|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() فصل الصيف وما فيه من حر وخير الشيخ فؤاد بن يوسف أبو سعيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار، أعاذني الله وإياكم وسائر المسلمين من النار، ومن كل عمل يقرب إلى النار، اللهم آمين. إخواني في دين الله، سبحان الله مغيِّر الأيام والشهور، والسنين والدهور، سبحانَ مقلِّب الفصول، الذي جعل الشتاءَ ببردِه وقرِّه، والصيفَ بجفافِه وحرِّه، والربيعَ باعتداله وجماله، والخريفَ برياحِه وتطاير أوراقه. ها هو فصل الصيف جعل الله فيه حِكمًا كثيرة، وفوائدَ جليلة، ففيه تنضج الثمار، ويقتربُ وقتُ الجنى والحصاد؛ ليحصدَ الزارعون نِتاج ما زرعوا، ويجنيَ الفلاحون ثمارَ ما غرسوا، فينتظرهم أصحابُ العوز والحاجة، وأهلُ الفقر والمسكنة؛ ليسدُّوا رَمَقَهُم بما يؤدونه من زكوات ويمنحوهم من صدقات؛ قال سبحانه: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141]. إننا نعايش هذه الأيام توسطَ الشمسِ في كبد السماء، واقترابَها من سطح الأرض؛ مما سبَّب على رأي بعضهم ارتفاعًا شديدًا في الحرارة في كثير من البلدان؛ مما أدَّى أو قد يؤدي إلى حرائق في الغابات، أو موتٍ لبعض الكائنات، أو جفافٍ في بعض المناطق. هذا والشمس بعيدةٌ عنا بما يقارب (93,000,000) ثلاثة وتسعين مليون ميل - كما يزعمون - فماذا يكون الحال لو اقتربت هذه الشمس من رؤوسنا ميلًا واحدًا؟ ففي فصل الصيف ترتفعُ درجات الحرارة عن معدلها المعتاد، فيُهرَع الناس إلى التخفُّف من الملابس، والبحثِ عن مكان ظليل، وهواءٍ عليل، تحت الأشجار، وعلى شواطئ البحار والأنهار. فعند ارتفاع حرارةِ الجوِّ وانتشارِ العرق، يلجأ الناس إلى ما يجلب لهم التبرُّدَ بالاغتسال وذهابِ رائحة العرق، فعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إلَى عبدالله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، فَقَالُوا: (أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا؟!)، قَالَ: (لَا، وَلَكِنَّهُ أَطْهَرُ وَخَيْرٌ لِمَنْ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِوَاجِبٍ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بَدْءُ الْغُسْلِ، كَانَ النَّاسُ - أي: إن الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - (مَجْهُودِينَ)؛ أَيْ: إنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَشَقَّة وَالْعُسْرَة لِشِدَّةِ فَقْرهم؛ عون المعبود (1/ 398). (يَلْبَسُونَ الصُّوفَ، وَيَعْمَلُونَ عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ، إِنَّمَا هُوَ عَرِيشٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ حَتَّى ثَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ، فَآذَى بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم تِلْكَ الرِّيحَ)، قَالَ: ("أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمَ") - أي: يوم الجمعة - (فَاغْتَسِلُوا، وَلْيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ")، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (ثُمَّ جَاءَ اللهُ بِالْخَيْرِ) - أي: فُتحت الفتوح على المسلمين - (وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ، وَكُفُوا الْعَمَلَ) - كان عندهم خدمٌ يخدمونهم - (وَوُسِّعَ مَسْجِدُهُمْ، وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ الْعَرَقِ)؛ (د) (353)؛ انظر المشكاة (544). فالجمعة يتأكَّد الغسلُ لها حتى يتفادى المسلمُ الروائح التي تؤذي المصلين، وتؤذي ملائكة ربِّ العالمين، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ"؛ (ت) (497)، (س) (1380)، (د) (354)، (جة) (1091)، انظر صَحِيح الْجَامِع (6180)، المشكاة (540). فالاغتسال للجمعة من أجل الاجتماع، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى؛ لأنه عيد المسلمين الأسبوعي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ("إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ" = أي: إن وجد عنده بالبيت عطور = ("فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ")؛ والحديث رواه (جه) (1098)، (طس) (7355)، انظر صَحِيح الْجَامِع (2258)، صَحِيح التَّرْغِيبِ (707)؛ أي: ونظفوا أسنانكم بالسواك. وفي فصل الصيف يتخذُ الناسُ ثيابًا مناسبةً واقيةً من الحر، لكن يجبُ أن تكون ساترةً للعورات؛ عن بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟) قَالَ: ("احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ")، فَقَالَ: (الرَّجُلُ يَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ؟)، وفي رواية: (الرجل يكون مع القوم)، قَالَ: ("إِنْ اسْتَطَعْتَ أَلَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَافْعَلْ")، قُلْتُ: (وَالرَّجُلُ يَكُونُ خَالِيًا؟)، قَالَ: ("فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ")؛ (ت) (2769)، حسنه الألباني في الإرواء: (1810)، وصحيح الجامع: (203)، والمشكاة: (3117). والناس في هذه الأيام أيامِ الحرِّ يبحثون عن الظلال، وقد قال الله سبحانه وتعالى ممتنًّا على عباده: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ [النحل: 81]. ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ﴾؛ أي جعل لكم من مخلوقاته التي لا صنعة لكم فيها ﴿ ظِلالًا ﴾، وذلك كأظلة الأشجار والجبال والآكام ونحوها. ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ﴾؛ أي: مغارات تكنُّكم من الحرِّ والبرد، والأمطار والأعداء، ﴿ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ ﴾؛ أي: ألبسة وثيابًا ﴿ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ﴾. ولم يُذكر هنا البرد؛ لأنه قد تقدم أن هذه السورة وهي سورة النحل أوَّلها في أصول النعم، وآخرها في مكملاتها ومتمِّماتِها، ووقايةُ البرد من أصول النعم، فإنه من الضرورة، وقد ذكره في أولها في قوله: ﴿ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ﴾. ﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ﴾؛ أي: وثيابًا تقيكم وقت البأس والحرب من السلاح، وذلك كالدروع والزرد ونحوها، كذلك يتم نعمته عليكم؛ حيث أسبغ عليكم من نعمه؛ حيث أدخل من نعمه ما لا يدخل تحت الحصر. ﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾ إذا ذكرتُم نعمة الله ورأيتموها غامرة لكم من كل وجه. ﴿ تُسْلِمُونَ ﴾ لعظمته، وتنقادون لأمره، وتصرفونها في طاعة موليها ومسديها، فكثرةُ النعم من الأسباب الجالبة من العباد مزيد الشكر، والثناء بها على الله تعالى، ولكن أبى الظالمون إلا تمردًا وعنادًا]؛ تفسير السعدي (ص: 446). وتعجَّب المسلمون من حال أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، عندما كانوا يرونه يلبس ثيابَ الشتاءِ في الصيف، وثيابَ الصيف في الشتاء، فسألوه فأجابهم، حيث جاء عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: (كَانَ أَبُو لَيْلَى يَسْمُرُ) = أي: يجلس بعد العشاء = (مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه، فَكَانَ عَلِيٌّ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَثِيَابَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ)، فَقُلْنَا: (لَوْ سَأَلْتَهُ!) فَقَالَ: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ إِلَيَّ وَأَنَا أَرْمَدُ الْعَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَرْمَدُ الْعَيْنِ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيَّ)، ثُمَّ قَالَ: ("اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ"). قَالَ: (فَمَا رَمِدْتُ مُنْذُ تَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَيْنَيَّ)، (وَمَا وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا بَعْدَ يَوْمِئِذٍ)، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ")، (فَتَشَرَّفَ لَهُ النَّاسُ، فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ)؛ (جه) (117)، (حم) (778)، (579)، وقال الأرنؤوط: إسناده حسن؛ (حم) (1117). ألا واعلموا أيها المسلمون أن [كل ما في الدنيا يدلُّ على صانعه سبحانه وتعالى، ويذكِّرُ به، ويدلُّ على صفاتِه فما فيها من نعيمٍ وراحةٍ يدلُّ على كرم خالقه، وفضله وإحسانه، وجوده ولطفه، وما فيها من نقمةٍ وشدةٍ وعذابٍ يدلُّ على شدَّةِ بأسه وبطشه، وقهره وانتقامه، واختلافُ أحوالِ الدنيا من حرٍّ وبردٍ وليلٍ ونهار وغير ذلك، يدلُّ على انقضائها وزوالها. إن الصيفَ وحرارتَه، ولهيبَه وشدتَه، يذكِّرُنا بنارِ جهنَّمَ وشدتِها، وليهيبِها وحرارتِها، فإذا كانت نارُ الدنيا جزءًا من عشرات الأجزاء من نار الآخرة، فكيف الحال يوم القيامة؟ نسأل الله السلامة. أمَّا ما أخبرنا عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فإنَّ شدَّةَ الحرارة التي نجدها اليوم ما هي إلا من نفسِ نار جهنم واستعارِها، وفيحِها وريحِها؛ حيث «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ»؛ متفق عليه (خ) (537)، (م) 185- (617) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. إذًا هذا نفسٌ وزفيرٌ من جهنم، سبَّبَ شدةَ الحرِّ في هذه الدنيا، فكيف بأهلها وسكانها أصحاب الجحيم؟! عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ نَارِ جَهَنَّمَ"، ("وَضُرِبَتْ بِالْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَعَلَ اللهُ فِيهَا مَنْفَعَةً لِأَحَدٍ")، فَقَالُوا: (وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً) - أَيْ: إِنَّ هَذِهِ النَّارَ الَّتِي نَرَاهَا فِي الدُّنْيَا كَانَتْ كَافِيَةً فِي الْعُقْبَى لِتَعْذِيبِ الْعُصَاةِ، فَهَلَّا اِكْتَفَى بِهَا؟! وَلِأَيِّ شَيْءٍ زِيدَ فِي حَرِّهَا؟! - تحفة الأحوذي (6/ 385)، قَالَ: ("فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا"؛ (خ) (3265)، (م) (2843)، (ت) (2589). (كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا) - أَيْ: لَا بُدَّ مِنْ التَّفْضِيلِ، لِحِكْمَةِ كَوْنِ عَذَابِ اللهِ أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ اللهُ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ النَّارِ فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجًا لِمَا فِي تِلْكَ الدَّارِ؛ تحفة الأحوذي (6/ 385). وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("أَتَحْسَبُونَ أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ مِثْلُ نَارِكُمْ هَذِهِ؟! هِيَ أَشَدُّ سَوَادًا مِنَ الْقَارِ)" - أي: الزِّفْتُ - ("هِيَ جُزْءٌ مِنْ بَضْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا مِنْهَا")؛ (هق في البعث والنشور)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ (3666، 3670). [قال بعض السلف: لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا، لقالوا فيها ألفي عام، يعني أنهم كانوا ينامون فيها، ويرونها بردًا]؛ لطائف المعارف لابن رجب (ص: 325). ومن شدة حرارة جهنم في الموقف يوم القيامة دون دخولها: («يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ»)؛ (خ) (6532). وعند مسلم: "إِنَّ الْعَرَقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ، أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ"؛ (م) 61- (2863). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الآخرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، المبعوث رحمة مهداة للعالمين كافة، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا حال الناس يوم القيامة، فما حال هذه الأمة: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله شرفنا بأن نكون من أهلها؟ إن يوم القيامة يخفَّفُ على المؤمنين، يخفَّف على هذه الأمة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ("يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِقْدَارَ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ؛ يُهَوِّنُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَتَدَلِّي الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ")؛ (حب) (7333)، (التعليق الرغيب) (4/ 196)، (الصحيحة) (2817). وعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم: ("لَنْ يُعْجِزَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ")؛ (د) (4349). يعني أكثر واحد من هذه الأمة ينتظر في الموقف ينتظر نصف يوم، وفي رواية: قِيلَ لِسَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه: (وَكَمْ نِصْفُ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟) قَالَ: (خَمْسُمائَةِ سَنَةٍ)؛ (د) (4350)؛ من خمسين ألف خمسمائة سنة. فيوم القيامة يساوي خمسين ألف سنة؛ كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [المعارج: 4]. أمَّا أُمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم فلها شأن آخر يوم القيامة، إنها فوق الناس وأعلى منهم، كما ثبت عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ("يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ، فَيَكْسُونِي رَبِّي حُلَّةً خَضْرَاءَ، فَأَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَقُولَ، فَذَلِكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ")؛ (حب) (6479)، (الصحيحة) (237)، وفي رواية: ("نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى كَوْمٍ فَوْقَ النَّاسِ، ...")؛ (حم) (14721). أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم على مرتَفَعٍ فوق الناس، ومع هذا وفي شدة حَرِّ ذلك اليوم، تمطِر عليهم السماء مطرًا خفيفًا، وهذا ما ثبت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَطِشُّ عَلَيْهِمْ")؛ (حم) (13814)، وقال الأرنؤوط: إسناده حسن. (تَطِشُّ عَلَيْهِمْ)؛ أَيْ: تُمْطِر مطرًا خفيفًا. الناس وأهل الموقف يوم القيامة قيام على أرجلهم لا يجلسون في حرٍّ شديدٍ وشمس حارقة، وأمَّةُ محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على كراسيَّ من نور يظلُّهم الغمام، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ("تَجْتَمِعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: أَيْنَ فُقَرَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟! فَيَقُومُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا عَمِلْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا، ابْتُلِينَا فَصَبَرْنَا، وَولَّيْتَ الْأُمُورَ وَالسُّلْطَانَ غَيْرَنَا، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: صَدَقْتُمْ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ النَّاسِ، وَتَبْقَى شِدَّةُ الْحِسَابِ عَلَى ذَوِي الْأَمْوَالِ وَالسُّلْطَانِ")، قَالُوا - أي: الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم=: (فَأَيْنَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ؟!) قَالَ: ("يُوضَعُ لَهُمْ كَرَاسِيُّ مِنْ نُورٍ، مُظَلَّلٌ عَلَيْهِمُ الْغَمَامُ، يَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَقْصَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ")؛ (حب) (7419)، انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ: (3187)، صحيح موارد الظمآن: (2193). فما دمتم من هذه الأمة - أمة محمدٍ - فاحمدوا ربكم، وصلُّوا عليه كما أمركم الله عز وجل الذي قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى الدين. اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ. اللَّهُمَّ اكْفِنا بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لنا دِيننا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا، َأَصْلِحْ لنا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشنا، وَأَصْلِحْ لنا آخِرَتنا الَّتِي فِيهَا مَعَادنا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لنا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لنا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ عَافِنا في أبدَانِنا، اللهُمَّ عَافِنا في أسماعِنا، اللهُمَّ عَافِنا فِي أبصَارِنا، لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ. وأقم الصلاة؛ ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |