|
|||||||
| ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#16
|
||||
|
||||
|
لقد بدأ هذه اللَّوحة بِرَسم صورة للزُّهور حين تَطْلع، فيجعل طلوعها ونُموَّها إشراقًا، وما دام قد جاء ذِكْرُ الإشراق فهناك الظَّلام وهناك الضياء، ثم يَرْسم صورة حسنة لكلٍّ من الضياء والظلام، يصوِّر من خلالهما الأثرَ النفسيَّ لكلٍّ منهما، فالظلام: "يَلْعَقُ مِنْ بَيَادِرِ الأُفُولْ". والضياء: "يَهْدِرُ فِي مَرَافِئ الوُصُولْ". ومِن صورة المرافئ الأخيرة التي يرسمها الشَّاعر مجموعةٌ من العناصر يبدو فيها عالَمان كبيران هما: • عالَم البحر وعناصره: المرافئ، والوصول والزحف والضِّفاف، العبور، الهدير. • وعالَم النَّبات وعناصره في هذه الصُّور: الزُّهور، الحقول، الأُفول، الكَرْم، العطور. ثم يَجيءُ الضِّياء والنُّور، والرَّبيع والظلام؛ لتشكل الجو النَّفسي الموحي بالعزمة في هذا التشكيل البديع؛ فبينما "يلعق الظَّلام من بيادر الأُفول" ليصوِّر الحالة النفسيَّة للهَزِيمة التي تحيق بالظَّلام يأتي بـ "الضِّياء يَهْدِر في مرافئ الوصول"، و"ظل الكرم وهو يهتف فتسمعه الضِّفاف"، و"الرَّبيع وهو يمدُّ كأسه للزحف الطويل"، تأتي كلُّ هذه الصُّور؛ لتعبِّر عن الانتصار النِّهائي، ولفرحته "فرحة العبور". وهذه الصُّور المتشابكة لا تجد لها نظيرًا يُحاكيها في جيل "محمود حسن إسماعيل" من الشُّعراء، وهي - مع تشابُكِها - تجد بينها نوعًا من التناغم، يُعْطي القارئ نوعًا من التَّوافق بينها جميعًا، فلا تحسُّ مع كثرتِها باستغلاق المعني وغموضه، وإن كانت في حاجةٍ إلى بعض التأمُّل والقراءة المتأنِّية؛ لتتعرف على ما يريد الشاعر، وتحس بما يريد أن يعبِّر عنه في نفس الوقت الذي تأخذك فيه الصُّورة بحلاوتها وجدَّتِها وتفرُّدِها. على أنَّ هذا المذهب في نَسْج الصُّورة الشِّعرية والخياليَّة في شعر "محمود حسن إسماعيل" يعدُّ لونًا من الصورة الشعريَّة، بدأه قبله من شعراء العربية "أبو تَمَّام" الذي أُولع بِمثل هذه الصُّور الطريفة؛ يقول "أبو تمام" في ممدوحه: يَنَالُ بِالرِّفْقِ مَا يَعْيَا الرِّجَالُ بِهِ ![]() كَالْمَوْتِ مُسْتَعْجِلاً يَأْتِي عَلَى مَهَلِ ![]() فهذه الصُّورة تحس فيها أثر الصَّنعة الشِّعرية المُفْرطة في التركيب "كالموت مستعجلاً يأتي علي مهل"، ومن شعر "محمود حسن إسماعيل" تقرأ: وَاللَّيْلُ شَابَ فَمَدَّ لِحْيَةَ نَاسِكٍ ![]() صَنَعَ الشِّتَاءُ الثَّلْجَ مِنْ شَعَرَاتِهَا ![]() ففي هذه الصُّورة نجد اللَّيل قد ابيضَّ حتَّى شاب، وليس أي شيب، بل شيب ناسكٍ مُلتحٍ، ثم جعل الشتاء يصنع الثلج الأبيض من هذه اللِّحية البيضاء، وهكذا نجد الإغراق في التركيب، وهو تركيبٌ يذكِّرنا بصورة متشابهه لأبي تمام يقول فيها : غَادَرْتَ فِيهَا بَهِيمَ اللَّيْلِ وَهْوَ ضُحًى ![]() يَشُلُّهُ وَسْطَهَا صُبْحٌ مِنَ اللَّهَبِ ![]() ثم وهو يرسم صورةً لحياة الجاهليَّة قبل بعثة النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستغرق في رسم صورة هذه الجاهليَّة من خلال عددٍ من الصُّور المتشابكة لإنسان هذه الجاهليَّة: يَرِقُّ لِلظَّالِمِ مِنْ دُمُوعِ ![]() عِطْرُ خَرِيفٍ رَاغَ فِي الرَّبِيعِ ![]() وَيَلْثَمُ الأَطْوَاقَ فِي السُّجُودِ ![]() كَأَنَّهَا تَمَائِمُ الوُجُودِ ![]() يُهِيلُ لِلنَّارِ خَفَايَا ذَاتِهِ ![]() لِتَسْكُبَ الطُّهْرَ عَلَى حَيَاتِهِ ![]() وَيَرْتَمِي كَغَفْلَةِ الْخَطِيئَةْ ![]() عَلَى صفَاةِ الصَّنَمِ الرَّدِيئَةْ ![]() وَيَذْبَحُ الرُّوحَ لَهَا قُرْبَانَا ![]() يَسْتَلُّ مِنْ رَمَادِهِ الأَمَانَا ![]() وَيَغْرَقُ النَّجْمُ عَلَى عُيُونِهِ ![]() لَحْنًا يَصُبُّ اللَّيْلَ فِي يَقِينِهِ ![]() إِنْ مَرَّ فِي خَيَالِهِ جَبَّارُ ![]() عَلَى شَظَايَا طَيْفِهِ يَنْهَارُ ![]() مَدَّ النِّفَاقُ تَحْتَهُ رِوَاقَا ![]() وَأَسْكَرَ الشُّعُورَ وَالأَحْدَاقَا[8] ![]() هذه الصور المتلاحقة وما بعدها في قصيدة "حادي التغيُّر" تصوِّر جوانب عدَّة من هذه الحياة الجاهلية التي يفتقد فيها الإنسانُ منهجًا من السَّماء يهتدي به، ورسولاً يأخذ بيده إلى المنهج. ولكن انظر إلى تشابُكِ هذه الصور وهي ترسم صورة نفسيةً لحال إنسان هذه الجاهليَّة المُعذَّب الموزع الذي يفتقد حرِّيته، ويفتقد معها كلَّ إحساس بالوجود من حوله. إنَّه - لِمَا هو فيه من جهلٍ وخوف وذعر وظلم - يرسم في مخيلته إلَهًا يعبده، فلا يجد سوى إلهٍ من الطِّين: أَبْلَى شفَافَ نَفْسِهِ وَجَاءَا ![]() لَيْلاً يُرِيقُ لَيْلَهُ تُفَاءَا ![]() يتبع
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |