|
ملتقى الشعر والخواطر كل ما يخص الشعر والشعراء والابداع واحساس الكلمة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() إنه ينتقل من تشبيه حركة الهوادج بالسُّفن، إلى استحضار صورةٍ معيَّنة للسفن، ثم يصوِّر حركة الملاَّح: يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي بل إنه يمتدُّ بصورته ليصوِّر حركة السفن وهي تشقُّ عباب الماء، ثم يعود ليصور حركة شق الماء التي هي جزء من الصورة بأنَّها: كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ الْمُفَايِلُ بِاليَدِ إن صورة "طرفة" هي صورة ممتدَّة، يسلِّم كلُّ جزء من الصُّورة إلى الجزء التالي. الصورة إذًا هنا صورة ممتدَّة، تؤكِّد اتِّساع قدرة التَّخْييل والمخيلة لدى الشاعر، الذي يراكم أجزاء الصُّورة بعضها فوق بعض، وُصولاً لتصوير الحركة تصويرًا كاملاً؛ حركة الهوادج/ المشبه من جانب، وحركة السفين/ المشبه به من جانبٍ آخر، والصُّورة تنقل الحركة النَّفسية للشاعر؛ حيث يبدو في حركة السفين نوعٌ من التوتُّر يلقيها ظلُّ قول الشاعر: يَجُورُ بِهَا الْمَلاَّحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي إنَّ صورة الجو النفسي عند "طرفة" لدى لحظة الوداع ينبثق واضحًا من حركة الملاَّح الذي لا يستقر على حالٍ (يجور - يهتدي) إنَّه موزَّع بين هذين الحالين؛ فهو طورًا يجور في حركته، وطورًا يهتدي، وبين هذين الحالين تتذَبْذب النفس وتتوتَّر. صورة رابعة هي صورة وجه المحبوبة/ وجه الظبية، يقول الشاعر: وَوَجْهٍ كَأَنَّ الشَّمْسَ أَلْقَتْ رِدَاءَهَا ![]() عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ ![]() إنَّه يصوِّر وجه المحبوبة، مستخدِمًا أداة التشبيه "كأن"، ولكنَّه لا يأتي بالمشبَّه به شيئًا واحدًا، وإنما يصور الوجه بأن الشَّمس ألقت رداءها عليه، فالشمس أوَّلاً لها رداء، ثم إنها ثانيًا ألقت هذا الرداء على هذا الوجه، وهي صورة مركَّبة؛ فالوجه في طلاوته ونقاوته كأنَّ الشمس ألقَتْ عليه رداءها/ ملامِحَها، فصار نقيَّ اللون، أو الرداء نفسه عندما ألقي إنَّما أُلقي نقيَّ اللون، وهو ما يدلُّ على نقاوة وبياضِ واستنارة هذا الوجه الذي لا أثر فيه للتجاعيد والتشقُّقات؛ "لم يتخدَّد" كما في بعض الوجوه. صورة خامسة يصور فيها "طرفة" تَساوي الجميع في الموت، وهي صورة تنطلق من رُؤْياه الفلسفيَّة التي ألْمَحنا إليها في الحياة والموت: أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بِمَالِهِ ![]() كَقَبْرِ غَوِيٍّ فِي البَطَالَةِ مُفْسِدِ ![]() تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ![]() صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ ![]() إنَّه يدلِّل بهذه الصُّورة على صحَّة موقفه، ورؤياه للحياة والموت؛ حيث يتساوى - في نظر "طرفة" - الناسُ جميعًا في الموت؛ فلا فرق بين البشر؛ فالذي يبخل بماله، والذي كان يُسْرِف ويبذِّر في الملذَّات والشهوات قد تساويا - في نظره - في التُّراب، والدلالة على ذلك قبراهما: تَرَى جَثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ![]() صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ ![]() هذا ما يراه "طرفة" ظاهرًا في واقع الأمر، والصورة تدلُّ على رؤية مادِّية جامدة للموت، تنطلق من التصوُّر العامِّ للكون والحياة والإنسان عند غالب الجاهليِّين، إلاَّ قليلاً منهم، مثل: "زهير بن أبي سُلْمى" الذي لا يرى نفس هذه الصورة الصمَّاء الجامدة للموت؛ إنَّ "زُهيرًا" يرى أنَّ بَعد الموت حياة أخرى. يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ ![]() لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ ![]() إن "زهيرًا" - كما هو واضح من هذا البيت وأبياتٍ أخرى في معلَّقته - يؤمن بحياةٍ أخرى بعد هذه الحياة، يتمُّ فيها الحساب والجزاء؛ الأمر الذي لا نجده عند "طرفة" من خلال هذه الأبيات في المعلَّقة، وغيرها. صورة أخيرة نَخْتم بها كلامنا حول الصُّورة الشعرية في معلَّقة "طرفة": لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَى ![]() لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ ![]() مَتَى مَا يَشَأْ يَوْمًا يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ ![]() وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ ![]() يشبِّه "طرفةُ" الموتَ - في حالة عدم مجيئه - بحبلِ الدابة الذي يمسك به صاحبُها، إنَّه وإن أرخاه أحيانًا فإن ذلك لا يَعني أن يَغْفل عنه، وهو يصوِّر هنا حالين بحالين: 1 - (الموت ما أخطأ الفتى)/ المشبه، (الطِّوَل المرخى وثنياه باليد)/ المشبَّه به. 2 - الموت في حال مجيئه/ المشبه، (متى ما يشأ يومًا يقده لحتفه) حالة جذب الحبل والتحكُّم به في عنق الدابَّة/ المشبه به. وما نلاحظه في الصورة هو التَّراخي، ورُبَّما السُّكون في الحالة الأولى، ثم الحركة في الصُّورة الثانية. ثم يصوِّر في إجمالٍ حالَ الإنسان بالدابَّة الرهينة في حبل صاحبها وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ إن الصُّورة في هذين البيتين مبنيَّة على التشبيه التمثيليِّ. لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِاليَدِ ثم نُلاحظ عنصُرَي الامتداد والحركة واضِحَيْن في التركيب الكُلِّي للصورة، يأتي الامتدادُ من تركيب صورةٍ على أخرى، وتوليدها منها كما نلحظ عنصر الحركة مِن: مَتَى مَا يَشَأْ يَوْمًا يَقُدْهُ لِحَتْفِهِ ومِن: وَمَنْ يَكُ فِي حَبْلِ الْمَنِيَّةِ يَنْقَدِ كما تتبدَّى الحركة من استعمال الأفعال والجُمل الفعليَّة في تصوير حركة الموت وهجومه على الإنسان، وانقيادِ الإنسان مذعِنًا لمشيئة الموت، كما تنقاد الدابَّة لصاحبها وهو يجذِبُها بحبله. وهكذا تتَّضح في الصورة الشعرية عند "طرفة" عدَّةُ عناصر، هي: 1 - الاعتماد على الاستعارة التمثيليَّة والتشبيه التمثيليِّ أساسًا لعملية التخييل والتصوير،وهو ما يومئ إلى عناصر أخرى، منها الحركة والامتداد، والتركيب والتوتُّر. 2 - تتبدَّى عناصر الحركة والتوتُّر والامتداد والتركيب في إضافة عناصر أخرى للصُّورة الأساسية الأولى؛ مِمَّا يجعلها صورة مركَّبة من عدَّة صور، وليس صورة واحدة مجرَّدة. 3 - تأتي الصُّورة متحرِّكة، وفي سبيل ذلك يعمد "طرفة" إلى استعمال الأفعال، وأحيانًا الأفعال المتلاحقة لتأكيد عنصر الحركة. 4 - شَحْن الصُّورة بمجموعة من الظِّلال النَّفسية التي تنتج عن الحركة والامتداد والتَّركيب تملأ الصُّورة بالتوتُّر والتأثي الذي يُلقي ظلاله بقوَّة في نفس القارئ والسَّامع. إن معلَّقة "طرفة" نموذج فذٌّ من نَماذج الشعر الجاهلي، يرسم ملامح هذا الشِّعر، ويطرح - بقوَّةٍ - قضاياه وظواهِرَه الفكريَّة والفنية، وينطوي على رؤية خاصَّة للكون والحياة والإنسان.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |