|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() من تراث علم الاقتصاد: كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة فاطمة حافظ ![]() شهدت الحضارة العربية في قرونها الأولى نشاطا علميا واسعا فما من علم من العلوم المتداولة في ذلك الزمان إلا وكان للأسلاف صنفوا فيه مصنفات قد تزيد أو تكثر بحسب أهمية العلم ومدى الحاجة إليه، ومن ضمن هذه العلوم علم الاقتصاد الذي كان يظن أنه من وضع الحضارة الغربية. وبصفة عامة، اتخذ التصنيف المتخصص في علم الاقتصاد في الحضارة الإسلامية أحد شكلين: الأول: كتب الفقه الاقتصادي، وهي كتب تناقش الموضوع الاقتصادي من أرضية فقهية شرعية، ولدينا تراث عريض من هذه الكتب التي افتتح التصنيف فيها منذ وقت مبكر للغاية مؤسسي الفقه الإسلامي كأبي يوسف في كتابه الخراج والحسن الشيباني في كتابه الكسب، وتندرج ضمن هذا القسم كل كتب الحسبة والأموال. والثاني: كتب أصول الاقتصاد، وهي كتب تؤصل لعلم الاقتصاد بمعزل عن العلوم الأخرى أو تناقش بعض الظواهر الاقتصادية، وهي أقل من سابقتها ومن أمثلتها: التبصرة بالتجارة للجاحظ، والإشارة لمحاسن التجارة لأبي جعفر بن علي الدمشقي، وهو واحد من المصنفات التي حظيت بعناية الدارسين والمستشرقين بحسبانه أكثرها نضجا واكتمالا. جعفر بن علي الدمشقي وكتابه هوية جعفر بن علي الدمشقي ليست معروفة لنا إلا من خلال بعض الشواهد البسيطة المتضمنة في كتابه الذي يحمل عنوان “الإشارة إلى محاسن التجارة ومعرفة جيد الأعراض ورديئها وغشوش المدلسين فيها” والمتضمنة أن الانتهاء من نسخه تم في السادس من رمضان سنة سبعين وخمسمائة، أي أنه عاش في القرن السادس، وقد فسر الدكتور رفعت العوضي عدم وجود ترجمة له ضمن كتب التراجم والببلوغرافيا مرجعا ذلك إلى اشتغاله بالتجارة في الأسواق كما أشار في أحد مواضع الكتاب، وهو ما حال دون وضعه ضمن كتب التراجم التي عنيت إما بأهل العلم أو الأدباء أو المهنيين.[1] صدر الكتاب للمرة الأولى عن مطبعة المؤيد بالقاهرة عام 1901 وعلى نفقتها، وهذه الطبعة تستبق طبعة المستشرق الألماني هيلموت ريتر ( 1892-1971) للكتاب وترجمته له، ويقع الكتاب في ثلاثين فصلا تتفاوت من حيث الإيجاز والتطويل فبعضها لا يتجاوز صفحة وبعضها يبلغ تسعة عشر صفحة وأعني به فصل (جيد الأعراض ورديئها). تناول الدمشقي في كتابه قائمة طويلة من الموضوعات من قبيل: تعريف المال وتقسيماته، الغنى، نسبية قيمة الأموال، الحاجات وتعددها، الثمن، وظائف النقود، العرض والطلب، كيفية اكتساب الثروة، وأنواع الملكية، وبيان بالبضائع المتداولة في الأسواق وكيفية التمييز بين رديئها وجيدها، أنواع التجار وما يلزم كل تاجر، وسائل حفظ المال وسبل تنميته، والمال وعلاقته بالأخلاق، والمال والعلم، والنهي عن إضاعة المال، وما إلى ذلك من موضوعات جلها يندرج في صلب علم الاقتصاد. وهذه الموضوعات يمكن تصنيفها تصنيفات متعددة؛ فبعضها يتعلق بالتاجر وبعضها الآخر يتعلق بالبضائع كما تفترض دائرة المعارف الإسلامية، وبعضها يتعلق بالتصنيف الفني لموضوعات الكتاب والذي يقترحه شوقي دنيا الذي وضع موضوعات الكتاب ضمن ثلاث مجموعات: المسائل الاقتصادية، والمسائل الإدارية، والمسائل الفنية المتعلقة بصنوف الأموال. وبغض النظر عن هذه التقسيمات فإن الكتاب تناول عددا من القضايا التي ربما لم يسبقه أحد في تناولها بهذا العمق والتخصص كتعريف المال وأنواعه، وسبل التعامل معه، وذكر أنواع التجار والقواعد الواجب عليهم اتباعها. المال وتقسيماته عرف الدمشقي المال بأنه اسم لكل ما يقتنى الجليل منه والحقير، وقسمه إلى أربعة أنواع.
والأموال كما يعتقد الدمشقي ليست محتقرة في ذاتها بل هي محمودة، والغنى يفضل الفقر ذلك أنه لو كان الغنى موروثا لأخبر عن عراقة أصل وإن كان مكتسبا طارئا لأخبر عن همة عالية وعقل وافر ورأي كامل، ويبلغ مدح الدمشقي للغنى مبلغه حين يقول: ولو لم يكن في الغنى إلا أنه من صفات الله تعالى لكفى فضلا وشرفا عظيما[2]، وبهذا المعنى فإن الدمشقي يعد صوتا من التراث يؤمن أن الإسلام يحبذ الغنى ولا ينحاز للفقر وذلك خلافا للفكرة الشائعة أن الإسلام يقف في صف الفقر. اكتساب المال وسبل حفظه يعتقد الدمشقي أن اكتساب جميع الأموال يتأتى من سبيلين هما:
ومما يميز كتاب الدمشقي عن سائر المصنفات الاقتصادية تمييزه بين صنوف التجار وما يلزم كل تاجر منهم، وهم حسب تصنيفه:
مما سبق يتبين أن كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة لأبي جعفر الدمشقي يعد أحد المصنفات التأسيسية في علم الاقتصاد، وإذا كانت بعض موضوعاته لا تندرج ضمن علم الاقتصاد الوضعي فما ذلك إلا لأن صاحبها أراد أن يقدم علما لا ينفصل عن المبادئ الدينية والقواعد الأخلاقية. [1] رفعت العوضي، تحليل اقتصادي لكتاب الإشارة إلى محاسن التجارة للدمشقي (القرن السادس الهجري)، القاهرة: مجلة الدراسات الإسلامية التجارية، يناير أبريل 1985، مج 2 ع 5-6، ص 161. [2] أبو الفضل جعفر ابن علي الدمشقي، الإشارة إلى محاسن التجارة، القاهرة: مطبعة المؤيد، 1318هـ، ص2-3. [3] نفسه، ص 38-41. [4] نفسه، ص57-58. [5] نفسه، 48-52.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الإصطخري عالم يسبق عصره ![]() وقد ولد الرحالةُ عالِمُ الأرضِ والجغرافيا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري (الذي يُعْرَفُ في بعض الأحيان باسم الكرخي) بمدينة إصطخر، وهي مدينة برسيبوليس القديمة في بلاد فارس. وعاش في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وإن كنا لا نعرف الكثير عن نشأته الأولى؛ فالموسوعات أو كتب تاريخ العلوم لم تحدد عام ميلاده، وكذلك لم تذكر شيئًا عن سيرة حياته.. إلا أنه كان رحالة زار الكثير من أقطار العالم الإسلامي؛ فقد زار أكثر أقطار آسيا حتى بلغ سواحل المحيط الهندي، ودخل الهند وتوفي بها بعد عام (340هـ/ 951م)[1]. وعن منهجه العلمي الذي اتبعه في كتابه "المسالك والممالك"، الذي يُعَدُّ من أشهر مؤلفاته، فإن "الإصطخري" يستعرض ذلك فيقول: "فإني ذكرت في كتابي هذا أقاليم الأرض على الممالك، وقصدت منها بلاد الإسلام، وتفصيل مدنها، وتقسيم ما يعود بالأعمال المجموعة إليها.. ولم أقصد الأقاليم السبعة التي عليها قسمة الأرض، بل جعلت كل قطعة أفردتها مفردة مصورة، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن، وما في أصقاعه من المدن والبقاع المشهورة والبحار والأنهار، وما يحتاج إلى معرفة من جوامع ما يشتمل عليه ذكر الإقليم؛ لأن الغرض من كتابي هذا تصوير هذه الأقاليم التي لم يذكرها أحد علمته...". وقد نهج "أبو إسحاق الإصطخري" منهجًا علميًّا يدل على قدرته الفائقة في تصوُّر شكل الأرض؛ فلم يتجاهل الناحية الفلكلورية أو الاقتصادية أو الإثنوغرافية!! (الإثنوغرافيا هو علم في وصف السلالات البشرية وعادات وأخلاق الشعوب).. والحق أن هذه الطريقة التي سار عليها "الإصطخري" هي ذات الطريقة التي ينتهجها العلماء المعاصرون في مثل هذا النوع من الدراسات؛ وهو ألا تقتصر الدراسات الجغرافية على الجوانب الطبيعية فقط، دون التفات إلى الأبعاد الاقتصادية والثقافية والسلالية وغيرها مما يخص البشر الذين يحيون في هذه البقعة من الأرض. كما يُحسَب للإصطخري أنه ركَّز على المدلول الجغرافي والسياسي والإداري، وتجنب النظريات التقليدية التي تنُصُّ على تقسيم الأرض إلى سبعة أقاليم، وأخذ كل إقليم بذاته كوحدة جغرافية مستقلة. لقد فهم "الإصطخري" منهج علماء المسلمين في مجال علم الجغرافيا فهمًا جيدًا مُحكمًا، وطبَّقه في مؤلفاته بدقة واستنباط ذكي؛ وبهذا عَرَفَ أصول المنهج العلمي التجريبي القائم على القياس والاستقراء، والمستند إلى المشاهدة والتجربة والتمثيل. وإضافةً إلى كل هذا فقد اشتهر أبو إسحاق الإصطخري بالإنصاف لمن سبقوه من علماء الجغرافيا، كما اتَّصف بالصدق والأمانة العلمية وتقوى الله، وهي صفات - كما ترى - نحن في أَمَسِّ الحاجة إليها في ميادين العلوم التجريبية وغيرها، وهي الصفات التي - كما رأينا من قبل كثيرًا - كانت تميِّز البحث العلمي في عصور الحضارة الإسلامية.. ولم تكن ثمار تلك الصفات مقصورة على الأمة الإسلامية، بل أفادت منها الإنسانية جمعاء. مؤلفات الإصطخري أما عن مؤلَّفات "الإصطخري" فإنه لم يكن صاحب مؤلفات كثيرة، وكل ما وصلنا من أعماله كتابان، هما: (صور الأقاليم)، والثاني (المسالك والممالك). ولعل تأثُّر "الإصطخري" واضح بعالم الجغرافيا السابق عليه "ابن خرداذبة" الذي ألَّف كتابًا بنفس العنوان (المسالك والممالك). كذلك اعتمد على كتاب "البلخي" (تقويم البلدان)؛ فماثل "الإصطخري" كتاب البلخي في مخططه، ولكن بتوسع ومراجعة وتصحيح لكثير مما جاء فيه، وهذان المؤلفان للإصطخري يعدان من المراجع الأمهات في علم الجغرافيا بالأخص. وقد كان اعتماده الأكبر في تصنيف مؤلَّفَيْهِ السابقَيْن على رحلاته العديدة في طلب العلم في شتى الآفاق الإسلامية؛ فجاء وصف تلك البلدان بإطناب، إضافة إلى تزيينه كتابه الأول (صور الأقاليم) بالخرائط والأشكال التوضيحية[2]. أما مؤلَّفُه الأشهر (المسالك والممالك) فقد ظل في معظم مكتبات العالم كمخطوط حتى جاءت سنة (1287هـ - 1870م) وطبعه المستشرق (دي خويه) في ليدن بهولندا، وقد أُعِيدَ طبعه بالصور سنة (1346هـ - 1927م)، وقام بتحقيقه محمد جابر عبد العال الحسيني سنة (1381هـ - 1961م) ونشرته وزارة الثقافة المصرية بالقاهرة آنذاك؛ ولعل ذلك كان السبب في انتشار الكتاب وتداوله من قِبَل القراء في جميع أنحاء المعمورة، ومنه عُرفت مكانة الإصطخري في ميدان علم الجغرافيا الإقليمية[3]. إنجازات الإصطخري والحقيقة أن إنجازات الإصطخري في علم الجغرافيا كانت أكبر بكثير من أن ينظر إليها على أساس مؤلفاته.. فالإصطخري يُعَدُّ من أوائل العلماء الذين جمعوا بين الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا السكانية في كتبهم، وإذا كان قد اقتصر في مؤلفيه على وصف العالم الإسلامي، فقد قسَّمَهُ إلى عشرين إقليمًا، وكان يتحدث عن الإقليم لا بوصفه نطاقًا يضم عددًا من درجات خطوط العرض، ولكن بوصفه منطقة جغرافية واسعة، لها خصائصها الطبيعية والسكانية والثقافية والاقتصادية التي تُميِّزها. وقد تحدث في البداية عن الرُّبع المعمور من الأرض وأبعاده.. ثم تحدَّث عن البحار.. ثم بدأ بوصف جزيرة العرب والخليج العربي مع المحيط الهندي.. ثم السند والهند وأنهار سجستان.. ثم المغرب مع الأندلس وصقلية.. ومصر مع بلاد الشام وبحر الروم والجزيرة.. وإيران الجنوبية والوسطي والشمالية مع أرمينيا وأذربيجان وبحر الخزر (قزوين).. ومدن برطس في تخوم البحر المذكور وأعمالها وكورها وجبالها وأنهارها وعمائرها.. ثم يختم بحثه أخيرًا بوصف بلاد ما وراء النهر (التركستان). ويذكر "الإصطخري" عن كل قطر معلومات تتعلق بالحدود والمدن والمسافات وطرق الموأصلاًت، ويذكر تفاصيل متفرقة عن المحاصيل والتجارة والصناعة، وعن أجناس السكان، ولكن معظم التفاصيل تتعلق بالأقطار التي زارها[4]. وقد أولى "الإصطخري" عناية خاصة لموضوع المد والجزر؛ فله نظريات جزئية في هذا المضمار؛ مما يدل على طول باعه في علم الأنواء، والمعروف بين العلماء في الماضي أن علم الأنواء جزء لا يتجزأ من علم الجغرافيا. ولا ننسى في حديثنا عن إنجازات "الإصطخري" أنه حاول بكل ما يملك أن يصحح الأخطاء الجغرافية التي وقع فيها علماء الجغرافيا السابقون له، واتخذ من الخرائط التي زخرت بها مؤلفاته وسيلة لشرح وإبراز الأفكار الجغرافية التصحيحية.. ومن أبرز تلك الخرائط (خريطة بحر قزوين) التي شهد المستشرقون بدقتها، كما ركز على طريقة المقارنة بين المدن[5]. إلى غير ذلك من الإنجازات المبدعة التي تحملك على الاعتقاد بأنك أمام سيرةٍ وإنجازات لعالِمٍ من القرن العشرين الميلادي (الخامس عشر الهجري)، إلا أنه كان يعيش بين علماء القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي)!!. وقد عرف قدره المقدسي (ت 380هـ/ 990م) حين أُتيح له أن يرى بعض كتبه؛ فأكثر النقل عنه في (أخبار السند)، وقال يثني عليه: ".. ورأيت ببخارى مترجَمًا لإبراهيم بن محمد الفارسي (يعني الإصطخري)"، ثم يُعلِّق عليه بقوله: "..وهو كتاب قد أجاد أشكاله.."[6]. كما يُذكَر أن "أبا إسحاق الإصطخري" ساح العالم الإسلامي؛ لذا استفاد من رحلاته في تصنيف كتابه (المسالك والممالك) الذي يكتسب أهمية بالغة؛ إذ يعتبر رائدًا للكتب الإقليمية التي أُلِّفَتْ بعده في منهجه ومعلوماته وتبويبه[7]. فرحم الله عالمنا العظيم الإصطخري، ونسأل الله أن يهبنا أمثاله من العلماء الذين غيروا بجهودهم وعقولهم حركة التاريخ ومسيرة البشرية. ------------------------------- [1] عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص199. [2] على بن عبد الله الدفاع: رواد علم الجغرافية في الحضارة العربية والإسلامية ص104، 105. [3] محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص277،276. [4] عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص199. [5] على بن عبد الله الدفاع: رواد علم الجغرافية في الحضارة العربية والإسلامية ص104. [6] عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص199. [7] على بن عبد الله الدفاع: رواد علم الجغرافية في الحضارة العربية والإسلامية ص103. منقول
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() من هو البيروني؟! ![]() من هو البيروني؟! عرَّفه جورج سارتون في كتابه (مقدمة لدراسة تاريخ العلم) بقوله عنه: "كان رحّالة وفيلسوفًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا، وجغرافيًّا، وعالمًا موسوعيًّا، ومن أكبر عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم". ووصفه المستشرق الألماني سخاو بقوله: "أعظم عقلية عرفها التاريخ"[1]. إنه أبو الريحان أحمد بن محمد البيروني الخوارزمي، الذي وُلِدَ في بلدة بيرون، إحدى ضواحي مدينة (كاث) عاصمة الدولة الخوارزمية سنة 362هـ/ 963م، والذي اطَّلع على فلسفة اليونانيين والهنود، وعَلَتْ شهرته، وارتفعت منزلته عند ملوك عصره[2]. مؤلفات البيروني كان لمؤلَّفاته اليد الطُّولى في صناعة أمجاد عصر النهضة والثورة الصناعية في العالم الغربي؛ فقد حدَّد بدقة خطوط الطول وخطوط العرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وسبق في ذلك جاليليو وكوبرنيكوس، إضافةً إلى اكتشافاتٍ أخرى عديدة.وقد رحل البيروني إلى الهند وأقام فيها بضع سنين، نتج عنها كتابه (الطائر الصيت)، المعروف بكتاب الهند، والمعروف بـ (كتاب البيروني في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) أودع فيه نتيجة دراساته من تاريخ وأخلاق وعادات وعقائد وآداب وعلوم الهند، ومن جملتها ما كان عندهم من المعرفة بصورة الأرض. ويصف المستشرق (روزن) منذ أكثر من سبعين عامًا هذا الكتاب بأنه "أثر فريد في بابه، لا مثيل له في الأدب العلمي القديم أو الوسيط، سواء في الغرب أم في الشرق"[3]. وغير كتابه السابق كان للبيروني أيضًا كتب أخرى كثيرة ومهمة في ضروب مختلفة من العلم؛ ففي الجغرافيا ألَّف: تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض، وتحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، أمَّا في التاريخ؛ فله: تصحيح التواريخ، والآثار الباقية عن القرون الخالية، وفي الفلك كان له مؤلفات عديدة، مثل: الاستشهاد باختلاف الأرصاد، واختصار كتاب البطليموس القلوذي، والزيج المسعودي، والاستيعاب لوجوه الممكنة في صنعة الإسطرلاب، وتعبير الميزان لتقدير الأزمان، وقانون المسعودي في الهيئة، وفي الرياضيات أُثِرَ عن البيروني مؤلَّفات عِدَّة؛ كاستخراج الكعاب والأضلاع وما وراءه من مراتب الحساب، وكتاب الأرقام ورغم اهتمامه بالعلم فإنه كان ذا باعٍ طويل في الأدب؛ لذا كتب شرح ديوان أبي تمام، ومختار الأشعار والآثار، وفوق كل ذلك كان له مؤلَّفات عديدة في الفلسفة، مثل: كتاب المقالات والآراء والديانات، ومفتاح علم الهند، وجوامع الموجود في خواطر الهنود، وغير ذلك العشارت من المؤلَّفات الضخمة[4]. وبهذه المؤلفات يكاد البيروني يكون قد ألَّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره؛ فقد كتب في الرياضيات والفلك والتنجيم والحكمة والأديان والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والأحياء والصيدلة. إنجازات البيروني أما في مجال الطبيعيات فقد اهتم بالخواص الفيزيائية لكثير من المواد، وتناولت أبحاثه علم ميكانيكا الموائع والهيدروستاتيكا، ولجأ في بحوثه إلى التجربة وجعلها محورًا لاستنتاجاته[5]، كما انضم مع ابن سينا إلى الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن الضوء يأتي من الجسم المرئي إلى العين[6]. ومن أبرز ما قام به البيروني أنه توصل إلى تحديد الثقل النوعي لـ 18 عنصرًا مركبًا بعضها من الأحجار الكريمة مستخدمًا الجهاز المخروطي، وقد استخرج قيم الثقل النوعي لهذه العناصر منسوبة إلى الذهب مرة وإلى الماء مرة أخرى، وله جداول حدَّد فيها قيم الثقل النوعي لبعض الأحجار الكريمة منسوبة إلى الياقوت على أساس الوزن النوعي للياقوت = 100 ثم إلى الماء[7]. وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني، مع ابن الحائك، من الرواد الذين قالوا بأن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، وقد تناول ذلك في آراء بثَّها في كتب مختلفة، ولكنَّ أشهر آرائه في ذلك ضمَّنها كتابه القانون المسعودي[8]. ومن المسائل الفيزيائية التي تناولها البيروني في كتاباته ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن، وضغط السوائل وتوازنها، وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المد والجزر وسريان الضوء، فقد لاحظ أن المعادن تتمدَّد عند تسخينها، وتنكمش إذا تعرضت للبرودة[9]. وأولى ملاحظاته في هذا الشأن كانت في تأثير تباين درجة الحرارة في دقة أجهزة الرصد، حيث تطرأ عليها تغيرات في الطول والقصر في قيظ النهار وصقيع آخر الليل، وتعرض في كتابه الآثار الباقية عن القرون الخالية لميكانيكا الموائع؛ فشرح الظواهر التي تقوم على ضغط السوائل واتزانها وتوازنها، وأوضح صعود مياه النافورات والعيون إلى أعلى مستندًا إلى خاصية سلوك السوائل في الأواني المستطرقة. كما شرح تجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب حيث يكون مصدرها من المياه القريبة منها، وتكون سطوح ما يجتمع منها موازية لتلك المياه، وبيَّن كيف تفور العيون وكيف يمكن أن تصعد مياهها إلى القلاع ورؤوس المنارات. وتحدث عن ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار وعزاهما إلى التغير الدوري لوجه القمر[10]. أما فيما يختص بسريان الضوء فقد فطن إلى أن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت[11]، واتفق مع ابن الهيثم وابن سينا في قولهما بأن الرؤية تحدث بخروج الشعاع الضوئي من الجسم المرئي إلى العين وليس العكس[12]، كما يقرر أن القمر جسم معتم لا يضيء بذاته وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس عليه، وكان البيروني يشرح كل ذلك بوضوح تام، ودقة متناهية في تعبيرات سهلة لا تعقيد فيها ولا التواء[13]. كما وضع البيروني قاعدة حسابية لتسطيح الكرة، أي نقل الخطوط والخرائط من الكرة إلى سطح مسطح وبالعكس؛ وبهذا سهل رسم الخرائط الجغرافية[14]. ويعتبر البيروني بعدُ أحدَ ألمع الوجوه التي يمكن أن تعتز بها الثقافة العربية من خلال تاريخ الفكر الإسلامي وأكثرها جاذبية. فعلى الرغم من أن اسم البيروني يحتل مكانته من الأدب العربي في ميدان الجغرافيا والرحلات، إلا أنه يتبين لنا من خلال المصنفات السابقة أنه لم يكن جغرافيًّا فحسب، بل كان رياضيًَّا وفلكيًّا، وفيلسوفًا، وشاعرًا وأديبًا، وعالم اجتماعٍ ومؤرخًا!! نعم كان كلَّ أولئك، وبرز في كل فروع المعرفة الإنسانية هذه، وبعبارة أخرى: كان مؤلفًا انتظم نشاطه كل دائرة العلوم المعاصرة له، والتي تحتل بينها العلوم الرياضية والفيزيائية مكانة الصدارة عنده[15]. وفاة البيروني وفي رجب سنة 440هـ/ 1048م توفي البيروني، وكانت وفاته ختام حياة حافلة لرجل حكيم وعظيم، وفي وفاته يحكي أبو الحسن علي بن عيسى فيقول: دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه، فقال لي: كيف قلتَ لي يومًا في حساب الجدّات الفاسدة؟ فقلت له إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة؟ قال: يا هذا، أودِّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، أَلاَ يكون خيرًا من أن أخلِّيها وأنا جاهل بها؟ فأعدتُ ذلك عليه وحفظ، وعلّمني ما وعد، وخرجت من عنده، وأنا في الطريق فسمعت الصراخ عليه[16]!! [1] راجع: كتاب نوابغ المسلمين 2/53، 64، 65. [2] انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات 1/1070، الزِّركلي: الأعلام 5/314، عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص340، موسوعة العرب: أبو الريحان البيروني ص26. [3] انظر: عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص341. [4] انظر الباباني: هدية العارفين 1/480، الصفدي: الوافي بالوفيات 1/1070، الزركلي: الأعلام 5/314. [5] محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص115،114. [6] قدري طوفان: العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص163. [7] انظر: مصطفى وهبة: نوابغ المسلمين 2/63 بتصرف. [8] المصدر السابق، الصفحة نفسها. [9] السابق نفسه، الصفحة نفسها. [10] قدري طوفان: العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص176 بتصرف. [11] حسن نافعة، كليفوردبوزورث: تراث الإسلام 2/193. [12] قدري طوفان: العلماء العرب وما أعطوه للحضارة ص163. [13] انظر موقع الموسوعة العربية العالمية. [14] عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص459، جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص397. [15] عبد الرحمن حميدة: السابق نفسه ص341، 342. [16] الصفدي: الوافي بالوفيات 1/1070. منقول
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ابن خلدون وابتكار علم الاجتماع د. راغب السرجاني في مجال العلوم الإنسانية والفكرية كان للمسلمين دور بارز ورائد؛ حيث ابتكروا علومًا راقية تهمُّ الجانب الاجتماعي الإنساني، وكذلك ابتكروا علومًا مهمَّة خاصَّة بالشريعة الإسلامية، وأخرى خاصَّة باللغة العربية. تعريف علم الاجتماع يُعَرِّفُ معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية علمَ الاجتماع بأنه: "دراسة وصفية تفسيرية مقارنة للمجتمعات الإنسانية، كما تبدو في الزمان والمكان؛ للتوصُّل إلى قوانين التطوُّر، التي تخضع لها هذه المجتمعات الإنسانية في تَقَدُّمِهَا وتَغَيُّرِهَا"[1]. موضوع علم الاجتماع يُحَدِّد علماء الاجتماع موضوعه بالظواهر الاجتماعية، التي تظهر نتيجة لتجمُّع الناس معًا، وتفاعل بعضهم مع بعض، ودخولهم في عَلاقات متبادلة، وتكوين ما يُطْلَق عليه الثقافة المشتركة؛ حيث يتَّفِقُ الناسُ على أساليب مُعَيَّنَة في التعبير عن أفكارهم، كما أنهم يتَّفقون على قيم محدَّدة، وأساليب معينة في الاقتصاد، والحكم، والأخلاق، وغيرها. وتبدأ الظواهر الاجتماعية بالتفاعل بين شخصين أو أكثر، والدخول في علاقات اجتماعية، وحينما تدوم هذه العلاقات وتستمرُّ، تشكِّل جماعات اجتماعية، وتُعَدُّ الجماعات الاجتماعية من المواضيع الأساسية التي يدرسها علم الاجتماع. وهناك موضوع آخر يدرسه علم الاجتماع، يتمثَّل في العمليات الاجتماعية؛ كالصراع، والتعاون، والتنافس، والتوافق، والترتيب الطبقي، والحراك الاجتماعي. كما أن التغيُّر في الثقافة وفي البناء الاجتماعي، أحد ميادين الدراسة في علم الاجتماع، كما أن هناك النُّظُم الاجتماعية، وهي الأساليب المقنِّنة والمقرِّرة للسلوك الاجتماعي، وكذلك الشخصية، وهي العامل الذي يُشَكِّل الثقافة، ويتشكل من خلالها[2]. ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع على الرغم من أن التفكير الاجتماعي قديم قِدَمَ الإنسان نفسه، إلاَّ أن الاجتماع الإنساني لم يصبح موضوعًا لعلمٍ إلا في فترة لاحقة، وكان أَوَّل مَنْ نَبَّه إلى وجود هذا العلم، واستقلال موضوعه عن غيره، ووضع أسسه، وابتكره، هو العلاَّمة المسلم ابن خلدون! فقد صرَّح في عبارات واضحة أنه اكتشف علمًا مستقلاًّ، لم يتكلَّم فيه السابقون؛ إذ يقول: "وكأن هذا علم مستقلٌّ بنفسه، فإنه ذو موضوع، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل؛ وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته، واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم، وضعيًّا كان أو عقليًّا"[3]. ويقول أيضًا: "واعلم أن الكلام في هذا الغرض مُسْتَحْدَث الصنعة، غريب النزعة، أَعْثَر عليه البحث، وأدَّى إليه الغوص... وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري! لم أقف على الكلام في منحاه لأحدٍ من الخليقة، ما أدري: ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظنُّ بهم؟ أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض، واستوفوه، ولم يصل إلينا؟"[4]. كما أنه لم يكتفِ بذلك، بل دعا القادرين إلى استكمال ما نقص منه، فقال: "ولعلَّ مَنْ يأتي بعدنا -ممن يُؤَيِّده الله بفكر صحيح، وعِلْـمٍ مُبِينٍ- يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا، فليس على مستنبط الفنِّ إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم، وتنويع فصوله، وما يُتَكَلَّم فيه، والمتأخِّرُون يُلْـحِقُون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل"[5]. وإضافةً إلى ذلك فإن مقدمته شملت على أقلِّ تقدير سبعة من فروع علم الاجتماع المعاصر، ناقشها ابن خلدون في وضوح تامٍّ[6]. ولكن على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من قول عالم الاجتماع النمساوي الشهير جمبلوفتش: "لقد أردنا أن ندلِّلَ على أنه قبل أوجست كونت[7]، بل قبل فيكو الذي أراد الإيطاليون أن يجعلوا منه أول اجتماعي أوربي، جاء مسلم تقيٌّ، فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل مُتَّزِنٍ، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة، وإن ما كتبه هو ما نسمِّيه اليوم علم الاجتماع"[8]. على الرغم من ذلك كله، فإن التأريخ لعلم الاجتماع يقف عند الفرنسي كونت باعتباره المنشئ الأول لهذا العلم، ويتجاهل بذلك المؤسِّس الحقيقي لهذا العلم، الذي نبَّه عن وعي وفي وضوحٍ إلى اكتشافه لهذا العلم[9]. وقد شهد المنصفون بأن أوجست كونت استمدَّ كثيرًا من آرائه ونظرياته من مقدمة ابن خلدون[10]! فابن خلدون يُمَثِّل نقطة تَحَوُّلٍ في كتابة التاريخ الإنساني، وفي تأسيسه لعلم الاجتماع، قد هزَّ الفكر الإنساني العالمي بذلك؛ إذ وضع خُطَّة جديدة وآراء جديدة، بل وضع قوانين جديدة يمكن تطبيقها، وتنسحب على كل المجتمعات البشرية، انطلاقًا من أنَّ الإنسان لا يعيش إلاَّ في مجتمع، وإذا عاش في مجتمع؛ فلا بُدَّ أن يعيش مع شعب، وإذا عاش مع شعب لا بُدَّ أن يعيش على أرض، ولكي تَظَلَّ العلاقة قائمة بين هؤلاء الناس، أو القبائل، أو الشعب، أو هذه المجموعة البشرية؛ لا بُدَّ من أن ينظِّمَها حاكم؛ وأنواع الحاكم تدرَّجَتْ من حاكم بسيط (شيخ قبيلة) إلى حاكم مُطْلَقٍ، استطاع أن يستخدم كل الوسائل التي هيَّأها له هذا التجمُّع البشري، أو هذا العمران، واستطاع أن يستغلَّ هذا ويصبح هو الحاكم المطلق، وإذا أصبح حاكمًا مطلقًا استطاع أن يؤسِّس دولة، فإذا أسَّس الدولة التي طبَّق عليها ابن خلدون نظريته؛ مرَّت الدولة بمراحل مختلفة، هذه المراحل وجدت صحَّة في التطبيق في واقع الحياة[11]. ابن خلدون حياته ونشأته ويهمُّنا هنا أن نُلْقِيَ بعض الضوء على ابن خلدون، منشئ هذا العلم؛ فهو أبو زيد عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي، مولده بتونس في غرة رمضان (732هـ)، ورحل إلى فاس، وغرناطة، وتلمسان، والأندلس، كما تَوَجَّهَ إلى مصر، حيث أكرمه سلطانها الظاهر برقوق، ووَلِيَ فيها قضاء المالكية، وظلَّ بها ما يناهز ربع قرن (784-808هـ)، حيث تُوُفِّيَ ودُفِنَ في مقابرها عن عمر بلغ ستة وسبعين عامًا[12]. وقد نشأ ابن خلدون في بيت علم ومجد عريق، وحفظ القرآن في وقت مبكِّر من طفولته، وكان أبوه هو معلِّمه الأول، كما درس على يد مشاهير علماء عصره، وقد اتجه إلى الوظائف العامَّة بعد موت عامَّة أساتذته في الطاعون الذي أصاب بلادهم، والتحق بوظيفة كتابيَّة في بلاط بني مرين، ولكنها لم تكن لتُرْضي طموحه، وعَيَّنه السلطان (أبو عنان) - ملك المغرب الأقصى - عضوًا في مجلسه العلمي بفاس، فأُتِيحَ له أن يعاود الدرس على أعلامها من العلماء والأدباء، الذين نزحوا إليها من (تونس)، و(الأندلس)، و(بلاد المغرب). ورحل ابن خلدون إلى غرناطة تاركًا أسرته بفاس، ثم عاد إلى وهران بالجزائر؛ ليستقرَّ في قلعة ابن سلامة هو وأهله أربع سنوات، ومن هنا بدأت مسيرته مع كتابه (العبر في ديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)؛ لتكون مقدِّمَة هذا الكتاب أول وأشهر مقدِّمة صُنِّفَت في علم الاجتماع، وشئون الاجتماع الإنساني وقوانينه، وقد عالج فيها ما يُطْلَق عليه الآن (المظاهر الاجتماعية) - أو ما أَطْلَقَ عليه هو (واقعات العمران البشري)، أو (أحوال الاجتماع الإنساني)[13]. مقدمة ابن خلدون بسط ابن خلدون في المقدمة كل ما لديه من علم ومعرفة، فجاءت شيئًا ثمينًا، بل متقدِّمة جدًّا على العصر الذي كُتِبَتْ فيه، وهي تحتوي على ستَّة فصول كما يلي: الأول: في العمران البشري: وهي تقابل (علم الاجتماع العام)، وقد درس ابن خلدون ظواهر المجتمع البشري، والقواعد التي تسير عليها المجتمعات. والثاني: في العمران البدوي، وقد درس الاجتماع البدوي، كاشفًا أهمَّ خصائصه المميِّزة، وأنه أصل الاجتماع الحضري وسابق عليه. والثالث: في الدولة والخلافة والمُلْك: وهو يقابل (علم الاجتماع السياسي)، وقد درس قواعد الحكم، والنُّظُم الدينية، وغيرها. والرابع: في العمران الحضري: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الحضري)، وقد شرح جميع الظواهر المتَّصلة بالحضر، وأصول المدنية، وأن التحضُّر هو غاية التمدُّن. والخامس: في الصنائع والمعاش والكسب: وهو ما يقابل (علم الاجتماع الاقتصادي)، وقد درس تأثير الظروف الاقتصادية على أحوال المجتمع. والسادس: في العلوم واكتسابها: وهو ما يقابل (علم الاجتماع التربوي)، وقد درس الظواهر التربوية، وطرق التعلم وتصنيف العلوم. كما درس ابن خلدون الاجتماع الديني والقانوني، رابطًا بين السياسة والأخلاق[14]. والحقيقة الظاهرة أن أحدًا قبل ابن خلدون لم يَعْرِض لدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة تحليلية أَدَّتْ إلى نتائج ومُقَرَّرَات مثل تلك التي أَدَّتْ إليها دراسة ابن خلدون، ذلك أن المفكِّر المسلم الفقيه درس الظواهر الاجتماعية من خلال الإخبار التاريخي السليم، مثلما يدرس العلماء علوم الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والفلك، وهو بذلك يكون أول مَنْ أخضع الظواهر الاجتماعية لمنهج دراسي علمي، انتهى به إلى كثير من الحقائق الثابتة التي تشبه القوانين، وعليه فإن ما توصَّل إليه ابن خلدون من نظريات يظلُّ عملاً رائدًا في ميدان الدراسات الاجتماعية في مسيرة الفكر الإنساني[15]. د. راغب السرجاني [1] أحمد زكي بدوي: معجم المصطلحات الاجتماعية ص4. [2] انظر: منصور زويد المطيري: الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع - الدواعي والمكان ص28، 29. [3] ابن خلدون: المقدمة 1/38. [4] المصدر السابق، الصفحة نفسها. [5] المصدر السابق 1/588. [6] انظر: حسن الساعاتي: علم الاجتماع الخلدوني ص28- 35. [7] هو أوجست كونت August Count (1798 - 1857م) : فيلسوف فرنسي، مؤسس الفلسفة الوضعية، ومؤسس علم الاجتماع الغربي، عمله الرئيسي: (دروس في الفلسفة الوضعية) . [8] نقلاً عن مصطفى الشكعة: الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته ص198. [9] منصور زويد المطيري: الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع ص23، 24. [10] عبد الواحد وافي: دراسة مقدمة ابن خلدون، نقلاً عن: عبد الله ناصح علوان: معالم الحضارة في الإسلام وأثرها في النهضة الأوربية ص48. [11] سهيلة زين العابدين: نظرية الدولة عند ابن خلدون، مجلة المنار، الأعداد 75، 76، 77، سنة 1424هـ. [12] الزركلي: الأعلام 3/330. [13] المصدر السابق 3/330، ومصطفى الشكعة: الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته ص21 وما بعدها. [14] انظر: نعمان عبد الرزاق السامرائي: نحن والحضارة والشهود 1/120. [15] مصطفى الشكعة: الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته ص77، 78.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() جابر بن حيان.. مؤسس علم الكيمياء د. راغب السرجاني وصفه ابن خلدون في مقدمته وهو بصدد الحديث عن علم الكيمياء فقال:"إمام المدونين فيها جابر بن حيان، حتى إنهم يخصونها به فيسمونها (علم جابر)، وله فيها سبعون رسالة". إنه أبو موسى جابر بن حيان بن عبد الله الأزدي، نسبة إلى قبيلة أزد اليمنية التي هاجر البعض منها إلى الكوفة بعد انهيار سد مأرب. وُلِدَ في (طوس)، واستقرَّ في بغداد بعد قيام الدولة العباسية، وتوثقت علاقته بأسرة البرامكة الفارسية، وامتدت حياته ما بين (103- 200هـ/ 721- 815م). يُعَدُّ مؤسِّس علم الكيمياء التجريبي؛ فهو أول من استخلص معلوماته الكيميائية من خلال التجارب والاستقراء والاستنتاج العلمي، وكان غزير الإنتاج والاكتشافات، حتى إن الكيمياء اقترنت باسمه فقالوا: (كيمياء جابر)، و(الكيمياء لجابر)، وكذلك: (صنعة جابر). كما أُطلق عليه أيضًا ![]() فقبل جابر كان هناك مجموعة من المهن البدائية القديمة، وقد اختلطت مع كثير من الحرف، كالتحنيط (في مصر القديمة) والدِّباغة، والصباغة والتعدين واستخلاص الزيوت، لكن جابر بن حيان استطاع أن يطوِّر الكيمياء ويرفعها من تلك المنزلة البدائية التي كانت عليها إلى منزلة عالية، وذلك بإضافته للكثير من المعارف النظرية والعلمية، وإرسائه أسسَ وأصولَ تحضير المواد الكيميائية والتعامل معها؛ لذلك يُعتَبَر ابنُ حيان شيخ الكيميائيين بلا منازع . فقد بدأت الكيمياء - كما أوضحنا في المقال الأول في الكيمياء - خرافية تستند إلى الأساطير البالية، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لأن العلماء في حضارات ما قبل الإسلام كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير من نوع واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض متغيرة (نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والتراب)؛ لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير. ومن هذا المنطلق تخيل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة الذي يزيل علل الحياة ويطيل العمر ، وهذا ما كان يُسَمَّى بعلم الخيمياء. وقد تأثَّر بعض العلماء العرب والمسلمين الأوائل كجابر بن حيان وأبي بكر الرازي بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها علماء العرب والمسلمين عن اليونان، لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها؛ أدَّت هذه الدراسة إلى وضع المنهج العلمي التجريبي وتطبيقه في حقل العلوم التجريبية. وعن هذا المنهج التجريبي كان يقول جابر: "ومِلاك كمال هذه الصنعة العمل والتجربة؛ فمن لم يعمل ولم يجرِّب لم يظفر بشيء أبدًا" . وفي كتاب الخواص الكبير المقالة الأولى يقول: "إننا نذكر في هذه الكتب خواصَّ ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحنَّاه وجرَّبناه، فما صحَّ أوردناه، وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا قايسناه على أحوال هؤلاء القوم" . ولذلك يُعَدُّ جابر أول من أدخل التجربة العلمية المخبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده، وكان أحيانًا ما يُسمِّي التجربة بالتدريب، فكان يقول: "فمن كان دَرِبًا كان عالمًا حقًّا، ومن لم يكن دَرِبًا لم يكن عالمًا، وحسبُك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدَّرِب يحذق، وغير الدَّرِب يعطل" !! وعليه قطع جابر خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجربة أساس العمل، لا اعتمادًا على التأمل الساكن. لقد كانت أعمال جابر القائمة على التجربة المعملية أهم محاولة جادة قامت آنذاك لدراسة الطبيعة دراسة علمية دقيقة؛ فهو أول من بشَّر بالمنهج التجريبي المخبري، وتكاد الإجراءات التي كان يتبعها في أبحاثه تطابق ما يقوم به المشتغلون بالمنهج العلمي اليوم؛ وتتلخص إجراءاته في خطوات ثلاث: الأولى: أن يأتي الكيميائي بفرض يفرضه من خلال مشاهداته، وذلك حتى يفسر الظاهرة التي يريد تفسيرها. الثانية: أن يستنبط مما افترضه نتائج تترتب عليه نظريًّا. الثالثة: أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليتثبت ما إذا كانت ستصدق على مشاهداته الجديدة أم لا؛ فإن صدقت تحولت الفرضية إلى قانون علمي يُعوَّل عليه في التنبؤ بما يمكن أن يحدث في الطبيعة إذا توافرت ظروف بعينها . ولقد اهتم هولميارد Holmyard بأعمال جابر ومنهجه العلمي ومؤلفاته، وعكف على إبراز القيمة العلمية لعمله، وتراه بعد ذلك يقول: "إن الصنعة الخاصة عند جابر هي أنه قد عرف وأكَّد على أهمية التجريب بشكل أوضح من كل من سبقه من الخيميائيين" . جابر بن حيان.. أوَّليات وإنجازات قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبلُ فطوَّره، وأدخل عملياتٍ جديدة. ومن الوسائل التي استخدمها: التبخُّر، والتقطير ، والتبلُّر ، والتسامي ، والترشيح ، والصَّهر، والتكثيف، والإذابة، ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة؛ فتعرف على أيون الفضة النشادري المعقد. كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية، فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك بالتقطير من الشَّب، وحضَّر أكسيد الزئبق، وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة، وكان يسمِّيه الماء المحلل أو ماء النار، وحضَّر حمض الكلوريدريك المسمَّى بروح الملح، وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق (السليماني)، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسُمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن. وهو أول من لاحظ رواسب كلوريد الفضة عند إضافة ملح الطعام إلى نترات الفضة، كما استخدم الشب في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضَّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ وهذه المواد هي أملاح الألومنيوم المشتقة من الأحماض العضوية ذات الأجزاء الهيدروكربونية. ومن استنتاجاته أن اللهب يُكسِب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر. وهو أول من فصل الذهب عن الفضة بالحل بوساطة الحمض، وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة . ويُعزَى إليه أنه أولُ من استعمل الميزان الحساس والأوزان متناهية الدقة في تجاربه المخبرية؛ وقد وزن مقادير يقل وزنها عن 1/100 من الرطل. ويُنسَب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي والإثمد (الأنتيمون)، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج. كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها، ومثَّل على ذلك بكلٍّ من الزئبق والكبريت عندما يتحدان ويكوِّنان مادة جديدة. وقد كان يجري معظم تجاربه في مختبر خاص اكتُشِف في أنقاض مدينة الكوفة في أواخر القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) . مؤلَّفات جابر في مجمل مصنفاته يقول لوبون G. Lebon: "تتألف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيميائية كانت مجهولة قبله" . فقد كان لجابر بن حيان العديد من المؤلفات العلمية، والتي تأثر بها الغرب ونقل عنها، حتى قرر ابن النديم أن له 306 كتابٍ في الكيمياء بأسلوبه الخاص في أنحاء العالم، ورغم أن معظمها قد فُقِد، إلا أنه يوجد منها الآن ثمانون كتابًا محفوظًا في مكتبات الشرق والغرب، وقد تَرْجم معظمَ كتبه إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي روبرت الشستري (ت 539هـ/ 1144م)، وجيرار الكريموني (ت 583هـ/ 1187م) وغيرهما. ومثَّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم . ويُعَدُّ كتاب (السموم ودفع مضارها) أشهر مؤلفات جابر ويقع في خمسة فصول، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم، وهذا الكتاب يعتبر همزة وصل بين الطب والكيمياء. ومن أشهر كتبه أيضًا كتابه (الخواص الكبير)، ونسخته الأصلية موجودة في المتحف البريطاني. وله أيضًا كتاب (التدابير)، وتعني العمل القائم على التجربة، وكتاب (الموازين)، وكتاب (الحديد) وفيه يصف جابر عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى، كما يصف كيفية صنع الفولاذ بوساطة الصهر بالبواتق. ومن كتبه أيضًا (نهاية الإتقان) وهو مؤلَّف رائد في الكيمياء، ورسالة (في الأفران). وله أيضًا رسائل عن المرايا، كما ألَّف كتاب (السبعين) الذي يشمل سبعين مقالة حول أهم تجاربه في الكيمياء والنتائج التي توصل إليها، ويمكن اعتباره خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره. وله كذلك كتاب (الرحمة) ألَّفه في الخيمياء وتطرق فيه إلى إمكانية تحويل المعادن إلى ذهب، وكتاب (الجمل العشرون) و(أسرار الكيمياء) و(أصول الكيمياء)، وهذا غير مؤلفات أخرى في الرياضيات والفلسفة والشعر. وقد ترجمت بعض كتبه إلى اللاتينية مثل كتاب السبعين وكتاب الرحمة، وهناك كتب له باللاتينية لم يتم العثور على أصولها العربية، مثل: (البحث عن الكمال) و(كتاب العهد) و(كتاب الأتون) . ولقد تُرجِمت كتب جابر إلى اللاتينية، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زهاء ألف عام، وكانت مؤلَّفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثوليه، وكراوس، وهولميارد الذي أنصفه ووضعه في القمة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون. وأيضًا سارتون الذي أرَّخ به حقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلامية، يقول: "ما قدَّر جابر أن الكتب التي ألَّفها لا يمكن أن تكون من وضع رجلٍ عاش في القرن الثاني للهجرة لكثرتها ووفرة ما بها من معلومات" . وهكذا كان علماء المسلمين، وهكذا كانت إبداعاتهم. ونسأل الله عز وجل أن يعيد لأمتنا مجدها وريادتها على سواعد أبنائها الذين يترسمون خُطَا الأجداد.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() إسهامات علماء المسلمين في الطب راغب السرجاني المقصود بعلوم الحياة أو العلوم الكونية يُطْلَق على علوم الحياة تسميات أخرى مثل: العلوم الكونية، العلوم التقنية، العلوم التطبيقية، العلوم التجريبية، وقد آثرتُ تسميتها بعلوم الحياة وذلك في مقابل علوم الشرع؛ لأني أرى أن بها تنصلح الحياة على الأرض، وهي تعني: العلوم النافعة التي يهتدي إليها الناس بعقولهم وتجارِبهم ومشاهداتهم، ويستطيعون من خلالها عمران الأرض وإصلاحها وتسخير إمكانياتها، واستكشاف الكون والبيئة، وهي مثل: علوم الطب، والهندسة، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجغرافيا، وعلوم الأرض، والنبات، والحيوان، وغير ذلك من العلوم التي تشمل الماديات المبثوثة في الكون، والتي يحتاج إليها البشر في إصلاح حياتهم. ولقد بلغت مكانة علوم الحياة في ظلِّ الإسلام مبلغًا عظيمًا، حتى أصبح المسلمون فيها سادة، وقد ملكوا ناصيتها كما ملكوا ناصية العالم، فغدت جامعاتهم مفتوحة للطلبة الأوربيين الذين نزحوا من بلادهم لطلب تلك العلوم، وطفق ملوك أوروبا وأمراؤها يَفِدُون إلى بلاد المسلمين ليعالَجوا فيها، وهو ما دعا العلاّمة الفرنسي جوستاف لوبون يتمنى لو أن المسلمين استولوا على فرنسا؛ لتغدو باريس مثل قرطبة في إسبانيا المسلمة[1]"[2].! وقال أيضًا تعبيراً عن عظمة الحضارة العلميَّة في الإسلام: "إن أوروبا مدينة للعرب (المسلمين) بحضارتها"، وفي هذه المقالات نتناول جوانب من إسهامات المسلمين في علوم الحياة، ونبرز عظمة هذه الإسهامات، ومكانة ذاك التغيير الذي أثّر -ولا يزال- في مسيرة الإنسانيَّة. تطوير العلوم المتداولة لا شكَّ أنه كانت هناك علوم كثيرة متداولة قبل المسلمين، ساهمت فيها الحضارات السابقة بآثار طيِّبة، وهو ما اتَّكأ عليه المسلمون -ولهم الفخر في إعلان ذلك والتصريح به- عند بدء نهضتهم وقيام حضارتهم، غير أنهم - وهذا هو المعيار والأساس- لم يقتصروا على مجرَّد النقل عن غيرهم ممن سبقوهم، وإنما توسَّعوا وأضافوا إضافات باهرة من ابتكاراتهم واكتشافاتهم، واستطاعوا أن يسطروا في تلك العلوم التي كانت متداولة قبلهم تاريخًا ناصعًا مشرِّفًا، وهو ما نتبيَّنه ونتلمَّسه من خلال علم الطب. تطور الطب على يد علماء المسلمين يُعدُّ علم الطب من أوسع مجالات العلوم الحياتية التي كان لعلماء المسلمين فيها إسهامات بارزة على مدار عصور حضارتهم الزاهرة، وكانت تلك الإسهامات على نحو غير مسبوق شمولاً وتميُّزًا وتصحيحًا للمسار؛ حتى ليُخيَّل للمطَّلع على هذه الإسهامات الخالدة كأن لم يكن طبٌّ قبل حضارة المسلمين!. ولم يقتصر الإبداع على علاج الأمراض فحسب، بل تعدَّاه إلى تأسيس منهج تجريبي أصيل انعكست آثاره الراقية والرائعة على كافَّة جوانب الممارسة الطبيَّة وقايةً وعلاجًا، أو مرافق وأدوات، أو أبعادًا إنسانية وأخلاقية تحكم الأداء الطبي. وإن روعة الإسهامات الإسلامية في الطبِّ لتتجلَّى في تخريج هذا الحشد من العبقريات الطِّبِّيَّة النادرة، التي كان لها -بَعْدَ الله - سبحانه وتعالى -الفضل الكبير في تحويل مسار الطبِّ إلى اتجاه آخر، تابعت المسير على نهجه أجيالُ الأطباء إلى يوم الناس هذا. الطب النبوي وإن بدايات تلك الصنعة تكمن في أن الإنسان منذ وُجِدَ على ظهر الأرض وهو يهتدي -بإلهام ربِّه- إلى أنواع من التطبيب تتَّفِق مع مستواه العقلي وتطوُّره الإنساني، وكان ذلك النوع من الطبِّ يُعرف بالطبِّ (البدائي) انسجامًا مع المستوى الحضاري للإنسان، ولذلك نجد ابن خلدون يذكر أن: "... للبادية من أهل العمران طبًّا يبنونه في أغلب الأمر على تجربة قاصرة، ويتداولونه متوارثًا عن مشايخ الحيِّ، وربما صحَّ منه شيء، ولكنه ليس على قانون طبيعي"[3]. ولما جاء الإسلام كان للعرب في الجاهلية مثل هذا الطب، فحثَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التداوي فقال - كما روى أسامة بن شريك - رضي الله عنه -: ((تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاِّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: الـْهَرَمُ)) [4]، وعُرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التداوي بالعسل، والتمر، والأعشاب الطبيعية، وغيرها مما عُرف بـ "الطب النبوي"". غير أن علماء المسلمين لم يَقِفُوا عند حدود ذلك الطبِّ النبوي، بل أدركوا منذ وقت مبكر أن العلوم الدنيوية -والطبّ أحدها- تحتاج إلى دوام البحث والنظر، والوقوف على ما عند الأمم الأخرى منها؛ وذلك تطبيقًا لهدي الإسلام الدافع دومًا للاستزادة من كل ما هو نافع، والبحث عن الحكمة أنَّى وُجدت.. فنرى أطباء المسلمين يأخذون في التَّعَرُّفِ على الطبِّ اليوناني من خلال البلاد الإسلامية المفتوحة، كما أن الخلفاء بدءوا يستقدمون الأطباء الروم، الذين سرعان ما أخذ عنهم الأطباء المسلمون، ونشطوا في ترجمة كل ما وقع تحت أيديهم من مؤلَّفات طبية، ولعلَّ هذا يُعْتَبَرُ من أعظم أحداث العصر الأموي. عباقرة علماء المسلمين في الطب أبو بكر الرازي وقد تميَّز علماء الطبِّ المسلمين بأنهم أوَّل مَنْ عَرَفَ التخصُّص؛ فكان منهم: أطباء العيون، ويسمَّون (الكحَّالين)، ومنهم الجراحون، والفاصدون (الحجَّامون)، ومنهم المختصُّون في أمراض النساء، وهكذا. وكان من عمالقة هذا العصر المبهرين أَبو بكر الرازي، والذي يُعْتَبَرُ من أعظم علماء الطبِّ في التاريخ قاطبةً، وله من الإنجازات ما يعجز هذا الكتاب عن ضمِّه! وما كادت عجلة الأيام تدور في العصر العباسي حتى أجاد المسلمون في كل فرع من فروع الطبِّ، وصحَّحوا ما كان من أخطاء العلماء السابقين تجاه نظريات بعينها، ولم يَقِفُوا عند حَدِّ النقل والترجمة فقط، وإنما واصلوا البحث وصوَّبوا أخطاء السابقين. علي بن عيسى الكحال فقد تطوَّر طبُّ العيون (الكحالة) عند المسلمين، ولم يُطاوِلهم فيه أحدٌ؛ فلا اليونان من قَبْلِهِمْ، ولا اللاتينين المعاصرون لهم، ولا الذين أَتَوْا من بعدهم بقرون بلغوا فيه شَأْوَهم؛ فقد كانت مؤلَّفاتهم فيه الحُجَّة الأُولَى خلال قرون طِوَال، ولا عجب أن كثيرين من المؤلِّفين كادوا يَعْتَبِرُون طبَّ العيون طبًّا عربيًّا، ويُقَرِّر المؤرِّخون أن علي بن عيسى الكحال[5] كان أعظم طبيب عيون في القرون الوسطى برُمَّتِهَا، ومؤلَّفه (التذكرة) أعظم مؤلَّفَاته[6]. أبو القاسم الزهراوي وإذا طوينا تلك الصفحة المشرقة للرازي وابن عيسى الكحال، فإننا نجد أنفسنا أمام عملاق آخر يُعْتَبَرُ من أعظم الجرَّاحين في التاريخ، إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق، وهو أبو القاسم الزهراوي (ت 403هـ) الذي تمكّن -كما أشرنا قبل ذلك- من اختراع أُولَى أدوات الجراحة كالمشرط، والمقصِّ الجراحي، كما وَضَع الأُسُسَ والقوانين للجراحة، والتي من أهمِّها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة، وتمكَّن من إيقاف النزف بالتخثير. وقد كان الزهراوي هو الواضع الأوَّل لعلم (المناظير الجراحية) وذلك باختراعه واستخدامه للمحاقن والمبازل الجراحية، والتي عليها يقوم هذا العلم، وقام بالفعل بتفتيت حصوة المثانة بما يشبه المنظار في الوقت الحاضر، إلى جانب أنه أوَّل مخترع ومستخدم لمنظار المهبل، ويُعْتَبَرُ كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف)، والذي قام بترجمته إلى اللاتينية العالم الإيطالي جيراردو[7] تحت اسم (ALTASRIF)، موسوعة طبية متكاملة لمؤسسي علم الجراحة بأوروبا، وهذا باعترافهم، ولقد حلَّ الجزء الذي تكلَّم فيه الزهراوي عن الجراحة محلَّ كتابات القدماء، وظلَّ العمدةَ في فنِّ الجراحة حتى القرن السادس عشر (أي لما يزيد على خمسة قرون من زمانه)، ويشتمل على صور توضيحية للعديد من آلات الجراحة (أكثر من مائتي آلة جراحية!) كان لها أكبر الأثر فيمن أتى مِنْ بعده من الجرَّاحين الغربيين، وكانت بالغة الأهمية على الأخصِّ بالنسبة لأولئك الذين أصلحوا فنَّ الجراحة في أوروبا في القرن السادس عشر؛ يقول عالم وظائف الأعضاء الكبير هالر: "إن جميع الجراحين الأوربيين الذين ظهروا بعد القرن الرابع عشر قد نهلوا واستقوا من هذا المبحث"[8]. ابن سينا وقد برزت شخصيات إسلامية أخرى لامعة في ميدان علم الطب من أمثال ابن سينا (ت 428هـ) الذي استطاع أن يُقَدِّم للإنسانية أعظم الخدمات بما توصَّل إليه من اكتشافات، وما يسَّره الله له من فتوحات طبية جليلة؛ فقد كان أوَّل من اكتشف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن، فهو الذي اكتشف لأوَّل مَرَّة طُفَيْل (الإنكلستوما)، وسمَّاها الدودة المستديرة، وهو بذلك قد سبق العالِم الإيطالي (دوبيني) بنحو 900 سنة، كما أنه أوَّل من وصف الالتهاب السحائي، وأوَّل من فرَّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ، والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفًا بذلك ما استقرَّ عليه أساطين الطبِّ اليوناني القديم، فضلاً عن أنه أوَّل من فرَّق بين المغص المعوي والمغص الكلوي[9]، كما كشف ابن سينا -لأوَّل مَرَّة أيضًا- طُرُقَ العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجُدَرِيِّ والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحيَّة الدقيقة في الماء والجوِّ، وقال: "إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًّا لا تُرى بالعين المجرَّدة، وهي التي تسبِّب بعض الأمراض"[10]. وهو ما أكَّدَهُ (فان ليوتهوك) في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخِّرون من بعده بعد اختراع المجهر. ولهذا فإن ابن سينا يُعَدُّ أوَّل من أرسى (علم الطفيليات) الذي يحتلُّ مرتبة عالية في الطبِّ الحديث؛ فقد وَصَفَ لأوَّل مَرَّة (التهاب السحايا الأولي) وفرَّقه عن (التهاب السحايا الثانوي) -وهو الالتهاب السحائي- وغيره من الأمراض المماثلة، كما تحدَّث عن طريقة استئصال (اللوزتين)، وتناول في آرائه الطبية أنواعًا من السرطانات كسرطان الكبد، والثدي، وأورام العقد الليمفاوية، وغيرها[11]. وكان ابن سينا جرَّاحًا بارعًا؛ فقد قام بعمليات جراحية دقيقة للغاية، مثل استئصال الأورام السرطانية في مراحلها الأولى[12]، وشقّ الحنجرة والقصبة الهوائية، واستئصال الخرَّاج من الغشاء البلوري بالرئة، كما عالج البواسير بطريقة الربط، ووصف -بدقَّة- حالات النواسير البولية، إلى جانب أنه توصَّل إلى طريقة مُبْتَكَرَة لعلاج الناسور الشرجي لا تزال تُسْتَخْدَم حتى الآن!، وتعرَّض لحصاة الكُلَى وشرح كيفية استخراجها والمحاذير التي يجب مراعاتها، كما ذَكَرَ حالات استعمال القسطرة، وكذلك الحالات التي يُحذر استعمالها فيها[13] كما كان له باعٌ كبير في مجال الأمراض التناسلية؛ فوصف بدقَّة بعض أمراض النساء؛ مثل: الانسداد المهبلي، والإسقاط، والأورام الليفية، وتحدث عن الأمراض التي يمكن أن تصيب النفساء؛ مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يُسَبِّبُه من أورام وحُمِّيَّات حادَّة، وأشار إلى أن تَعَفُّنِ الرحم قد ينشأ من عُسْرِ الولادة، أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفًا من قبل، كما تعرَّض أيضًا للذكورة والأنوثة في الجنين، وعَزَاهَا إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أَكَّدَه مؤخَّرًا العلم الحديث[14]. وإلى جانب كل ما سبق كان ابن سينا على دراية واسعة بطبِّ الأسنان، وكان واضحًا دقيقًا في تحديده للغاية والهدف من مداواة نخور الأسنان حين قال: "الغرض من علاج التآكل منع الزيادة على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه، وتحليل المادَّة المؤدية إلى ذلك". ونلاحظ أن المبدأ الأساسي لمداواة الأسنان هو المحافظة عليها، وذلك بإعداد الحفرة إعدادًا فنيًّا ملائمًا، مع رفع الأجزاء النخرة منها، ثم يعمد إلى مَلْئِهَا بالمادَّة الحاشية المناسبة؛ لتعويض الضياع المادِّيِّ الذي تعرَّضَتْ له السِّنُّ؛ ممَّا يُعِيدُهَا بالتالي إلى أداء وظيفتها من جديد[15]. ولم تكن تلك حالات استثنائية للعبقرية الإسلامية في مجال الطبِّ، فقد حفل سجلُّ الأمجاد الحضارية الإسلامية بالعشرات، بل المئات من الروَّاد الذين تتلمذتْ عليهم البشرية قرونًا طويلة. ------------------ [1] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر (صـ13، 317). [2] السابق ص566. [3] ابن خلدون: العبر وديوان المبتدأ والخبر 1/650. [4] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855)، والترمذي (2038)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، والحاكم (8206)، وقال: حديث صحيح. ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (291)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2930). [5] علي بن عيسى الكَحّال: هو علي بن عيسى بن علي الكَحّال (ت 430هـ/1039م)، طبيب حاذق في أمراض العين ومداواتها، وكانوا يسمونها "صناعة الكحل"، اشتهر بكتابه "تذكرة الكحالين". انظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/263، والزركلي: الأعلام 4/318. [6] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 2/263. [7] جيراردو دا كريمونا Gerardo da Cremona (1114 - 1187م): مستشرق إيطالي، مولده ووفاته في (كريمونا) من مدن إيطاليا الشمالية، أقام زمنًا في طليطلة (بالأندلس)، فترجم عن العربية إلى اللاتينية أكثر من سبعين كتابًا في مختلف العلوم. [8] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص591. [9] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية (ص132ـ، 133). [10] علي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية (صـ298). [11] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية (صـ133)، وانظر: فوزي طوقان: العلوم عند العرب ص17. [12] انظر: محمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين (صـ148). [13] انظر: ابن سينا: القانون (3/165). [14] المصدر السابق 2(/586). [15] انظر: ابن سينا: القانون (1/192)
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية د/ جاد أحمد رمضان الحمد للّه الذي هدى المسلمين إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه اللّه رحمة للعالمين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة وعبد ربه حتى أتاه اليقين. أما بعد فإنه في الوقت الذي كان المسلمون ينعمون فيه بظل الحضارة الإسلامية التي أفاضت عليهم كل أنواع الخير ووقتهم مفاسد الشر وأبعدتهم عن مواقع الفتن، في هذا الوقت الذي كان فيه المسلمون كذلك، كان أهل أوروبا يعيشون في جهالة جهلاء وضلالة عمياء بعيدين كل البعد عن كل مظاهر التقدم الحضاري. ومنذ العقد الأخير من القرن الأول الهجري بدأ شعاع الحضارة الإسلامية يصل إلى أوروبا عن طريق الأندلس، ثم عن طريق صقلية وكذلك عن طريق الحروب الصليبية، ومن قبل تلك الحروب، عن طريق السفارات بين دول أوروبا وبين دول المسلمين، في الشرق والغرب. ولم يكن تأثير هذا الإشعاع الحضاري متساويا في الدرجة بل كان بعضه أكثر تأثيرا من الآخر فالأندلس كانت أسبق مصادر الإشعاع وأكبرها تأثيرا، ثم تلتها في الأهمية صقلية ثم تأتي بعد ذلك الحـروب الصليبية ثم الاتصالات السياسية والتجارية بين الدول الإسلامية والدول الأوروبية. الأندلس مصدر الإشعاع الأول عبر المسلمون إلى الأندلس في العقد الأخير من القرن الأول الهجري وواصلوا فتوحهم في أوروبا حتى استولوا على شبه جزيرة أيبريا وجنوب فـرنسا ثم استمروا في فتوحهم حتى استولوا على جزر البحر الأبيض المتوسط وجنوب إيطاليا ونشروا دينهم فيما فتحوه من البلاد. وكانت أوروبا -في ذلك الوقت- خلوا من كل مظاهر الحضارة بعد أن تمكنت القبائل المتبربرة من القضاء على الدولة الرومانية الغربية واحتلال الأقاليم التي كانت تخضع لحكمها. وعلى الرغم من أن هذه القبائل دانت بالمسيحية، فإنها لم تتقدم تقدما حضاريا يستحق الذكـر؛ بسبب تولى مجيء موجات جديدة منهم، وغلبة الروح العسكري عليهم، وقلة المرونة العقلية لديهم؛ مما جعلهم متخلفين عن ركب الحضارة والمدنية يعيشون في ظلام الجهالة والهمجية. وقد نشر المسلمون في كل بقعة دخلوها من أوروبا لواء الأمن ونور المعرفة، وأقاموا فيها قواعد حكم عادل، يسوي بين الجميع في المعاملة، ويكفل الحرية لكل فرد في المجتمع، ويعمل للصالح العام ويمقت الأنانية والانتهازية. وتاريخ أسبانيا العربية المسلمة صحيفة مشرقة من صحائف التاريخ الإنساني، وسجل حافل بالأمجاد، ذاخر بمختلف نواحي الحضارة، التي كانت مركز إشعاع هائل للحضارة الأوروبية. وقد كان المجتمع في الأندلس بعد الفتح الإسلام يتألف من العرب الفاتحين، ومن الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام، وقد عرفوا باسم "المسالمة"، ومن الأسبان الذين استمروا على المسيحية، وقد أطلق عليهم اسم "العجم"، وأصبحوا أهل ذمة يدفعون الجزية للمسلمين، ويعيشون آمنين في وطنهم، ويتمتعون بالحرية الدينية والتسامح الذي امتاز به المسلمون في معاملتهم لمخالفهم في الدين. وكان من بين هؤلاء جماعة عاشروا العرب، وتعلموا لغتهم، ودرسوا علومهم وقلدوهم في عاداتهم، وأسلوب معيشتهم، وأطلق على هذه الطائفة اسم "المستعربين" [1] وعن طريق هؤلاء الذين جمعوا بين معرفة اللغة العربية واللغة اللاتينية الحديثة نقلت حضارة العرب إلى الإمارات الشمالية في شبه جزيرة أيبريا، التي اتخذها المسيحيون معقلا لهم واعتصموا بجبالها ولم يدخلوا في طاعة المسلمين. وبعد جيل من الفتح تكوَّن من المسلمين العرب والأسبان عنصرٌ جديدٌ عرف "بالمولدين" وهم الذين ولدوا من آباء عرب وأمهات أسبانيات، وعلى مرّ الزمن كثر عدد هؤلاء حتى أصبحوا يكونون أغلب سكان الأندلس. وقد وصلت الحضارة العربية في الأندلسي إلى درجة عالية من الازدهار، وبخاصة في القرن الرابع الهجري؛ حيث كانت مدينة قرطبة العاصمة تضم مائة وثلاثة عشر ألف مسكن وواحد وعشرين ضاحية، وكان بها سبعون دارا للكتب، وعدد لا يحصى كثرة من الحوانيت كما كان بها كثير من المساجد، وكان أغلب شوارعها مرصوفا ومضاءة [2] وكانت بقية المدن صورة مصغرة من العاصمة. وفي محيط الزراعة غرس العرب الكروم في بلاد الأندلس، وأدخلوا إليها كثيرا من النباتات والفواكه التي لم تكن بها، مثل الأرز والقمح وقصب السكر والمشمش والخوخ والبرتقال والرمان، وقد حفر المسلمون الترع والقنوات، ونظموا وسائل الري وكان الرقى الزراعي أحد مفاخر أسبانيا الإسلامية [3]. وفي ميدان الصناعة ازدهرت صناعة النسيج والزجاج والنحاس والخزف والسيوف، وكثر استخراج الذهب والفضة والحديد والرصاص، وغيره من المعادن [4]. وكان ما تنتجه الأندلسي من مزروعات وفواكه ومصنوعات يفيض عن حاجة سكانها. ولقد ازدهرت الحياة الثقافية في الأندلس وبخاصة في عهد الحكم الثاني (350- 366 ﻫ) وكانت جامعة قرطبة التي أنشأها والده عبد الرحمن الناصر في المسجد الجامع يفد إليها الطلاب من جميع أنحاء الأندلس، ومن أفريقيا وأوروبا، وقد استدعى الحكم بعض الأساتذة المشهورين من الشرق ليحاضروا فيها، ومن بينهم العالم اللغوي المشهور أبو على القالي مؤلف كتاب الامالي [5] وكان المؤرخ الأندلسي ابن القوطية يدرس النحو بها. وكان الحكم مغرما باقتناء الكتب؛ فكان يكلف رجاله بالبحث عن المخطوطات في حوانيت الإسكندرية ودمشق وبغداد، وشرائها ونسخها، وبهذه الطريقة تمكن من جمع أربعمائة ألف مجلد [6] وكان يطالع بنفسه على بعض هذه المخطوطات ويكتب ملاحظات في هوامشها مما جعل لها قيمة كبيرة في نظر العلماء المتأخرين. وقد أراد أن يحصل على النسخة الأولى لكتاب الأغاني التي كتبها أبو الفرج الأصفهاني بنفسه- وهو من سلالة الأمويين- وكان يقيم إذ ذاك بالعراق فبعث إليه بألف دينار ثمنا لها [7]. وكان المسيحيون الأسبان الذين هاجروا إلى كثير من بلاد أوروبا قد أشادوا بالعرب وشرائعهم، وحضارتهم، وثقافتهم، وبالعمران الذي عم البلاد الأسبانية على أيديهم؛ فنشروا بذلك- من حيث لا يقصدون- دعاية طيبة للمسلمين في أوربا ونبهوا أذهان أهلها إلى النهضة الحضارية التي قام بها المسلمون في أسبانيا. وكان هؤلاء المهاجرون قد تسرعوا في هجرتهم خوفا على أنفسهم من بطش المسلمين بهم، من غير أن ينتظروا ما سيكون منهم، ولكنهم لم يلبثوا أن ندموا على هجر بلادهم حين علموا من مواطنيهم الذين لم يهاجروا مثلهم أن المسلمين يحسنون جوارهم ويطلقون لهم الحرية في أداء شعائر دينهم، ويعاملونهم بالحسنى وينشرون العدل والأمن في سائر البلاد وأنهم حولوا أسبانيا إلى مروج خضراء وجنات فيحاء [8]. هذه الدعاية غير المقصودة التي نشرها المهاجرون الأسبان، في أكثر بقاع أوروبا جعلت أهلها يتطلعون للوقوف على هذه النهضة الحضارية، التي وصلت أخبارها إليهم وكان أسبق الأوربيين إلى ذلك الملك فيليب البافاري؛ حيث بعث إلى الأندلس يرجو الأمير الأموي هشاما الأول (172- 180 هـ) يرجوه أن يسمح له بإيفاد بعثة إلى قرطبة لدراسة أنظمة الأندلس وثقافتها، ومشاهدة أوجه النشاط بها، فقبل الأمير رجاءه وأرسل الملك الجرماني وفداً إلى الأندلس برئاسة وزيره الأول " ويلميبن " الذي أطلق عليه الأندلسيون اسم " وليم الأمين " لأنه تحرى الأمانة في نقل ما رأوه من مظاهر نهضة بلادهم إلى الملك. وقد أشار الوزير على الملك بالاستمرار في إرسال البعثات العلمية لاقتباس ما يفيد البلاد من فنون الحضارة العربية [9]. وقد توالت البعثات على الأندلس بعد ذلك، وفي أوائل القرن الخامس الهجري أرسل جورج الثاني ملك إنجلترا ابنة أخيه الأميرة "دوبانت "، على رأس بعثة من ثمان عشرة فتاة، من بنات الأمراء والأعيان، إلى أشبيلية بمرافقة النبيل " سفليك " رئيس موظفي القصر الملكي، وأرسل معه كتابا إلى الخليفة هشام الثالث آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس جاء فيه بعد الديباجة: " وقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم، والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل؛ لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة، وقد أرسلنا ابنة شقيقتنا الأميرة " دوبانت " على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز؛ لتتشرف بلثم أهداب العرش؛ والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم؛ وحماية الحاشية الكريمة، وحدب من لدن اللواتي سيتوفرن على تعليمهن، وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها، مع التعظيم والحب الخالص من خادمكم المطيع: جورج. وقد ردّ الخليفة هشام الثالث على ملك إنجلترا برسالة جاء فيها: " لقد اطلعت على التماسكم فوافقت- بعد استشارة من يعنيهم الأمر- على طلبكم وعليه فإننا نعلمكم بأنه سينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين دلالة على مودتنا لشخصكم الملكي. أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث إليكم بغالي الطنافس الأندلسية وهى من صنع أبنائنا، هدية لحضرتكم، وفيها المغزى الكافي للتدليل على اتفاقنا ومحبتنا والسلام- خليفة رسول اللّه على ديار الأندلس: هشام. وفي عهد ملوك الطوائف في الأندلس كانت توفد إلى معاهد غرناطة، وأشبيلية، وغيرهما بعثات من فرنسا، وإيطاليا، والأراضي الواطئة؛ لتنهل من الحضارة العربية، وكان طلاب هذه البعثات يعجبون بالحياة العربية وتقاليدها وثقافتها حتى أن بعضهم اعتنق الإسلام وفضل البقاء بالأندلس ولم يعد إلى بلاده [10]. وكانت مدينة طليطلة بعد سقوطها في أيدي المسيحيين سنة 487 هـ المركز الرئيسي لحركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وقد أنشأ " ريموند " رئيس أساقفتها مكتبا للترجمة، وكان المستعربون من أهل الأندلس أكبر المساهمين في حركة الترجمة ومن أشهرهم " دومونيقوس جوند يسا لفى " و " بطرس الفونسى " و "حنا الأشبيلى " وغيرهم[11] وقد ترتب على هذه الحركة وجود ثورة علمية وفكرية هائلة في غرب أوروبا؛ ذلك لأن المعارف الجديدة التي نقلت من العربية إلى اللاتينية أضاعت أمام الأوربيين طريق الحياة, وبددت ضباب الجهالة الذي حجب عنهم رؤية الحضارة وأيقظتهم من سباتهم العميق ونبهتهم من غفلتهم الطويلة فأقبلوا على دراسة الحضارة الإسلامية بشغف بالغ ونهم شديد[12]. ففي علم الحساب مثلا عرفوا نظام الأعداد الهندية عن العرب، وهو النظام الذي تتغير فيه قيمة الـرقم بنقله من خانة الآحاد إلى خانة العشرات أو المئات أو الآلاف وما بعدها استعملوه في عملياتهم الحسابية بدل الأرقام الرومانية التي كانت عملياتها الحسابية تتطلب منهم وقتا طويلا . ومن المرجح أن البابا "سلفتر " الثاني الذي قضى سنوات عديدة في شمال إسبانيا كان من أوائل الأوروبيين الذين نقلوا نظام الأعداد العربي إلى الغرب، هذا بالإضافة إلى تشجيعه على ترجمة كثير من المؤلفات العربية إلى اللاتينية. وبخاصة ما يتعلق منها بعلم الجغرافيا. وقد عرف الأوروبيون علم الجبر- لأول مرة- عن العرب، كما نقلوا عنهم علوم الهندسة والفلكَ والطبيعة والكيمياء والطب والفلسفة، وكثيرا من أنواع فـروع المعرفة المختلفة. وقد سلكت الفنون الإسلامية سبيلها إلى أوربا عن طريق الأندلس، كذلك، مثل صناعة الخزف والنسيج، والتعدين، وصناعة المعادن، والنجارة، والتطعيم بالعاج وغيرها من الصناعات [13]. ومن هذا العرض السريع نتبين أهمية الدور الذي قامت به الأندلس في نقل الحضارة الإسلامية إلى ربوع أوربا، فكانت أساس نهضتها في العصور الحديثة، وسببا في تنعم به الآن من حياة مرفهة وثـراء وفير، وما تفخر به من تفوق في العلوم والفنون. صقلية مصدر الشعاع الثاني حاول المسلمون فتح جزيرة صقلية منذ عهد معاوية بن أبى سفيان فقد أرسل و اليه على مصر وأفريقية (معاويةُ بن حديج) جيشا بقيادة عبد الله بن قشر الغزاوي؛ لغزوها ولكن ابن قشر لم يتمكن من ذلك ثم تجددت المحاولة عدة مرات، ولكن أقدام المسلمين لم تثبت في هذه الجزيرة إلا في أوائل القرن الثالث الهجري حيث ابتدأ فتحها سنة 313 هـ زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب الذي كان والي على إفريقية من قبل الخليفة المأمون العباسي. وكان سبب فتحها أن إمبراطور الدولة البيزنطية " ميخائيل الثاني" ولى عليها "قسطنطين البطريق"، فأرسل الأمير القائد قسطنطين "بوفيموس" على رأس أسطول نهب ساحل أفريقية، ولكن الإمبراطور غضب على هذا القائد، لما بلغه من أنه اختطف راهبة من أحد الأديرة هناك،؛ ففر القائد إلى مدينة "سرقوسة" الواقعة على ساحل صقلية الشرقي، وأعلن الثورة على حاكم الجزيرة، غير أنه رأى أن لا طاقة له على مقاومة جيوش الإمبراطور وأساطيله، فلجأ إلى زيادة الله بن الأغلب أمير أفريقية، وأغراه بغزو صقلية وهوّن عليه فتحها فجهز الأمير الأغلبي جيشا وأسطولا يتألف من مائة سفينة بقيادة أسد بن الفرات قاضى القيروان وسيره لفتحها ([14]) . وقد لقي المسلمون صعوبات كثيرة في فتحها ولم يتمكنوا من الاستيلاء عليها جميعها إلا في عهد إبراهيم الثاني الأغلبي سنة 364 هـ، وقد ظلت صقلية تابعة لدولة الأغالبة حتى سقطت هذه الدولة على أيدي الفاطميين سنة 396 هـ، فدخلت صقلية في حوزتهم ولكن العرب الذين كانوا يستوطنونها أعلنوا الثورة على الفاطميين، بزعامة أحمد بن قرهب بعد أربع سنوات من حكمهم اعترفوا بسيادة الدولة العباسية [15] . غير أن الفاطميين تمكنوا من إخضاع الثورة، وإعادة سيطرتهم على الجزيرة، واتخذوها قاعدة حربية لأسطولهم يشنون منها الغارات على جنوب إيطاليا، وبخاصة مدينة جنوة التي تكررت غاراتهم عليها. وقد عيّن الخليفة المنصور (ثالث خلفاء الفاطميين) الحسن بن علي بن الكلبي واليا على صقلية فوضع الحسن أساس حكومة شبه مستقلة في صقلية يتوارثها أبناؤه من بعده وفي عهد هذه الأسرة بذرت بذور الثقافة العربية، وأخذت تنمو وتزدهر على مرّ الأيام في تلك الجزيرة. ولم يتدخل العرب في الشئون الداخلية لأهل الجزيرة، بل تركوا لهم الحرية التامة في مزاولة عاداتهم وتقاليدهم، وفي أداء شعائر دينهم، واكتفوا بجباية جزية قليلة ممن لم يعتنق الإسلام منهمن، وكان مقدارها أقل بكثير من الضرائب التي كان الرومان يفرضونها عليهم، وقد أعفوا من هذه الجزية الرهبان والفقراء والنساء والأطفال والشيوخ، ولم يتعرضوا لكنائسهم بسوء. وقد اهتم العرب بالزراعة، وأدخلوا في الجزيرة العربية زراعة قصب السكر والكتان والزيتون، وكثيرا من النباتات، وأشجار الفاكهة التي لم تكن موجودة بها من قبل، وقد ساعد خصب تربة الجزيرة على نمو زراعتها وجودة فواكهها؛ فتوفرت حاصلاتها، وكثرت مواردها. وقد مرّ الرحالة ابن جبير بها سنة 580 هـ بعد ست وتسعين سنة من انتهاء حكم العرب بها، فأعجب بأشجار الفاكهة فيها، واسترعى انتباهه ما شاهده من جودة كرومها [16]. ولم يكن اهتمام العرب في صقلية بالصناعة أقل من اهتمامهم بالزراعة، فقد أنشأوا مصانع للورق، ومصانع للنسيج، واستخرجوا الذهب والفضة، والحديد والرصاص والنوشادر من مناجمها، وتفننوا في صناعة الأواني النحاسية وصناعة النجارة والتطعيم بالعاج وصناعة الرخام والفسيفساء وغيرها وشيدوا المساجد الفخمة والقصور الجميلة. وقد ساعدت موارد الجزيرة الفنية، كما ساعد اشتغال العرب بالتجارة على زيادة ثروتهم؛ فعاشوا عيشة مرفهة، ومضوا منازلهم بالأثاث الفاخر، وفرشوها بأحسن أنواع السجاد، وتزينوا بأغلى أنواع الثياب، ولبست نساؤهم ثياب الحرير الموشى بالذهب وانتعلن الأخفاف المذهبة وتزيّن بالذهب والجواهر. ومنذ أوائل القرن الرابع الهجري أخذ البيزنطيون يكثرون من الغارات على الجزيرة فشغل ولاتها من قبل الفاطميين بعد هذه الغارات، وفي الوقت نفسه، قامت اضطرابات بين العرب أنفسهم داخل صقلية؛ فأدى ذلك إلى ضعفهم وعجزهم عن الدفاع عن الجزيرة، ولم يكن في وسع الفاطميين بالقاهرة أن يمدوهم بالجيوش لاضطراب الأمور فيها، فانتهز النورمانديون هذه الفرصة وأخذوا يستولون على ثغور الجزيرة ومدنها الواحدة تلو الأخرى حتى تم للملك "روجر الأول" الاستيلاء على جميع نواحي الجزيرة سنة 483 هـ وبذلك انتهى حكم العرب فيها بعد أن استمر مائتين وعشرين عاما [17]. ولم يكن استيلاء النورمانديين على الجزيرة آخر عهد العرب بها، بل ظلوا بعد زوال الحكم العربي يقيمون فيها، وقد اعتمد حكامها النورمانديون على العناصر العربية في الشئون السياسية، والاقتصادية؛ لأنهم كانوا على جانب كبير من الخبرة والحضارة والرقي، كما كانوا عناصر نشيطة ومنتجة. وكان "روجر الثاني" يرتدى الملابس العربية ويطرز رداءه بحـروف عربية وقد نقش على سقف كنيسته التي بناها في مدينة "بارمو" نقوشا بالخط الكوفي. وكان الإدريس الجغرافي الرحالة، وأعظم رسامي الخرائط، محببا إليه مقربا عنده، وقد شجعه الملك على بحوثه الجغرافية وقدم له كل مساعدة وبذل له من المال ما مكنه من إرسال الرسل إلى كثير من الأقاليم؛ لإمداده بالمعلومات الجغرافية عنها. وكذلك كان الملك "وليم" بن الملك روجـر الثاني وحفيد الملك روجر الأول يعتمد على العرب فيقربهم إليه ويثق فيهم، وقد عبر عن ذلك شاهد عيان هو الرحالة بن جبير في حديث له عن الملك بقوله: "لا.... إنه عجيب في حسن السيرة واستعمال المسلمين، وإنه لكثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله منهم الأطباء، والمنجمون وهو شديد الحرص عليهم" [18] . وكان الإمبراطور "فردريك الثاني" الذي ورث عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة عن أبيه الألماني، كما ورث عرش صقلية عن أمه الإيطالية، كان قد ولد بصقلية وتربى بها، وتعلم فيها؛ فنشأ محبا للعلوم العربية وكان يحسن التكلم باللغة العربية. وقد أفاض المؤرخون العرب والأوربيون في وصف حبه للمسلمين، وإعجابه بعلومهم، وحضارتهم، وأخلاقهم، وتقريبه لهم واستخدامهم في حاشيته حتى أن الموذنين المسلمين كانوا يؤذنون عند موعد كل صلاة في معسكره [19] . وقد قامت بين الإمبراطور "فرديك الثاني" وبين السلطان الأيوبي الكامل محمد بن آخي صلاح الدين صداقة متينة، وكانا يتبادلان السفارات والهدايا. فتذكر المصادر التاريخية أن السلطان الكامل أرسل هدية إلى الإمبراطور، كان من بينها زرافة كانت أول زرافة دخلت أوربا، وأن الأشراف الأيوبي صاحب دمشق أرسل إليه جهازا عجيبا للكواكب في صدر تمثل الشمس والقمر، وتحدد الساعات في مداراتهما، وأن الإمبراطور أرسل هدايا لكل من الكامل والأشرف منها دب أبيض وطاووس أبيض أعجبا أهل القاهرة ودمشق، كما أعجبت الزرافة وجهاز الكواكب أهل صقلية [20] وقد استمرت الصداقة قائمة بين "فردريك الثاني" وسلاطين مصر بعد وفاة السلطان الكامل سنة 635 هـ؛ يدلّ على ذلك ما أشارت إليه المراجع التاريخية من أن الإمبراطور حذر الصالح نجم الدين أيوب عندما علم بنية ملك فرنسا "لويس التاسع" القيام بالحملة الصليبية السابعة ضد مصر سنة 647 هـ حيث أرسل إليه- وهو بدمشق- رسولا تظاهر بأنه تاجر، وأسرّ إليه بأن لويس التاسع يعتزم توجيه حملة إلى مصر؛ للاستيلاء عليها، فأسرع الصالح بالعودة إلى مصر للدفاع عنها [21] . وقد ظل العرب يحتفظون بضياعهم وأموالهم ومتاجرهم ومصانعهم في الجزيرة، ويزاولون نشاطهم الزراعي والتجاري والصناعي بحرية تامة، كما ظلت اللغة العربية شائعة في الجزيرة، وكان ملوك النورماند يحسنون التكلم بها ويطربون لأدبها وشعرها. ويظهر أن استعمالها استمر إلى أواخر القرن التاسع الهجري؛ ويؤيد ذلك شواهد القبور التي عثر عليها علماء الآثار حديثا سواء كانت قبور مسلمين أم قبور مسيحيين. وقد ترك العرب في جزيرة صقلية كثيرا من عاداتهم وتقاليدهم، التي لا تزال باقية حتى الآن، كما تركوا ألفاظا عربية كثيرة في اللغة الصقلية والإيطالية. ولا تزال مدن كثيرة في الجزيرة تحمل أسماء عربية. وفي مدينة بارمو مبنيان عظيمان من مباني العرب أحدهما قلعة العزيزة والآخر قصر القبة. ومما تقدم يتبين أن الحضارة الإسلامية ازدهرت في الجزيرة نحو ستة قرون من الزمن وقد خرّجت صقلية العربية عددا غير قليل من المحدثين والفقهاء والنحويين والأدباء والمؤرخين والجغرافيين والأطباء والفلاسفة. نذكر منهم على سبيل المثال أسد الدين بن الحارث، صاحب كتاب الأسديات في الفقه، والقاضي ميمون بن عمر، وابن حمد يس الصقلي الشاعر المبدع، والشريف الإدريسي الجغرافي المحقق، والحسن بن يحي المعروف بابن الخزاز صاحب تاريخ صقلية، وعيسى بن عبد المنعم، وكان من أهل العلم بالهندسة والنجوم والحكمة، وأبو عبد الله الصقلي الفيلسوف وغيرهم كثير. وقد أنشأ العرب في مدينة بالرمو، عاصمة صقلية، أول مدرسة للطب في أوربا، وعن طريقها انتشر الطب في إيطاليا، وسائر أرجاء القارة. إذن كانت جزيرة صقلية مركز إشعاع للحضارة الإسلامية العربية، أفادت منه أوربا أعظم الفائدة؛ لأن الجزيرة كانت على صلة وثيقة بالعالم الإسلامي، وبخاصة ما يقع منه على شواطئ البحر المتوسط؛ مثل الشام، ومصر وبلاد المغرب، وكانت البلاد الإسلامية في العصر الوسطى وطنا عاما للمسلمين لا فرق بين مشرقي ومغربي. فلم تكن هناك قيود على انتقال العلماء من بلد إسلامي إلى بلد آخر فكثرت تنقلاتهم، وساعد هذا على تبادل الآراء وانتقالها من جهة إلى جهة فلم تكن حضارة المسلمين في صقلية من صنع أهلها وحدهم بل كانت حضارة إسلامية شاملة لنتاجها ونتاج العالم الإسلامي كله ومن هناك ترجمت وتسربت إلى جميع أصقاع أوروبا. لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا: إن صقلية ساهمت في تحضير أوروبا وتنويرها بنصيب يقرب من نصيب الأندلس، ولكنه يقّل عنه لأن رقعتها أضيق بكثير من رقعة الأندلس ولأن عدد من أنجبتهم من العلماء لم يصل في شهرته العلمية إلى ما وصل إليه علماء الأندلس. وهذا لا يغض من قيمة الدور الذي قامت به صقلية في إمداد أوروبا بكل مظاهر الحضارة ما كان منها من صنع العرب الذين استوطنوها أو مما نقلوه عن غيرهم من الدول الإسلامية الأخرى. يتبع
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الحضارة العربيّة في الأندلس وأثرها في أوربا ![]() فكر العرب في تحرير أسبانيا بعد أن طردوا البيزنطيين من شمال أفريقيا، وكانت أسبانيا قبل الفتح قد ملكها الرومان حتى القرن الخامس للميلاد، ثم انقض الوندال والآلان والسويف، الذين هم من القبائل البربرية الجرمانية على أسبانيا، ولم يلبث القوط أن قهروهم واستولوا على أسبانيا في القرن السادس للميلاد وظلوا سادتها إلى أن جاء العرب. وقد اختلط القوط بالسكان الأسبان – الرومانيين، فاتخذوا اللاتينية لغة لهم، وتحولوا من الآريوسية إلى المذهب الكاثوليكي، وكان اختلاط القوط باللاتينيين قبل حركة التحرير العربي مقتصراً على علية القوم، وكان سكان البلاد الأصليون من الأرقاء، والذين كانوا مستعدين لقبول أي سلطان عليهم، كما أن التنافس على عرش أسبانيا أدى إلى نزاع سياسي اجتماعي، وفتن داخلية، وفقدان الروح العسكرية، وفتور عن الدفاع بين الأهلين المستعبدين، وكان من جراء ذلك تفرق الدولة القوطية وسهل للعرب تحرير أسبانيا[1]. ونتيجة للتعاون بين العرب والبربر بعد تحرير شمال أفريقية، دخل جيش مؤلف من اثني عشر ألف جندي بلاد أسبانيا في سنة 92هـ/ 711م وتم فتحها بقيادة طارق ابن زياد ثم القائد موسى بن نصير 93هـ/ 712م[2]، وقد وصفها القائد العربي في رسالة للخليفة الأموي أنها: (شامية في طيبها وهوائها يمنية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جباياتها، صينية في معادن جواهرها، عدنية في منافع سواحلها)[3]. وتميزت الفترة الأولى من تاريخ العرب في الأندلس بين 92- 138هـ/ 711- 756م والتي تسمى (عصر الولاة) بعدم الاستقرار وانشغال الولاة فيما بينهم بالمنازعات مما مهد لدخول عبدالرحمن الداخل الأموي (صقر قريش) بعد فراره من وجه العباسيين وأسس الدولة الأموية في الأندلس بعصريها (الأمارة والخلافة) والتي امتدت من سنة 138هـ - 422هـ/ 756- 1031م[4]. ولم يكن الفتح العربي لأسبانيا احتلالاً عسكرياً بل كان حدثاً حضارياً هاماً وحركة تحرير للشعوب الأسبانية فقد أمتزجت حضارة سابقة كالرومانية والقوطية مع حضارة جديدة هي الحضارة العربية الاسلامية، ونتج عن هذا المزج والصهر حضارة أندلسية مزدهرة أثرت في الحياة الأوربية وتركت آثاراً عميقة مازالت تتراءى مظاهرها بوضوح حتى اليوم. وباستكمال حركة تحرير أسبانيا استقر العرب والبربر مع سكان البلاد، وكان للسلوك العربي الانساني أثر كبير في تآلف القلوب إذ لم يلبث العرب أن أنسوا إليهم وحصل التزاوج والمصاهرة بينهم[5] فنشأت طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة المولدين التي هي خليط من دم أهل البلاد الأصليين ودم العرب والبربر، كما ظهرت طبقة جديدة أخرى هي طبقة المستعربين وهم الأسبان المسيحيون الذين ظلوا على ديانتهم المسيحية، ولكنهم تعربوا بعد دراسة اللغة العربية وآدابها وثقافتها[6] وأحسن العرب سياسة سكان أسبانيا، فقد تركوا لهم كنائسهم وقوانينهم وأموالهم وحتى المقاضاة إلى قضاة منهم، ولم يفرضوا عليهم سوى جزية سنوية صغيرة، ولم يبق للعرب إلا أن يقاتلوا الطبقة الأرستقراطية المالكة للأرضين[7]. وحرص العرب على الوفاء بعهودهم لأهل الذمة حتى في الحالات التي كان يبدو للمسلمين أنهم خدعوا فيها، وقد وفى العرب رغم ذلك فقال الرازي: (فمضوا (العرب) على الوفاء لهم وكان الوفاء عادتهم)[8]. والحقيقة أن العرب الأولين كانوا يجرون على تسامح كريم صادر عن إيمان العرب برسالتهم الانسانية التي كان لها أثرها الكبير في اجتذاب أهل الذمة إلى الاسلام واقناعهم بعدالة الدولة العربية، وهذا هو السر في إقبال أهل الذمة على الدخول بأعداد كبيرة في الاسلام، وأدى ذلك إلى دخول كثير من الكلمات الاسلامية واستعمالها بألفاظها العربية من قبل سكان الأندلس مثل كلمة الله Alah ، القرآن Alcoran ، الحديث Hadith ، الاسلام Alislam، الفتوة Alfatea، رمضان Ramadan، السنة Alsonna، السلام عليك Al-salamalec، سورة Saurate، مؤذن Muezzin، رب Rab، بركة Baraka، ابليس Elb'is، جن Djiun، حرام Haramu، زكاة Zekkat، هجرة Hegira، طلسم Talisema، وقف Wakouf، خراج Carath[9]. لقد أثر العرب في أخلاق الشعوب النصرانية فقد علموهم التسامح الذي هو أثمن صفات الانسان، وبلغ حلم عرب الأندلس نحو الأهلين مبلغاً كانوا يسمحون لأساقفتهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر أشبيلية الذي عقد سنة 782م، ومؤتمر قرطبة الذي عقد سنة 852م، وتعد كنائس النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم، فغدا اليهود والنصارى مساوين للمسلمين قادرين مثلهم على تقلد مناصب الدولة[10]. وفي مثل هذا الجو من التسامح أصاب البلاد الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي بحيث أصبحت الأندلس أكبر قوة سياسية في المنطقة، وعلى الرغم من هذا التسامح العظيم، فقد ظهر فرق واضح بين هذه السياسة المتسامحة، وبين سياسة الاضطهاد الأعمى الذي وقع على المسلمين بعد سقوط الأندلس، حيث ذبح نصارى الأندلس أعداداً كبيرة من المسلمين، وحتى أنهم رفضوا تنصر من تنصر منهم لعدم الثقة بهم وبنواياهم[11]. ولم يكد العرب يتمون تحرير أسبانيا حتى بدأوا بتطبيق رسالتهم الانسانية في الحضارة فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خراب المدن ويقيموا أفخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، وشرعوا بدراسة العلوم والآداب وترجمة كتب اليونان واللاتين، وإنشاء الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربا زمناً طويلاً، وأخذت حضارة العرب تنهض في الأندلس منذ ارتقاء عبدالرحمن الأول العرش، أي منذ انفصالها عن الشرق سياسياً باعلان إمارة قرطبة سنة 138هـ/ 756م فغدت الأندلس أرقى دول العالم حضارة مدة ثلاثة قرون[12]. امتازت حضارة العرب في الأندلس بميلها الشديد إلى العناية بالآداب والعلوم والفنون، فأنشأوا المدارس والمكتبات في كل ناحية وترجموا الكتب المختلفة، ودرسوا العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والكيمياوية والطبية بنجاح ولم يكن نشاطهم في الصناعة والتجارة أقل من ذلك، فكانوا يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة، ومصانع النسائج، والجلود والسكر وبرعوا في الزراعة براعتهم في العلوم والصناعات، ولا يوجد في الأندلس من أعمال الري خلا ما أتمه العرب، وأدخلوا إلى حقول الأندلس زراعة قصب السكر والأرز والقطن والموز[13]. وأكثروا من انشاء الطرق والجسور والفنادق والمشاتي والمساجد في كل مكان، وكانت البحرية العربية في الأندلس قوية جداً، وبفضلها كانت تتم صلات العرب التجارية بجميع مرافئ أوربا وأفريقيا وآسيا، وظل العرب وحدهم سادة البحر المتوسط زمناً طويلاً[14]. فانشأوا أسطولاً ضخماً لمواجهة قوة الأسطول البيزنطي، ولضمان أمن السواحل العربية من هجماتهم، كما اتخذوا من بعض جزره القريبة من السواحل العربية مراكز بحرية للأسطول العربي، منها كريت وصقلية، ومالطة، وجزر البليار، وجزر قبرص وسردينية، فكانت قبرص تحمي شواطئ سوريا، وكريت تحمي شواطئ مصر، كما تحمي صقلية شمال أفريقيا، وتحمي جزر البليار الأندلس، فأصبحت الشواطئ العربية في أواخر القرن التاسع للميلاد في مأمن من أي غزو بيزنطي[15] فازدهرت التجارة مما أدى إلى إزدهار الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتمكين العرب في الأندلس من الاتصال بالعالم الخارجي. فالحضارة العربية في الأندلس مرت بأدوار، وخضعت لمؤثرات حضارية منها ما ترجع أصولها إلى الأم (الحضارة العربية في المشرق) كما خضعت أيضاً لمؤثرات حضارية محلية بحكم البيئة التي نشأت فيها وبدرجة محدودة. فالنظم السياسية والادارية والعسكرية والمالية كانت صدى للنظم القائمة في العراق والشام، فأقاموا نظام الأمارة ثم الخلافة على غرار النظم العربية في المشرق، كما استحدثوا نظام الوزارة والدواوين كتلك التي كانت سائدة أيام الخلافة العباسية في بغداد، لكنهم طوروا في هذه المناصب، وخاصة الوزارة، حيث أصبحت متعددة المناصب ولها رئيس وزراء وهو الحاجب. كما عرف الأندلس نظام الأجناد أو (الكور المجندة) التي ينزلها الجند ويقابلها الثغور، يحكمها قائد عسكري، فنزل جند دمشق في كورة البيرة، وجند حمص في كورة أشبيلية وجند الأردن في كورة مالطة، وجند قنسرين في كورة باجة، وبعضهم بكورة ندمير، فهذه منازل العرب الشاميين، وبقي العرب والبربر والبلديون شركاءهم)[16]. وتحدث الجغرافي العربي المقدسي: عن التقسيمات الادارية في الأندلس فقال: إن في الأندلس ثماني عشرة كورة أورستاق كما في الشرق[17]. وهذه التقسيمات الادارية تنطبق على تعريف ياقوت للكورة والرستاق[18]. كما نقل عرب الأندلس من المشرق العربي نظام الوزارة وطوروه وقسموا خطتها أصنافاً وأفردوا لكل صنف وزيراً، فجعلوا لحسبان المال وزيراً، وللترسيل وزيراً، وللنظر في أحوال الثغور وزيراً، وهذا التعدد في مناصب الوزراء لا نجده في نظام الوزارة في المشرق العربي حيث كانت السلطة مركزة في يد وزير واحد لها رئيس وزراء وهو الحاجب الذي يتصل بالخليفة مباشرة[19]. وبعد سقوط الدولة العربية الأموية، وقيام الدولة العباسية قام العباسيون بمطاردة الأمويين فاستطاع الأمير عبدالرحمن الأموي الدخول إلى الأندلس ولقب (بالداخل) وأعاد تأسيس الدولة الأموية في الأندلس، فعادت قرطبة تأخذ مكانتها بين عواصم العالم المتحضر آنذاك في مجال السياسة والثقافة والعمارة وجميع مظاهر الحياة الحضارية، وصارت مقر الخلافة، وموطن أهل العلم والأدب، فقد عمل الأمراء الأمويون في الأندلس على تشجيع العلوم العربية، ونقلوها معهم من المشرق العربي وكان لها أثرها الكبير في النهضة الأوربية. وقد ترك الوجود العربي في الأندلس طابعه في مختلف مجالات الحياة ففي الادارة نجد كلمات في اللغات الأوربية بألفاظها وأصولها العربية مثل خليفة Calife، أمير Emir، والي Vali، وزير Visir، رئيس Reis، القاضي Alcaede، المحتسب Almotocie، الحاجب Alhaque، صاحب المدينة Falmedina، صاحب السوق Fabasouquae[20]، ديوان Diuan، ولاية Vilaget[21]. كما انتقلت كثير من الكلمات والألفاظ العسكرية في الأندلس إلى أوربا مثل: القائد Alcaide، أمير البحر Adbuirate، الدليل Aldalil، الطلائع Alataya، القارة A. Igurdde، الطائفة Aceifa، العرض Alarde، الرباط Rabate، نفير Anafir، الفارس Alfaroz، الدرقة Aldorgu[22]، بارود Baroud، طرادة Tarffe، جيش Djech، غزوة Rozzia، مرابط Marabout، حراثة Caraque[23]. اهتم عبدالرحمن الداخل بتنظيم قرطبة لتتلاءم وعظمة الدولة فجدد معانيها وشد مبانيها وحصنها بالسور، وابتنى قصر الأمارة، والمسجد الجامع ووسع فناءه، ثم ابتنى مدينة الرصافة[24] وفق فن العمارة الاسلامية في الشام سواء في زخارفها المعمارية أم في بعض عناصر بنائها، وفي نظام عقودها، كما بنى قصر الرصافة ونقل إلى مدينته غرائب الفرس وأكارم الثمر، فانتشرت إلى سائر أنحاء الأندلس[25]. وكان جامع قرطبة في غاية العظمة في بنائه وهندسته وأصبح أعظم جامعة عربية في أوربا في العصر الوسيط، فكان البابا سلفستر الثاني قد تعلم في هذا الجامع يوم كان راهباً كما أن كثيراً من نصارى الأندلس كانوا يتلقون علومهم العليا فيه، واستأثر المسجد في الأندلس بتدريس علوم الشريعة واللغة إضافة إلى العلوم الأخرى[26]. وأسس العرب في الأندلس الكتاتيب لتعليم الصبيان اللغة العربية وآدابها ومبادئ الدين الاسلامي، على غرار نظام الكتاتيب في المشرق العربي واتخذوا المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين اللغة العربية ومبادئ الاسلام[27]. أما المناهج الدراسية في الأندلس فقد أشار إليها ابن خلدون بقوله: (وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة وجعلوه أصلاً في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر، والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجربة الخط والكتابة... إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شد بعض الشيء في العربية والشعر وأبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة[28]. واهتم خلفاء بني أمية في الأندلس بتأسيس المكتبات فنقلت من كتب الشرق العربي الشيء الكثير من الكتب وشارك الرحالة من الأندلسيين في ذلك وقام العلماء وطلاب العرب في نقل الكتب وأقبلوا على ترجمتها في مختلف صنوف العلم والمعرفة فيذكر ابن جلجل: أن الكتب الطبية دخلت من المشرق وجميع العلوم على عهد الخليفة الناصر سنة 300هـ- 350هـ[29]. وأنشأ المستنصر بالله 350- 366هـ/ 961- 976 مكتبة عظيمة فقد كان عالماً منصرفاً إلى العلم والقراءة واقتناء الكتب النادرة من بغداد ودمشق والقاهرة، وأنشأ مكتبة تحوي على ما يربو على 400 ألف مصنف في شتى العلوم والفنون، كما أنشأ داراً لنسخ الكتب وأودعها بمدينة الزهراء[30]. كما ألف الأندلسيون في علوم القرآن والحديث والفقه، وفي القضاء واللغة وآدابها وعلومها والمعاجم والتراجم، والتاريخ والسيرة والجغرافية، وألفوا في علوم الطب والحساب والهندسة والفلك والكيمياء والمنطق والفلاحة والملل والنحل، وفي الفلسفة والموسيقى، بحيث لم يتركوا حقلاً من حقول العلم والمعرفة إلا طرقوها[31]. وقد برز جملة من العلماء نذكرهم على سبيل المثال لا الحصر منهم عبدالملك بن حبيب السلمي (ت238هـ) ألف كتابه الموسوم (التاريخ) مخطوط ومحفوظ في مكتبة البودليانا في أكسفورد تناول فيه تاريخ العالم من بدء الخليقة حتى فتح الأندلس وإلى عصره هو[32]. والعالم اللغوي أبا علي القالي الذي وفد على الأندلس في أيام عبدالرحمن الناصر سنة 330هـ وأصله من العراق، ومن أهم أعماله كتاب (الأمالي) وهو عبارة عن محاضرات أملاها على تلاميذه الأندلسيين في مسجد قرطبة، ويتضمن فصولاً عن العرب ولغتهم وشعرهم وأدبهم وتاريخهم وألف أبو بكر محمد المعروف بابن القوطية (ت367هـ) كتاباً في تاريخ الأندلس أسماه (تاريخ افتتاح الأندلس) نشره المستشرق الأسباني جوليان رايبيرا سنة 1868م، وله كتاب في النحو يعرف بكتاب الأفعال[33] ومن شيوخ ذلك العصر العالم المغربي محمد بن حارث الخشني (ت361هـ) الذي ألف كتاب (القضاة بقرطبة) تناول فيه الحياة الاجتماعية في الأندلس نشره المستشرق الأسباني ريبيرا[34] وألف ابن حزم العديد من الكتب في أنساب العرب، وفي علماء الأندلس، وفي تاريخ الأديان وأبرز ما ألف في هذا المجال هو كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل)[35]. ومما ساعد على انتشار الكتب وازدهار الحياة العلمية انتشار صناعة الوراقة في الأندلس حيث تولى الوراقون نسخ ما يظهر من مؤلفات، كما اشتهرت الأندلس بمصانع الورق، وتميزت بهذا الانتاج بعض المدن مثل غرناطة وبلنسية وطليطلة، وشاطبة، وقد حاز مصنع شاطبة شهرة واسعة في صناعة الورق الجيد[36]. وقد نقلها عرب الأندلس من بغداد التي أنشئت عام 794م كما انتقلت منها بواسطة عرب صقلية والأندلس إلى أوربا[37]. واتجه أهل الأندلس الذين اعتنقوا الاسلام خاصة إلى تعلم العربية وإلى إقبالهم على تعلم العلوم الاسلامية، واتسع بمرور الزمن عدد الداخلين في الاسلام وأخذ طلاب العلم يرتحلون بشكل خاص إلى الجامعات العربية في الأندلس والاختلاط بالسكان مما ساعد على انتشار اللغة العربية، ونتج عن ذلك ظهور لغة عربية عامية دخلتها بعض الكلمات الأسبانية[38] كما نتج عن انتشار اللغة العربية بين الأندلسيين اختراع فن شعبي أندلسي جديد، هو فن (الموشحات) ويقال: إن مخترع هذا الفن رجل ضرير من بلدة قبره Cabra بجوار قرطبة اسمه مقدم بن معافى القبري الذي عاش في أواخر القرن الثالث للهجرة التاسع للميلاد ويعتبر هذا الفن الجديد ثورة في الشعر العربي، وإذا كان المشرق العربي قد أعطى مغربه فن القصيدة الشعرية، فإن المغرب العربي، وأعني الأندلس، قد أعطى المشرق العربي فن (الموشح) ويلاحظ في الموشح أنه لم يلتزم بنظام القوافي الموحد كالقصيدة الشعرية، وإنما اشتمل على قوافي متعددة كذلك لم تكن وحدة البيت الشعري، وإنما المقطوعة الشعرية التي تتكون من غصن وقفل، ويسمى القفل الأخير بالخرجة، والتي تكون باللغة العامية الدارجة، ولم يلبث هذا الفن الجديد أن انتشر في المغرب والمشرق، وتفنن الشعراء في صياغته حتى صارت الموشحة كالقصيدة الشعرية واستخدمه الصوفية في مدائحهم وأذكارهم[39]. وقد أثرت الأغنية الشعبية العربية في الشعر الأوربي باسم الشعر البروفنسي الذي كان ينشده المتروبادور أي (المغنون المتجولون) في جنوب فرنسا وايطاليا وأسبانيا وغيرها من البلدان الأوربية، واستحدثوا فناً آخر سموه (الزجل) وجاءوا فيه بالغرائب، وهذه الطريقة الزجلية هي فن العامة بالأندلس، وهم ينظمونه في سائر البحور للخمسة عشر بالعامية[40]. وكان كبار العلماء والأدباء والشعراء يلتقون في قصور الخلفاء والأمراء في الأندلس فكانت بمثابة منتديات زاهرة، ومجامع للعلوم والآداب والفنون[41]. ولمع فحول الشعراء والأدباء العرب في الأندلس كابن عبد ربه وابن حزم وابن زيدون وابن خفاجة وكانت النتيجة من إزدهار الحياة الأدبية أن انتشرت اللغة العربية والثقافة العربية والعادات والتقاليد العربية الاسلامية في أوربا وقد زخرت الألفاظ العربية في اللغة الأسبانية والقونية والفرنسية[42] حيث أقبل أهل الذمة من الأندلسيين على تعلم العربية ويبدو أن الاستعراب كان قد سبق الاسلام، فقد اختلط أهل الذمة بالمسلمين، وأخذوا لغتهم وأسلوبهم في الحياة، وأقبلوا بصورة تدريجية على الاسلام وأظهروا تفوقاً في العربية بل تفوق منهم في الفقه فذكر ابن الفرضي (أنه كان من مسالمة أهل الذمة من ملأ أشبيلية علماً وبلاغة ولساناً حتى شرفت به العرب)[43] وقد أثار اقبال المسيحيين على الثقافة العربية حسد القساوسة ورجال الدين الذين كانت لهم أديرة وكنائس في شتى أنحاء الأندلس فأخذوا يعيبون على الشباب المسيحي اقباله على قراءة اللغة العربية وتركه اللغة اللاتينية[44]. واشتهرت الأندلس بالمنشآت المعمارية العظيمة، ويعد جامع قرطبة الذي بني في القرن الثاني للهجرة/ الثامن للميلاد، وبعض المباني في طليطلة من آثار الدور الأول لفن العمارة العربي في الأندلس، كما تعد منارة أشبيلية (لعبة الهواء) التي أنشأها الموحدون في القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد والقصر الأشبيلي من آثار الدور الوسيط لفن العمارة العربي، كما يعد قصر الحمراء في غرناطة الذي شيد في القرن الثامن للهجرة/ الرابع عشر للميلاد عنواناً لما انتهى إليه فن العمارة العربي ويرى لوبون أنها تدل باختلاف طرزهما على أصالتها العربية[45]. ومن مباني العرب العظيمة في الأندلس مدينة الزهراء التي شيدها عبدالرحمن الناصر على بعد ثمانية كيلومترات شمال غرب قرطبة على سفح جبل العروس ومازالت تحتفظ باسمها العربي في اللغة الأسبانية، وبنى فيها قصره المشهور بقصر الحمراء[46]. وظهرت فيه عظمة فن الهندسة عند العرب، وفن الزخرفة والنقوش والنحت، وقد وصفها الأدريسي بقوله: وهي (الزهراء) مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، وفيها قصور يقصر الوصف عن صفاتها[47]. ويروى ابن عذاري: أن أعمدة الرخام في الزهراء بلغت حوالي 4313 سارية جلبت من قرطاجة وتونس والقسطنطينية وما وجد في أسبانيا[48]. ومن المباني التي تركها العرب في أسبانيا جامع قرطبة الشهير الذي بدأ بانشائه عبدالرحمن سنة 164هـ/ 780م، وهو من أجمل المباني العربية في أسبانيا، وكان يفوق جميع مساجد ومعابد الشرق قاطبة بعظمته وروعته، ولا يزال جامع قرطبة من المباني المهمة مع ما أصيب من التلف وما فقد من الأشياء الثمينة فيه[49]. والمستطلع إلى المباني العربية في طليطلة يرى مدى التأثير الحضاري العربي في الأمم التي حلت محلهم، فمدينة طليطلة القديمة لا تزال تحيط بها أبراجها وحصونها وأبوابها أشهرها (باب شفره) و(باب الشمس) والمباني العربية في أشبيلية عظيمة تناظر مثيلاتها في مدن الأندلس[50] وكلها تدل على أصالتها العربية. واستعملت الكثير من الألفاظ أو التسميات العربية في مجال العمارة في الأندلس وأوربا مثل البناء Albaenie، الربض Arrba، الحوز Alhoz، السطحية (السطح) Azatea، القبة (غرفة النوم) Aleobe، الأسطوان (مدخل البيت) Fayuon، الطوب Adube، القصر Alcosar ، [51] مسجد Mosuqee، منبر Minbar، منارة Minaret، محراب Mihrab[52]. إن الحضارة العربية التي نشأت في الأندلس، وازدهرت لم تقف عند حدود الأندلس فاستمرت العلاقات الاقتصادية والثقافية والحضارية بين الأندلس وأوربا وبينها وبين الشرق وبيزنطة ولم تنقطع رغم وقوع حروب بحرية وبرية طويلة، فالتبادل التجاري بين أسبانيا العربية وبين الشرق وبيزنطة تظل مستمراً، وعن هذه الطرق انتقل التراث الحضاري العربي في العصور الوسطى إلى أوربا ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إلا بتصور حالة أوربا حينما أدخلوا الحضارة إليها فيقول لوبون: إذا رجعنا إلى القرن التاسع من الميلاد وما بعده، حيث كانت الحضارة الاسلامية في أسبانيا ساطعة جداً رأينا أن مراكز الثقافة في أوربا كانت أبراجاً يسكنها سنيورات متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرأون، وإن أكثر الرجال معرفة كانوا من الرهبان المساكين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين بخشوع، ودامت همجية أوربا حتى القرن الحادي عشر حين ظهر فيها أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم فولوا وجوههم شطر العرب الذين كانوا أئمة وحدهم، ولم تكن الحروب الصليبية سبباً في إدخال العلوم إلى أوربا كما يردد على العموم، وإنما دخلت العلوم أوربا من أسبانيا وصقلية وإيطاليا، وذلك أن مكتباً للمترجمين في طليطلة بدأ منذ سنة 1130م بنقل أهم كتب العرب إلى اللغة اللاتينية تحت رعاية رئيس الأساقفة ريمون، ولم يتوان الغرب في أمر هذه الترجمة[53] فقد تدفقت العلوم العربية على أوربا من خلال الأندلس بعد أن فتح العرب الطريق عبر جبال البرت إلى فرنسا وإيطاليا، حيث عبر العلم والفلسفة العربيان من خلال رأس الجسر الثقافي الذي أقيم في شبه جزيرة ايبريا إلى أوربا[54] وظهر التأثير العربي في فن العمارة في الأندلس وأوربا، فكان الطراز السائد قبل تحرير أسبانيا هو الطراز القوطي، ولكن أقيمت في الأندلس في القرن الثالث عشر والرابع عشر المدن والمساجد والقصور على الطرز العربية مما يدفعنا على الاقرار أن الغرب اقتبس أصول فن عمارته من العرب، إذ ليس هناك من مشابهة بين الطراز العربي والطراز القوطي وإن تأثير فن العمارة العربية واضح في كثير من الكنائس الفرنسية ككنيسة مدينة (ماغلون) 1178م، التي كانت ذات صلات بالشرق، وكنيسة (كانده) وكنيسة (غاماش)... إلخ، وألمح مسيو شارل بلان إلى ما اقتبسه الأوروبيون من العرب في فن العمارة بقوله: أرى من غير مبالغة فيما لأمة من التأثير في أمة وذلك خلافاً لما يسار عليه اليوم أن الصليبيين الذين شاهدوا ما اشتمل عليه الفن العربي من المشربيات، وشرفة المآذن، والأخاريز أدخلوا إلى فرنسا المراقب والجواسق والأبراج والأطناف والسياجات التي استخدمت كثيراً في العمارات المدنية والحربية في القرون الوسطى[55]. لقد كان للاستقرار السياسي والاجتماعي، والرفاء الاقتصادي والتقدم العلمي والعمراني أثره الكبير في نشاط وازدهار التجارة في الأندلس، وأدى الاتصال التجاري بين الشرق والغرب وبين الأندلس وأوربا إلى دخول مفردات وألفاظ عربية كثيرة وأسماء منتجات وسلع تجارية ومكاييل ومقاييس وأوزان وعملات كانت تستعمل في التجارة إلى اللغة الفرنسية واللغات الأوربية مثل السوق Souk، ميناء Cabar، فنار Fanal، سمسار Cemcal، دكان Dogana، الديوان (الكمرك) Aduoma، مخزن Magozzia، معرفة (شركة تجارية) Maond، مخاطرة Moatra، التعريفة Tarifa، المناداة (المزايدة) Almoneda، ومن الألفاظ الأخرى التي كانت تستعمل في التجارة العملات والمقاييس والمكاييل والأوزان مثل: دينار Dinar، درهم Adorme، السكة Ceea، قنطار Kantar، قيراط Corat، مثقال Molacal، عشر Achour، أردب Ardib، القفيز abis، المد Almud، الرطل Arreelde، الربعة Arraba[56]. وعلى الرغم من وجود عدد هائل من الكلمات العربية في اللغة الانكليزية واللغات الأوربية الأخرى في مجالات العلوم المختلفة، إلا أننا نرى أن عدد هذه الكلمات في العلوم الرياضية قليل جداً، ولا يعني هذا أن العرب لم يؤثروا كثيراً على أوربا في مجال العلوم الرياضية ولكن العكس صحيح، إلا أن معظم الكتابة في هذه العلوم يعتمد على الرموز والأحرف بالاضافة إلى أن الأرقام الأوربية الحالية مأخوذة أصلاً عن طريق العرب ومازالت تسمى بالأرقام العربية ومثلاً على ذلك: الجبر Algebra، الخوارزمي (المقصود به الحساب) Algursime، المقابلة Almohabel، المجسطي Cipher، الصفر Cipher ، [57] وكلمة الصفر العربية تدل على انتقال طريقة الحساب العربي واستعمالها من قبل الأوربيين. وازدهر علم الهيئة (الفلك) عند العرب في الأندلس لحاجتهم إليه في تحديد القبلة وتعيين أوقات الصلاة، وقد تطور هذا العلم إلى دراسة حركات النجوم، وظهور حركة التنجيم، واخترعوا الساعات الشمسية لمعرفة الأوقات، فقد صنع عباس بن فرناس أول آلة (وهي نوع مبتكر من الساعات)[58]. ويبدو من مجرد النظر في المصطلحات الفلكية العديدة ذات الأصل العربي يدلنا على أن الغرب مدين لما قام به العرب من دراسات فلكية؛ لأن معظم هذه الأسماء قد تركت في الوقت الحاضر واستعيض عنها بأسماء غيرها ومن هذه الأسماء العذارىAdara ، السها Alcor، الجنب Algenib، الفكة Alphacca، الجبهة Algieba، عرش الجوزاء Arsh، بنات نعش Benatnasch، السرطان Cancer، الكلب الأكبر CamisMa,or، الكلب الأصغر Camis Minor، ذنب الدواجن Deneb Eldolphinas ، ذنب الجدي Deneb Elokab، ذنب العقاب Daneb Elkab، النصل Elnasl، الراعي التنين Etanin، فم الحوت Famu Lhout، رأس الأسد Res Al Asad، رأس الثعبان Res toban، سعد الملك Saod Al Melik، سعد السعود Saod Saoud، العذراء Virgo، الطائر Altair، قرن الثور Tauri، السموات amwet[59]. ولمس الأوربيون بشكل جلي الجهود العلمية البارزة التي بذلها عرب الأندلس في علم الكيمياء فوصلت إليهم ثروة كبيرة من المعرفة والحقائق، والتجارب والنظريات العلمية، فأخذ طلاب الغرب يقبلون على دراستها وترجمتها إلى لغاتهم فحفزت فيهم روح البحث والشغف باستقراء الحقائق وتتبعها، فزاد اطلاعهم على هذا النتاج العلمي الخصب، واعتمدوا الأدلة والبراهين في قضايا العلوم الطبيعية، فبدأت أوربا بحوثها في هذا المجال على أساس واقعي سليم وبناء نظري منسق وكان ذلك بفضل الانطلاق العربي في البحث العلمي والابتكار. وهذه ثمة كلمات عربية مستعملة في اللغات الأوربية في حقل الكيمياء تدل على جهود العرب في هذا العلم عند الغربيين[60] الكيمياء Alchemy، الكمل Alcuhal، زرنيخ Arsenic، بورق Barax، الاكسير Elixir، قرمز Kermes، كبريت Kibruit، الانبيق Linbick، نفط Naphta، عطر Attar، الزئبق Assoguc، قطران caudran، بنج Bang، سموم Simouim[61]. ولم يقتصر الأندلسيون على العلوم العملية بل كانت لهم دراسات في علوم أخرى كالفيزياء، وعلم العقاقير، والزراعة (علم الفلاحة) والذي أبدعوا فيه وصنفوا التصاميم المشهورة، مسجلين ما توصلت إليه تجاربهم في النباتات والتربة[62]، ويعد عباس بن فرناس القرطبي واحداً من عباقرة العرب المسلمين الذين استطاعوا تحقيق أروع الكشوفات في ميادين العلوم التجريبية وأن يمهدوا باكتشافاتهم العظيمة الطريق للأجيال اللاحقة من علماء العصر الحديث[63]. وأثمرت جهود العرب في تطوير علم الطب وتأثرت ثقافة الغرب الطبية تأثراً عميقاً بما اقتبسه من العرب في هذا المضمار[64]. والعرب أول من مارسوا عمليات الجراحة في العالم إطلاقاً، ووضعوا المؤلفات فيها وفي طرقها، والأمراض التي يجب استئصالها والآلات والأدوات التي تستعمل[65] وهم أول من اكتشفوا وسائل التخدير، وأنشأوا المستشفيات، وقسموها قسمين: قسم للرجال والنساء، وقسموا كل قسم إلى أقسام على حسب المرض، وأقاموا المعازل لعزل المرضى المصابين بأمراض معدية بل أن للمسلمين الفضل في إنشاء المستشفيات المتنقلة[66]. يتبع
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() البتاني .. فلكي ورياضي فذ صلاح عبد الستار الشهاوي - مجلة حراء ![]() بعد أن حمل المسلمون أنوار الإسلام إلى الدنيا، ورفعوا لواء الحضارة والعلم والمعرفة قرابة قرون ثمانية فيما بين الأندلس غربًا وبلاد السند شرقًا، تركوا للمعرفة الإنسانية تراثًا لم تتركه أمة قبلهم ولا بعدهم، يتمثل في أمهات الكتب والمعاجم والموسوعات التي خطتها أقلام العلماء والأدباء الذين أفنوا أعمارهم في التفكير المثمر والإنتاج الغزير نثرًا وشعرًا وعلمًا وفنًّا، وكانوا يطربون لصرير أقلامهم كما يطرب الموسيقار لألحان الآلة التي يعزف عليها. ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ، الفلكي أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان البَتّاني. يكنى بـ"البتاني" نسبة إلى مسقط رأسه "بَتّان"، كما يكنى بـ"الرقّي" نسبة إلى مدينة "الرقة"، التي قضى بها معظم حياته مع الكثير من الأسر الحرانية، وأنجز بها الكثير من أرصاده وإنجازاته العلمية. ولد أبو عبد اللّٰه البتاني حوالي عام (240هـ/854م) في "بتان" بإقليم حران. وينسب إقليم حران إلى مدينة حران التي كانت تقع بشمال غرب العراق بين مدينتي الرقة والرها بشمال غرب العراق. وكانت أسرته تدرِّس قديمًا الديانة الصابئية، ومنها جاءت نسبة "الصابئي" إليه مع أنه كان مسلمًا قبل أن يكون عالمًا. أمضى البتاني معظم حياته يرصد الأجرام السماوية بمرصد الرقة أو مرصد "البتاني" من عام (264هـ/878م) حتى عام (306هـ/918م). وقصد بغداد في إحدى مهماته العلمية، لكنه توفي عام (317هـ/929م) في الطريق أثناء عودته في قصر "جيس" إلى الغرب من دجلة، قليلاً قرب سامراء. دراسة البتاني وحياته العلمية لا تتوافر تفاصيل عن أساتذة البتاني والمرحلة التعليمية في حياته، لكن المعروف أن "علي بن عيسى الأسطرلابي" و"يحيى بن أبي منصور" كانا أكبر الفلكيين في العصر الذي نشأ فيه، ويحتمل أنه تتلمذ على أحدهما -خصوصًا وإن الأول كان حرانيًّا مثله- أو على بعض تلاميذهما. الأمر المؤكد أن البتاني قد استوعب المؤلفات الفلكية المتوافرة في عصره، خصوصًا المجسطي لبطلميوس، والذي كتب فيما بعد تعليقًا عليه، وانتقد بعض آراء بطليموس الواردة فيه. ذكر ابن النديم في "الفهرست" أن البتاني بدأ رحلته مع الرصد الفلكي عام (264هـ/878م). ومن الثابت أن البتاني أقام فترة بمدينة الرقة، وأجرى بها قسمًا من أرصاده التي تواصلت حتى عام (306هـ/918م) وفقًا لما ذكره ابن النديم، وأنه أقام فترة أخرى بمدينة أنطاكية بشمال سوريا، حيث أنشأ المرصد الذي عرف باسم "مرصد البتاني". وعمومًا كان عصر البتاني، عصر ازدهار علم الفلك الإسلامي وعصر تتابع الإنجازات العلمية الإسلامية في مجال هذا العلم. والجدير بالذكر أن البتاني قد نشأ في عائلة جُلّ أفرادها علماء، فهو أحد أحفاد العالم الكبير "ثابت بن قرة" (ت 288هـ/901م). إنجازات البتاني العلمية حقق البتاني إنجازات بارزة في علم الهيئة (الفلك)، إضافةً إلى إنجازاته في العلوم الرياضية (حساب المثلثات، والجبر والهندسة) والجغرافيا. ونظرًا لروعة إنجازاته الفلكية، حاز لقب "بطليموس العرب" تشبيهًا له بالعالم الفلكي والرياضي والجغرافي السكندري "كلوديوس بطليموس" الذي عاش في القرن الثاني الميلادي. والبتاني يعرف في الغرب باسمه المحرف "ألباتيجنوس" (Albategnius)، و"ألباتيجين" (Albategni). إنجازات البتاني في علم الفلك أهم إنجازات البتاني الفلكية، أرصاده الصحيحة التي تعد أدق ما أجراه الفلكيون العرب من أرصاد، ومن أدق الأرصاد التي أجريت حتى القرن السابع عشر، الأمر الذي ما زال يثير دهشة وإعجاب علماء الفلك؛ نظرًا لافتقار البتاني للآلات الفلكية الدقيقة التي توافرت في القرنين الماضيين، ولا نقول ما هو موجود منها الآن! وفي إطار تلك الأرصاد الصحيحة، رصد البتاني زاوية الميل الأعظم، وقاس موضع أوج الشمس في مسيرتها الظاهرية فألفاه قد تغير عن القياس الذي أجراه بطليموس في القرن الثاني الميلادي. وهذه هي أهم إنجازات البتاني في الفلك: - صحح البتاني قيمة الاعتدالين الصيفي والشتوي. - حسب قيمة ميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجدها (35) دقيقة و(23) ثانية. والدراسات الفلكية تبين لنا أنه لم يخطئ إلا في دقيقة واحدة حسب طول السنة الشمسية بدرجة عالية من الدقة، وبخطأ مقداره دقيقتان واثنتان وعشرين ثانية فقط. - أجرى أرصادًا دقيقة للكسوف والخسوف. اعتمد عليها فلكيو الغرب في حساب تسارع القمر أثناء حركته خلال قرن من الزمان. - برهن على احتمال حدوث الكسوف الحلقي للشمس. وفي ذلك مخالفة وتصحيح لرأي الفلكي السكندري بطليموس. - حقق مواقع عدد كبير من النجوم، وصحح بعض نظريات حركات القمر وكواكب المجموعة الشمسية. - توصل إلى نظرية قوية الأسانيد، توضح وتفسر أطوار القمر عند ولادته. - أوضح البتاني حركة الذنب للأرض. إنجازات البتاني في حساب المثلثات - وصل البتاني إلى بعض المعادلات الأساسية والحلول المهمة في علم حساب المثلثات الكري (Spherical Trigonometry)، وهو العلم الرياضي الذي أسهم إسهامًا كبيرًا في ارتقاء علم الفلك. - البتاني هو أول من استبدل "الوتر" الذي كان بطليموس يستعمله بـ"الجيب"، وهو إحدى النسب المثلثية ويساوي حاصل قسمة طول الضلع المقابل للزاوية على وتر المثلث القائم الزاوية. - توصل البتاني إلى معادلة جبرية لحساب قيمة الزاوية بمعلومية النسبة بين جيبها وجيب تمامها. - البتاني هو أول من حسب الجداول الرياضية لنظير المماس. - البتاني هو من أوائل العلماء المسلمين الذين استخدموا الرموز في تسهيل العمليات الرياضية. البتاني يصحح رأي بطليموس كان الفلكيون قبل البتاني وعلى رأسهم بطليموس، يقولون بثبات ميل حركة أوج الشمس بحساب دائرة الفلك، إلى أن جاء البتاني فبيَّن أن الميل يتغير مع الزمن، وأن أوج الشمس والتباعد المركزي لمسارها قد تغير منذ عهد "أبرخس"، على الرغم من أن بطليموس أكد ثباتها. ولم ينس البتاني أن يوضح أن حركة أوج الشمس هي حركة الاعتدالين، ومن ذلك أوجد أن طوال السنة المدارية هو (365) يومًا و(5) ساعات و(46) دقيقة و(34) ثانية، أي بخطأ نقصانٍ مقداره دقيقتان و(22) ثانية. بينما كان خطأ بطليموس بزيادةٍ مقدارها (6) دقائق و(26) ثانية. كما أنه أوضح كيفية تغير القطر الظاهري للشمس والقمر، مثبتًا إمكانية حدوث الكسوف الحلقي للشمس، بعكس ما كان يظنه بطليموس. وقد استخدم البتاني في إثبات ذلك أجهزة فلكية من صنعه، منها جهاز لقياس الارتفاع الزاوي للشمس. هذا الجهاز الذي يتألف من عامود شاقولي طوله موضوع على مستوى أفقي يقاس عليه طول ظل هذا العامود. مؤلفات البتاني ألف البتاني عددًا كبيرًا من المؤلفات، تضمنت أرصاده الدقيقة ومقارناته بين التقاويم المعروفة لدى الأمم المختلفة (الهجري، الفارسي، الميلادي، القبطي)، وأوصافه للآلات المستخدمة في عمليات الأرصاد الفلكية وطرق صناعتها. ومن أهم مؤلفات البتاني: كتاب معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك، ورسالة تحقيق أقدار الاتصالات، وشرح المقالات الأربع لبطليموس، وكتاب تعديل الكواكب، وكتب ورسائل في علم الجغرافيا، وكتاب الزيج الصابئ أو زيج البتاني. و"الزيج" هو أهم كتب البتاني العلمية، وضعه عام (287هـ/900م) على أساس أرصاد قام بها في الرقة وأنطاكية في العام نفسه، متخذًا "زيج الممتحن" ليحيى بن منصور مرجعًا له. ويعد "الزيج الصابئ" أهم وأصح الأزياج المعروفة التي أثمرتها الحضارة الإسلامية، وسمي بـ"الزيج الصابئ" نظرًا لانتماء البتاني إلى طائفة صائبة حران، الذين عدّهم الرسولضمن أهل الكتاب قبل أن يسلموا. ويشتمل "الزيج الصابئ" على مقدمة، وسبعة وخمسين فصلاً، ضمّنها البتاني الكثير من أرصاده الفلكية وأفكاره ونظرياته في علم الفلك. وقد ترجم الكتاب إلى اللاتينية أكثر من مرة في القرن الثاني عشر، كما أمر "ألفونسو العاشر" في "قشتالة" بنقله إلى الإسبانية، وأطلع عليه كبار الفلكيين الأوربيين ومنهم "كوبرنيك" (Copernicus) في القرن السادس عشر الميلادي. وفي عام (1899م) طبع الزيح الصابئ بـ"روما"، بعد أن حققه "كارلو نللينو" عن النسخة المحفوظة بمكتبة الاسكوريال بإسبانيا. ويضم الكتاب أكثر من ستين موضوعًا أهمها: تقسيم دائرة الفلك وضرب الأجزاء بعضها في بعض وتجذيرها وقسمتها بعضها على بعض، معرفة أقدار أوتار أجزاء الدائرة، مقدار ميل فلك البروج عن فلك معدل النهار وتجزئة هذا الميل، معرفة أقدار ما يطلع من فلك معدل النهار، معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك، معرفة أوقات تحاويل السنين الكائنة عند عودة الشمس إلى الموضع الذي كانت فيه أصلاً، معرفة حركات سائر الكواكب بالرصد ورسم مواضع ما يحتاج إليه منها في الجداول في الطول والعرض. عرف البتاني قانون تناسب الجيوب، واستخدم معادلات المثلثات الكرية الأساسية. كما أدخل اصطلاح جيب التمام، واستخدم الخطوط المماسة للأقواس، واستعان بها في حساب الأرباع الشمسية، وأطلق عليها اسم "الظل الممدود" الذي يعرف باسم "خط التماس". البتاني في عيون علماء الغرب اعترف الفلكي الشهير "إدموند هالي" بدقة أرصاد البتاني، واعترف بذلك أيضًا "كاجوري" في كتابه "في تاريخ الرياضيات"، كما أشار مؤرخ العلم "جورج سارتون" إلى البتاني بإعجاب شديد باعتباره أعظم الفلكيين المسلمين. واعترف المستشرق الإيطالي "نللينو" أن أرصاد البتاني في الزيج الصابئ، كان لها أعظم الأثر على تطور علم المثلثات الكروية في أوربا. وقال عنه "جوزيف شاخت" في كتابه "تراث الإسلام": "يعتبر البتاني مبرزًا بين جميع الفلكيين العرب والمسلمين. فقد وضع جداول الزيج الصابئ، وقام بأرصاد عديدة لها جانب كبير من الدقة لدرجة أنه استطاع إثبات حدوث الكسوف الحلقي للشمس". وبعد ذلك بعدة قرون، تمكّن "دنثورن" (Dunthorne) بالاعتماد على أرصاد البتاني من تحديد تسارع القمر في حركته حول الأرض. وعن البتاني ذكرت دائرة المعارف الإسلامية الإنجليزية: "البتاني فلكي ورياضي عربي مشهور، ويعتبر أحد أعلام رجال الفلك في العالم، ولد في (بتان) بنواحي حران. وقد أسهم في وضع أساس علم المثلثات الحديثة ووسع نطاقها، واكتشف الكثير من حقائق علم الفلك، ولم يُعلَم أحدٌ في الإسلام بلغ مبلغ البتاني في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركتها. وهو أول من اكتشف (السمت) و(النظير) وحدد نقطتهما في السماء، وعني برصد الكسوف والخسوف، وصحح بعض نتائج بطليموس الإسكندري". ولمكانة البتاني العلمية، أطلق علماء الفلك الغربيون اسمه على أحد سهول القمر (Albategnius). كما ذكره معجم ماكميلان لعلم الفلك ضمن قائمة مشاهير علم الفلك عبر التاريخ. وفي كتابه "The Spirit of Islam" أي "روح الإسلام" يقول المفكر الإسلامي الهندي "سيد أمير علي" عن البتاني: "شكلت جداوله الفلكية -المترجمة إلى اللغة اللاتينية- ركائز علم الفلك لقرون عدة، ومع ذلك، فالبتاني معروف أكثر في تاريخ الرياضيات باعتباره أول من أدخل الجيب وجيب التمام بدلاً من الوتر في الحسابات الفلكية وحساب المثلثات". ويعتبر كتاب "الزيج الصابئ" واحدًا من أهم مائة كتاب في التراث العربي الإسلامي الكريم، وأهم كتاب فلك عربي إسلامي؛ لأن القائمة التي عددت المائة كتاب، لم تحو من كتب الفلك العربية الإسلامي شيئًا غيره.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() صفحة من تاريخ العلوم: الآمدي .. مستنبط الكتابة البارزة للمكفوفين يذكر التاريخ الحديث، أن رجلاً فرنسيًّا اسمه “لويس برايل” كان أعمى لا يبصر، استنبط في سنة 1829م أي منذ نحو مائة وخمسين سنة الأسلوب المنسوب إليه لتعليم العميان القراءة والكتابة، وقد خُلِّد اسمه وشرفه الفرنسيون بهذا الاستنباط الخطير، الذي أخذت به أمم العالم في تعليم العميان. ولكن من يدري أن رجلاً عربيًّا، كان أعمى أيضًا لا يبصر، اسمه “زين الدين علي بن أحمد الآمدي العابر” عاش في حدود سنة سبعمائة للهجرة أي قبل نحو سبعمائة سنة كان السابق في هذا المضمار، وإليه يرجع – دون سواه – الفضل كله في ابتداع الكتابة البارزة للعميان. كان أستاذاً في المدرسة المستنصرية ببغداد، وله فيها غرفة خاصة به، ترجم له الصفدي في كتاب “نكت الهميان في نكت العميان” ووصفه بقوله: “كان شيخًا مليحًا مهيبًا ثقة صدوقًا، كبير القدر والسن، أضر في أوائل عمره، وكان آية عظيمة في تعبير الرؤيا، مع مزايا أخرى عجيبة، تدل كلها على عبقريته وشدة فطنته وذكائه”. وله حكايات غريبة، ذكر الصفدي طائفة منها، غير أن أعجبها، ما جرى له مع السلطان “غازان” المغولي ببغداد، وهو من أحفاد “هولاكو بن جنكيز خان” قال: لما دخل السلطان غازان، المذكور، سنة خمس وتسعين وستمائة، أُعْلِم بالشيخ زين الدين الآمدي المذكور فقال السلطان غازان لأصحابه: إذا جئت غدًا المدرسة المستنصرية أجتمع به، فلما أتى السلطان غازان المستنصرية، احتفل الناس به، واجتمع بالمدرسة أعيان بغداد وأكابرها من القضاة والعلماء والعظماء، وفيهم الشيخ زين الدين الآمدي لتلقي السلطان، فأمر غازان أكابر أمرائه أن يدخلوا المدرسة قبله واحدًا بعد واحد، ويسلم كل منهم على الشيخ، ويوهمه الذين معه، أنه هو السلطان – امتحانًا له – فجعل الناس كلما قدم أمير يعظمونه ويأتون به إلى الشيخ زين الدين؛ ليسلم عليه، والشيخ يرد السلام على كل من أتى به إليه، من غير تحرك له ولا احتفال به، حتى جاء السلطان غازان، في دون تقدمه من الأمراء في الحفل، وسلَّم على الشيخ وصافحه، فحين وضع يده في يده نهض له قائمًا وأعظم ملتقاه والاحتفال به، وأعظم الدعاء للسلطان باللسان المغولي، ثم بالتركي، ثم بالفارسي ثم بالرومي ثم بالعربي، ورفع به صوته إعلامًا للناس، وكان زين المذكور عارفًا بكثير من الألسن واللغات، فعجب السلطان غازان من فطنته، وذكائه وحدة ذهنه ومعرفته مع أنه ضرير بحاسته (بحدسه) الذي فطن من معرفته للسلطان. صَنَّف الآمدي جملة كتب في اللغة والفقه، وكان يتّجر بالكتب، أما قصة اكتشافه الكتابة البارزة الخاصة بالعميان فهي أنه كان يحرز كتبًا كثيرة جدًّا، وكان إذا طُلب منه كتاب، وكان يعلم أنه عنده، نهض إلى خزانة كتبه واستخرجه من بينها، كأنه قد وضعه لساعته، وإن كان الكتاب عدة مجلدات، وطُلب منه الأول مثلاً أو الثاني أو الثالث أو غير ذلك، أخرجه بعينه وأتى به، وكان يمس الكتاب أولاً، ثم يقول: يشتمل هذا الكتاب على كذا وكذا كراسة، فيكون الأمر كما قال، وإذا أمَرّ يده على الصفحة، قال عدد أسطر هذه الصفحة كذا وكذا سطرًا، وفيها بالقلم الغليظ كذا وهذا الموضع كُتب به في الوجهة – أي في الجانب – وفيها بالحمرة هذا، وهذه المواضع كتبت فيها بالحمرة، وإن اتفق أنها كُتبت بخطين أو ثلاثة، قال: اختلف الخط من هناك إلى هنا، من غير إخلال بشيء مما يُمتحن به. والأدهى من ذلك، أنه كان يعرف أثمان جميع كتبه التي اقتناها بالشراء، وذلك أنه كان إذا اشترى كتابًا بشيء معلوم، أخذ قطعة ورق خفيفة وفتل منها فتيلة لطيفة – أي صغيرة – وصنعها حرفًا – أو أكثر – من حروف الهجاء، لعدد ثمن الكتاب بحساب الحروف، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل، ويلصق فوقه ورقة بقدره لتتأبّد فإذا شدّ الكتاب بيده يعرف ثمنه من تنبيت (بروزات) العدد الملصق فيه. وهذا الأسلوب هو بعينه الكتابة البارزة الخاصة بالعميان؛ وهو أمر يدل دلالة قاطعة على عناية أولئك الأقدمين بأمور يُظَنّ أنها من مبتكرات العصور الحديثة ومستنبطات المدنية الحاضرة. خالد عزب
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |