصف الأول فضيلة خاصة، فلذلك تقدم درأ المفسدة هنا على جلب المصلحة، فلا يجوز له أن يتخطى رقاب الناس، ولا أن يؤذيهم بالهيشات ورفع الصوت؛ لأن ذلك مما لا ينبغي في بيوت الله عز وجل؛ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى منبهاً عباده المؤمنين على حرمة المساجد، وما ينبغي أن تكون عليه من إجلال وإكبار: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36]، ورفع الشيء: إجلاله وتعظيمه، وذلك يكون بالسكينة والوقار في بيوت الله عز وجل.وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلين اختصما في المسجد ورفعا أصواتهما، فلما جاء إليهما قال: ممن أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً، أي: لمكان حرمة المسجد وأذية الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.فلا بد للإنسان أن يراعي هذه الآداب، ولذلك نبّه العلماء رحمهم الله على أنه كلما كان الإنسان متعاطياً للسنة حريصاً عليها كلما كان موفقاً للقبول في صلاته، وينبغي نصح الناس وتوجيههم إلى عدم الإخلال بهذه السنن، وبيان ما ينبغي من التزامه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصةً فيما يتعلق بكفّ الأذى.
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (77) صـــــ(11) إلى صــ(20) [حكم ترك بعض الحروف والتشديدات في الفاتحة] قوله: [أو ترك منها تشديدة]. في الفاتحة إحدى عشرة تشديدة: (الله)، (رب)، (الرحمن)، (الرحيم)، (الدين)، (إياك)، (وإياك)، (الصراط)، (الذين)، (الضالين وفيها تشديدتان)، فهذه إحدى عشرة تشديدة، فإذا ترك منها تشديدة واحدة يستأنف؛ لأن الحرف المشدد يشتمل على حرفين، فـ (رب) تشتمل على بائين مدغمتين في بعضهما كأنهما حرف واحد، وهي ولكن حقيقتهما أنهما حرفان، فإذا خفف وترك التشديد كأنه أسقط حرفا من الفاتحة، ولم يقرأ الفاتحة كما أمره الله، وإنما يعتد بقراءة وقعت على السورة التي أمر الله عز وجل بها، فإن صلى الإمام وكان من هذا الجنس الذي يترك التشديد، أو يخل بالألفاظ إخلالا يخرجها عن المعنى، كأن يضم التاء من: (أنعمت)، أو يكسرها: (أنعمت)، فإنه حينئذ لا تصح الصلاة وراءه، فالذي يلحن لحنا يحيل المعنى في الفاتحة فإن صلاته باطلة إذا لم يكن معذورا، أما إذا كان معذورا فإنه تصح صلاته لنفسه ولمن هو مثله أو دونه.ومن ذلك أيضا الأمي الذي يلحن في الفاتحة لحنا يحيل المعنى كما لو قال: (أهدنا)، فإنه غير قوله: (اهدنا)، وكذلك إذا ضم التاء أو كسرها في قوله تعالى: (أنعمت)، فإنه حين يقول: (أنعمت) أحال المعنى، فكأنه هو المنعم، وكذلك الحال إذا كسر فإنه خطاب للأنثى، وليس ذلك بصائغ لله عز وجل.فالمقصود أن أي إخلال في الفاتحة يذهب به الحرف أو يخل به المعنى فقراءته غير معتبرة، وإن كان على سبيل السهو فحينئذ يرجع ويعيد القراءة؛ لأنها ركن في الصلاة ويتدارك، وإلا صحت صلاته إذا كان معذورا كالأمي وحديث العهد بالإسلام الذي لا يمكنه، فإذا غلط في أول مرة يتسامح له، ويصلي على حالته لنفسه، ثم إذا وسعه الوقت للتعلم فإنه يأثم. قوله: [أو حرفا].وهكذا لو ترك حرفا، كما لو قرأ: (الصراط) بتخفيف الصاد، فإنه ترك حرفا، أو ترك الحرف بالكلية فقال: (أنعم) بدل (أنعمت)، فإنه تبطل قراءته، ويلزمه أن يأتي بالفاتحة على الوجه المعتبر.قوله: [أو ترتيبا]. أي: لم يرتب آياتها، فذكر آية قبل آية، فإنه لا يعتد بقراءته، ويلزمه أن يستأنف. وقوله: [لزم غير مأموم إعادتها].أي أن الإمام يلزمه أن يعيد، وإذا أعاد أجزأ ذلك المأموم، ولذلك قال: [غير مأموم]، وهذا على القول أن الإمام يحمل الفاتحة عن المأموم، وإن كان الصحيح أن الإمام لا يحمل الفاتحة عن المأموم، وبناء على ذلك فإنه قال على الوجه الذي يرى أن الإمام يحمل عن المأموم، فقال: (لزم غير مأموم إعادتها)، فيلزم المنفرد والإمام أن يعيد القراءة إذا حصل واحد من هذه الإخلالات التي ذكرناها، فإذا ترك حرفا، أو تشديدة أو لحن لحنا يخل بالمعنى، فإنه يستأنف. [قول (آمين) والجهر بها للإمام والمأموم] قال رحمه الله تعالى: [ويجهر الكل بآمين في الجهرية]. التأمين معناه: (اللهم استجب)، فقولك: (آمين) أي: اللهم استجب، وقد شرع التأمين جهرة لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ولذلك قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمن) أي: بلغ موضع التأمين، وليس المراد أنه إذا أمن وقال لفظ التأمين؛ لأن هذا معروف في لغة العرب، إذ يصفون الإنسان بالشيء عند مقاربته له، فيقال: أصبح، أي: كاد أن يصبح، ومنه قوله: أصبحت أصبحت، أي: كدت أن تصبح، فقوله عليه الصلاة والسلام: (أمن) أي: قارب التأمين ووقف عليه، فحينئذ: (إذا أمن فأمنوا)، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإذا قال: (ولا الضالين) فقولوا: (آمين) فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وثبت في الحديث تفصيل ذلك بأن الملائكة تقول في السماء: آمين، ويقول العبد: آمين، فإذا وافق تأمين العبد تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، وهذا يدل على أنه يجهر، لقوله: (قولوا)، والقول إنما هو اللفظ، وليس الكلام النفسي؛ فإن الكلام النفسي لا يسمى قولا، على ما هو معروف من مذهب أهل السنة والجماعة من أن الكلام إنما هو باللفظ وليس في النفس.كذلك أيضا ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وأصحابه إذا أمن رفع صوته حتى ترتج أعواد المسجد، أو يرتج المسجد من تأمينه عليه الصلاة والسلام وتأمين الصحابة معه، ولذلك حسدت اليهود المسلمين على هذا التأمين.فالسنة أن يرفع الصوت، وقال بعض العلماء: يرفع الصوت ولا يبالغ في الرفع إلى درجة الإزعاج، ولا يخافت، ولكن يرفع بقدر وسط. [قراءة سورة بعد الفاتحة] قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ بعدها سورة].وهذا من هديه صلوات الله وسلامه عليه، والسورة قيل: مأخوذة من السور لارتفاعه، فقيل: سميت سورة لارتفاعها وعلو شأنها، وقيل: لأن المكلف بقراءته لها يرتفع درجة، فيكون بحال أحسن من حاله قبل قراءتها بفضل التلاوة، وقيل: من السور، بمعنى الإحاطة، وكل هذه أوجه. فقوله: [يقرأ بعدها سورة] أي: من كتاب الله عز وجل، ولا حرج عليك أن تقرأ سورة كاملة، أو تقرأ بعض السورة، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ السور كاملة، وجزأ السورة في الركعة الأولى والثانية كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة، ففي فريضة الفجر قرأ: {قولوا آمنا} [البقرة:136]، و: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء} [آل عمران:64]، فالأولى من البقرة والثانية من آل عمران، هذه آية وهذه آية، وكذلك ثبت عنه قراءته بآخر سورة البقرة صلوات الله وسلامه عليه.وكذلك أيضا ثبت عنه في الحديث الصحيح قراءة السور كاملة، كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه قرأ في الصلوات الخمس السورة في الركعتين، في الفجر كما سيأتي إن شاء الله، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، قرأ السورة كاملة، ويجوز للإنسان أن يجمع بين السورتين أيضا ولا يقتصر على سورة واحدة، فقد ثبت في الحديث أن رجلا كان يقرأ ثم يختم بـ: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] في كل ركعة، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما حملك على هذا؟ - أي: ما حملك على أن تجمع بين السورة وسورة الإخلاص- قال: إني أحبها قال: حبك لها أدخلك الجنة)، فهذا يدل على جواز أن يقرن بين السور، وقد قال ابن مسعود: (إني لأعرف السور التي كان يقرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها).فعلى العموم لا حرج أن تقرأ أكثر من سورة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل، فقرأ سورة البقرة والنساء والمائدة -كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه - ولم يقرأ آل عمران) قيل: هذا قبل الترتيب في العرضة الأخيرة. فالمقصود أن هذا كله من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن شئت قرأت سورة كاملة، وإن شئت قرأت بعض السورة، وإن شئت قرأت نصف السورة في الركعة الأولى أو أكثرها، وفي الركعة الثانية أتممت، فكل هذا من هديه عليه الصلاة والسلام. هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التخفيف والتطويل في الصلوات [القراءة في الصبح بطوال المفصل] قال رحمه الله تعالى: [وتكون في الصبح من طوال المفصل]. أي: في صلاة الفجر، والمفصل: مأخوذ من فصل الشيء، قال بعض العلماء: إنه من الفصل بين الشيئين أن يحال بينهما بحائل. قالوا: وصفت هذه السور بكونها مفصلة لكثرة الفصل بينها بالبسملة، بخلاف أوائل القرآن كالسبع الطوال، فإنها طويلة، والفصل بالبسملة قليل، والمفصل يبتدئ من سورة (ق) إلى آخر القرآن. والوجه الثاني: سمي المفصل مفصلا لكثرة الفصل بين آياته، فآياته قصيرة، على خلاف السبع الطوال وما بعدها من السور، فإن غالبها طويل المقاطع. والوجه الثالث: سمي المفصل مفصلا من الفصل بمعنى الإحكام، والسبب في ذلك قلة النسخ فيه؛ لأنه محكم وقليل النسخ، بخلاف أوائل القرآن، فإن فيه آيات منسوخة.وهذه كلها أوجه في سبب تسميته بالمفصل.والمفصل كما هو المعهود عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعتبرونه من سورة (ق).ثم هذا المفصل فيه طواله وأواسطه وقصاره، فيقسم على هذه الثلاثة الأقسام: طوال المفصل، وأواسط المفصل، وقصار المفصل.فأما طوال المفصل فتبتدئ من سورة (ق) إلى سورة (عم)، وأما أواسطه فمن سورة (عم) إلى (الضحى)، وأما قصاره فمن سورة (الضحى) إلى آخر القرآن، هذا بالنسبة لطوال المفصل وأواسط المفصل وقصار المفصل. فقوله رحمه الله: [يقرأ في الفجر أو في الصبح بطوال المفصل] أي: من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح أنه كان يقرأ بطوال المفصل، ويطيل القراءة فيها، ثبت هذا في حديث جابر وأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، ففي حديث جابر: (وكان يقرأ في الفجر ما بين الستين إلى المائة آية)، فقراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت ما بين الستين إلى المائة، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يطيل القراءة، قالوا: لأن النفوس في صلاة الفجر مهيأة لسماع القرآن والتأثر به، والناس حديثو العهد بالنوم، وعلى استجمام وراحة. وقول جابر: (ما بين الستين إلى المائة) ظاهره أن ذلك في الركعتين، وحديث صلاة الفجر في الجمعة: (أنه كان يقرأ في الفجر (الم تنزيل) في الركعة الأولى، وسورة (هل أتى) في الركعة الثانية) يدل عليه، فإن مجموع السورتين إحدى وستين آية، وهذا يقوي أنه كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة في الركعتين، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه طول في صلاة الصبح، ويشترط أن لا يكون في ذلك حرج على الناس وأذية بهم، فإن كان هناك على الإنسان حرج، أو كان يغلبه النعاس، أو كان خلفه مريض وأراد أن يخفف فهي السنة؛ لما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (قرأ بالزلزلة)، وثبت عنه في الحديث الصحيح أنه استفتح صلاة الفجر التي كان يطول فيها فسمع بكاء صبي فقرأ: {إنا أعطيناك الكوثر} [الكوثر:1]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه) صلوات الله وسلامه عليه، من رحمته وحلمه وتخفيفه ولطفه بالناس.وهكذا ينبغي أن يكون عليه الإمام، والإمام الحكيم الموفق يحسن النظر لمن وراءه؛ لأن الله سائله عن جماعته، ومحاسبه عليهم، والهدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف)، فهذا خطاب للأمة.وينبغي أن ينبه على مسألة، وهي أننا إذا قلنا بالستين إلى المائة، فإن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة مجودة تعطى فيها الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، وكون الإنسان يصلي بالناس بالستين إلى المائة وهو يتغنى ويمطط الآيات ويتكلف فيها ليس من السنة، بل يقرأ قراءة مرتلة ولا يبالغ في التمطيط؛ لأن هذا يجحف بالناس ويضر بهم، ولذلك ينبغي إذا أراد أن يتخير الإطالة أن يحسن ترتيل القرآن، وأن يكون بعيدا عن التكلف والتقعر في تلاوته، وكذلك أيضا لا يبالغ في الهذ والإسراع في القراءة، وإنما تكون قراءته قراءة مفصلة مبينة، حتى يكون ذلك أبلغ لانتفاع الناس بقراءته، وحصول الخير لإمامته.فالسنة في صلاة الفجر الإطالة، ولكن -كما قلنا- النبي صلى الله عليه وسلم من هديه التخفيف عند وجود الحاجة، فلو علمت أن هناك مريضا، أو أن الناس في سفر، كأن تكون مع رفقة مسافرين في الليل وحضرت صلاة الفجر وهم على نعاس وتضرر من أذى السفر للتخفف عليهم وترفق بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم اللهم فارفق به)، فالإمام ولاية، وهي ولاية في أمور الدين، فينبغي التخفيف في هذه الحالة. [القراءة في المغرب بقصار المفصل] قال رحمه الله تعالى: [وفي المغرب من قصاره]. أي: يقرأ في المغرب من قصار المفصل، وقد جاء ذلك في حديث سلمان بن يسار أنه سمع أبا هريرة يقول: (ما رأيت أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، لإمام كان يصلي به)، وهو حديث قال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، قال: (فنظرت فإذا به يصلي المغرب من قصار المفصل) أي: من قصار سور المفصل من الضحى فما بعد.وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في المغرب بطوال المفصل، بل بأطول الطوال وهي سورة الأعراف صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك ثبت عنه أنه قرأ (المرسلات عرفا)، وهي من أواسط المفصل، فدل على أنه لا حرج أن الإنسان أحيانا يصلي بطوال المفصل، والحقيقة أن الأمر يرجع إلى الإمام، فإن بعض الأئمة قراءته تكون طيبة ترتاح لها القلوب والنفوس، ويكون لها أثر من ناحية الخشوع، حتى يتمنى الناس لو طول بهم أكثر مما هو عليه، وهذا كان حال الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام يريد أن يطيل أو يصيب السنة بقراءة الأعراف فلا حرج، ولكن حبذا أن ينبه الناس، خاصة في هذه الأزمنة التي تكثر فيها شواغل الناس وحصول الظروف لهم، فينبه على أنه سيصلي بالأعراف، ولا حرج أن يصلي بهم بالمرسلات، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بالطور، وهي من طوال المفصل، فلا حرج أن ينوع بين هذا الهدي، فيصلي على غالب حاله بقصار المفصل، ويصلي أحيانا بطوال المفصل، ولا حرج عليه في ذلك. [القراءة في العشاء والظهرين بأوساط المفصل] قال رحمه الله تعالى: [وفي الباقي من أوساطه]. أي: يقرأ في صلاة الظهر والعصر والعشاء من أوسط المفصل، أما صلاة الظهر فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بما يقرب من ثلاثين آية، وجاء عنه أنه قرأ السجدة وهي ثلاثون آية، أو إحدى وثلاثون آية، فهذا يدل على أنه من السنة قدر الثلاثين، خمس عشرة آية تكون للركعة الأولى، وخمس عشرة آية للركعة الثانية، وجاء هذا في حديث السنن، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ في الظهر بأواسط المفصل، كما في سورة البروج فقد قرأها في صلاة الظهر، وكذلك سورة {والسماء والطارق} [الطارق:1] وسورة: {والليل إذا يغشى} [الليل:1] كله جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.وأما بالنسبة للعصر فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يجعله على النصف من صلاة الظهر، وكان في صلاة الظهر يطول في الركعة الأولى، حتى ثبت في الحديث أنه: (كان الرجل يذهب إلى البقيع فيقضي حاجته ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى)، وثبت أنه: (كان يقوم في الركعة الأولى حتى لا يسمع قرع نعال)، وهذا يدل على تطويله عليه الصلاة والسلام، وورد في حديث أبي داود أنه كان تطويله يفهم منه الصحابة أنه يريد من الناس أن يدركوا الركعة الأولى.أما العصر فإنه كانت قراءته على نفس قراءة الظهر، فلذلك يقرأ بخمسة عشر آية، أو فيما هو في حدودها.وأما العشاء فقد ثبت عنه ما يدل على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، والسبب في ذلك أن معاذا رضي الله عنه لما اشتكاه الرجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت القضية في صلاة العشاء-: (هلا قرأت بـ {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى:1] {والليل إذا يغشى} [الليل:1])، فدل هذا على أنه كان يقرأ من أواسط المفصل، ولا حرج أن يقرأ: {إذا السماء انفطرت} [الانفطار:1] كما جاء في بعض الروايات، وكل هذا من السنة. [حكم القراءة في الصلاة من غير مصحف عثمان] قال رحمه الله تعالى: [ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان].والسبب في ذلك أنه كان على العرضة الأخيرة، ولذلك تعتبر هذه العرضة الأخيرة بمثابة النسخ لبقية القراءات التي هي خلاف ما في المصحف الإمام، فقد أجمع المسلمون على هذا المصحف، ولذلك كانت قراءته متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقرأ في الناس بالمصحف الإمام، ولا حرج أن يقرأ بأي القراءات الثابتة. لكن هنا مسألة وهي: لو قرأ بقراءة صحيحة ثابتة، كقراءة ابن مسعود: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) أي: في كفارة الحلف، فهذا فيه وجهان للعلماء: من أهل العلم من قال: إن هذه القراءة وإن صحت بالآحاد فإنها لا تثبت حكما؛ لأن القراءة إنما تكون بما ثبت بالقطع والتواتر، ولذلك لا تصح بها القراءة. وقال بعض العلماء: إنها تصح، وهي إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.ولكن لا ينبغي للإنسان أن يخرج بالناس عما هو الأصل الذي اتفق على صحة الصلاة به وهو مصحف الإمام، ولا حرج على الإنسان أن يقرأ بأي القراءات، ولكن نبه العلماء رحمة الله عليهم على أنه إذا كان الإنسان بين قوم يجهلون القراءات، ويكون تنويعه للقراءات تعليما لهم أنه يستحب له أن ينوع بين القراءات إذا كانت له رواية بهذه القراءات. وقال بعض العلماء أيضا: يستثنى من هذا أن يكون بين قوم جهال، فلو قرأ بقراءات غريبة ربما أحدث الفتنة، فلا يقرأ بغير القراءة المعروفة، فلو كان بين قوم يعرفون رواية حفص فجاء وقرأ برواية ورش فلربما تكلم عليه الناس، وربما ردوا عليه وظنوا أنه قد أخطأ، والواقع أنه مصيب، فقالوا: في مثل هذه الأمور لا ينبغي التشويش، خاصة على العامة، فربما عرضهم للكفر؛ لأنهم ربما أنكروا هذا القرآن وهو ثابت، فيكون هذا الإنكار في الأصل من حيث هو كفر، وإن كان العامي على قول طائفة يعذر بجهله إذا لم يعلم أنها قراءة.فالمقصود أن الإنسان إذا أراد أن يخرج عن القراءة المعروفة فلينتبه لحال الناس ولا يشوش عليهم، ولا يأتي بقراءة لا يعرفونها، حتى لا يحدثهم بما لا يعرفون، قال صلى الله عليه وسلم: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)، وهذا في الأحاديث فكيف بالقراءات؟! أما لو كان بين طلاب علم، ويريد أن يبين لهم بعض القراءات ليستفيدوا منها، فهذا في الحقيقة أفضل وأكمل؛ لأن فيه زيادة علم وبيان للناس وتوضيح وإرشاد لهم. فإذا قلنا: تجوز القراءة بالقراءات فهذا يشترط فيه أن يكون في كل ركعة بحسبها، فلا يصح -كما يقول بعض العلماء- أن تخلط بين القراءتين في الركعة الواحدة، فلو قرأت سورة ما من السور واستفتحت برواية حفص فلتتمها برواية حفص، ولا تدخل القراءة في القراءة، فإذا التزمت القراءة تستمر بها، أما إذا شئت في الركعة الثانية أن تقرأ بقراءة ثانية فقالوا: لا حرج، أما أن ينوع في القراءات في الركعة الواحدة فلا، كأن يقرأ الآية الأولى بحفص، والآية الثانية بورش؛ فإن حفصا لا يقرأ المصحف كله إلا على قراءته التي رواها، فإذا التزمت استفتاح السورة بقراءة حفص تتمها بقراءة حفص، ولا تدخل فيها قراءة ورش؛ لأن هذا فيه إخلال، وإنما رخص العلماء للقراء والعلماء في أثناء الدروس في القراءات لمكان الحاجة، فله أن يقرأ بالأوجه المتعددة من باب التعليم والحاجة، أما في داخل الصلاة فلا. الركوع وصفته قولا وفعلا [رفع اليدين عند الركوع] قال رحمه الله تعالى: [ثم يركع مكبرا رافعا يديه]. أي: بعد أن يفرغ من القراءة يركع، وسيأتي إن شاء الله بيان ما هو الواجب منه واللازم، وما هو المندوب والمستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته: (ثم اركع)، وقد أمر الله بالركوع فقال: {واركعوا مع الراكعين} [البقرة:43]، وقال: {اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم} [الحج:77] فأمر بالركوع، وهذا يعتبر من أركان الصلاة، ويركع في النافلة والفرض، يركع حال كونه مكبرا، أي: جامعا بين الفعل والقول، وهذا التكبير يسميه العلماء تكبير الانتقال؛ لأنه انتقل من حال القيام إلى حال الركوع. وقوله: [رافعا يديه]، لثبوت السنة بذلك من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الركوع).
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (59) صـــــ(11) إلى صــ(19) [حكم صلاة من انكشف بعض عورته] قال المصنف رحمه الله: [ومن انكشف بعض عورته وفحش، أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه أو نجس أعاد].بعد أن بين المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة، ثم بين حدود العورة، ثم بيَّن ما تستر به العورة شرع في المسائل الطارئة، فلو أن إنساناً صلَّى وانكشف منه بعض عورته، فقال رحمه الله: [ومن انكشف بعض عورته وفحش] انكشاف بعض العورة يكون بالاختيار، ويكون بالاضطرار، أما بالاختيار فقولاً واحداً يوجب بطلان صلاته، فإذا كشف عورته مختاراً، دون حاجةٍ ولا ضرورةٍ مع علمه، فإنه تبطل صلاته.وانكشافها بالاضطرار يتأتى في قصر اللباس، كما لو كان له لباسٌ أو ثوب واحد، فإذا سَجَد انكشفت عورته، وكان هذا موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا -كما في أبي داود - يصلون وهم عاقدو أُزرهم على عواتقهم رضوان الله عليهم، فإذا سجد الرجل منهم انكشفت عورته، من قلة اللباس.مصعب بن عمير رضي الله عنه كانت له شملة هي التي خرج بها من الدنيا، إن غطوا بها وجهه في الكفن بدت قدماه، وإن غطوا بها قدميه بدا وجهه، وهذا من ضيق الحالة التي كان عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم عاذراً لهم في ذلك، ولم ينزل الوحي بإلزامهم بشيء، أو تحميلهم تبعة ذلك، فدل على أن المضطر لا يكلف أكثر من قدرته.وإن كشفها ذاهلاً وناسياً دون إدراك منه، فقال بعض العلماء: إنه إذا كان ولم يعلم به، صحَّت صلاته إذا لم يفحش، واستدلوا على هذا بما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه أنه قال: (وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فأسلم الناس بعد فتح مكة، وقدم أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ولأصحابه: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم قرآناً فقدموني).فذكر رضي الله عنه أنه كان له ثوبٌ إذا سجد بدت به عورته، فقال رضي الله عنه: (فقالت النساء: استروا عنا است قارئكم). ووجه الدلالة من هذا الحديث قول النساء: (استروا عنا است قارئكم)، فدل على انكشاف عورته، ومع هذا لم تبطل صلاته، ولذلك قالوا: من انكشفت عورته لذهول أو نسيان فإن صلاته تصح بشرط عدم الفحش كما ذكر المصنف رحمه الله.وكان الإمام أحمد رحمه الله يضعف متن هذا الحديث، فكان إذا ذُكِر له حديث عمرو بن سلمة يقول: أي شيءٍ هذا؟ أي شيءٍ هذا؟ دعه فإنه ليس ببيِّن وهذا من فقهه ودقة فهمه رحمة الله عليه. فإن حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه يقول: (رجعوا فنظروا) أي: اجتهدوا، وكان هؤلاء الصحابة -كما هو معلوم- أسلموا في عام الوفود حينما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى ذلك أن اجتهادهم رضوان الله عليهم مع حدث عهدٍ بجاهلية لا يُؤمَن معه وجود الخلل؛ لأن انكشاف عورة المصلي يوجب البطلان بالأصل، فكونهم يتركونه يصلي بهم والعورة منكشفة -مع إمكان سترها- من ناحية أصول الشرع لا يقتضي الصحة، فكأنه يرى أن هذا فعل صحابيٍ في زمان النبوة لا يستلزم الاحتجاج بمثله، فلو كان في المدينة وبمحضر من النبي صلى الله عليه وسلم وإقرارٍ منه لصح الاحتجاج، لكن كون عمرو نفسه يقول: (فنظروا) يؤكد أن هذا خرج منهم على سبيل الجهل رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان كما جاء عنه في بعض الروايات أنه إذا قيل نفض يديه وقال: أي شيءٍ هذا؟ لأننا لو جئنا نقول بظاهره لأدى ذلك إلى بطلان أصل ستر العورة؛ لأنه بإمكانهم أن يستروه، وبإمكانهم أن يمنعوه من انكشاف عورته، ولذلك قال عمرو: (فنظروا).وهناك رواية عند عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره، ولكنها روايةٌ ضعيفة لم يصح سندها، ومثلها الرواية التي تفيد أن عمراً قدمَ مع أبيه، وهي رواية غير صحيحة، والصحيح أن عمراً كان عند أهله، وأنه كان يتلقى من قدم من المدينة من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظ ما عنده من القرآن حتى كان أحفظ القوم، وكانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فرأوا أنه أحفظهم فقدموه. [حكم الصلاة في ثوب حرام أو نجس] قال المصنف رحمه الله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ عليه، أو نجسٍ أعاد]. قوله: [أو صلى في ثوبٍ محرمٍ] كالثوب المغصوب، كأن يغتصب من إنسانٍ ثوبه ويصلى فيه، والصلاة في الثوب المغصوب للعلماء فيها قولان: قال الجمهور: من صلى في ثوبٍ مغصوبٍ فصلاته صحيحة، فلا يُطَالب بالإعادة، ولكنه آثمٌ بلبس هذا الثوب، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية رحمة الله على الجميع. وقال الحنابلة رحمهم الله: إن من صلى في ثوبٍ محرمٍ كالمغصوب والمسروق فصلاته باطلة، وتلزمه الإعادة، والصحيح مذهب الجمهور؛ لأن النهي لم ينصب على ذات الصلاة، والنهي إذا لم ينصب على ذات الشيء لم يقتض الفساد؛ لأن النهي هنا عن خارجٍ ليس بمتصلٍ بذات الصلاة، فلو كان النهي عن متصلٍ بذات الصلاة لأوجب البطلان.وبناءً على ذلك قال الجمهور بانفكاك الجهة، فقالوا: نقول: هو آثمٌ بلبس الثوب مثابٌ بفعل الصلاة، وبناءً على ذلك نقول: إن صلاته صحيحة، ولبسه للثوب حرامٌ عليه وهذا أصح القولين لما ذكرناه من أن النهي إذا لم يرجع إلى ذات المنهي عنه لا يقتضي البطلان، ولا يقتضي الفساد، وأما إذا رجع إلى ذاته فإنه يقتضي البطلان والفساد. قوله: (أو نجسٍ) أي: أن صلى في ثوبٍ نجس تلزمه الإعادة، وسيأتي إن شاء الله الكلام على الصلاة في الثوب النجس والمكان النجس، ولكن هنا إذا لم يكن مضطراً، أما لو اضطر وكان الثوب الذي يصلي فيه نجساً، ولم يوجد ما يطهر به هذا الثوب، كأن يكون في بريةٍ ونحوها، فقالوا: يصلي ولا تلزمه الإعادة.واستحب بعض العلماء أنه إذا اضطر وصلى في ثوبٍ نجس ثم وجد الطاهر قبل خروج الوقت أن يعيد استحباباً، وهذا مذهب بعض العلماء رحمة الله عليهم. قال رحمه الله تعالى: [لا من حُبس في محل نجس]. قوله: [حُبِس] بمعنى أنه ألجأه الوقت أن يصلي في مكانٍ غير طاهر، قالوا: في هذه الحالة يصلي؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلو كان في مكانٍ نجس ولا يستطيع أن يخرج عنه، فحينئذٍ يصلي وصلاته صحيحة.وهكذا لو استغرق امتناعه عن الخروج مدة وقت الصلاة، فيصلي ولا إعادة عليه؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهذا ليس بوسعه أن يجد مكاناً طاهراً، فيصلي على حالته. [حكم عدم كفاية الساتر لستر العورة] يقول المصنف رحمه الله: [ومن وجد كفاية عورته سترها وإلا فالفرجين فإن لم يكفهما فالدبر].بعد أن بيَّن المصنف رحمه الله وجوب ستر العورة للصلاة، وأنه ينبغي على كل مصلٍ أن يستر عورته، بيَّن أن من وجد هذا الساتر الذي أمر الله به فينبغي عليه أن يستتر، أما لو كان الإنسان غير واجدٍ للسُّترة التي أمر الله بها، كأن يكون خرج من غرق في البحر، ولا يجد ما يستر به عورته إلا شيئاً يسيراً من الثياب فيستر السوءتين وذلك هو الأصل في العورة، وما زاد على السوءتين إنما هو آخذٌ حكمها بحكم التَّبَع لا بحكم الأصل، فإذا تعارض عندنا ستر السوءة بنفسها -أعني: العورة- وستر ما جاورها قدم ستر العورة على ما جاورها، فيبتدئُ بستر الفرجين، فإذا كان هناك شيءٌ زائد على ما يستر به الفرجين ستره، وأما إذا كان القدر من الثياب الذي معه لا يكفي إلا للفرجين ستر الفرجين. وقوله: (فإن لم يكفهما فالدبر) للعلماء في تقديم أحدهما وجهان: فمنهم من قال: إن المكلف إذا فقد الساتر ولم يجد إلا ما يستر به أحد الفرجين ستر الدبر؛ لأنه أبلغ في الانكشاف خاصةً عند سجوده، ولإمكان ستر القبُل بالمواجهة، وبإنزال اليدين بمحاذاة الفرج دون مسٍ؛ لأن مس الفرج يؤدي إلى انتقاض طهارته وبطلان صلاته. قالوا: فخُفِّف في القبُل وشُدد في الدبر، ولأن القبل يستتر في حال السجود والدبر ينكشف، فأصبح أحد الموضعين أبلغ من الموضع الثاني في الانكشاف، وإذا كان أحد الموضعين أبلغ كان هذا مرجِّحاً لستره على غيره؛ لأن التضرر بانكشافه أبلغ. وقال بعض العلماء: إنه يستر القبُل ويترك الدبر؛ لأنه إذا وقف كان الانكشاف للقبل أبلغ من انكشاف الدبر.والحقيقة أن القول بستر الدبر أبلغ وأقوم، وذلك من وجوه: منها ما ذكروه، ولأن الإنسان يستر في صلاته قبله، ويضعف انكشاف القبل في حال القيام بضم الفخذين إليه، وبالركوع يكون أخف، وكذلك في حال السجود، فأصبح حال الفرجين مختلفاً من جهة الانكشاف، فرُجِّح تقديم الدبر على القبل للوجوه التي ذكرناها. [إعارة العادم السترة وحكم أخذه لها] قال رحمه الله تعالى: [وإن أُعِير سُترةً لزمه قبولها] بعد أن بين رحمه الله أنه لا تصح الصلاة إلا بالسترة، وأن هناك أحكاماً تتعلق بالمضطر -وهو الشخص الذي لا يجد السترة- شَرَع بعد ذلك في حكم هذا الشخص الذي لا يجد سترة، فلو أن إنساناً قال له: خذ هذا الثوب عاريةً مني، أو هديةً، أو عطيةً، فإنه يجب عليه قبول هذا الساتر لستر العورة، وذلك لمكان الفرض الواجب عليه بالستر، وهذه من الصور التي يجب فيها قبول العارية والهبة، لا لذات العارية والهبة، ولكن لأنه مطالبٌ بستر عورته، فتوقَّف هذا الواجب -وهو ستر العورة- على قبول العارية والهدية، والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلذلك قالوا: يلزمه القبول، ولا يجوز له أن يمتنع. كيفية صلاة العاري منفرداً قال المصنف رحمه الله: [ويصلي العاري قاعداً بالإيماء استحباباً فيهما].بعد أن بين الحالة الأولى، وهي التي تتعلق بالإنسان الذي لا يجد السترة من طَوْلِه ومن ماله ووجدها من الغير بين الحالة الثانية، وهي ألا يجد أحداً يتبرع له بالسترة، ولا يمكنه أيضاً ستر أحد الفرجين، فقال رحمه الله: (ويصلي العاري قاعداً)، فلو أن هذا الشخص الذي لا يجد السترة لم يجد من يعطيه سترة أو يعيره السترة، وليس عنده ما يستر به أحد الفرجين فللعلماء في الإنسان العاري إذا أراد أن يصلي وجهان: فمنهم من قال: يصلي قائماً، ومنهم من قال: يصلي قاعداً. وصورة المسألة: لو أن إنساناً غرق، أو جماعةً انكسرت بهم السفينة، فخرجوا وأصبحوا عراةً، أو نزلوا في موضعٍ احترقت عليهم ثيابهم، ولم يجدوا ما يستروا به عوراتهم، فأهل القول الأول قالوا: إذا اجتمعوا أو انفردوا فإنه يصلي الإنسان في هذه الحالة قاعداً، ووجه هذا القول أنهم قالوا: إنه إذا صلى قاعداً فات حق الله عز وجل في القيام، وإذا صلى قائماً فات حق العبد بانكشاف عورته وتضرر فتعارض الحقان، والقاعدة أن حقوق الله أوسع من حقوق العباد، فإذا تعارض الحقان قدم حق العبد على حق الله لا من جهة التفضيل، ولكن من جهة الرحمة واللطف، ولذلك من اضطر في سفر إلى مخمصة وأصابته المجاعة فإن حق الله ألا يأكل الميتة، وحق نفسه أن ينقذها، فقُدِّم حق النفس على حق الله من جهة الرحمة والتوسعة من الله على عباده. فيقولون: إن العاري لو قلنا له: صلِّ قائماً تضرر بحق نفسه بانكشاف عورته وبدو سوءته، وقد سمَّى الله العورة سوءة قال تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121].فأخبر سبحانه وتعالى أن العورة سوءة، قالوا: سميت سوءةً؛ لأنها تسيء إلى صاحبها عند انكشافها. والقول الثاني: يصلي قائماً ولا يصلي قاعداً؛ لأن الله تعالى قال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وقال لـ عمران: (صل قائماً).فالأدلة ملزمةٌ بالقيام، قالوا: فإذا قلنا له: اجلس لمكان انكشاف العورة فإننا نقدم الشرط على الركن، والقاعدة أنه إذا ازدحم الشرط والركن قُدِّم الركن على الشرط، فإن القيام ركن، والجلوس من أجل ستر العورة تحصيل للشرط، والذي تطمئن إليه النفس أن الإنسان إذا لم يجد ما يستر به عورته يصلي قائماً، لأمور: أولاً: للأدلة التي دلت على لزوم القيام. ثانياً: أن قولهم بأنه يجلس ولا يقوم إنما هو تقديمٌ للشرط على الركن، والقاعدة أن الأركان مقدمةٌ على الشروط، وهذا بدليل الشرع، فإن الأركان أَلْزَم؛ لأنها تعود إلى حقيقة الصلاة وماهيتها. ثالثاً: أن فقه المسألة أن الإنسان إذا صلى قائماً فإنه ليس بمخلٍ من نفسه؛ لأن الله كلَّفه أن يستر عورته عند القدرة، ولا قدرة له على الستر.فبقي نظر الغير إليه يتعلق إثمه بالناظر، فالله لم يكلفني نظر الغير؛ لأنني إذا لم أجد الطّول فغيري هو الآثم بالنظر، وأصبح التكليف بغض النظر متعلقاً بالغير لا بالمكلف، ولذلك يقوى القول بأنه يُصَلِّي قائماً، ولا يصح منه أن يصلي جالساً لما ذكرناه. وقوله: (استحباباً) أي: لا نوجب عليه ذلك، ومعناه أنه لو صلى قائماً صحت صلاته، وخلاصة القول: يصلي قائماً حتى نخرج من الخلاف؛ لأن من قال: (يصلي قاعداً) لا يُوجِب القعود، وإنما قال: (استحباباً) أي: لا حتماً ولا إيجاباً. [كيفية صلاة العراة جماعة] قال المصنف رحمه الله: [ويكون إمامهم وسطهم].هذه مسألة من مسائل الإمامة، قالوا: الأصل في الإمام أن يتقدم؛ لأن الإمام مأخوذٌ من الأمام، كما قال ابن منظور في اللسان، والأمام هو الخط الذي يُخط في أول الدار. قالوا: فوصفه في الشرع بالإمامة يدل على تقديمه، فلو تأخر لم يكن إماماً شرعياً من هذا الوصف؛ لأنه يُؤتم به. وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) أي: من أجل أن يؤتم به، فلما أخبر أن الإمام مؤتمٌ به، فهذا مطلق يشمل الائتمام به في حال تقدمه والائتمام به في حال أدائه للصلاة، ولذلك ينبغي على الإمام أن يتقدم، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلي بأصحابه متقدماً لا متأخراً، ولا مساوياً للصفوف إلا في حال الاضطرار، فهذا يستثنى لمكان الضرورة والحاجة. لكن لو أن عراةً اجتمعوا وأرادوا أن يصلوا قال: [ويكون إمامهم وسطهم]، وذلك مما يُغتفر فيه تقدم الإمام على المأمومين، لكن يُنبه على أن الإمام ينبغي عليه أن يتقدم على من بجواره قليلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جُعِل الإمام ليؤتم به)، فهذا يدل على تقدم الإمام ولو قليلاً، كما نبه العلماء رحمهم الله على ذلك، كما في حديث أنس، وهو أحد الوجهين عندهم كما نبه عليه فقهاء الشافعية وغيرهم.فيصلِّي وسطهم، لكنه يتقدم قليلاً، والسبب في هذا أنه إذا تقدم انكشفت عورته، وانكشاف العورة مخلٌ بالصلاة، قالوا: فيتأخر؛ لأن تقدم الإمام هنا أخف من المسألة التي معنا في القيام والقعود، فإن التقدم في الإمامة يغتفر لمكان دلالة النص على الستر، فإن دلالة النص على الستر في النصوص الواردة بالأمر بالستر وستر العورة أقوى من الأمر بتقدم الإمام، فلما أصبحت نصوص ستر العورة أقوى من نصوص تقدم الإمام قالوا: إن الإمام يصلي وسطهم، بمعنى أن يكون داخل الصف.فلو فرضنا أنهم ثلاثة عراة، فإنه يصلي وسطهم، ويكون أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره. قالوا: وهذا يغتفر فيه مقامه عن اليسار، وهي من الصور التي يستثنى فيها وقوف المأموم عن يسار الإمام.لكن لو أنه أخره قليلاً فإنه أولى وأحرى، ولا شك أنه لو تأخر قليلاً لا يكون ثَمّ انكشاف كما لو تقدم تقدماً حقيقياً كما يفعله الأئمة. قال رحمه الله تعالى: [ويصلي كل نوعٍ وحده] أي: تصلي النساء على حدة، إذا كن عراةً، والرجال على حدة، تحقيقاً لمقصود الشرع من ستر العورة وعدم تعاطي أسباب انكشافها، فيصلي الرجال مع الرجال والنساء مع النساء؛ لأن اجتماع النساء مع الرجال في هذه الصور فيه الفتنة، وقال بعض العلماء: لا حرج أن يصلي النساء مع الرجال حتى في حال العري؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إذا سجدوا انكشفت عوراتهم؛ لأنهم لم يكن لهم ما يسترون به العورة من ضيق اللباس في زمانهم رضي الله عنهم وأرضاهم، قالوا: ففي هذه الحالة كون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر النساء بالتأخر في رفع رؤوسهن، وإقراره لصلاتهن مع الرجال على هذه الحالة يدل على التخفيف.لكن هذا محل نظر، وذلك من وجوه: أقواها وأولاها أن حال الصحابة رضوان الله عليهم يقع في صورةٍ يمكن تلافيها، وإمامة العراة صورة لا يمكن تلافيها؛ لأن انكشاف العورة من الرجال في عهد الصحابة كان في حال السجود فقط، وبناءً على ذلك يمكن تلافيه، فإن النساء إذا أخرن رفع رؤوسهن وبادرن بالسجود، فإنه يمكن تلافي الفتنة بالنظر، لكن كونهن يصلين والرجال أمامهن منكشفين فإن النساء يحتجن إلى رؤية الإمام ورؤية من يقتدي بالإمام قطعاً حتى يعلمن بالانتقال، خاصة عند كثرة العدد، وبناءً على ذلك فالفتنة غالبة، ولذلك يقوى قول من قال: إنه يصلي الرجال على حدة والنساء على حدة؛ لأن الجماعة متحققة بالنساء على انفرادهن، وبالرجال على انفرادهم. قال المصنف رحمه الله: [فإن شق صلى الرجال واستدبرهم النساء، ثم عكسوا] قوله: [فإن شق] أي: إن شق أن يصلي هؤلاء على حدة، وأن يصلي هؤلاء على حدة، كما لو كانوا في سفينة، وليس معهم ثياب تستر بها العورات، فحينئذٍ يصلي الرجال أولاً والنساء مستدبرات للرجال، ثم تصلي النساء والرجال مستدبرون للنساء؛ لأن القاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فغض البصر عن النظر إلى العورة واجب، وتوقف في هذه الحالة على حالة الإستدبار، فأصبح الإستدبار لازماً على الرجال ولازماً على النساء. حكم من صلى عارياً ووجد ساتراً أثناء صلاته قال المصنف رحمه الله: [فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة ستر وبنى وإلا ابتدأ] هذه القسمة العقلية، فالإنسان عقلاً لديه ثلاث حالات: إما أن يجد السترة، وإما ألا يجد السترة، وإما أن يجد بعض السترة.فإن وجد السترة لزمه قولاً واحداً أن يستتر، وهذا الأصل.وإن فقد السترة صلى عارياً، وقد بين المصنف حكمه جماعةً وفرادى.وإن وجد بعض السترة فهل يستر القُبُل أو الدبُر، وجهان: أصحهما أن يستر الدبر.ثم بعد هذا شرَع رحمه الله في الحالة الأخيرة، وهي أن من فقد السترة إما أن يفقدها حتى يصلي وينتهي من صلاته، وحينئذٍ الحكم ما تقدم، وإما أن يفقدها وتطرأ أثناء الصلاة، فقال رحمه الله: (فإن وجد سترةً قريبةً في أثناء الصلاة)، كأنه يقول: بيَّنت لك حكم من لم يجد السترة وصلى، هل يصلي قائماً أو قاعداً، وبقي أنها لو طرأت أثناء الصلاة، فحينئذٍ إذا طرأت أثناء الصلاة لَزِمه أخذها، والحركة لأخذ السترة جائزة ومغتفرة؛ لأنها تحصيل لواجب، والحركة لواجب مشروعة، وقد تحرك النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة الصلاة، ألا تُراه عليه الصلاة والسلام رقى منبره، ونزل من المنبر، وتحرك في الصلاة لمصالحها، وحرك أصحابه لمصالح الصلاة، فدفع جابراً وجباراً وراء ظهره، وأخذ بـ ابن عباس من ورائه فأداره عن يمينه، كل هذا يدل على جواز الحركة لمصلحة الصلاة.فلو فرض أنه وجدها أثناء الصلاة، فإنه إن كان العمل قليلاً فحينئذٍ لا إشكال، كما لو جاءه رجل بسترة وناوله وهو في الصلاة، فإن مناولة السترة ووضعها على العاتق قد تكون خفيفة يسيرة، والعمل لذلك يسير، لكن الإشكال لو احتيج إلى أن يتكلف في لبسها لطبيعتها إلى عملٍ كثير، ويمكنه أن يستر بعض الجسد بالعمل اليسير، فهل يقدم الستر للكل بالعمل الكثير أو يُقدم الستر للعورة بالعمل اليسير؟ صورة ذلك لو أعطاك ثوباً، فإن لُبسَ الثوب يقتضي حركةً أكثر مما لو احتزمت بالثوب، وفي حال إذا كان الثوب يحتاج إلى عمل كثير من إدخال اليدين فيه، وتعاطي أسباب اللبس، فحينئذٍ يكون هذا التحرك مدفوعاً بما هو أقل منه محصلاً لواجب الشرع، فإنك إذا ائتَزَرْت به، ووضعت أحد طرفيه على عاتقك حققت مقصود الشرع، وذلك بعملٍ يسير، فيلزمك فعل اليسير وترك الكثير؛ لأن ما جاز للحاجة يقدر بقدرها، فهو محتاجٌ لستر عورته، فالكمال أن يلبس الثوب بكامله، والإجزاءُ أن يلبسه على موضع عورته وقدر ما يجب عليه ستره، فيفعل الواجب عليه ستره.لكن هنا مسألة أشكل من هذه المسألة وأعظم، فلو أن إنساناً كان يصلي وهو قائم، وألزمنا القيام وهو عاري البدن، ثم سقط الثوب بجواره، فحينئذٍ لا يستطيع أن يأخذ الثوب في الغالب إلا بالانحناء، وإذا انحنى انتقل من ركنٍ إلى ركن، فإنه ينتقل من ركن القيام إلى ركن الركوع أو ركن الجلوس، وحينئذٍ هذا الركن زائد في الصلاة، ولذلك أجمع العلماء على أنَّ تَعمُّدَ زيادة الركن في الصلاة يوجب بطلانها، ففي هذه الحالة ينبه بعض مشايخنا رحمة الله عليهم فقالو إنه يرفعه بقدمه ويتناوله ويلبسه ولا ينحني، فيحافظ على هيئات الصلاة ويلبس ثوبه، ويقتصر على أقل ما يتحقق به الواجب. وقوله: [قريبة] أي أن تكون هذه السترة قريبة، وفي هذه الحالة إذا كانت بعيدةً، أو لزمه عملٌ كثير لتعاطيها ولبسها، قالوا لا يجب عليه أن يشتغل بها، بل يتم صلاته. وقوله: [ستر وبنى وإلا ابتدأ].هذا بالنسبة لحال الإتمام، لكن لو صاح عليه صائح وقال: لك ثياب عند محمد أو زيد فيلزمه قطع الصلاة، ثم يذهب ويلبس ويصلي مستتر العورة.فلو طرأ أثناء الصلاة وجود سترة تحتاج إلى عملٍ كثير، أو ذهاب إلى موضع، ويمكنه ذلك قبل خروج الوقت يقطع ويذهب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما جاز له أن يصلي في حال الفقد، أما في حال الوَجْد فلا يصح منه أن يصلي في حال قدرته على ستر العورة على هذا الوجه. الأسئلة [حكم كشف الفخذ في غير الصلاة] q إن الأحاديث التي وردت بحد العورة مطلقة ضعفها أهل العلم، وحسنُوا المقيد بالصلاة، فهل يُفهم من ذلك أن الفخذ خارج الصلاة ليس بعورة؟ a باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فنحن ذكرنا أن الأحاديث المطلقة مضعَّفة، والأحاديث المقيدة بالصلاة محسَّنة وثابتة ويعمل بها، ولكن ليس معنى هذا أنه يجوز للإنسان أن يخرج وعورته مكشوفة. ولذلك قالوا: إن كشف بعض أعضاء البدن إذا جرى العرف بسترها مخلٌ بالمروءة. ويقولون: إن من خوارم المروءة أن يفعل الإنسان ما أبيح له سراً أمام الناس جهراً، ككشف بعض أعضاء الجسم إذا جرى العُرف بتغطيته كالرأس، قالوا إنه يعتبر مسقطاً للمروءة، كما قال القائل: وما أبيح وهو في العيان يقدح في مروءة الإنسان فقالوا: إنه قد يكون الشيء في أصله جائزاً، لكنه من باب المروءة وتعاطي الكمال يجب ستره، وهذا فيما زاد عن حد العورة، كأعالي البدن، فلو أن إنساناً خرج في السوق كاشفاً عن صدره، أو لبس ما يُسمى (بالفنايل)، وجاء أمام الناس لابساً سرواله وفنيلته، فهذا خلاف العُرف، لكن لو كان صانعاً، أو صاحب صنعةٍ أو مهنة، ولبس هذا اللباس أثناء عمله ومهنته فلا حرج ولا عتب عليه، لكن إذا جاء إلى مجامع الناس بهذا اللبس فإنه تسقط مروءته وترد شهادته، قالوا: لأن هذا نقصٌ في العقل، وناقص العقل لا تقبل شهادته، ومن أهل العلم من استدل له بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت). قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فالإنسان إذا استحيا كملت مروءته، بل قالوا: إنه لا يستحيي إلا من كان كامل العقل، أعني الحياء المحمود الذي يحمل على مكارم الأخلاق.ومن مكارم الأخلاق ما ذكرناه من عدم تعاطي الألبسة، أو كشف الأمور التي لم يجر العرف بكشفها، ويستحب للإنسان أن يراعي هذا خاصةً في الأعراف، فيساير العرف الذي هو فيه إذا كان العرف على الكمال، أما لو كان العرف على النقص فلا يسايره، فلو كان العرف درج على لبسٍ يخل بالمروءة، أو على لبس متهتك يخالف شرع الله، فإنه لا يعتبر عرفاً. قال الناظم: وليس بالمفيد جري العيدِ بخلف أمر المبدئ المعيدِ والعرف إن خالف أمر الباري وجب أن ينبذ في البراري فلا قيمة للعرف ما دام أنه يعارض الشرع، ومثل العلماء لذلك فقالوا: لو جرى العرف بحلق اللحية لم يكن عرفاً معتبراً؛ لأنه يُصادم الشرع.فالمراد بالأعراف المعتبرة الأعراف التي توافق الشرع، وتوافق مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وجميل الطباع، فهذا هو العرف المعوَّل عليه، والله تعالى أعلم.
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (60) صـــــ(1) إلى صــ(13) شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [5] كثيراً ما يقع العبد المسلم في أمورٍ قد تخل بصلاته، لذا وجب على كل مصل معرفة شروط الصلاة؛ كستر العورة وما يخصها من أحكام، وما يكره في الصلاة وما يحرم فيها حتى تكون صلاته صحيحة. ما يكره فعله في الصلاة [السدل في الصلاة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ويكره في الصلاة السدل]. نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السدل كما في حديث أبي داود الذي حسن العلماء إسناده: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن السدل في الصلاة)، وبين العلماء رحمهم الله هذا السدل وهو أن يرسل طرفي الرداء دون أن يضمهما أو يجعلهما على أحد عاتقيه، كما في الإحرام يكون الإزار لأسفل البدن، والرداء لأعلاه، فإذا جاء الإنسان يصلي فإنه إذا سدل يكون منفتح الصدر، وهذه الهيئة لا تليق والعبد واقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك لو دخل عليه إنسان يجله ويكرمه فإنه مباشرة سيضم ذلك الرداء، ولا يرى من نفسه أن يكشف صدره ما دام أمكنه أن يحجبه.ولذلك يرمي بطرف الرداء إذا أراد أن يصلي، أو على الأقل يضمه، وإذا كان في غير الإحرام شَبَكه، فجعل له مشبكاً أو زَّرره إذا كان له أزراراً، لكن استُثنِي من هذا ما جرت العادة بلبسه مع وجود ما هو دونه مثل العباءة والبشت، فقد أجاز العلماء رحمهم الله أن يرسله؛ لأن العلة غير موجودة فيه، فإن السدل المراد به ما يؤدي إلى الانكشاف، ولذلك يقولون: ما كان معللاً فإنه يدور مع علة الحكم وجوداً وعدماً.وبناءً على هذا لو كان جرى العرف أنه يُسدَل فلا حرج عليه أن يصلي سادلاً، ولكن مع هذا فالأكمل والأولى أنه يضُم طرفي عباءته حتى يكون ذلك أبعد عن الشبهة. [اشتمال الصماء في الصلاة] قال رحمه الله تعالى: [واشتمال الصماء] يقال: حجرةٌ صماء.إذا لم يكن فيها منفذ، واشتمال الصماء فيه أقوال للعلماء: أقواها وأولاها أن يأخذ الثوب ويتلحَّف به على وجهٍ لا يوجد فيه لليدين أو لأحدهما منفذ.فبعض الناس في شدة البرد يأتي بالغطاء الذي هو الرداء على أعلى البدن، ويتوشح به على طريقة لا يستطيع أن يخرج يده لو دهمه عدو أو سبع، أو أرادته دابة أو هامة، فلا يستطيع أن يعاجل لدفع هذا الضرر، فنُهِي عن هذا الاشتمال، وهذا وجه. وقيل: أن يأخذ الثوب ويتلحَّف به ويرده على عاتقيه فينكشف فرجه، قالوا: وهذا وجه من الأوجه التي نهي عنها.وورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه تفسيره بالوجه الذي ذكرناه، وبناءً على ذلك، فإن قلنا: السدل هو أن يضم الثوب، ويكون الثوب أصم لا منفذ فيه تكون العلة خوف الضرر على الإنسان؛ لأنه ربما في بعض الأحيان خاصة إذا كان يمشي يفاجأ بحية أو سبع أو عدو، فإذا كان مشتملاً للصماء فلا يستطيع أن ينزع سلاحه، أو يكبح عدوه، ولا أن يدفع الضرر عنه، قالوا: فنُهِي عنها من أجل مضرة البدن. والوجه الثاني: لخوف انكشاف العورة، فإذا التحف بالثوب الواحد فلو تحرك منه انكشفت عورته على الصورة التي ذكرناها، وكل هذه الصور منهي عنها، لكن الخلاف في المراد باشتمال الصماء، وهذا مثله نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، فالإجماع منعقد على أن بيع الملامسة لا يجوز، سواءٌ أقلنا: الملامسة أن يقول له: أبيعك ثوبي على أن يقوم لمسك مقام نظرك، أم قلنا: أن يقول له: إذا لمست الثوب فهو عليك بعشرة، أو إذا لمست الثوب انقطع الخيار عنك، فكل هذه الصور في الأصل محرمة، لكن الخلاف أيها المراد بالحديث، فينبغي أن يُتَنَبه أن خلاف العلماء في اشتمال الصماء هنا إنما هو الخلاف في المراد بالحديث، لكن لو أن إنساناً التحف بالثوب بطريقة تنكشف بها العورة نقول: هذا حرام، سواءٌ أكان هو اشتمال الصماء أم لم يكن؛ لأن الشرع لا يجيز انكشاف العورة، ولا يجيز لبس الثياب على وجهٍ تنكشف به السوءة. كذلك لو قلنا: إن اشتمال الصماء لا يشمل التلحف بالثوب، فإن التلحف بالثوب على وجهٍ لا يتمكن الإنسان معه من دفع العدو أو الدابة أو الهامة منهيٌ عنه؛ لمكان الضرر بالبدن. [تغطية الوجه في الصلاة] قال رحمه الله تعالى: [وتغطية وجهه].ذلك لأنه ورد حديث أبي داود في النهي عن تغطية الوجه في الصلاة، ولأنه إذا غطى وجهه في الصلاة شابه اليهود، فإن اليهود في معابدهم يغطون، فنُهِي عن هذا لئلا يكون فيه مشابهة لليهود، كما نهي عن التشبيك لمن عَمِد إلى الصلاة، أو جلس في الصلاة ينتظرها، أو كان في الصلاة؛ لأن فيه مشابهةً لليهود.وكذلك أيضاً لأنه إذا غطى وجهه في الصلاة فإنه يمنعه من مباشرة السجود عليه، والسجود على الجبهة والأنف مقصودٌ في حديث السبعة الأعظم التي أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بالسجود عليها كما في حديث ابن عباس في الصحيح. [وضع اللثام على الفم والأنف في الصلاة] قال رحمه الله تعالى: [واللثام على فمه وأنفه]. أي: يستوي أن يغطي وجهه كليةً، أو جزئياً فيجعل اللثام على أنفه، أو يجعله على فهمه، قال بعض العلماء: إنه إذا جعل اللثام على فمه منع من خروج الحروف وإحسان القراءة، ومنع من تبينها إذا كان إماماً، فنهي عن هذا من أجل هذا الوجه. وقال العلماء: إن المقام بين يدي الله في الصلاة مقام هيبةٍ وإجلالٍ وتعظيمٍ لله عز وجل وتوقير، فإذا تلثَّم فإن هذا لا يتناسب مع حال المصلي الواقف بين يدي الله عز وجل. [كف الكم ولفه في الصلاة] قال رحمه الله تعالى: [وكف كمه ولفه] كف الكم ولفه تلك الصورتان منهيٌ عنهما.وكف الكم هو أنه إذا أراد أن يسجد ضم كف كمه إليه؛ لأنه إذا سجد ربما اتسخ الكم، قالوا: إن هذا كف الكم.وأما لفه فصورته أن يلفه حتى يَنْشَمِر ويرتفع إلى العَضُد أو إلى نصف الساعد، فهذه الصورة لا تليق بمن وقف بين يدي الله؛ لأنها صورة العمل، والعامل إذا أراد أن يقوم بمهنته وعمله كفَّ ثوبه، وكذلك لَفَّ الثوب، ولذلك نهي عن هذا الكف؛ لأنه لا يليق بمقام العبد بين يدي الله، ولذلك لو دُعِيَ إنسانٍ ليدخل على إنسانٍ يجله ويكرمه ويعظمه لما دخل مشمر اليدين؛ لأنها هيئة لا تليق بالدخول على العظيم أو من يراد تعظيمه، ولله المثل الأعلى، فناسب أن يكون موقف الإنسان بين يدي الله عز وجل على غير هذه الصورة.وهذا يقع فيه كثير من الناس بسبب الخطأ والجهل، فهم يتوضئون، ثم يأتون مباشرة وقد حسر أحدهم عن ذراعيه، فيكبر ويصلي وهو حاسر الذراعين، وهذا -كما قلنا- لا يليق بالمصلي أن يفعله، والأدهى من ذلك أنه أثناء الصلاة يفك هذا اللفاف عن يديه، وهذا اشتغال، ولا ينبغي للإنسان أن يشتغل به إلا في حالة واحدة، وهي أن ينسى ذلك، ثم يتذكر في الصلاة، قالوا: فإنه يتعاطاه من باب تحصيل الواجب، وهو أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كف الثوب يقتضي خروجه عن هذه الصورة فيُلزم به. [شد الوسط في الصلاة] قوله: [وشد وسطه كزنار].كان قديماً إذا فُتِحت بلاد الكفار وفيها قومٌ من أهل الكتاب من أهل الذمة يُلزَمُون بلبس معين يختص بهم حتى لا يشابه المسلمين؛ لأن لهم أحكاماً تخصهم، فربما أنهم لو اختلطوا بالمسلمين ولبسوا لباسهم سُلِّمَ عليهم وعوملوا معاملة المسلمين، وذلك تكريمٌ لهم، والشرع قصد إهانتهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، فلذلك الكفار إذا كانوا تحت حكم المسلمين يُذلون، وهذا أصل شرعي في حدود اشتمل عليها كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل الذمة، والذي شرحه الإمام ابن القيم في كتابه النفيس: (أحكام أهل الذمة).فمن هذه الأحكام أنه يُشَد وسطهم بالزنار، وهو نوع من اللباس يجمع على وسطهم حتى يتميزوا عن المسلمين، ويكون هذا علامة لهم على أنهم من أهل الكتاب، فلا تُعطَى لهم أحكام المسلمين في الظاهر، فإذا أراد أن يصلي المصلي لا يشد وسطه كالزنار، أي: كشد الزنار.أما لبس الزنار ذاته فإنه منهي عنه؛ لأن فيه مشابهة للكفار، ولا تجوز مشابهتهم.لكن لو صلى الإنسان فلا ينبغي أن يصلي وقد رفع ثوبه أو شمَر وسطه، ويستوي في ذلك أن يرفع طرف الثوب ويضمه، مثلما يفعله بعض العمال أثناء عملهم، حيث يرفع الطرف الأسفل ثم يشد الوسط، أو يجعل الثوب مرخياً ويأتي بعمامته ويشدها في الوسط، كمن أراد أن يحمل شيئاً حتى يتمكن من حمله بقوة الوسط، فيجعل في وسطه حزاماً أو عمامةً، فهذا منهي عنه، لكن لو كان اللباس يُحتاج إليه، كإنسان يعمل في حدادة أو نجارة، ويلبس البنطال واحتاج أن يشده بحزام، لخوف انكشاف عورته، فلربما انحسر هذا الساتر عن عورته لو لم يشد، فحينئذٍ لا حرج عليه، إنما المراد بالشد الذي ينبئ عن الصورة الناقصة في المصلِّي، مثلما يقع في الثياب يُوضَع في وسطها ما يُشَد، أما لو كان من طبيعة اللباس فهذا مستثنىً ولا حرج فيه. ما يحرم فعله في الصلاة [الخيلاء بالثوب وغيره في الصلاة] قال المصنف رحمه الله: [وتحرم الخيلاء في ثوبٍ وغيره]. لما ثبت من حديث أبي ذر في الصحيحين: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). وجاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء)، قالوا: نهى عن الإسبال وتَوَعَد بسببه بهذا الوعيد لما فيه من الخيلاء والتبختر، والحديث الثاني في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء) يؤكد هذا المعنى، وكذلك ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد إعطاء سيفه في غزوة أحد قال: (من يأخذه بحقه؟ فقالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن يضرب به العدو فتقاعس القوم، فخرج أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه، وعصب عصابته الحمراء وأخذ السيف وتبختر في مشيته، فأخذ يختال بين الصفين، فقال عليه الصلاة والسلام: إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع).فالخيلاء والتبختر في المشي منهيٌ عنه، واعتبر العلماء رحمهم الله أن من تبختر واختال في مشيته أنه من أهل الكبائر، أي: أنه فاسق بهذه المشية، ولو مرةً واحدة، فلو أن أحداً اختال في مشيته، أو جر ثوبه خيلاء فإنه يعتبر متوعَّداً بهذا الوعيد، إلا أن يتوب فيتوب الله عليه.فالخيلاء لا يجوز، لا في المشي ولا في الثوب، والخيلاء في الثوب تكون بجره وإسباله، وكذلك ربما تكون في صورة المشية، كأن ترى الإنسان يختال اختيال العظيم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما رجل ممن كان قبلكم عليه بردان له يتبختر فيهما، إذ نظر إلى عطفيه فأعجب بنفسه، فخسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).فهذا يدل على أنه لا يجوز لمسلم أن يختال، أو أن يكون من أهل الخيلاء، بل ينبغي عليه التواضع والذلة لله عز وجل. [الصلاة في ثوب فيه تصاوير] قال المصنف رحمه الله: [والتصوير واستعماله] قوله: [والتصوير] تفعيلٌ من الصور، والتصوير سواءٌ أكان باليد أم بآلة، فإنه داخلٌ في عموم الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (ولعن المصورين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون).وقد دلت السنة الصحيحة على أن المراد من التصوير إيجاد مثل الخلقة، بغض النظر عن كون المصور أوجدها بآلةٍ أو بنفسه، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)، والكاف تقتضي التشبيه، بغض النظر عن كونه شابه الصورة من كل وجهٍ بآلة، أو لم يشابهها فكان قريباً من الصورة الأصلية، فيشمل ذلك التصوير بآلة والتصوير بالفعل. والدليل الثاني على دخول التصوير بالآلة في النهي أن الصورة التي أخرجتها الآلة لو سُئِل الإنسان عنها: أهي خِلقة الله أو مثل خلقة الله، لأجاب -قطعاً- أنها مثل خلقة الله، فليست هي الخلقة الحقيقية، وقد قال تعالى: (ممن ذهب يخلق كخلقي)، وهذا يستوي فيه أن يكون بآلةً، أو بالشخص نفسه بفعل يده.وكون الإنسان يصور بهذه الصورة يوجب وقوعه في المحظور.فالمصور ولو بآلة يعتبر مصِّوراً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، وهذا مطلق يشمل أي حالةٍ تم بها التصوير، فمن قيد احتاج إلى دليل، وقولهم: إن التصوير بالآلة كالمرآة هذا قياس مصادمٌ للعموم؛ لأنه قياسٌ مع الفارق، ووجه الفارق أن الصورة في المرآة لا تثبت، والصورة بالآلة ثابتة، والأمر الثاني: أن الصورة في المرآة كانت للخلقة نفسها، فهي محاكاة الخلقة دون ثبوت، والصورة بالآلة محاكاة الخلقة مع الثبوت، فأصبح فعل المكلف بالزيادة على الآلة موجوداً، ولأن المصوِّر بالآلة يحتاج إلى تحميض، وهذا التحميض لا شك أنه فعلٌ للتصوير، ولذلك لا يُشَك أن التصوير بالآلة كالتصوير بالفعل، فلو قال قائل: إن التصوير بالآلة يحكي صورة الإنسان نقول: إذاً لو صور المصور الماهر صورة الإنسان على حقيقته لما كان مصوراً. والأمر الثالث: أنه ينتقض هذا القياس بالنظير، فلو سألنا وقلنا: لو أن إنساناً أوجد آلةً تخرج تمثال الإنسان بعد تصويره، فتطبع صورة الإنسان وتخرجه بالجِرم بنفس الصورة التي التقطت، لقيل: الإجماع على أن ذلك محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صورة تمثال).إذن هذه نفس الصورة، فإن كانت الآلة غير داخلة في التحريم فهذه أخرجتها الآلة، وإن كانت المشابهة تمنع التحريم فهذا مشابه، مع أننا حكمنا بالحرمة في كلتا الصورتين، ولذلك يقوى القول بالتعميم، لكن إذا وُجِدت الضرورة أو الحاجة في الصور لا حرج، كحاجة الإنسان إليها في معاملة استخراج الجواز، أو إثبات الهوية؛ لأنه لولا ذلك لضاعت مصالح العباد، ولحصلت مفاسد وشرور عظيمة، فهذا من باب الضرورة، ولا حرج في هذه الحالة.أما إذا لم تُوجَد الحاجة فالأصل التحريم وأنه لا يجوز، والفتنة الموجودة في صورة اليد كالفتنة الموجودة بصورة الآلة، بل الفتنة بصورة الآلة أعظم من الفتنة بصورة اليد، فالحقيقة أن الذي تطمئن إليه النفس أن مجرد وجود الآلة لا يكفي لزوال التحريم، فإن الآلة ليست بنفسها التي تصور، ومن قال: إنها تصور بنفسها لا شك أنه يكابر في الحس، أليست الآلة يُضْغَط عليها؟! ومن ضغط عليها لا يختلف اثنان في تسميته مصوراً، إذاً هو مصور، فدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون) هذا أمر. الأمر الثاني: أنه إذا طبع بالآلة حمَّض الصورة، ولو كانت صورةً فورية احتاج إلى دلكها، ولا بد من معرفة حقيقة التصوير حتى نحكم، ولذلك حقيقته تدل على وجود فعل المكلَّف، فالآلة إنما هي وسيلة، كالقلم الذي يُراش به، وكالمواد التي تعين على خروج النظير والظل.ولذلك الذي يظهر -والعلم عند الله- هو القول بالتحريم سواءٌ أكان عن طريق الظل أم كان عن طريق فعل اليد.فيَحرُم التصوير، وهو من كبائر الذنوب؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المصور وقال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، (يقال لهم: أحيوا ما خلقتم).ويحرم استعماله إلا من ضرورةٍ وحاجة، فلو أن إنساناً عنده صور للذكرى يأثم ببقائها، قال علي رضي الله عنه لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)، فهذا يدل على أنه لا يجوز استعمالها، وبناءً على ذلك يحرُم الاستعمال ويحرُم الإيجاد والفعل. [الصلاة في ثوب منسوج أو مموه بذهب] قال المصنف رحمه الله: [ويحرم استعمال منسوج أو مموه بذهبٍ قبل استحالته].ذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم الذهب، ويحرم استعمال الذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة).فلا يجوز استعمال الذهب والفضة في الطعام والشراب في الآنية وهي مصلحة حاجية، فيكون من باب أولى إذا لم توجد الحاجة وهي المصلحة الكمالية، وبناءً على ذلك يكون تنبيه الشرع على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة تنبيهٌ بالأعلى على ما هو أدنى منه، فلا يجوز استعمالهما في الأقلام، ولا في الساعات، ولا في غيرها، إلا ما ورد استثناؤه بالشرع بلبس المرأة ولبس الرجل؛ لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] عن النساء، ولبس الرجل للفضة في خاتمه كما أُثِر عنه عليه الصلاة والسلام في تختمه بالوَرِق.وأما استعمالها في الأقلام وغيرها فهذا لا يجوز، والأصل تحريمه، والاستثناء إنما يكون في خاتم الوَرِق، وحديث أم سلمة رضي الله عنها: (دونكم الفضة فالعبوا بها لعباً) المراد به التختُّم، فإن الإنسان إذا تختَّم لعب بالخاتم لعباً، ولو قيل: إن المراد (العبوا بها لعباً) يعني: استعملوها، فهذا تعبيرٌ مجازي، والقاعدة أنه إذا تعارض المعنى في قوله: (العبوا لعباً) بين الحقيقة التي هي اللعب الحقيقي، وبين المجاز الذي هو المعنى الحكمي، فإنه ينبغي صرف اللفظ على الحقيقة إلا بدليلٍ يوجب العدول عنها إلى المجاز.فلا يستعمل ما فيه ذهب، سواءٌ أكان في الثياب، أم البُسُط، أم الأبواب، أم في غيرها من أدوات البيوت أو في السيارة أو غيرها؛ لأن هذا أصل عام، فلا يجوز استعمالها إلا بما ذكرناه من تحلِّي النساء على الصورة التي ذكرناها سواءٌ أكانت بذهب أم فضة، وتحلي الرجال بالفضة في الخاتم، سواءٌ أكان إنساناً يحتاج إلى الخاتم أم لا يحتاجه. وقوله: [أو مموه بذهب] كالكاسات مثلاً تموَّه بالذهب، أو تُطْلى بالذهب، أو الساعة تطلى بالذهب، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم قليل الذهب وكثيره، وقد استثنى بعض فقهاء الشافعية وبعض فقهاء الحنابلة اليسير المموه، وهذا استحسان، ولا يصح الاستحسان مع دليل العموم، ولذلك الاستحسان لا يقوى في مثل هذا، بل يُبقَى على الأصل الذي يدل على التحريم. [الصلاة في ثوب الحرير] قال رحمه الله تعالى: [وثياب حرير]. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الحرير والذهب فقال: (هذان محرمان على ذكور أمتي، حلال لإناثهم).فدل على أنه لا يجوز لبس الذكر للحرير.ولبس الحرير يستثنى منه قدر أربع أصابع، وذلك لحديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وجمع بين السبابة والوسطى)، وقال ابن عمر: أو ثلاث أصابع أو أربع أصابع كما في الرواية الثانية.فقدر الأربعة أصابع من الثوب مستثنى من الحرير.وللعلماء وجهان، قال بعضهم: إنه أخذ من هذا الحديث بالأربعة الأصابع، وأخذ من حديث الحلة التي لبسها عليه الصلاة والسلام وكان سداها من حرير -والحديث فيه كلام- أنه ينظر في الملبوس: فإن كان أكثره حريراً حرُم، وإن كان أقله حريراً ولو أكثر من أربع أصابع يجوز.والصحيح أنه لا يستثنى من الحرير إلا قدر الأربعة الأصابع فقط، خلافاً للجمهور الذين قالوا: إنه يُستثنى إذا كان -مثلاً- قطناً وحريراً، وكان القطن أكثر، فقالوا: يجوز في هذه الحالة أن يلبس.والصحيح أن المستثنى قدر الأربعة الأصابع، وحديث الحُلَّة فيه ضعف في السند، وشك الراوي من جهة السداة أو تجويفة الحلة، ولا شك أنه إذا كان سداها بالطرف لا يصل إلى الأكثر. قال رحمه الله تعالى: [وما هو أكثر ظهوراً على الذكور] هذا مثل ما ذكرناه، فإذا كان أكثر ظهوراً بالنسبة للملبوس فإنه يحرم، لكن لو كان أقل -بناءً على مذهب الجمهور- يجوز، ولكن الصحيح قدر أربع أصابع فقط، أما إذا كان حريراً خالصاً فبالإجماع لا يجوز. قال رحمه الله تعالى: [لا إذا استويا]. في حال استوائهما قال بعض العلماء: يبقى على الأصل من الحرمة؛ لأن الاستواء داخل تحت دليل العموم الذي ينهى، ويبقى المستثنَى فقط إذا كان أقل وهذا صحيحٌ من جهة الأصول. قال رحمه الله تعالى: [ولضرورةٍٍ] أي: يجوز للرجل أن يلبس الحرير لضرورة، والضرورة جاء بها النص في حديث عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام، فإنهما سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخِّص لهما في لبس الحرير من الحكة ومن القمل، فأجاز لهما لبس الحرير من أجل الحكة؛ لأن الإنسان الذي معه حساسية في جلده إذا كان الثوب خشناً أثار الجلد وألهبه، لكنَّ ثوب الحرير يخفف احتكاك الجسم وثوران الجلد. قالوا: فرَخَّصَ النبي صلى الله عليه وسلم لهما، وهذا من باب الاضطرار، لكن ينبغي أن يفهم أمر، وهو أنه ليس المراد بجواز لبس من به حكة للحرير الإطلاق، بل يتقيد بالكل والجزء، فإن كانت الحكة في جميع البدن لبس ثوباً باطنه من الحرير وظاهره من غير الحرير ولا حرج عليه، فإذا تعذر عليه ولبس ثوباً كله حرير لا حرج. الأمر الثاني: لو أن يده فيها الحكة وبقية بدنه لا حكة فيها، فإنه يجعل بطانة الثوب لليد من حرير، وأما ما عداه فإنه يبقى على الأصل الموجب لعدم جواز اللبس. وقوله: [وحكةٍ أو مرضٍ أو جرب].كل هذا من باب التمثيل للضرورة.وفي نسخة (حرب)، ففي الحرب قالوا: يجوز أن يلبس الحرير من باب إغاظة الكافر، والحقيقة هذا الاستثناء لا أعرف له دليلاً صحيحاً يدل عليه. وإنما قالوا اجتهاداً: إن العدو إذا نظر إلى المسلمين وهم في نعمة هابهم.ولكن الحقيقة أن هذا لا يقوى على الاستثناء من النهي، فإن الهيبة تتحصل بأمور أخرى غير ما ذُكِر من اقتراف ما نهى الله عز وجل عنه، وقد أمَر الله عز وجل عند لقاء العدو بتقواه، وهي السلاح العظيم الذي يثبُت به العبد أمام عدوه، ولذلك ينبغي الرجوع إلى أصول الشرع وعدم الاجتهاد في هذا، وعدم تحليل ما حرَّم الله عز وجل بهذا الاجتهاد، ويُبقى على الأصل الذي يوجب عدم جواز لبس الحرير، سواءٌ أكان في لقاء عدوٍ أم غيره. لكن بعض العلماء قال: لعل استثناء الفقهاء بلبس الحرير في الحرب مبني على أن الأسلحة في القديم ربما تكون خشنة، وربما يكون ملمسها خشناً يضر بالبدن، فإذا لُبِس الحرير كان أرفق باحتكاك هذه الأسلحة أو حملها على العواتق، أو نحو ذلك.فإذا وجدت حاجة من مثل هذا فلا حرج، فيكون أشبه بالحاجة إلى الحكة والجرب.أما أن يُلبس من أجل إشعار العدو بالنعمة فلا، بل نقول: إن هذا يغري العدو أكثر، فإن العدو إذا رأى النعمة على المسلمين قال: هؤلاء إذا قتلناهم غنمنا خيراً كثيراً.فالأولى البقاء على الأصل الذي يدل على عدم الجواز وهو أولى وأحرى. وقوله: [أو حشواً] أي: ما يكون بالحشو في الداخل. وقوله: [أو كان علماً أربع أصابع فما دون] أي: يكون في طرف الثوب، على أن الاستثناء لأربع أصابع، فلا حرج، لما ذكرناه من حديث ابن عمر. وقوله: [أو رقاعٍ] الرقاع: جمع رقعة، والثوب يتخرَّق فيحتاج الإنسان أن يرقع هذه الشقوق، فيأخذ الرقعة دون الأربعة أصابع، ولا حرج. وقال بعض العلماء: لا تتقيد بالأربعة أصابع، بناءً على مذهب الجمهور، وقلنا: الصحيح تقيدها بالأربعة أصابع، وما زاد عن أربعة أصابع فلا. قوله: [أو لبنة جيبٍ] هي التي تكون في الرقبة، والجيب الذي يُدخَل منه الرأس فتكون له لبنة، يعني تكون مثل ما تُسمى في عرف الناس بالياقة اليوم، فهذه في بعض الأحيان تجعل من الحرير، ولا بأس إذا كانت في حدود أربع أصابع. وقوله: (وسجف فراءٍ) الفراء: من الفرو، وهو معروف، والسجف يكون في أطرافه، مثلما يوجد الآن في بعض الفراء الذي يُلبس في الشتاء، فيجعل في أطرافه قدر أصبعين أو ثلاث أصابع تكون على أطراف السجف، أو تكون من الأسفل في هذه الأطراف، فلا حرج عليه، لكن شريطة ألا تتجاوز الأربعة الأصابع.
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الصلاة) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (62) صـــــ(1) إلى صــ(8) شرح زاد المستقنع - باب شروط الصلاة [6] من المعلوم أن العبد المسلم يقف بين يدي ربه في اليوم كأقل حد خمس مرات يصلي فيها لله عز وجل، ولذلك فلابد من معرفة شروط الصلاة، والتي منها: طهارة المكان، ويتفرع على ذلك معرفة الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها، أو تكره، ونحو ذلك. [الطهارة من النجاسات شرط من شروط الصلاة] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [ومنها اجتناب النجاسات].ما زال المصنف رحمه الله يتحدث عن الأمور التي ينبغي توفرها في المصلي حتى يحكم بصحة صلاته، فذكر أن من هذه الأمور والشروط: شرط اجتناب النجاسة، يقال: اجتنب الشيء يجتنبه اجتناباً: إذا تركه وابتعد عنه، وأما النجاسة فقد تقدم الكلام عليها في باب الطهارة، فقوله رحمه الله: [ومنها اجتناب النجاسات] أي: يجب على المصلي أن يجتنب النجاسة سواءٌ في بدنه أم ثوبه أم مكانه الذي يصلي عليه، والأصل في إلزام الناس بالطهارة في الصلاة قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، فإن الآية الكريمة اشتملت على الأمر بتطهير الثوب، والمراد به أن يطهر ثوبه عند الصلاة بذكر التكبير الذي يفهم منه الشروع في الصلاة. وأما اشتراط طهارة البدن فقد دل عليها قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة الحائض: (ثم اغسلي عنك الدم وصلي)، فدل على أن المرأة لا تصلي إلا بعد أن تطهر بدنها من النجاسة؛ لأن الأمر يدل على الوجوب. وأما اشتراط طهارة المكان فلما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما بال الأعرابي في المسجد أمر بذنوبٍ من الماء أن يصب على ذلك البول)، وليس ذلك إلا لطهارة المكان، فقد قصد النبي صلى الله عليه وسلم تطهير المكان الذي يصلي فيه الناس في المسجد، ودل أيضاً على اشتراط طهارة المكان حديث أنس في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعاله أثناء الصلاة، فلما سلم قال للصحابة: ما شأنكم؟ -أي: لماذا خلعتم؟ - قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا فقال: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين -أي: أن هذين النعلين ليستا بطاهرتين-)، فاتقى النبي صلى الله عليه وسلم النعل النجس، فدل على أنه لا يجوز للمصلي أن يصلي على موضعٍ نجس. وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أمر بالصلاة في النعال في المسجد ثم قال: فإن وجد بهما أذى فليدلكهما بالأرض، ثم ليصل فيهما) أي: في المسجد الذي ليس بمفروش.فالمقصود من أمره عليه الصلاة والسلام بتطهير الحذاء أنه لا يجوز للمصلي أن يصلي على موضعٍ غير طاهر، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن هذا الشرط لازمٌ لصحة الصلاة، وإن كان هناك قولٌ شاذ يقول بعدم اللزوم، ولكن الصحيح لزوم طهارة البدن والثوب والمكان، فلو صلى المصلي وبدنه نجس، أو صلى وثوبه نجس، أو صلى ومكانه الذي يصلي عليه نجس فإن صلاته لا تصح مع العلم والقدرة على إزالة تلك النجاسة. [حكم من لاقى نجاسة أو حملها في صلاته] قال المصنف رحمه الله: [فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها، أو لاقاها بثوبه أو بدنه لم تصح صلاته] قوله: (فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها) الفاء في قوله: (فمن حمل) للتفريع والتفصيل، أي: إذا علمت أن اجتناب النجاسة لازمٌ على المصلي فاعلم أن من حمل نجاسةً يحملها بالاتصال، مثل أن تكون في ثوبه متصلةً به، فيوصف بالحمل تجوزاً وإن كان في الحقيقة أنه متلبسٌ بها. وقوله: (أو لاقاها) أصل الملاقاة: مواجهة الشيء للشيء، يقال: لقيه: إذا واجهه قالوا: فإذا اتصل الجسم بالجسم فقد التقيا، ثم إذا حصل اللقاء على سبيل المداخلة كأن يلقى نجاسةً وتدخل في ثيابه فهي مداخلة، وأما إذا لاقت النجاسة الجسم دون أن تداخله، كأن تكون جامدة لا تسيل على البدن أو الثوب فهي مماسة. فملاقاة النجاسة على حالتين: فإن كانت النجاسة دخلت في ثوبه، كأن تكون نجاسةً مائعةً فحينئذٍ لا إشكال، فيقال: لقيها وتنجس بها. وأما إذا لم تدخل واقتصر اللقاء على كونه مواجهاً لها إلى درجةٍ يمس فيها الجسم الجسم يقال: لاقاها، ثم فإذا مس الجسم الجسم لا يخلو من الأحوال: إما أن يمسها ببدنه، فيقال: لاقاها ببدنه، كأن يضع كفه على شيءٍ نجس، فيقال: لاقاها ببدنه؛ لأن بشرة البدن قد لاقت النجاسة، وإما أن يمسها ثوبه، وهو الحائل الذي بين البدن وبين النجاسة، فإذا كان الثوب حصلت به الملاقاة قيل: لاقاها بثوبه، فقال رحمه الله: (أو لاقاها ببدنه أو ثوبه) فالملاقاة بالبدن والثوب على هذه الصور التي ذكرناها.وحمل النجاسة له أمثلة، كأن يحمل النجاسة بالجرم النجس أو المتنجس، كشخصٌ أصابه رعاف، ثم سال دمه في منديل، ثم نسي ووضع المنديل في جيبه، فهذا حاملٌ للنجاسة بالوصف. فإن كان عالماً بها فحينئذٌ نقول: حاملٌ للنجاسة، وأما الحمل المنفصل، وهو الحمل الذي يكون جوف الشيء فيه نجس فهذا له حكمٌ يخصه، مثل أن يكون حاملاً لصبية صغيرة أو صبي صغير، فإنه لا يخلو في الغالب من وجود النجاسة، وهذه المسألة ذكرها العلماء رحمهم الله في زمانٍ قد لا يكون مما عمت به البلوى، ولكن في عصرنا اليوم وقعت هذه المسألة، فإن بعض العمليات الجراحية -أعاذنا الله وإياكم منها- يكون الإنسان فيها مضطراً إلى حمل كيس يكون فيه فضل بوله أو غائطه، ففي هذه الحالة يعتبر حاملاً للنجاسة، فلا يشترط في حمل النجاسة أن يضعها على عاتقه، بل الحمل المطلق الذي يطلق على الجيب والبدن، فإن كانت في جيبه قالوا: حملها بثوبه؛ لأن الثوب معلقٌ على البدن، والنجاسة موجودةٌ فيه، فهو حاملٌ لها من هذا الوجه، أو يحملها بالبدن نفسه، كالكيس الذي يكون فيه فضل البول -أكرمكم الله- في حالة الاضطرار، كما في بعض الجراحات المتعلقة بالمسالك البولية، فهذا حاملٌ للنجاسة، وحمل النجاسة لا يخلو من حالتين: إما أن يحملها معذوراً بها لا يمكن بحالٍ، أو يمكنه ولكن بمشقةٍ كبيرة أن يزيلها عنه فهذا يرخص له؛ لأن التكليف شرطه الإمكان وهذا ليس بإمكانه، كمريضٍ قرر الأطباء أنه لا بد من حمله لهذا الكيس الذي يكون فيه فضل بوله، فحينئذٍ نقول: إنه معذور؛ لأنه لم يكلف إلا ما في وسعه، وهذا ليس في وسعه إلا هذا الشيء.وأيضاً يكون معذوراً بحسب الموضع النجس بالمنديل أو القطن إذا احتاج إلى ذلك، مثل ما يقع في الجراحات السيالة التي لا تنكف إلا بمنديل أو بقطنٍ يوضع عليها، فهذه نجاسة ليست بيد الإنسان أن ينزه عنها فيعتبر مضطراً لها، ويجوز له أن يصلي مع حمله لها.أما الذي يتكلم عليه العلماء هنا فهو حال الاختيار لا حال الاضطرار، فلو حملها مختاراً وعالماً ذاكراً فإنه لا تصح صلاته. فقوله: (فمن حمل نجاسةً لا يعفى عنها) أي: يحمل النجاسة، وتكون هذه النجاسة شرطها مما لا يعفى عنه؛ لأن النجاسة على قسمين: ما عفي عنه وهو يسير الدم، وما لا يعفى عنه وهو ما زاد عن ذلك، وقد تقدم ضابط اليسير وخلاف العلماء رحمة الله عليهم فيه، وهناك من أهل العلم من يقول: كل نجاسةٍ يسيرة شق التحرز عنها فإنه يعفى عنها، وهذا من جهة المشقة لا من جهة اليسير، وفرق بأن تقول: يعفى عنه لمكان المشقة وشقة التحرز، وبين أن تقول: يعفى عنه ولو لم يشق، والفرق واضح في هذا، فإنك إن قلت: يعفى عن اليسير للمشقة، مثلما ذكروا في عرق الحمير، إذا ركب الحمار أو نحو ذلك، فهذا لمكان المشقة والعفو من جهة الاضطرار، بحيث لو أمكنه أن يتحرز لزمه، لكن الذي يتكلم عليه المصنف هنا عن نجاسة يعفى عنها في حال الاختيار كاليسير، أو نجاسة يعفى عنها بحال الاضطرار كالنزيف، فحينئذٍ هذا له حكم.فيشترط في النجاسة المؤثرة في الصلاة أن تكون مما لا يعفى عنها، فإن كانت يسير دمٍ يعفى عنه فهذا معذورٌ صاحبه ولا حرج عليه في حمله. فإن قال قائل يوماً: خرج من سني دمٌ، فأخذت المنديل وكففته، فتعلق بالمنديل، ثم انكف هذا الدم، فنظرت فإذا المنديل حامل لهذه النجاسة، فوضعته في جيبي فما حكم الصلاة؟ فحينئذٍ ننظر في هذا الدم الذي تعلق بالمنديل، فإن كان يسيراً -وهو دون الدرهم البغلي كما ذكرنا ضابطه في إزالة النجاسة- فإن صلاته صحيحة، ولا يؤثر فيه هذا اليسير، وأما إذا كان كثيراً متفاحشاً فحينئذٍ نقول: إنه حاملٌ للنجاسة وتبطل صلاته، ومن هنا سيخرج ما أُثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يعصرون البثرة وهي الحبة اليسيرة من الدم الذي يخرج في اليد، كانوا يعصرونها وربما عصروها وصلَّوا؛ لأن الذي يخرج من البثرة إنما هو شيءٌ يسير، فنقول: إذا كان الدم الذي حمله المنديل يسيراً فإنه مما يعفى عنه ويغتفر، وإنما ينظر العالم والفقيه في الدم المؤثر في الصلاة إذا كان كثيراً فاحشاً. وقوله: (أو لاقاها بثوبه أو بدنه) سبق الكلام على الملاقاة بالثوب والملاقاة بالبدن. وقوله: (لم تصح صلاته)؛ لأن الله عز وجل أمر بالطهارة، والطهارة شرط الصحة، وفقدها فقدٌ للحكم بالصحة. [حكم الصلاة بوجود النجاسة المنفصلة عن المصلي] قال المصنف رحمه الله: [وإن طيَّن أرضاً نجسة أو فرشها طاهراً كره وصحت] بعد أن بين لنا رحمه الله أنه ينبغي عليك إذا صليت أن يكون البدن والثوب والموضع الذي تصلي عليه طاهراً، شرع في مسألة النجس غير المتصل، فالنجاسة إذا كان المصلي متلبساً بها إما أن يكون مباشراً لها مثلما قال: (أو لاقاها) وإما أن يكون بحائل، فمن ترتيب الأفكار بدأ بالملاقاة؛ لأنها أقوى ما يكون وهي متصلة بالمكلف وحكمها أقوى وأشد، ثم شرع في مسألةٍ ثانية وهي النجاسة المنفصلة، ويتأتى ذلك لو أن إنساناً علم أن هذا الفراش بال عليه صبيٌ أو فيه نجاسة مثلاً، فجاء بسجادةٍ ووضعها فوق الفراش، بشرط أن يكون الفراش الأسفل الذي حكمنا بنجاسته غير رطبٍ، أي: في حال النجاسة، وأن يكون الأعلى أيضاً غير رطبٍ؛ لأنه لو كان الأدنى نجساً والأعلى طاهراً وأحدهما رطب، فإنه يتشرب النجاسة، فهنا نقول: إنه إذا وضع الطاهر على النجس فإنه قد حيل بينه وبين النجس، لكن من العلماء من يقول: تصح صلاته بدون كراهة؛ لأنه صلى على موضعٍ طاهرٍ، والله عز وجل كلفه طهارة المكان، فلا عبرة بهذا النجس المنفصل عن السجاد، أو عن الحصير الذي يصلي عليه. ومن أهل العلم من قال: إنه يفرق بين ما تسري فيه النجاسة وما لا تسري فيه، فقالوا: لو أنه وضع تراباً فوق الأرض النجسة وصلى يحكم بأن صلاته صحيحة، ولا كراهة في هذا، ومنهم من قال: تصح مع الكراهة، فيكون وجه الصحة أن الأرض طاهرة، ووجه الكراهة أنه معتمدٌ على نجسٍ، فتكون الكراهة من جهة الاعتماد؛ لأن ثقله وثبوته على الأرض إنما هو ثبوتٌ على أرضٍ نجسة، والحائل طاهر، فقالوا: الحائل يصحح الصلاة، والاعتماد يوجب كراهتها؛ لأن المتردد بين الحل المحض والحرام المحض يوصف بالكراهة على مذهب بعض الأصوليين، لكن يشترط في هذا التراب حينما يوضع على النجس ألا يكون رطباً، وألا تتخلله الرطوبة، ولذلك قالوا: لو طين أرضاً نجسة فجاء بطينٍ ووضعه فوقها في حال طراوة الطين تنجس الطين بملاقاة النجاسة.وهذه الأمور يذكرها العلماء وهي مسائل فرضية ليس المقصود بها حصر المسائل، وليس المهم أن تعرف حكمها، ولكن الأهم أن تعرف ضابطها؛ لأن الناس لا تسأل عن شيءٍ واضح غالباً، وإنما تسأل عن أمرٍ خفي، فإن كنت قد درست مسائل الطهارة فإنك قد علمت أنه ينبغي طهارة الموضع الذي تصلي عليه، فقد يسألك إنسان عن نجاسةٍ بحائل، ولا يكون فيها طين أو تراب، مثل ما يقع الآن في بعض الحافلات يكون موضع الخلاء -مثلاً- تحت الإنسان، فهل إذا صلى مع وجود هذا الحائل يعتبر كأنه مصلٍ على موضعٍ نجس؟ فهذا كله يذكره العلماء من باب الضابط، والأصل أن يعرف الإنسان القاعدة والأصل في المسألة، وليس المراد أن تحفظ الصورة بعينها بمقدار ما تفهم ضابط الصورة، حتى إذا سئلت عن مسألة مثلها تستطيع أن تخرجها عليها، ولذلك يعرف في الفقه وفي المتون الفقهية ما يسمى بالتخريج، وهو أن يكون أصل المسألة منصوص عليه عند العلماء المتقدمين، وتطرأ مسألة موجودة يمكن إلحاقها وتفريعها على هذه المسألة، وهذا يعتني به العلماء كثيراً لما ذكرناه، حتى يكون الفقيه مستوعباً للمسائل التي تطرأ وتجد عليه من حوادث الناس. حكم الصلاة مع وجود نجاسة متصلة بطرف المُصلَّى قال المصنف رحمه الله: [وإن كانت بطرف مصلى متصلٍ صحت إن لم ينجر بمشيه] أي: إن كانت النجاسة بطرف المصلى غير متصلةٍ به فإنها لا تؤثر، ما لم تكن بطرف المصلى وتنجر بمشيه، وهذا يقصد منه أن يكون الشيء النجس بمثابة المحمول على المصلى، وذكر العلماء رحمهم الله أمثلة لهذا بالنجاسة التي تكون في طرف الحبل أو طرف القماش المتصل بالثوب، فلو أن إنساناً أراد أن يصلي وهو على سفر ومعه بعيره ويخشى أن البعير يفر، فربما عقد حبله بيده، وقد تكون الدابة نجسة، فهذه صورة في الأصل قد تكون فرضية، لكن المراد منها وضع الضابط كما قلنا، وليس المراد أعيان الصور، ولكن المراد القاعدة التي تخرجت عليها هذه الصورة، فقد ذكر لك الشيء النجس المتصل فقال لك: [لاقاها]، وذكر لك الشيء الذي بينك وبينه طاهر، ويبقى الشيء الذي يتصل بك كأنك حاملٌ له، فإن حملت النجس فلا إشكال، ولكن عندما يكون هذا النجس متصلاً بك بواسطة، بحيث لو تحركت تحركت به، أو يكون متصلاً بك بواسطة لا تتحرك بتحركك، فلو أن إنساناً ربط شيئاً نجساً بحبلٍ، فهذا الشيء النجس المتصل بالحبل لا يخلو من حالتين: إما أن يكون متشرب المادة بالحبل فحينئذٍ الحبل بذاته نجس، ولا يتكلم العلماء عليه؛ لأنه كحمل النجاسة، بمعنى أن يكون طرف النجس سائلاً وسرى إلى الحبل برطوبةٍ أو نحوها فإننا نقول: الحبل نجس، وحكم حمل هذا الحبل كحمل النجاسة؛ لأنه يستوي أن يكون طرف الطاهر في جيبك أو يكون طرفه بعيداً عنك ما دام أن الأصل واحد، كما لو حمل شيئاً وأطرافه التي تتصل بالمصلي نجسة، وأطرافه التي هي بعيدةٌ عنه طاهرة، فلا تؤثر طهارة البعيد ما دام أن القريب نجس؛ لأن الجرم واحد، كذلك لو كان طرفه الطاهر في جيبه وطرفه النجس في موضعٍ آخر، فإن الحكم بذاته واحد، فكما حكمت ببطلان صلاته باتصاله بالنجس مع أن المتصل به طاهر، كذلك تحكم ببطلانها إذا كان المتصل به طاهراً والبعيد عنه نجس. واحتاج العلماء إلى وضع ضابط في الحبل فقالوا: ينجر بمشيه؛ لأنه إذا انجر بمشيه أشبه الحامل له، لكن لو كان لا ينجر قالوا: لا يعتبر هذا الشيء النجس مؤثراً.ومثلوا له بالجرو -ولد الكلب أكرمكم الله- على القول بنجاسته، وهذا أقوى الأمثلة؛ لأنه ينجر بجرك له، فأشبه ما لو حملته، فيكون طرفه كطرف النجس، فهذا الذي ذكره المصنف ودرج عليه.وهناك قول لبعض العلماء أن النجاسة في هذه الصور لا تؤثر، وهو أصح وأقوى، ما لم تتشرب النجاسة في الحبل؛ لأن كونه ينجر لا يستلزم الوصف بكونه محمولاً، وفرقٌ بين المنجر وبين المحمول؛ لأن المنجر منفصل الذات، والمحمول كأنه موضوعٌ على الذات، فالصحيح في هذه المسألة الصحة؛ لأن المجرور والمتصل بحبل ليس كالمحمول لما ذكرناه، إلا إذا كان هذا الحبل الذي يجره الإنسان طرفه نجس، فإننا قلنا: أَشبَهَ ما لو حمل شيئاً طرفه طاهر من جهة ونجسٌ من جهةٍ أخرى، فإنه يحكم ببطلان الصلاة.فالخلاصة أن العبرة بالتنجيس إذا كان الشيء المتصل بك نجس الطرف، أما لو كان طاهراً في ذاته متصلاً بنجسٍ لا يسري إلى هذا الشيء الذي أنت ممسكٌ به أو واقفٌ عليه فإنه لا يؤثر؛ لأنه ليس في حكم ملاقاة النجاسة ولا حملها لكن لو كان طرف الحبل نجساً فإننا نحكم بالتأثير.وبناءً على ذلك يستوي عندنا أن ينجر أو لا ينجر، ما دام أنه نجس الطرف، كما لو صليت على سجادة وطرفها نجس، فإنك كأنك صليت على النجس؛ لأن الذات واحدة، وبناءً على هذا نقول: إن التفصيل بين الانجرار وعدمه مرجوحٌ، والأرجح والله أعلم القول بالصحة. [حكم من علم بالنجاسة بعد الانتهاء من الصلاة] قال المصنف رحمه الله: [ومن رأى عليه نجاسةً بعد صلاته وجهل كونها فيه لم يعد] ذكر رحمة الله عليه الأحوال للنجاسة، وقرر لك الأصل أنه ينبغي عليك اتقاء النجاسة، وذكر لك صور ملاقاة النجاسة من جهة التأثير وعدم التأثير.ثم شرع الآن في مسائل متعلقة بالنجاسات وهي خارجة عن الأصل من جهة الاضطرار، إما بنسيانٍ أو خطأ، فلو أن إنساناً صلى وعليه نجاسة، ولم يعلم بالنجاسة إلا بعد انقضاء الصلاة فحكمه فيه قولان للعلماء: أصحهما أن من صلى وعليه نجاسة وعلم بها بعد انتهاء الصلاة أن صلاته صحيحة، والدليل على هذا ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بأصحابه وفي أثناء الصلاة خلع نعليه، فلما رآه الصحابة خلع نعليه ظنوا أن هناك تشريعاً جديداً بخلع النعال وعدم جوازه في الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم سألهم: ما شأنكم؟ فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين).ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر تكبيرة الإحرام، وفعل من أركان الصلاة ما فعل؛ لأن تنبيه جبريل وقع أثناء الصلاة، وقد فعل بعض أركانها، فلو كان الناسي أو الجاهل لوجود النجاسة يتأثر بوجودها لاستأنف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ولكان كبر من جديد، ولأعاد من أول الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام بنى على ما كان دل على أن ما مضى بمكان الجهل وعدم العلم معفوٌ عنه، ولذلك فأصح الأقوال أن من نسي النجاسة أو لم يعلم بالنجاسة أن صلاته صحيحة، ولا تلزمه الإعادة، لكن لو علم بها أثناء الصلاة لزمه قولاً واحداً أن يزيل هذه النجاسة التي علقت به، وذلك بشرط عدم وجود الفعل الكثير الذي يخرجه عن كونه مصلياً كما سيأتي إن شاء الله في صفة الصلاة. [حكم صلاة من علم بوجود النجاسة ثم نسيها] قال المصنف رحمه الله: [وإن علم أنها كانت فيها لكن نسيها أو جهلها أعاد] هذا مذهب التفصيل، فبعض العلماء يقول: من صلى في ثوبٍ نجس، أو على موضعٍ نجس، أو في بدنه نجاسة، ولم يعلم بها، أو علم بها ثم نسي، فما دام أنه أثناء الصلاة لا يعلم فالحكم أنه لا تلزمه إعادة الصلاة، وهذا هو الصحيح.ومنهم من فصل -كما درج عليه المصنف رحمه الله- فقال: إذا كان غير عالمٍ بالنجاسة، ثم علم بعد الصلاة تصح صلاته، لكن إذا كان عالماً بها ثم نسيها وصلى فإن صلاته باطلة. مثال من جهل وجودها وعلم بعد الصلاة: شخصٌ صلى على سجادة وهو يظن أنها طاهرة، وعهده أن هذه السجادة التي يصلي عليها طاهرة، فلما صلى وانتهى من الصلاة جاءته امرأته، أو جاءه أخوه، أو أحد الناس وقال له: هذه السجادة التي صليت عليها نجسة. فنقول في هذه الصورة: إنه جاهلٌ بوجود النجاسة؛ إذ إنه غير عالمٍ بها، والحكم أن صلاته صحيحة. والمثال الثاني: شخصٌ أصابت ثيابه النجاسة فلم يغسلها بعد الإصابة، وانشغل حتى نسي، فأذن عليه المؤذن ونزل بثوبه النجس وصلى، وبعد الصلاة تذكر النجاسة.فعلى الصحيح أنه لا تلزمه إعادة، وذلك لظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه؛ لأن المعنى فيه وجود النسيان. والقول الثاني: تلزمه الإعادة، يقولون: إنه فرط وقصر؛ لأنه كان عالماً بها قبل الصلاة وفرط وقصر في المبادرة بإزالة النجاسة وهذا -كما قلنا- يحتاج إلى نظر من جهة تفريطه في الغسل، وممكن أن يقال أيضاً: إن من صلى على موضعٍ لا يعلم بنجاسته أنه مفرط؛ لأنه لو قلب السجادة أو ثوبه وتحرى ربما رأى النجاسة، فالمعنى الذي هو التفريط موجودٌ في هذا كما هو موجودٌ في ذلك، وإن كانت الصورة الثانية أكثر من جهة تعدد الأنواع، لكنه لا يمنع التأثير في العلة. [حكم الصلاة في الجبيرة إذا كانت نجسة] قال المصنف رحمه الله: [ومن جُبِرَ عظمه بنجسٍ لم يجب قلعه مع الضرر]. الجبيرة على حالتين: إما أن تكون بطاهر، أو تكون بنجس، فلو أن إنساناً جبر عظمه بنجس، ويتأتى ذلك بالعظام النجسة، أو توضع له مواد نجسة تساعد على التحام العظم، فإن بعض العلماء قال: يلزمه قلع الجبيرة وإبدالها بجبيرة طاهرة، وذلك لأن الجبيرة النجسة موجودٌ بديلٌ عنها، وهو الجبيرة الطاهرة، ولا يحكم باضطراره مع وجود البديل؛ لأن شرط الحكم بالضرورة عدم وجود البديل، وبناءًَ على ذلك لما وجدت الجبيرة الطاهرة صار غير مضطر، بل صار مختاراً، وقال بعض العلماء: نفصل فيه: فإن شق عليه نزع هذه الجبيرة وحصل له ضرر بنزعها فإنه يبقي عليها ولا تلزمه الإعادة، ولا يلزمه قلعها، وإن لم يشق عليه نزعها وأمكنه النزع فإنه يجب عليه. فتحديد الخلاف بين العلماء أن يقال: من جبر عظمه بنجاسةٍ أو بجبيرةٍ نجسة، وأمكنه إزالة هذه النجاسة دون تعبٍ ولا عناءٍ ولا مشقة يلزمه قولاً واحداً أن يزيلها، وذلك لأنه مأمورٌ بالطهارة، وبإمكانه أن يتطهر ولا ضرورة له، وبناءً على ذلك يبقى على حكم الأصل، فهذه الصورة الأولى نريد أن نبحث أحكامها، فلو قلت لإنسان: هذه الجبيرة طاهرة أم نجسة؟ فقال: نجسة تقول له: اخلعها. فإن قال: لا أستطيع؛ لمشقة ذلك عليه، فحينئذٍ يكون له حكم سيأتي، لكن لو قال: أستطيع وبالإمكان ولا مشقة، نقول: اخلعها.فإن امتنع عن خلعها وبقيت الجبيرة حتى انجبر العظم فتلزمه إعادة الصلوات كلها، إذا كان قادراً على إزالتها وامتنع من الإزالة حتى انجبر العظم؛ لأنه لم يصل كما أمره الله عز وجل متطهراً في بدنه، ولذلك يلزم بالإعادة.أما إذا كانت الجبيرة لا يمكن نزعها أو في نزعها مشقة، فتبقى على ما هي عليه، وقال بعض العلماء: تلزمه الإعادة لأنه فرط، وكان بإمكانه أن يجبر بالطاهر ولكنه فرط.ولكن الأقوى والصحيح أنه يعذر لمكان وجود الحرج والمشقة لإزالة هذه الجبيرة النجسة.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 46 ( الأعضاء 0 والزوار 46) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |