الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله - الصفحة 7 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 284 - عددالزوار : 42078 )           »          أفضل الكلام وأحبه إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 165 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 58 - عددالزوار : 15378 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 15884 )           »          السؤال عن علة الحكم مرفوض فى الشريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          الإجماع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          المقدمات المحتاج إليها قبل النظر ​ فى علم أصول الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          فقه المآل بين أهل الظاهر وغيرهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          السنن تنقسم ثلاثة أقسام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          من قواعد الإجتهاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15-10-2021, 12:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (58)
صـ214 إلى صـ 221

المسألة السابعة

فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة ، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع; لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد ، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ، ويذمونه بذلك; فكذلك المعتاد في التكاليف .

وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة ، والتي تعد مشقة ، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه ، أو عن بعضه ، أو إلى وقوع خلل في صاحبه ، في نفسه أو ماله ، أو حال من أحواله ، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد ، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب; فلا يعد في العادة مشقة ، وإن سميت كلفة ، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار ، في أكله وشربه وسائر تصرفاته ، ولكن جعل له قدرة عليها ، بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره ، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات ، فكذلك التكاليف; فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة .

[ ص: 215 ] وإذا تقرر هذا; فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة ، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف ، والدليل على ذلك ما تقدم في المسالة قبل هذا .

فإن قيل : ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف; لأوجه :

أحدها : أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك; إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة ، وهي المشقة فقول الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ; معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها ، وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة; فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة ، والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة ، لتسمية الشرع له تكليفا; فهي إذا مقصودة له ، وعلى هذا النحو [ ص: 216 ] يتنزل قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وأشباهه .

والثاني : أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ، ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة; فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك ، فإذا يلزم أن يكون الشارع طالبا للمشقة ، بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسبب عنه قاصد للمسبب ، وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام; فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا .

والثالث : أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف ، مع قطع النظر عن ثواب التكليف; كقوله تعالى : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله [ التوبة : 120 ] إلى آخر الآية .

وقوله : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ العنكبوت : 69 ] .

وما جاء في " كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا " [ ص: 217 ] وما جاء في " إسباغ الوضوء على المكاره " .

وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] الآية ، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات; حتى قال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة : 111 ] ، وأشباه ذلك .

فإذا كانت المشقات - من حيث هي مشقات - مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف; دل على أنها مقصود له ، وإلا ، فلو لم يقصدها; لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التي لم يكلف بها ، فأوقعها المكلف باختياره حسب ما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام; فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف ، وهو المطلوب .

فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين :

أحدهما : أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة .

والثاني : أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا .

[ ص: 218 ] فأما الثاني; فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل ، والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب .

وأما الأول; فلا نسلم أنه قصد ذلك ، والقصدان لا يلزم اجتماعهما; فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع ، والإيلام بفصد العروق وقطع الأعضاء المتأكلة; نفع المريض لا إيلامه ، وإن كان على علم من حصول الإيلام; فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة ، والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة ، فالنزاع في قصده للمشقة ، وإنما سمي تكليفا باعتبار ما يلزمه ، على عادة العرب في تسمية الشيء بما يلزمه ، وإن كان في الاستعمال غير مقصود حسب ما هو معلوم في علم الاشتقاق ، من غير أن يكون ذلك مجازا ، بل على حقيقة الوضع اللغوي .

[ ص: 219 ] والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب - وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف - ; فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه ، أعني : في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة ، لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة ، إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه ، وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع; إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد ، وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام ، وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله .

وأيضا ، لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا; لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ، ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا لرفع المشقة وإيقاعها معا ، وهو محال باطل عقلا وسمعا .

وأيضا; فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتأكلة ، وقلع الأضراس الوجعة ، وبط الجراحات الوجعة ، وأن يحمي المريض ما يشتهيه ، وإن كان يلزم منه إذاية المريض; لأن المقصود إنما هو [ ص: 220 ] المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم ، وهذا شأن الشريعة أبدا ، فإذا كان التكليف على وجه ، فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة; لأن المقصود المصلحة ; فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع ، فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها ، فإذا أمر بما تلزم عنه ، فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ، ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة .

وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم ، فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة; فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها .

والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف ، وبها حصل العمل المكلف به ، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود ، لا أنها مقصودة مطلقا ، فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ، ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات ، وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب ، كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها; إلا كفر الله به من سيئاته وما أشبه ذلك .

[ ص: 221 ] وأيضا; فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع ، وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ، ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به ، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15-10-2021, 12:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (59)
صـ222 إلى صـ 232

فصل

ويترتب على هذا أصل آخر :

وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظرا إلى عظم أجرها ، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل .

أما هذا الثاني; فلأنه شأن التكليف في العمل كله لأنه إنما يقصد نفس العمل المترتب عليه الأجر ، وذلك هو قصد الشارع بوضع التكليف به ، وما جاء على موافقة قصد الشارع هو المطلوب .

وأما الأول; فإن الأعمال بالنيات ، والمقاصد معتبرة في التصرفات كما يذكر في موضعه إن شاء الله ، فلا يصلح منها إلا ما وافق قصد الشارع ، فإذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة ، فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذا من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه بل فيه الإثم إن ارتفع النهي عنه إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض .

[ ص: 223 ] فإن قيل : هذا مخالف لما في الصحيح من حديث جابر; قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله ، فقال لهم : إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال بني سلمة ! دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم ! .

وفي رواية : فقالوا : ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا .

وفي رواية عن جابر; قال : كانت ديارنا نائية عن المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقترب من المسجد ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إن لكم بكل خطوة درجة .

وفي رقائق ابن المبارك عن أبي موسى الأشعري; أنه كان في سفينة في البحر مرفوع شراعها ، فإذا رجل يقول : " يا أهل السفينة ! قفوا " سبع مرار . فقلنا : ألا ترى على أي حال نحن ؟ ثم قال في السابعة : لقضاء قضاه الله على نفسه أنه من عطش لله نفسه في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر; كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . فكان أبو موسى يتتبع اليوم المعمعاني الشديد [ ص: 224 ] الحر فيصومه .

وفي الشريعة من هذا ما يدل على أن قصد المكلف إلى التشديد على نفسه في العبادة وسائر التكاليف صحيح مثاب عليه ، فإن أولئك الذين أحبوا الانتقال أمرهم عليه الصلاة والسلام بالثبوت لأجل عظم الأجر بكثرة الخطا ، فكانوا كرجل له طريقان إلى العمل : أحدهما سهل ، والآخر صعب; فأمر بالصعب ووعد على ذلك بالأجر ، بل جاء نهيهم عن ذلك إرشادا إلى كثرة الأجر .

وتأمل أحوال أصحاب الأحوال من الأولياء; فإنهم ركبوا في التعبد إلى ربهم أعلى ما بلغته طاقتهم ، حتى كان من أصلهم الأخذ بعزائم العلم ، وترك الرخص جملة ، فهذا كله دليل على خلاف ما تقدم .

وفي الصحيح أيضا عن أبي بن كعب; قال : كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة ، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فتوجعنا له; فقلنا له : يا فلان ! لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض ؟ فقال : أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : فحملت به حتى أتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته ، قال : فدعاه ، فقال له مثل [ ص: 225 ] ذلك ، وذكر أنه يرجو له في أثره الأجر . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن لك ما احتسبت " .

فالجواب أن نقول :

أولا : إن هذه أخبار آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي ، والظنيات لا تعارض القطعيات; فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات .

وثانيا : إن هذه الأحاديث لا دليل فيها على قصد نفس المشقة ، فالحديث الأول قد جاء في البخاري ما يفسره; فإنه زاد فيه : " وكره أن تعرى المدينة قبل ذلك; لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها " .

وقد روى عن مالك بن أنس أنه كان أولا نازلا بالعقيق ، ثم نزل إلى المدينة ، وقيل له عند نزوله العقيق : لم تنزل العقيق فإنه يشق بعده إلى المسجد ؟ فقال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويأتيه ، وأن بعض الأنصار [ ص: 226 ] أرادوا النقلة منه إلى قرب المسجد; فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما تحتسبون خطاكم ؟ " ; فقد فهم مالك أن قوله : " ألا تحتسبون خطاكم " ليس من جهة إدخال المشقة; ولكن من جهة فضيلة المحل المنتقل عنه .

[ ص: 227 ] وأما حديث ابن المبارك; فإنه حجة من عمل الصحابي إذا صح سنده عنه ، ومع ذلك; فإنما فيه الإخبار بأن عظم الأجر ثابت لمن عظمت مشقة العبادة عليه; كالوضوء عند الكريهات ، والظمأ والنصب في الجهاد ، فإذا اختيار أبي موسى رضي الله عنه للصوم في اليوم الحار كاختيار من اختار الجهاد على نوافل الصلاة والصدقة ونحو ذلك ، لا أن فيه قصد التشديد على النفس ليحصل الأجر به ، وإنما فيه قصد الدخول في عبادة عظم أجرها لعظم مشقتها; فالمشقة في هذا القصد تابعة لا متبوعة ، وكلامنا إنما هو فيما إذا كانت المشقة في القصد غير تابعة ، وكذلك حديث الأنصاري ليس فيه ما يدل على قصد التشديد ، وإنما فيه دليل على قصد الصبر على مشقة بعد المسجد ليعظم أجره ، وهكذا سائر ما في هذا المعنى .

وأما شأن أرباب الأحوال; فمقاصدهم القيام بحق معبودهم ، مع اطراح النظر في حظوظ نفوسهم ، ولا يصح أن يقال : إنهم قصدوا مجرد التشديد على النفوس واحتمال المشقات; لما تقدم من الدليل عليه ، ولما سيأتي بعد إن شاء الله .

[ ص: 228 ] وثالثا : إن ما اعترض به معارض بنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أرادوا التشديد بالتبتل ، حين قال أحدهم : أما أنا; فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا; فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر : أما أنا; فلا آتي النساء ، فأنكر ذلك عليهم وأخبر عن نفسه أنه يفعل ذلك كله ، وقال : من رغب عن سنتي; فليس مني .

وفي الحديث : ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون ، ولو أذن له لاختصينا .

ورد - صلى الله عليه وسلم - على من نذر أن يصوم قائما في الشمس; فأمره بإتمام صيامه ، ونهاه عن القيام في الشمس .

وقال : هلك المتنطعون .

[ ص: 229 ] ونهيه عن التشديد شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلا فيها قطعيا ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضادا لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع; بطل ولم يصح ، وهذا واضح ، وبالله التوفيق .
فصل

وينبني أيضا على ما تقدم أصل آخر .

وهو أن الأفعال المأذون فيها; إما وجوبا ، أو ندبا ، أو إباحة ، إذا تسبب عنها مشقة ; فإما أن تكون معتادة في مثل ذلك العمل ، أو لا تكون معتادة ، فإن كانت معتادة; فذلك الذي تقدم الكلام عليه ، وأنه ليست المشقة فيه مقصودة للشارع من جهة ما هي مشقة ، وإن لم تكن معتادة; فهي أولى ألا تكون مقصودة للشارع ، ولا يخلو عند ذلك أن تكون حاصلة بسبب المكلف واختياره ، مع أن ذلك العمل لا يقتضيها بأصله ، أو لا .

فإن كانت حاصلة بسببه كان ذلك منهيا عنه وغير صحيح في التعبد به; لأن الشارع لا يقصد الحرج فيما أذن فيه ، ومثال هذا حديث الناذر للصيام [ ص: 230 ] قائما في الشمس ، ولذلك قال مالك في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بإتمام الصوم وأمره له بالقعود والاستظلال : " أمره أن يتم ما كان لله طاعة ، ونهاه عما كان لله معصية " ; لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه ولا لنيل ما عنده ، وهو ظاهر ، إلا أن هذا النهي مشروط بأن تكون المشقة أدخلها على نفسه مباشرة ، لا بسبب الدخول في العمل; كما في المثال; فالحكم فيه بين .

وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض الغير القادر على الصوم أو الصلاة قائما ، والحاج لا يقدر على الحج ماشيا أو راكبا; إلا بمشقة خارجة عن المعتاد في مثل العمل ، فهذا هو الذي جاء فيه قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وجاء فيه مشروعية الرخص .

ولكن صاحب هذا إن عمل بالرخصة; فذاك ، ويمكن أن يكون عاملا لمجرد حظ نفسه ، وأن يكون قبل الرخصة من ربه تلبية لإذنه ، وإن لم يعمل بالرخصة; فعلى وجهين :

أحدهما : أن يعلم أو يظن أنه يدخل عليه في نفسه أو جسمه أو عقله أو عادته فساد يتحرج به ويعنت ، ويكره بسببه العمل; فهذا أمر ليس له ، وكذلك إن لم يعلم بذلك ولا ظن ، ولكنه لما دخل في العمل دخل عليه ذلك ، فحكمه الإمساك عما أدخل عليه المشوش .

وفي مثل هذا جاء : ليس من البر الصيام في السفر .

[ ص: 231 ] وفي نحوه نهي عن الصلاة وهو بحضرة الطعام أو وهو يدافعه الأخبثان .

وقال : لا يقض القاضي وهو غضبان .

وفي القرآن : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] .

إلى أشباه ذلك مما نهى عنه بسبب عدم استيفاء العمل المأذون فيه على كماله ، فإن قصد الشارع المحافظة على عمل العبد ليكون خالصا من الشوائب ، والإبقاء عليه حتى يكون في ترفه وسعة حال دخوله في ربقة التكليف .

والثاني : أن يعلم أو يظن أنه لا يدخل عليه ذلك الفساد ، ولكن في العمل مشقة غير معتادة; فهذا أيضا موضع لمشروعية الرخصة على الجملة ، ويتفصل الأمر فيه في كتاب الأحكام ، والعلة في ذلك أن زيادة المشقة مما ينشأ عنها العنت ، بل المشقة في نفسها هي العنت والحرج ، وإن قدر على الصبر عليها; فهي مما لا يقدر على الصبر عليه عادة .

[ ص: 232 ] إلا أن هنا وجها ثالثا ، وهو أن تكون المشقة غير معتادة ، لكنها صارت بالنسبة إلى بعض الناس كالمعتادة ، ورب شيء هكذا ، فإن أرباب الأحوال من العباد والمنقطعين إلى الله تعالى ، المعانين على بذل المجهود في التكاليف قد خصوا بهذه الخاصية ، وصاروا معانين على ما انقطعوا إليه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة على المكلف ، واستثنى الخاشعين الذين كان إمامهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهو الذي كانت قرة عينه في الصلاة ، حتى كان يستريح إليها من تعب الدنيا ، وقام حتى تفطرت قدماه ، فإذا كان كذلك فمن خص بوراثته في هذا النحو نال من بركة هذه الخاصية .

وهذا القسم يستدعي كلاما يكون فيه مد بعض نفس; فإنه موضع مغفل قل من تكلم عليه ، مع تأكده في أصول الشريعة .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15-10-2021, 12:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (60)
صـ233 إلى صـ 247


فصل

فاعلم أن الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين :

أحدهما : الخوف من الانقطاع من الطريق ، وبغض العبادة ، وكراهة التكليف ، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله .

والثاني : خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع ، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق ، فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها ، وقاطعا بالمكلف دونها ، وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء; فانقطع عنهما .

فأما الأول ; فإن الله وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة ، حفظ فيها على الخلق قلوبهم ، وحببها لهم بذلك ، فلو عملوا على خلاف السماح والسهولة; لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لا تخلص به أعمالهم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] إلى آخرها; فقد أخبرت الآية أن الله حبب إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله ، وزينه في قلوبنا بذلك ، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه .

[ ص: 234 ] وفي الحديث : عليكم من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا .

وفي حديث قيام رمضان : أما بعد; فإنه لم يخف علي شأنكم ، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها .

وفي حديث الحولاء بنت تويت حين قالت له عائشة - رضي الله عنها : هذه الحولاء بنت تويت ، زعموا أنها لا تنام الليل . فقال عليه الصلاة والسلام : لا تنام الليل ؟ ! خذوا من العمل ما تطيقون; فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .

وحديث أنس : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وحبل ممدود بين ساريتين; [ ص: 235 ] فقال : " ما هذا ؟ " ، قالوا : حبل لزينب ، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به . فقال : حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر; قعد .

وحديث معاذ حين قال له النبي عليه الصلاة والسلام : أفتان أنت يا معاذ ؟ حين أطال الصلاة بالناس ، وقال : إن منكم منفرين; فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز; فإن فيهم الضعيف ، والكبير ، وذا الحاجة .

ونهى عن الوصال رحمة لهم .

ونهى عن النذر ، وقال : إن الله يستخرج به من البخيل ، وإنه لا يغني من قدر الله شيئا .

أو كما قال ، لكن هذا كله معلل معقول المعنى بما دل عليه [ ص: 236 ] ما تقدم من السآمة والملل ، والعجز ، وبغض الطاعة وكراهيتها .

وقد جاء عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; أنه قال : إن هذا الدين متين; فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى .

[ ص: 237 ] [ ص: 238 ] [ ص: 239 ] وقالت عائشة رضي الله عنها : نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم . قالوا : إنك تواصل . فقال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني .

وحاصل هذا كله أن النهي لعلة معقولة المعنى مقصودة للشارع ، وإذا كان كذلك; فالنهي دائر مع العلة وجودا وعدما ، فإذا وجد ما علل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان النهي متوجها ومتجها ، وإذا لم توجد; فالنهي مفقود ، إذ الناس في هذا الميدان على ضربين :

ضرب يحصل له بسبب إدخال نفسه في العمل تلك المشقة الزائدة على المعتاد; فتؤثر فيه أو في غيره فسادا ، أو تحدث له ضجرا ومللا ، وقعودا عن النشاط إلى ذلك العمل; كما هو الغالب في المكلفين; فمثل هذا لا ينبغي أن يرتكب من الأعمال ما فيه ذلك ، بل يترخص فيه بحسب ما شرع له في الترخص ، إن كان مما لا يجوز تركه ، أو يتركه إن كان مما له تركه ، وهو مقتضى التعليل ، ودليله قوله عليه الصلاة والسلام : لا يقض القاضي وهو غضبان ، وقوله : إن لنفسك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، وهو الذي أشار به عليه [ ص: 240 ] الصلاة والسلام على عبد الله بن عمرو بن العاص حين بلغه أنه يسرد الصوم ، وقد قال بعد الكبر : ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملل ولا الكسل ، لوازع هو أشد من المشقة ، أو حاد يسهل به الصعب ، أو لما له في العمل من المحبة ، ولما حصل له فيه من اللذة ، حتى خف عليه ما ثقل على غيره ، وصارت تلك المشقة في حقه غير مشقة ، بل يزيده كثرة العمل وكثرة العناء فيه نورا وراحة ، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره; كما جاء في الحديث : أرحنا بها يا بلال .

وفي الحديث : حبب إلي من دنياكم ثلاث ، قال : وجعلت قرة عيني في الصلاة .

[ ص: 241 ] وقال لما قام حتى تورمت أو تفطرت قدماه : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ! .

وقيل له عليه الصلاة والسلام : أنأخذ عنك في الغضب والرضى ؟ قال : نعم .

[ ص: 242 ] وهو القائل في حقنا : " لا يقضي القاضي وهو غضبان " ، وهذا وإن كان خاصا به; فالدليل صحيح .

وجاء في هذا المعنى من احتمال المشقة في الأعمال والصبر عليها دائما كثير .

ويكفيك من ذلك ما جاء عن الصحابة والتابعين ومن يليهم رضي الله عنهم ممن اشتهر بالعلم وحمل الحديث والاقتداء بعد الاجتهاد; كعمر ، وعثمان ، وأبي موسى الأشعري ، وسعيد بن عامر ، وعبد الله بن الزبير; ومن التابعين ، كعامر بن عبد قيس ، وأويس ، ومسروق ، وسعيد بن المسيب ، والأسود بن يزيد ، والربيع بن خثيم ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن عبد الرحمن راهب قريش ، وكمنصور بن زاذان ، ويزيد بن هارون ، وهشيم ، وزر بن حبيش ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، ومن سواهم ممن يطول ذكرهم ، وهم من اتباع السنة والمحافظة عليها ما هم .

ومما جاء عن عثمان - رضي الله عنه - أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله .

[ ص: 243 ] وكم من رجل منهم صلى الصبح بوضوء العشاء كذا وكذا سنة ، وسرد الصيام كذا وكذا سنة .

وروي عن ابن عمر وابن الزبير أنهما كانا يواصلان الصيام ، وأجاز مالك صيام الدهر .

وكان أويس القرني يقوم ليلة حتى يصبح ، ويقول : بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا .

[ ص: 244 ] ونحوه عن عبد الله بن الزبير .

وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة ، حتى يخضر جسده ويصفر ، فكان علقمة يقول له : ويحك ! لم تعذب هذا الجسد ؟ فيقول : إن الأمر جد ، إن الأمر جد .

وعن أنس بن سيرين أن امرأة مسروق قالت : كان يصلي حتى تورمت قدماه ، فربما جلست أبكي خلفه مما أراه يصنع بنفسه .

وعن الشعبي ; قال غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم ، فقالت له ابنته : أفطر ! قال : ما أردت بي ؟ قالت : الرفق . قال : يا بنية ! إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .

إلى سائر ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأها لهم وحببها إليهم ، ولم يكونوا بذلك مخالفين للسنة ، بل كانوا معدودين في السابقين ، جعلنا الله منهم ، وذلك لأن العلة التي لأجلها نهي عن العمل الشاق مفقودة في حقهم; فلم ينتهض النهي في حقهم ، كما أنه لما [ ص: 245 ] قال : " لا يقض القاضي وهو غضبان " ، وكان وجه النهي وعلته تشويش الفكر عن استيفاء الحجج اطرد النهي مع كل ما يشوش الفكر ، وانتفى عند انتفائه ، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يشوش ، وهذا صحيح مليح .

فالضرب الأول حاله حال من يعمل بحكم عهد الإسلام وعقد الإيمان من غير زائد ، والثاني حاله حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة ، فالخوف سوط سائق ، والرجاء حاد قائد ، والمحبة تيار حامل ، فالخائف يعمل مع وجود المشقة ، غير أن الخوف مما هو أشق يحمل على الصبر على ما هو أهون وإن كان شاقا ، والراجي يعمل مع وجود المشقة أيضا ، غير أن الرجاء في تمام الراحة يحمل على الصبر على تمام التعب ، والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب ، فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد ، ويفنى القوي ، ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ، ولا قام بشكر النعمة ، ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه قضى نهمته ، وكذلك الخوف على النفس أو العقل أو المال يمنع من العمل المسبب لذلك إن كان لخيرة الإنسان ، ويرخص له فيه إن كان لازما له ، حتى لا يحصل في مشقة ذلك; لأن فيه تشويش النفس كما تقدم .

ولكن العمل الحاصل - والحالة هذه - هل يكون مجزئا أم لا إذا خاف تلف نفسه أو عضو من أعضائه أو عقله ؟

هذا مما فيه نظر يطلع على حقيقة الأمر فيه من قاعدة " الصلاة في الدار المغصوبة " ، وقد نقل منع الصوم إذا خاف التلف به عن مالك والشافعي ، وأنه لا يجزئه إن فعل ، ونقل المنع في الطهارة عند خوف التلف ، والانتقال إلى التيمم ، وفي خوف المرض أو تلف المال احتمال ، والشاهد للمنع قوله [ ص: 246 ] تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] ، وإذا كان منهيا عن هذه الأشياء وأشباهها بسبب الخوف ، لا من جهة إيقاع نفس تلك العبادات ، فالأمران مفترقان ، فإن إدخال المشقة الفادحة على النفس يعقل النهي عنها مجردة عن الصلاة ، والصلاة يعقل الأمر بها مجردة عن المشقة; فصارت ذات قولين .

وأيضا; فيدخل فيها النظر من قاعدة أخرى ، وهي أن يقال هل قصد الشارع رفع المشقة لأجل أن ذلك حق لله ، أم لأجل أنها حق للعبد ؟ فإن قلنا : إنها حق لله ، فيتجه المنع حيث وجهه الشارع ، وقد رفع الحرج في الدين ، فالدخول فيما فيه الحرج مضاد لذلك الرفع ، وإن قلنا إنه حق للعبد ، فإذا سمح العبد لربه بحظه كانت عبادته صحيحة ولم يتمحض النهي عن تلك العبادة .

والذي يرجح هذا الثاني أمور :

منها : أن قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء : 29 ] ، وقد دل بإشارته على أن ذلك من جهة الرفق بالعباد; لقوله تعالى : إن الله كان بكم رحيما [ النساء : 29 ] ، يشير بذلك إلى رفع الحرج عنهم لأنه أرفق بهم ، وأيضا; فقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] وأشباهها من الآيات الدالة على وضع الشريعة لمصالح العباد .

ومنها : ما تقدم من الأدلة على رفع الحرج وإرادة اليسر; فإنما يكون النهي منتهضا مع فرض الحرج والعسر ، فإذا فرض ارتفاع ذلك بالنسبة إلى قوم ارتفع النهي ، ومما يخص مسألتنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه ، أو تورمت قدماه ، والعبادة إذا صارت إلى هذا الحد شقت ولا بد ، ولكن المر في طاعة [ ص: 247 ] الله يحلو للمحبين ، وهو عليه الصلاة والسلام كان إمامهم ، وكذلك جاء عن السلف ترداد البكاء حتى عميت أعينهم ، وقد روي عن الحسن بن عرفة; قال : رأيت يزيد بن هارون بواسط ، وهو من أحسن الناس عينين ، ثم رأيته بعين واحدة ، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه ، فقلت له : يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان ؟ فقال : ذهب بهما بكاء الأسحار .

وما تقدم في احتمال مطلق المشقة عن السلف الصالح عاضد لهذا المعنى ، فإذا من غلب جانب حق الله تعالى منع بإطلاق ، ومن غلب جانب حق العبد لم يمنع بإطلاق ، ولكن جعل ذلك إلى خيرته .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26-11-2021, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله



الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (62)
صـ256 إلى صـ 264

فصل

ما تقدم ذكره إنما هو فيما كان من الأعمال يتسبب عنه مشقة وهو من [ ص: 256 ] المأذون فيه ، فإن كان غير مأذون فيه وتسبب عنه مشقة فادحة; فهو أظهر في المنع من ذلك التسبب; لأنه زاد على ارتكاب النهي إدخال العنت والحرج على نفسه .

إلا أنه قد يكون في الشرع سببا لأمر شاق على المكلف ، ولكن لا يكون قصد من الشارع لإدخال المشقة عليه ، وإنما قصد الشارع جلب مصلحة أو درء مفسدة; كالقصاص ، والعقوبات الناشئة عن الأعمال الممنوعة; فإنها زجر للفاعل ، وكف له عن مواقعة مثل ذلك الفعل ، وعظة لغيره أن يقع في مثله أيضا ، وكون هذا الجزاء مؤلما وشاقا مضاه لكون قطع اليد المتأكلة ، وشرب الدواء البشيع مؤلما وشاقا ، فكما لا يقال للطبيب : إنه قاصد للإيلام بتلك الأفعال ، فكذلك هنا ، فإن الشارع هو الطبيب الأعظم .

والأدلة المتقدمة في أن الله لم يجعل في الدين من حرج ولا يريد جعله فيه ، ويشبه هذا ما في الحديث من قوله : ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته ، ولا بد له من الموت ; لأن الموت لما كان حتما على المؤمن ، وطريقا إلى وصوله إلى ربه ، وتمتعه بقربه في دار القرار ، صار في القصد إليه معتبرا ، وصار من جهة المساءة فيه مكروها ، وقد يكون لاحقا بهذا المعنى النذور التي يشق على الإنسان [ ص: 257 ] الوفاء بها; لأن المكلف لما أريح من مقتضياتها كان التزامها مكروها ، فإذا وقع وجب الوفاء بها من حيث هي عبادات وإن شقت ، كما لزمت العقوبات بناء على التسبب فيها ، حتى إذا كانت النذور فيما ليس بعبادة ، أو كانت في عبادة لا تطاق وشرعت لها تخفيفات ، أو كانت مصادمة لأمر ضروري أو حاجي في الدين سقطت ، كما إذا حلف بصدقة ماله ، فإنه يجزئه الثلث ، أو نذر المشي إلى مكة راجلا فلم يقدر ، فإنه يركب ويهدي ، أو كما إذا نذر أن لا يتزوج ، أو لا يأكل الطعام ، فإنه يسقط حكمه إلى أشباه ذلك; فانظر كيف صحبه الرفق الشرعي فيما أدخل نفسه فيه من المشقات .

فعلى هذا كون الشارع لا يقصد إدخال المشقة على المكلف عام في المأمورات والمنهيات .

ولا يقال : إنه قد جاء في القرآن : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] ، فسمي الجزاء اعتداء ، وذلك يقتضي القصد إلى الاعتداء ، ومدلوله المشقة الداخلة على المعتدي .

لأنا نقول : تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجازا معروف مثله في كلام العرب ، وفي الشريعة من هذا كثير; كقوله تعالى : الله يستهزئ بهم [ البقرة : 15 ] .

[ ص: 258 ] [ ص: 259 ] [ ص: 260 ] ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] .

إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا [ الطارق : 15 - 16 ] .

إلى أشباه ذلك ، فلا اعتراض بمثل ذلك .
فصل

وقد تكون المشقة الداخلة على المكلف من خارج ، لا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه; فهاهنا ليس للشارع قصد في بقاء ذلك الألم وتلك المشقة والصبر عليها ، كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس ، غير أن المؤذيات والمؤلمات خلقها الله تعالى ابتلاء للعباد وتمحيصا ، وسلطها عليهم كيف شاء ولما شاء : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء : 23 ] ، وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق ، رفعا للمشقة اللاحقة ، وحفظا على الحظوظ التي أذن لهم فيها ، بل [ ص: 261 ] أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع; تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه ، وحفظا على تكميل الخلوص في التوجه إليه ، والقيام بشكر النعم .

فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش ، والحر والبرد ، وفي التداوي عند وقوع الأمراض ، وفي التوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره ، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها ، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح ، ثم رتب له مع ذلك دفع المؤلمات الأخروية ، وجلب منافعها بالتزام القوانين الشرعية ، كما رتب له ذلك فيما يتسبب عن أفعاله ، وكون هذا مأذونا فيه معلوم من الدين ضرورة .

إلا أن هذا الدفع المأذون فيه إن ثبت انحتامه; فلا إشكال في علمنا أن الشارع قصد رفع تلك المشقة ، كما أوجب علينا دفع المحاربين والساعين على الإسلام والمسلمين بالفساد ، وجهاد الكفار القاصدين لهدم الإسلام وأهله ، ولا يعتبر هنا جهة التسليط والابتلاء; لأنا قد علمنا بإيجاب الدفع أن ذلك ملغى في التكليف ، وإن كان معتبرا في العقد الإيماني ، كما لا تعتبر جهة التكليف ابتداء ، وإن كان في نفسه ابتلاء; لأنه طاعة أو معصية من جهة [ ص: 262 ] العبد ، خلق للرب; فالفعل والترك فيه بحسب ما يخلق الله في العبد ، فليس له في الأصل حيلة إلا الاستسلام لأحكام القضاء والقدر ، فكذلك هنا .

وأما إن لم يثبت انحتام الدفع; فيمكن اعتبار جهة التسليط والابتلاء ، وأن ذلك الشاق مرسل من المسلط المبلي ، فيستسلم العبد للقضاء ، ولذلك لما لم يكن التداوي محتما تركه كثير من السلف الصالح ، وأذن عليه الصلاة والسلام في البقاء على حكم المرض ، كما في حديث السوداء المجنونة التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها; فخيرها في الأجر مع البقاء على حالتها أو زوال ذلك ، وكما في الحديث : ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون .

ويمكن اعتبار جهة الحظ بمقتضى الإذن ويتأيد بالندب ، كما في التداوي حيث قال عليه الصلاة والسلام : تداووا; فإن الذي أنزل الداء أنزل [ ص: 263 ] الدواء وأما إن ثبت الإباحة; فالأمر أظهر .

وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث من أوجه المشقات المفهومة من إطلاق اللفظ ، وبقي الكلام على الوجه الرابع ، وذلك مشقة مخالفة الهوى ، وهي :

[ ص: 264 ]
المسألة الثامنة

وذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها ، وصعب خروجها عنه ، ولذلك بلغ أهل الهوى في مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم ، وكفى شاهدا على ذلك حال المحبين ، وحال من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المشركين وأهل الكتاب ، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه ، حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال ، ولم يرضوا بمخالفة الهوى ، حتى قال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم [ الجاثية : 23 ] .

وقال : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس [ النجم : 23 ] .

وقال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ محمد : 14 ] .

وما أشبه ذلك .

ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه; حتى يكون عبدا لله; فإذا مخالفة الهوى ليست من المشقات المعتبرة في التكليف ، وإن كانت شاقة في مجاري العادات ، إذ لو كانت معتبرة حتى يشرع التخفيف لأجل ذلك; لكان ذلك نقضا لما وضعت الشريعة له ، وذلك باطل ، فما أدى إليه مثله ، وبيان هذا المعنى مذكور بعد إن شاء الله .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26-11-2021, 08:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (63)
صـ265 إلى صـ 273

المسألة التاسعة

كما أن المشقة تكون دنيوية ، كذلك تكون أخروية ، فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجب ، أو فعل محرم فهو أشد مشقة باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التي هي غير مخلة بدين ، واعتبار الدين مقدم على اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع ، وكذلك هنا ، فإذا كان كذلك; فليس للشارع قصد في إدخال المشقة من هذه الجهة ، وقد تقدم من الأدلة التي يدخل تحتها هذا المطلب ما فيه كفاية .
[ ص: 266 ] المسألة العاشرة

قد تكون المشقة الناشئة من التكليف تختص بالمكلف وحده ، كالمسائل المتقدمة ، وقد تكون عامة له ولغيره ، وقد تكون داخلة على غيره بسببه .

ومثال العامة له ولغيره كالوالي المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أسند إليه; إلا أن الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته ، فإنه إذا لم يقم بذلك عم الفساد والضرر ، ولحقه من ذلك ما يلحق غيره .

ومثال الداخلة على غيره دونه كالقاضي والعالم المفتقر إليهما; إلا أن الدخول في الفتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز ، أو يشغلهما عن مهم ديني أو دنيوي ، وهما إذا لم يقوما بذلك عم الضرر غيرهما من الناس ، فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام .

[ ص: 267 ] وعلى كل تقدير; فالمشقة من حيث هي غير مقصودة للشارع تكون غير مطلوبة ، ولا العمل المؤدي إليها مطلوبا كما تقدم بيانه; فقد نشأ هنا نظر في تعارض مشقتين ، فإن المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فساد ومشقة لغيره ، فيلزم أيضا من الاشتغال بغيره فساد ومشقة في نفسه ، وإذا كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك ، وإن لم يمكن ، فلا بد من الترجيح ، فإذا كانت المشقة العامة أعظم اعتبر جانبها وأهمل جانب الخاصة ، وإن كان بالعكس ، فالعكس ، وإن لم يظهر ترجيح ، فالتوقف كما سيأتي ذكره في كتاب التعارض والترجيح إن شاء الله .
[ ص: 268 ] المسألة الحادية عشرة

حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجة عن معتاد المشقات في الأعمال العادية ، حتى يحصل بها فساد ديني أو دنيوي; [ ص: 269 ] فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة ، وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة ، ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقا .

وأما إذا لم تكن خارجة عن المعتاد ، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية ، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها ، فليس بقاصد لرفعها أيضا .

والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها; لأن كل عمل عادي أو غير عادي يستلزم تعبا وتكليفا على قدره قل أو جل ، إما في نفس العمل المكلف به ، وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف ، وإما فيهما معا ، فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب كان ذلك اقتضاء لرفع العمل المكلف به من أصله ، وذلك غير صحيح ، فكان مما يستلزمه غير صحيح .

إلا أن هنا نظرا ، وهو أن التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفة باختلاف تلك الأعمال; فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر ، كالمشقة في ركعتي الصبح ، ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام ، ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج ، ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد ، إلى غير ذلك من أعمال التكليف ، ولكن كل عمل في نفسه له مشقة معتادة فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية فلم تخرج عن المعتاد على الجملة .

ثم إن الأعمال المعتادة ليست المشقة فيها تجري على وزان واحد ، في [ ص: 270 ] كل وقت ، وفي كل مكان ، وعلى كل حال; فليس إسباغ الوضوء في السبرات يساوي إسباغه في الزمان الحار ، ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلف في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئر بعيدة ، وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قصر الليل أو في شدة البرد ، مع فعله على خلاف ذلك .

وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله [ العنكبوت : 10 ] بعد قوله : أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ العنكبوت : 2 ] إلى آخرها .

وقوله : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ الأحزاب : 10 - 11 ] .

ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .

وقصة كعب بن مالك وصاحبيه - رضي الله عنهم - في تخلفهم عن غزوة [ ص: 271 ] تبوك ، ومنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكالمتهم ، وإرجاء أمرهم : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم [ التوبة : 118 ] .

وكذلك ما جاء في نكاح الإماء عند خشية العنت ، ثم قال : وأن تصبروا خير لكم [ النساء : 25 ] .

إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد ، ولكنه في الحقيقة معتاد ، ومشقته في مثلها مما يعتاد; إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة : طرف أعلى بحيث لو زاد شيئا لخرج عن المعتاد ، وهذا لا يخرجه عن كونه معتادا ، وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل ، وواسطة هي الغالب والأكثر ، فإذا كان كذلك فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات وإذا لم تخرج عن المعتاد; لم يكن للشارع قصد في رفعها كسائر المشقات المعتادة في الأعمال الجارية على العادة ، فلا يكون فيها رخصة ، وقد يكون الموضع مشتبها فيكون محلا للخلاف .

[ ص: 272 ] فحيث قال الله تعالى : انفروا خفافا وثقالا [ التوبة : 41 ] ، ثم قال : إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما [ التوبة : 39 ] ; كان هذا موضع شدة لأنه يقتضي أن لا رخصة أصلا في التخلف ، إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمول على أقصى الثقل في الأعمال المعتادة ، بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج ، وقد كان اجتمع في غزوة تبوك أمران : شدة الحر ، وبعد الشقة ، زائدا على مفارقة الظلال ، واستدرار الفواكه والخيرات ، وذلك كله زائد في مشقة الغزو زيادة ظاهرة ، ولكنه غير مخرج لها عن المعتاد; فلذلك لم يقع في ذلك رخصة; فكذلك أشباهها ، وقد قال تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ محمد : 31 ] .

وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] ، إنما ذلك سعة الإسلام ما جعل الله من التوبة والكفارات .

وقال عكرمة : ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع .

وعن عبيد بن عمير ; أنه جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس ، فسأله عن الحرج; فقال : أولستم العرب ؟ فسألوه ثلاثا ، كل ذلك يقول : أولستم العرب ؟ ثم قال : ادع لي رجلا من هذيل; فقال له : ما الحرج فيكم ؟ قال الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج . قال ابن عباس : ذلك الحرج ما لا مخرج له .

[ ص: 273 ] فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له ، وفسر رفعه بشرع التوبة والكفارات ، وأصل الحرج الضيق ، فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها; فليس بحرج لغة ولا شرعا ، كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمة شرعية ، وهي التمحيص والاختبار حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب; فقد تبين إذا ما هو من الحرج مقصود الرفع ، وما ليس بمقصود الرفع ، والحمد لله .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26-11-2021, 08:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (64)
صـ274 إلى صـ 286

فصل

قال ابن العربي : " إذا كان الحرج في نازلة عامة في الناس ، فإنه يسقط ، وإذا كان خاصا لم يعتبر عندنا وفي بعض أصول الشافعي اعتباره " انتهى ما قال .

وهو مما ينظر فيه ، فإنه إن عنى بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد ، فالحكم كما قال ولا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه إن كان من المعتاد ، فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه ، وإلا لزم في أصل التكليف ، فإن تصور وقوع اختلاف; فإنما هو مبني على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد ، أو من قبيل الخارج عن المعتاد لا أنه مختلف فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما .

وأيضا; فتسميته خاصا يشاح فيه ، فإنه بكل اعتبار عام غير خاص; إذ [ ص: 274 ] ليس مختصا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض .

وإن عنى بالحرج ما هو خارج عن المعتاد ، ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة; فالعموم والخصوص فيه أيضا مما يشكل فهمه ، فإن السفر مثلا سبب للحرج مع تكميل الصلاة والصوم ، وقد شرع فيه التخفيف ، فهذا عام ، والمرض قد شرع فيه التخفيف وهو ليس بعام ، بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض ، إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائما أو قاعدا ، ومنهم من يقدر على ذلك ، ومنهم من يقدر على الصوم ، ومنهم من لا يقدر ، فهذا يخص كل واحد من المكلفين في نفسه ، ومع ذلك فقد شرع فيه التخفيف على الجملة ، فالظاهر أنه خاص ، ولكن لا يخالف فيه مالك الشافعي; إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد ، فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام ، ولا يخالف فيه مالك الشافعي أيضا ، وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص ، وإلا; فما من حرج يعد أن يكون له تخفيف مشروع باتفاق أو باختلاف إلا وهو عام ، وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فرد واحد ، وإن قدر أن يكون التشريع له وحده أو لقوم مخصوصين; فهذا غير متصور في الشريعة إلا ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو خص به أحد من أصحابه كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة وشهادة خزيمة; فذلك مختص بزمان النبوة دون ما بعد ذلك .

فإن قيل : لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عاما للناس كلهم ، وما كان خاصا ببعض الأقطار ، أو بعض الأزمان ، أو بعض الناس ، وما أشبه [ ص: 275 ] ذلك .

فالجواب : إن هذا أيضا مما ينظر فيه ; فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص ; لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصا ببعض الأشخاص المعينين ، أو بعض الأزمان المعينة ، أو الأمكنة المعينة ، وكل ذلك إنما يتصور في زمان النبوة ، أو على وجه لا يقاس عليه غيره ; كنهيه عن ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة ، وكتخصيص الكعبة [ ص: 276 ] بالاستقبال ، والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد ; فتصور مثل هذا في مسألة ابن العربي غير متأت .

فإن قيل : ففي النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوع أو صنف داخل تحت جنس شامل له ولغيره .

قيل : وفيه أيضا عموم من جهة كونه شاملا لمتعدد لا ينحصر ; فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر وهو العموم ، بل جهة العموم أولى ; لأن الحرج فيها كلي بحيث لو لحق نوعا آخر أو صنفا آخر للحق به في الحكم ; فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده ; فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض ، وإن سقط ، سقط في البعض ، وهذا متفق عليه بين الإمامين ، فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك .

فإن قيل : لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبا ، وهو عام ; كالتراب والطحلب وشبه ذلك ، أو خاص كما إذا كان عدم [ ص: 277 ] الانفكاك خاصا ببعض المياه ، فإن حكم الأول ساقط لعمومه ، والثاني مختلف فيه لخصوصه ، وكذلك اختلف في ماء البحر : هل هو طهور أم لا ؟ لأنه متغير خاص ، وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصا ففيه خلاف ، والطلاق قبل النكاح إن كان عاما سقط ، وإن كان خاصا ففيه خلاف ، كما إذا قال : كل امرأة أتزوجها من بني فلان ، أو من البلد الفلاني ، أو من السودان ، أو من البيض ، أو كل بكر أتزوجها ، أو كل ثيب ، وما أشبه ذلك ، فهي طالق ، ومثله كل أمة اشتريتها ، فهي حرة ، هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص ، كما لو قال : كل حرة أتزوجها طالق ، وبالنسبة إلى قصد مطلق الملك من العام فيسقط ، فإن قال فيه : كل أمة اشتريتها من السودان كان خاصا ، وجرى فيه الخلاف ، وأشباه ذلك من المسائل .

فالجواب : أن هذا ممكن ، وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه ; إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عنمالك بعدم الاعتبار ، وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يحقق في هذه الأمثلة ، وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه ، لا [ ص: 278 ] بالنسبة إلى نظر الأصول ، إلا أنه إذا ثبت الخلاف ، فهو المراد هنا والنظر الأصولي يقتضي ما قال ; فإن الحرج العام هو الذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه ، كالأمثلة المتقدمة ، فأما إذا أمكن الانفكاك عنه ; فليس بحرج عام بإطلاق ، إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرج آخر ، وإن كان أخف إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة ، لاختلاف أحوال الناس في ذلك .

وأيضا ; فكما لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها ; فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين ، فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة : الطرف العام الذي لا انفكاك عنه في العادة الجارية ، ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتغير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه ، وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد ، والله أعلم .
[ ص: 279 ] المسألة الثانية عشرة

الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل ، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه ، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال ، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال ; كتكاليف الصلاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، والزكاة ، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك ، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل ; كقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون [ البقرة : 215 ] .

يسألونك عن الخمر والميسر [ البقرة : 219 ] .

وأشباه ذلك .

فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف ، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين ; كان التشريع رادا إلى الوسط الأعدل ، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه ، فعلى الطبيب الرفيق [ أن ] يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته ، وقوة مرضه وضعفه ، حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقا في التدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله .

أو لا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب [ ص: 280 ] التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم ، ولحصول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم ، وتكمل بها تصرفاتهم ; كقوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ البقرة : 22 ] .

وقوله : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره إلى قوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 32 - 34 ] .

وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ النحل : 10 ] .

إلى آخر ما عد لهم من النعم ، ثم وعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا ، وبالعذاب إن تمادوا على ما هم عليه من الكفر ، فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران ، وشكوا في صدق ما قيل لهم ; أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته ، فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة ; أخبروا [ ص: 281 ] بحقيقتها ، وأنها في الحقيقة كلا شيء ; لأنها زائلة فانية .

وضربت لهم الأمثال في ذلك ; كقوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء [ يونس : 24 ] الآية .

وقوله : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو [ الحديد : 20 ] [ إلى آخر الآية ]

وقوله : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ الحديد : 20 ] وقوله وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ العنكبوت : 64 ] .

بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها أو نظرا إلى هذا المعنى ; فقال عليه الصلاة والسلام : إن مما أخاف عليكم ما يفتح لكم من زهرات الدنيا .

ولما لم يظهر ذلك ولا مظنته ; قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ الأعراف : 32 ] .

وقال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا [ المؤمنون : 51 ] .

[ ص: 282 ] ووقع لأهل الإسلام النهي عن الظلم ، والوعيد فيه والتشديد ، وقال تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ فشق ذلك عليهم ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ؟ فنزل : إن الشرك لظلم عظيم [ لقمان : 13 ] ; فخفف عنهم بسبب ذلك ، مع أن قليل الظلم وكثيره منهي عنه ، لكنهم فهموا أن مطلق الظلم لا يحصل معه الأمن في الآخرة والهداية لقوله : " ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " [ الأنعام : 82 ] .

ولما قال عليه الصلاة والسلام : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ; شق ذلك عليهم ، إذ لا يسلم أحد من شيء منه ، ففسره عليه الصلاة والسلام لهم حين أخبروه بكذب وإخلاف وخيانة مختصة بأهل الكفر .

وكذلك لما نزل : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ البقرة : 284 ] الآية ; شق عليهم ; فنزل : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] .

وقارف بعضهم بارتداد أو غيره وخاف أن لا يغفر له ، فسئل في ذلك [ ص: 283 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; فأنزل الله : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [ الزمر : 53 ] الآية .

[ ص: 284 ] ولما ذم الدنيا ومتاعها ; هم جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا ، وينقطعوا إلى العبادة ، فرد ذلك عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : من رغب عن سنتي ; فليس مني .

ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله : إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ التغابن : 15 ] والمال والولد هي الدنيا ، وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها ، ولم يزهدهم ولا أمرهم بتركها ; إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه ، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك وما سواه ; فلا .

ومن غامض هذا المعنى أن الله تعالى أخبر عما يجازي به المؤمنين في الآخرة ، وأنه جزاء لأعمالهم ; فنسب إليهم أعمالا وأضافها إليهم بقوله : جزاء بما كانوا يعملون [ السجدة : 17 ] .

ونفى المنة به عليهم في قوله : فلهم أجر غير ممنون [ التين : 6 ] .

فلما منوا بأعمالهم قال تعالى : يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [ الحجرات : 17 ] .

فأثبت المنة عليهم على ما هو الأمر في نفسه ; لأنه مقطع حق ، وسلب [ ص: 285 ] عنهم ما أضاف إلى الآخرين ، بقوله : أن هداكم للإيمان [ الحجرات : 17 ] ، كذلك أيضا ، أي فلولا الهداية لم يكن ما مننتم به ، وهذا يشبه في المعنى المقصود حديث شراج الحرة حين تنازع فيه الزبير ورجل من الأنصار ; فقال عليه السلام : اسق يا زبير - فأمره بالمعروف - ، وأرسل الماء إلى جارك . فقال الرجل : إن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : اسق يا زبير حتى يرجع الماء إلى الجدر ، واستوفى له حقه ; فقال الزبير : إن هذه الآية نزلت في ذلك : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] الآية .

وهكذا تجد الشريعة أبدا في مواردها ومصادرها .

وعلى نحو من هذا الترتيب يجري الطبيب الماهر ، يعطي الغذاء ابتداء [ ص: 286 ] على ما يقتضيه الاعتدال في توافق مزاج المغتذي مع مزاج الغذاء ، ويخبر من سأله عن بعض المأكولات التي يجهلها المغتذي : أهو غذاء ، أم سم ، أم غير ذلك ؟ فإذا أصابته علة بانحراف بعض الأخلاط ; قابله في معالجته على مقتضى انحرافه في الجانب الآخر ، ليرجع إلى الاعتدال وهو المزاج الأصلي ، والصحة المطلوبة ، وهذا غاية الرفق ، وغاية الإحسان والإنعام من الله سبحانه .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26-11-2021, 08:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (65)
صـ287 إلى صـ 295

فصل

فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط ، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف ، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر .

فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين .

وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد ، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ، ومسلك الاعتدال واضحا ، وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه .

وعلى هذا إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط ; فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى ، [ ص: 287 ] وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما ، وما قابلها . والتوسط يعرف بالشرع ، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء ; كما في الإسراف والإقتار في النفقات .
[ ص: 288 ] [ ص: 289 ] النوع الرابع

في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة

ويشتمل على مسائل

المسألة الأولى

المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ; حتى يكون عبدا لله اختيارا ، كما هو عبد لله اضطرارا .

والدليل على ذلك أمور :

أحدها : النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله ، والدخول [ ص: 290 ] تحت أمره ونهيه ; كقوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ الذاريات : 56 - 57 ] .

وقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] .

وقوله : يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ البقرة : 21 ] .

ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة ; كقوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن إلى قوله : وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] .

وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام ، وقوله : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [ النساء : 36 ] .

إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق ، وبتفاصيلها على العموم ، فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال ، والانقياد إلى أحكامه على كل حال ، وهو معنى التعبد لله .

والثاني : ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولا عن مخالفة أمر الله ، وذم من أعرض عن الله ، وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات ، والعذاب الآجل في الدار الآخرة ، وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة ، والشهوات الزائلة ; فقد جعل الله اتباع الهوى مضادا للحق ، وعده قسيما له ، كما في قوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله الآية [ ص : 26 ] .

[ ص: 291 ] وقال تعالى : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ النازعات : 37 - 39 ] .

وقال في قسيمه : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ النازعات : 40 - 41 ] .

وقال : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] .

فقد حصر الأمر في شيئين : الوحي وهو الشريعة ، والهوى ، فلا ثالث لهما ، وإذا كان كذلك ; فهما متضادان ، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده ، فاتباع الهوى مضاد للحق .

وقال تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم [ الجاثية : 23 ] .

وقال : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .

وقال : الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ محمد : 16 ] . ،

وقال : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ محمد : 14 ] .

وتأمل ; فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى ; فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه ، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس ; أنه قال : " ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه " . فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن [ ص: 292 ] اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى .

والثالث : ما علم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى ، والمشي مع الأغراض ; لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك ، الذي هو مضاد لتلك المصالح ، وهذا معروف عندهم بالتجارب والعادات المستمرة ، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته ، وسار حيث سارت به ، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها ، أو كان له شريعة درست ، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي ، وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم ، واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا ، وهي التي يسمونها السياسة المدنية ; فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة ، وهو أظهر من أن يستدل عليه .

وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعي على الشريعة أنها وضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم ; إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة ، أما الوجوب والتحريم ; فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار ; إذ يقال له : " افعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، و " لا تفعل كذا " كان لك فيه غرض أم لا ، فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق ، وهوى باعث على [ ص: 293 ] مقتضى الأمر أو النهي ، فبالعرض لا بالأصل ، وأما سائر الأقسام - وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف - ; فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره ، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره ، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض ، وقد لا يكون ؟ فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار ، بل في رفعه مثلا ، كيف يقال : إنه داخل تحت اختياره ؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعا ; حتى إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه ، كما يطرأ للمتنازعين في حق .

وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول ، حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه ، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس ، فيحب الآن ما يكره غدا ، وبالعكس ، فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق ، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى ; فسبحان الذي أنزل في كتابه : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ المؤمنون : 71 ] .

فإذا ; إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف ، إلا من حيث كان قضاء من الشارع ، وإذ ذاك يكون اختياره تابعا لوضع الشارع ، وغرضه مأخوذا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي ، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله .

فإن قيل : وضع الشرائع ; إما أن يكون عبثا ، أو لحكمة ; فالأول باطل باتفاق ، وقد قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا [ المؤمنون : 115 ] .

[ ص: 294 ] وقال : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا [ ص : 27 ] .

وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ الدخان : 38 - 39 ] .

وإن كان لحكمة ومصلحة ، فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد ، ورجوعها إلى الله محال ; لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام ، فلم يبق إلا رجوعها إلى العباد ، وذلك مقتضى أغراضهم ، لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه وما يوافق هواه في دنياه وأخراه ، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف ; فكيف ينفى أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم ؟

وأيضا ; فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد ، وثبتت لهم حظوظهم تفضلا من الله تعالى على ما يقوله المحققون ، أو وجوبا على ما يزعمه المعتزلة ، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقا ; كان ما ينافيه باطلا .

فالجواب أن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد ; فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع ، وعلى الحد الذي حده لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم ; ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس ، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك ، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه ، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع ، وهذا هو المراد ، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض ، أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في [ ص: 295 ] العاجل والآجل ، فصحيح ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجا عن حدود الشرع ، ولا أن يكون متناولا لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع ، وهذا ظاهر وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم ; لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع ; لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة ، وذلك ما أردنا هاهنا .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26-11-2021, 08:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (66)
صـ296 إلى صـ 304

فصل

فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد :

منها : أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير ; فهو باطل بإطلاق ; لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه ، وداع يدعو إليه ، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل ، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة ، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق ; لأنه خلاف الحق بإطلاق ، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة ، وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الموطأ : إنك في زمان كثير فقهاؤه ، قليل قراؤه ، تحفظ فيه حدود القرآن ، وتضيع حروفه ، قليل من يسأل ، كثير من يعطي ، يطيلون في الصلاة ، ويقصرون في الخطبة ، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم ، [ ص: 296 ] وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه ، كثير قراؤه ، تحفظ فيه حروف القرآن ، وتضيع حدوده ، كثير من يسأل ، قليل من يعطي ، يطيلون فيه الخطبة ، ويقصرون الصلاة ، يبدون فيه أهواءهم قبل أعمالهم .

فأما العبادات ; فكونها باطلة ظاهر ، وأما العادات ; فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي ، فوجودها في ذلك وعدمها سواء ، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به ، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب .

وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهي أو التخيير ; فهو صحيح وحق لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له ، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع ; [ ص: 297 ] فكان كله صوابا ، وهو ظاهر .

وأما إن امتزج فيه الأمران ; فكان معمولا بهما ; فالحكم للغالب والسابق ، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع ; فلا إشكال في إلحاقه بالقسم الثاني ، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصة لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة ; لأن الشريعة موضوعة أيضا لمصالح العباد ، فإذا جعل الحظ تابعا ; فلا ضرر على العامل .

إلا أن هنا شرطا معتبرا ، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض ، وإلا ; فليس السابق فيه أمر الشارع ، وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه .

وإن كان الغالب والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع ; فهو لاحق بالقسم الأول .

وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك ; فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع ; فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع ، وهواه تبع ، وإن لم يكف عند ورود النهي عليه ; فالغالب والسابق له الهوى والشهوة ، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده ; فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تابعا لهواه ، أو لإذن الشارع ، فإن حاضت فانكف ، دل على أن هواه تبع ، وإلا دل على أنه السابق .
[ ص: 298 ] فصل

ومنها : أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم وإن جاء في ضمن المحمود ; لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة ; فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفا .

أما أولا ; فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي ; لأنه مضاد لها .

وأما ثانيا ; فإنه إذا اتبع واعتيد ، ربما أحدث للنفس ضراوة وأنسا به ، حتى يسري معها في أعمالها ، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج ; فقد يكون مسبوقا بالامتثال الشرعي فيصير سابقا له ، وإذ صار سابقا له صار العمل الامتثالي تبعا له وفي حكمه ; فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة ، ودليل التجربة حاكم هنا .

وأما ثالثا ; فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه ، والنعيم بما يجتنيه من ثمرات الفهوم ، وانفتاح مغاليق العلوم ، وربما أكرم ببعض الكرامات ، أو وضع له القبول في الأرض ; فانحاش الناس إليه ، وحلقوا عليه ، وانتفعوا به ، وأموه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم ، إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة ; من الصلاة ، والصوم ، وطلب العلم ، والخلوة للعبادة ، وسائر الملازمين لطرق الخير ، فإذا دخل عليه ذلك ، كان للنفس به بهجة وأنس وغنى ولذة ونعيم ، بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك كما ، قال بعضهم : " لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف " ، أو كما قال ، وإذا كان كذلك ; فلعل النفس تنزع [ ص: 299 ] إلى مقدمات تلك النتائج ، فتكون سابقة للأعمال ، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة والعياذ بالله ، هذا وإن كان الهوى المحمود ليس بمذموم على الجملة ; فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق ، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين ; فلا حاجة إلى تقريره هاهنا .
فصل

ومنها : أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه ; كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلما لما في أيدي الناس ، وبيان هذا ظاهر ، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرا ، وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها ، ولعل الفرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها ، دون توخي مقاصد الشرع .
[ ص: 300 ] المسألة الثانية

المقاصد الشرعية ضربان : مقاصد أصلية ، ومقاصد تابعة .

فأما المقاصد الأصلية ; فهي التي لا حظ فيها للمكلف ، وهى الضروريات المعتبرة في كل ملة ، وإنما قلنا : إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية ; لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة ، لا تختص بحال دون حال ، ولا بصورة دون صورة ، ولا بوقت دون وقت ، لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية ، وإلى ضرورية كفائية .

فأما كونها عينية ; فعلى كل مكلف في نفسه ، فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا ، وبحفظ نفسه قياما بضرورية حياته ، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه ، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار ، ورعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه ، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة ، ويدل على ذلك أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه ، ولحيل بينه [ ص: 301 ] وبين اختياره ، فمن هنا صار فيها مسلوب الحظ ، محكوما عليه في نفسه ، وإن صار له فيها حظ ، فمن جهة أخرى تابعة لهذا المقصد الأصلي .

وأما كونها كفائية ; فمن حيث كانت منوطة بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين ; لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها ، إلا أن هذا القسم مكمل للأول ; فهو لاحق به في كونه ضروريا ; إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي ، وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق ; فالمأمور به من تلك الجهة مأمور بما لا يعود عليه من جهته تخصيص ، لأنه لم يؤمر إذ ذاك بخاصة نفسه فقط ، وإلا صار عينيا ، بل بإقامة الوجود ، وحقيقته أنه خليفة الله في عباده على حسب قدرته ، وما هيئ له من ذلك ، فإن الواحد لا يقدر على إصلاح نفسه والقيام بجميع أهله ، فضلا عن أن يقوم بقبيلة ، فضلا عن أن يقوم بمصالح أهل الأرض ; فجعل الله الخلق خلائف في إقامة الضروريات العامة حتى قام الملك في الأرض .

ويدلك على أن هذا المطلوب الكفائي معرى من الحظ شرعا أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك ; فلا يجوز لوال أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم ، ولا لقاض أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه ، ولا لحاكم على حكمه ، [ ص: 302 ] ولا لمفت على فتواه ، ولا لمحسن على إحسانه ، ولا لمقرض على قرضه ، ولا ما أشبه ذلك من الأمور العامة التي للناس فيها مصلحة عامة ، ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية ; لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات .

وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام ، ويصلح النظام ، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام ، وهدم قواعد الإسلام ، وبالنظر فيه يتبين أن العبادات العينية لا تصح الإجارة عليها ، ولا قصد المعاوضة فيها ، ولا نيل مطلوب دنيوي بها ، وأن تركها سبب للعقاب والأدب ، وكذلك النظر في المصالح العامة موجب تركها للعقوبة ; لأن في تركها أي مفسدة في العالم .

وأما المقاصد التابعة ; فهي التي روعي فيها حظ المكلف ، فمن جهتها [ ص: 303 ] يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات ، والاستمتاع بالمباحات ، وسد الخلات ، وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره ، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش ، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه ، وكذلك خلق له الشهوة إلى النساء لتحركه إلى اكتساب الأسباب الموصلة إليها ، وكذلك خلق له الاستضرار بالحر والبرد والطوارق العارضة ، فكان ذلك داعية إلى اكتساب اللباس والمسكن ثم خلق الجنة والنار ، وأرسل الرسل مبينة أن الاستقرار ليس هنا ، وإنما هذه الدار مزرعة لدار أخرى ، وأن السعادة الأبدية والشقاوة الأبدية هنالك ، لكنها تكتسب أسبابها هنا بالرجوع إلى ما حده الشارع أو بالخروج عنه ، فأخذ المكلف في استعمال الأمور الموصلة إلى تلك الأغراض ، ولم يجعل له قدرة على القيام بذلك وحده ، لضعفه عن مقاومة هذه الأمور ، فطلب التعاون بغيره ، فصار يسعى في نفع نفسه واستقامة حاله بنفع غيره ، فحصل الانتفاع للمجموع بالمجموع ، وإن كان كل أحد إنما يسعى في نفع نفسه .

فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها ، ولو شاء الله لكلف بها مع الإعراض عن الحظوظ ، أو لكلف بها مع سلب الدواعي المجبول عليها ، لكنه امتن على عباده بما جعله وسيلة إلى ما أراده من عمارة الدنيا للآخرة ، وجعل الاكتساب لهذه الحظوظ مباحا لا ممنوعا ، لكن على قوانين شرعية هي أبلغ في المصلحة ، وأجرى على الدوام مما يعده العبد مصلحة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ البقرة : 216 ] ولو شاء لمنعنا في الاكتساب الأخروي القصد إلى الحظوظ ، فإنه المالك وله الحجة البالغة ، [ ص: 304 ] ولكنه رغبنا في القيام بحقوقه الواجبة علينا بوعد حظي لنا ، وعجل لنا من ذلك حظوظا كثيرة نتمتع بها في طريق ما كلفنا به ، فبهذا الحظ قيل : إن هذه المقاصد توابع ، وإن تلك هي الأصول ; فالقسم الأول يقتضيه محض العبودية ، والثاني يقتضيه لطف المالك بالعبيد .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 26-11-2021, 08:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (67)
صـ305 إلى صـ 312

المسألة الثالثة

قد تحصل إذا أن الضروريات ضربان :

أحدهما : ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود ، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله في الاقتيات ، واتخاذ السكن ، والمسكن ، واللباس ، وما يلحق بها من المتممات ; كالبيوع ، والإجارات ، والأنكحة ، وغيرها من وجوه الاكتساب التي تقوم بها الهياكل الإنسانية .

والثاني : ما ليس فيه حظ عاجل مقصود ، كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية ; من الطهارة ، والصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، وما أشبه ذلك ، أو من فروض الكفايات كالولايات العامة ; من الخلافة ، والوزارة ، والنقابة ، والعرافة ، والقضاء ، وإمامة الصلوات ، والجهاد ، والتعليم ، وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام .

فأما الأول ; فلما كان للإنسان فيه حظ عاجل ، وباعث من نفسه يستدعيه [ ص: 306 ] إلى طلب ما يحتاج إليه ، وكان ذلك الداعي قويا جدا بحيث يحمله قهرا على ذلك ; لم يؤكد عليه الطلب بالنسبة إلى نفسه ، بل جعل الاحتراف والتكسب والنكاح على الجملة مطلوبا طلب الندب لا طلب الوجوب ، بل كثيرا ما يأتي في معرض الإباحة ، كقوله : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] .

فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة : 10 ] .

ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ البقرة : 198 ] .

قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ الأعراف : 32 ] .

كلوا من طيبات ما رزقناكم [ البقرة : 172 ] .

وما أشبه ذلك ، مع أنا لو فرضنا أخذ الناس له كأخذ المندوب بحيث يسعهم جميعا الترك ; لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب ، فهذا من الشارع ; كالحوالة على ما في الجبلة من الداعي الباعث على الاكتساب حتى إذا لم يكن فيه حظ أو جهة نازع طبعي أوجبه الشرع عينا أو كفاية ، كما [ ص: 307 ] لو فرض هذا في نفقة الزوجات والأقارب ، وما أشبه ذلك .

فالحاصل أن هذا الضرب قسمان :

قسم يكون القيام بالمصالح فيه بغير واسطة ; كقيامه بمصالح نفسه مباشرة .

وقسم يكون القيام بالمصالح فيه بواسطة الحظ في الغير ; كالقيام بوظائف الزوجات والأولاد والاكتساب بما للغير فيه مصلحة ; كالإجارات والكراء ، والتجارة ، وسائر وجوه الصنائع والاكتسابات ، فالجميع يطلب الإنسان بها حظه ، فيقوم بذلك حظ الغير ، خدمة دائرة بين الخلق كخدمة بعض أعضاء الإنسان بعضا ، حتى تحصل المصلحة للجميع .

ويتأكد الطلب فيما فيه حظ الغير على طلب حظ النفس المباشر ، وهذه حكمة بالغة ، ولما كان النظر هكذا وكانت جهة الداعي كالمتروكة إلى ما يقتضيه ، وكان ما يناقض الداعي ليس له خادم ، بل هو على الضد من ذلك ; [ ص: 308 ] أكدت جهة الكف هنا بالزجر والتأديب في الدنيا ، والإيعاد بالنار في الآخرة ; كالنهي عن قتل النفس ، والزنا ، والخمر ، وأكل الربا ، وأكل أموال اليتامى وغيرهم من الناس بالباطل ، والسرقة ، وأشباه ذلك ; فإن الطبع النازع إلى طلب مصلحة الإنسان ، ودرء مفسدته يستدعي الدخول في هذه الأشياء .

وعلى هذا الحد جرى الرسم الشرعي في قسم الكفاية من الضرب الثاني أو أكثر أنواعه ; فإن عز السلطان ، وشرف الولايات ، ونخوة الرياسة ، وتعظيم المأمورين للآمر مما جبل الإنسان على حبه ، فكان الأمر بها جاريا مجرى الندب لا الإيجاب ، بل جاء ذلك مقيدا بالشروط المتوقع خلافها ، وأكد النظر في مخالفة الداعي ; فجاء كثير من الآيات والأحاديث في النهي عما تنزع إليه النفس فيها ; كقوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص : 26 ] إلى آخرها .

وفي الحديث : لا تطلب الإمارة ; فإنك إن طلبتها باستشراف نفس وكلت إليها أو كما قال .

وجاء النهي عن غلول الأمراء ، وعن عدم النصح في الإمارة ; لما كان [ ص: 309 ] هذا كله على خلاف الداعي من النفس ، ولم يكن هذا كله دليلا على عدم الوجوب في الأصل ، بل الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح الخلق من أوجب الواجبات .

وأما قسم الأعيان ; فلما لم يكن فيه حظ عاجل مقصود ، أكد القصد إلى فعله بالإيجاب ، ونفيه بالتحريم ، وأقيمت عليه العقوبات الدنيوية ، وأعني بالحظ المقصود ما كان مقصود الشارع بوضعه السبب [ الباعث عليه ، وغير المقصود وهو ما لم يكن مقصودا للشارع بوضعه السبب ] ; فإنا نعلم أن الشارع شرع الصلاة وغيرها من العبادات لا لنحمد عليها ، ولا لننال بها في الدنيا شرفا وعزا أو شيئا من حطامها ، فإن هذا ضد ما وضعت له العبادات ، بل هي خالصة لله رب العالمين ، ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 3 ] .

وهكذا شرعت أعمال الكفاية لا لينال بها عز السلطان ، ونخوة الولاية ، وشرف الأمر والنهي ، وإن كان قد يحصل ذلك بالتبع ، فإن عز المتقي لله في الدنيا وشرفه على غيره لا ينكر ، وكذلك ظهور العزة في الولايات موجود معلوم ثابت شرعا ، من حيث يأتي تبعا للعمل المكلف به ، وهكذا القيام بمصالح الولاة من حيث لا يقدح في عدالتهم حسبما حده الشارع غير منكر ولا ممنوع ، بل هو مطلوب متأكد ، فكما يجب على الوالي القيام بمصالح العامة ، فعلى العامة القيام بوظائفه من بيوت أموالهم إن احتاج إلى ذلك ، وقد قال تعالى :

[ ص: 310 ] وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك [ طه : 132 ] الآية .

وقال : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق : 2 - 3 ] .

وفي الحديث : من طلب العلم ، تكفل الله برزقه .

إلى غير ذلك مما يدل على أن قيام المكلف بحقوق الله سبب لإنجاز ما عند الله من الرزق .
فصل

فقد تحصل من هذا أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظه بالقصد الثاني من الشارع ، وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول [ ص: 311 ] يحصل فيه العمل المبرأ من الحظ .

وبيان ذلك في الأول ما ثبت في الشريعة أولا من حظ نفسه وماله ، وما وراء ذلك من احترام أهل التقوى والفضل والعدالة ، وجعلهم عمدة في الشريعة في الولايات والشهادات وإقامة المعالم الدينية ، وغير ذلك زائدا إلى ما جعل لهم من حب الله وحب أهل السماوات لهم ، ووضع القبول لهم في الأرض حتى يحبهم الناس ويكرمونهم ويقدمونهم على أنفسهم ، وما يخصون به من انشراح الصدور ، وتنوير القلوب ، وإجابة الدعوات ، والإتحاف بأنواع الكرامات ، وأعظم من ذلك ما في الحديث مسندا إلى رب العزة : من آذى لي وليا ، فقد بارزني بالمحاربة .

وأيضا ; فإذا كان من هذا وصفه قائما بوظيفة عامة لا يتفرغ بسببها لأموره الخاصة به في القيام بمصالحه ونيل حظوظه ; وجب على العامة أن يقوموا له بذلك ، ويتكفلوا له بما يفرغ باله للنظر في مصالحهم من بيوت أموالهم المرصدة لمصالحهم ، إلى ما أشبه ذلك مما هو راجع إلى نيل حظه على الخصوص ، فأنت تراه لا يعرى عن نيل حظوظه الدنيوية في طريق تجرده عن حظوظه ، وما له في الآخرة من النعيم أعظم .

وأما الثاني ; فإن اكتساب الإنسان لضرورياته في ضمن قصده إلى المباحات التي يتنعم بها ظاهر ; فإن أكل المستلذات ، ولباس اللينات ، وركوب [ ص: 312 ] الفارهات ، ونكاح الجميلات قد تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة ، وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو ضروري لا حظ فيه .

وأيضا ; فإن في اكتسابه بالتجارات وأنواع البياعات والإجارات وغير ذلك مما هو معاملة بين الخلق قياما بمصالح الغير ، وإن كان في طريق الحظ ; فليس فيه من حيث هو حظ له يعود عليه منه غرض إلا من جهة ما هو طريق إلى حظه ، وكونه طريقا ووسيلة غير كونه مقصودا في نفسه ، وهكذا نفقته على أولاده وزوجته ، وسائر من يتعلق به شرعا من حيوان عاقل وغير عاقل ، وسائر ما يتوسل به إلى الحظ المطلوب ، والله أعلم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 26-11-2021, 08:13 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,583
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الثانى
الحلقة (68)
صـ313 إلى صـ 327

فصل

وإذا نظرنا إلى العموم والخصوص في اعتبار حظوظ المكلف بالنسبة إلى قسم الكفاية ; وجدنا الأعمال ثلاثة أقسام :

قسم لم يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال ، وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة .

وقسم اعتبر فيه ذلك ، وهو كل عمل كان فيه مصلحة الغير في طريق مصلحة الإنسان في نفسه ; كالصناعات والحرف العادية كلها ، وهذا القسم في الحقيقة راجع إلى مصلحة الإنسان واستجلابه حظه في خاصة نفسه ، وإنما كان استجلاب المصلحة العامة فيه بالعرض .

وقسم يتوسط بينهما ; فيتجاذبه قصد الحظ ولحظ الأمر الذي لا حظ [ ص: 313 ] فيه ، وهذا ظاهر في الأمور التي لم تتمخض في العموم وليست خاصة ، ويدخل تحت هذا ولاية أموال الأيتام ، والأحباس ، والصدقات ، والأذان ، وما أشبه ذلك ، فإنها من حيث العموم يصح فيها التجرد من الحظ ، ومن حيث الخصوص وأنها كسائر الصنائع الخاصة بالإنسان في الاكتساب يدخلها الحظ ، ولا تناقض في هذا ، فإن جهة الأمر بلا حظ غير وجه الحظ ; فيؤمر انتدابا أن يقوم به لحظ ، ثم يبذل له الحظ في موطن ضرورة أو غير ضرورة ، حين لا يكون ثم قائم بالانتداب ، وأصل ذلك في والي مال اليتيم قوله تعالى : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ النساء : 6 ] .

وانظر ما قاله العلماء في أجرة القسام والناظر في الأحباس والصدقات الجارية ، وتعليم العلوم على تنوعها ; ففي ذلك ما يوضح هذا القسم .
[ ص: 314 ] المسألة الرابعة

ما فيه حظ العبد محضا - من المأذون فيه - يتأتى تخليصه من الحظ ; فيكون العمل فيه لله تعالى خالصا ; فإنه من قبيل ما أذن فيه أو أمر به ، فإذا تلقى الإذن بالقبول من حيث كان المأذون فيه هدية من الله للعبد ; صار مجردا من الحظ ، كما أنه إذا لبى الطلب بالامتثال من غير مراعاة لما سواه تجرد عن الحظ ، وإذا تجرد من الحظ ساوى ما لا عوض عليه شرعا من القسم الأول الذي لا حظ فيه للمكلف .

وإذا كان كذلك ; فهل يلحق به في الحكم لما صار ملحقا به في القصد ؟ هذا مما ينظر فيه ، ويحتمل وجهين من النظر :

[ ص: 315 ] أحدهما : أن يقال : إنه يرجع في الحكم إلى ما ساواه في القصد ; لأن قسم الحظ هنا قد صار عين القسم الأول بالقصد ، وهو القيام بعبادة من العبادات مختصة بالخلق في إصلاح أقواتهم ومعايشهم ، أو صار صاحبه على حظ من منافع الخلق يشبه الخزان على أموال بيوت الأموال والعمال في أموال الخلق ، فكما لا ينبغي لصاحب القسم الأول أن يقبل من أحد هدية ولا عوضا على ما ولي عليه ولا على ما تعبد به ; كذلك هاهنا لا ينبغي له أن يزيد على مقدار حاجته يقتطعه من تحت يده ; كما يقتطع الوالي ما يحتاج إليه من تحت يده بالمعروف ، وما سوى ذلك يبذله من غير عوض ; إما بهدية ، أو صدقة ، أو إرفاق ، أو إعراء ، أو ما أشبه ذلك ، أو يعد نفسه في الأخذ كالغير يأخذ الغير ; لأنه لما صار كالوكيل على غيره والقيم بمصالحه عد نفسه مثل ذلك الغير ; لأنها نفس مطلوب إحياؤها على الجملة .

ومثل هذا محكي التزامه عن كثير من الفضلاء ، بل هو محكي عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ; فإنهم كانوا في الاكتساب ماهرين ودائبين ومتابعين لأنواع الاكتسابات ، لكن لا ليدخروا لأنفسهم ، ولا ليحتجنوا [ ص: 316 ] أموالهم ، بل لينفقوها في سبيل الخيرات ، ومكارم الأخلاق ، وما ندب الشرع إليه ، وما حسنته العوائد الشرعية ; فكانوا في أموالهم كالولاة على بيوت الأموال ، وهم في كل ذلك على درجات حسبما تنصه أخبارهم ; فهذا وجه يقتضي أنهم لما صاروا عاملين لغير حظ ، عاملوا هذه الأعمال معاملة ما لا حظ فيه البتة .

ويدل على أن هذا مراعى على الجملة وإن قلنا بثبوت الحظ ; أن طلب الإنسان لحظه حيث أذن له لا بد فيه من مراعاة حق الله وحق المخلوقين ، فإن طلب الحاجة إذا كان مقيدا بوجود الشروط الشرعية ، وانتفاء الموانع الشرعية ووجود الأسباب الشرعية على الإطلاق والعموم ، وهذا كله لا حظ فيه للمكلف من حيث هو مطلوب به ; فقد خرج في نفسه عن مقتضى حظه ، ثم إن معاملة الغير في طريق حظ النفس تقتضي ما أمر به من الإحسان إليه في المعاملة ، والمسامحة في المكيال والميزان ، والنصيحة على الإطلاق ، وترك الغش كله ، وترك المغابنة غبنا يتجاوز الحد المشروع ، وأن لا تكون المعاملة عونا له على ما يكره شرعا فيكون طريقا إلى الإثم والعدوان ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تعود على طالب حظه بحظ أصلا ; فقد آل الأمر في طلب الحظ إلى عدم الحظ .

هذا والإنسان بعد في طلب حظه قصدا ; فكيف إذا تجرد عن حظه في أعماله ؟ فكما لا يجوز له أخذ عوض على تحري المشروع في الأعمال ، لا [ ص: 317 ] بالنسبة إلى العبادات ولا إلى العادات ، وهو مجمع عليه ; فكذلك فيما صار بالقصد كذلك .

وأيضا ; فإن فرض هذا القصد لا يتصور مع فرض طلب الحظ ، وإذا كان كذلك ; فهي داخلة في حكم ما لا يتم الواجب إلا به ، فإن ثبت أنه مطلوب بما يقتضي سلب الحظ ، فهو مطلوب بما لا يتم ذلك المطلوب إلا به ، سواء علينا أقلنا : إنه مطلوب به طلبا شرعيا ، أم لا ، فحكمه على الجملة لا يعدو أن يكون حكم ما ليس فيه حظ البتة ، وهذا ظاهر ; فالشارع قد طلب النصيحة مثلا طلبا جازما ، بحيث جعله الشارع عمدة الدين بقوله - صلى الله عليه وسلم - : الدين النصيحة ، وتوعد [ ص: 318 ] على تركه في مواضع ، فلو فرضنا توقفها على العوض أو حظ عاجل ; لكانت موقوفة على اختيار الناصح والمنصوح ، وذلك يؤدي إلى أن لا يكون طلبها جازما .

وأيضا الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله ; فكونه معمولا به على عوض لا [ ص: 319 ] يتصور أن يكون إيثارا ; لأن معنى الإيثار تقديم حظ الغير على حظ النفس ، وذلك لا يكون مع طلب العوض العاجل ، وهكذا سائر المطلوبات العادية والعبادية ، فهذا وجه نظري في المسألة ، يمكن القول بمقتضاه .

والوجه الثاني أن يقال : إنه يرجع في الحكم إلى أصله من الحظ ، لأن الشارع قد أثبت لهذا العامل حظه في عمله ، وجعله المقدم على غيره ، حتى إنه إن أراد أن يستبد بجميعه كان سائغا ، وكان له أن يدخره لنفسه ، أو يبذله لمصلحة نفسه في الدنيا أو في الآخرة ; فهي هدية الله إليه ، فكيف لا يقبلها ؟ وهو وإن أخذها بالإذن وعلى مقتضى حدود الشرع ، فإنما أخذ ما جعل له فيه حظ ، ومن حيث جعل له ، وبالقصد الذي أبيح له القصد إليه .

وأيضا ; فالحدود الشرعية وإن لم يكن له في العمل بمقتضاها حظ ; فهي وسيلة وطريق إلى حظه ، فكما لم يحكم للمقصد بحكم الوسيلة فيما تقدم قبل هذه المسألة من أخذ الإنسان ما ليس له في العمل به حظ لأنه وسيلة إلى حظه كالمعاوضات ; فكذلك لا يحكم هنا للمأذون فيه من الحظ بحكم ما توسل به إليه .

[ ص: 320 ] وقد وجدنا من السلف الصالح رحمهم الله كثيرا يدخرون الأموال لمصالح أنفسهم ، ويأخذون في التجارة وغيرها بمقدار ما يحتاجون إليه في أنفسهم خاصة ، ثم يرجعون إلى عبادة ربهم حتى إذا نفد ما اكتسبوه عادوا إلى الاكتساب ، ولم يكونوا يتخذون التجارة أو الصناعة عبادة لهم على ذلك الوجه ، بل كانوا يقتصرون على حظوظ أنفسهم ، وإن كانوا إنما يفعلون ذلك من حيث التعفف والقيام بالعبادة ، فذلك لا يخرجهم عن زمرة الطالبين لحظوظهم .

وما ذكر أولا عن السلف الصالح ليس بمتعين فيما تقدم ; لصحة حمله على أن المقصود بذلك التصرف حظوظ أنفسهم من حيث أثبتها الشارع لهم فيعملون في دنياهم على حسب ما يسعهم من الحظوظ ، ويعملون في أخراهم كذلك ، فالجميع مبني على إثبات الحظوظ ، وهو المطلوب ، وإنما الغرض أن تكون الحظوظ مأخوذة من جهة مما حد الشارع من غير تعد يقع في طريقها .

وأيضا ; فإنما حدت الحدود في طريق الحظ أن لا يخل الإنسان بمصلحة غيره فيتعدى ذلك إلى مصلحة نفسه ، فإن الشارع لم يضع تلك الحدود إلا لتجري المصالح على أقوم سبيل بالنسبة إلى كل أحد في نفسه ، ولذلك قال تعالى : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ فصلت : 46 ] ، وذلك عام في أعمال الدنيا والآخرة .

[ ص: 321 ] وقال : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه [ الفتح : 10 ] .

وفي أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكر الظلم وتحريمه : يا عبادي ! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها .

ولا يختص مثل هذ بالآخرة دون الدنيا ، ولذلك كانت المصائب النازلة بالإنسان بسبب ذنوبه ، لقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ الشورى : 30 ] .

وقال : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ البقرة : 194 ] .

والأدلة على هذا تفوت الحصر ; فالإنسان لا ينفك عن طلبه حظه في هذه الأمور التي هي طريق إلى نيل حظه ، وإذا ثبت هذا تبين أن هذا القسم لا يساوي الأول في امتناع الحظوظ العاجلة جملة .

وقد يمكن الجمع بين الطريقين ، وذلك أن الناس في أخذ حظوظهم على مراتب :

منهم من لا يأخذها إلا بغير تسببه ; فيعمل العمل أو يكتسب الشيء فيكون فيه وكيلا على التفرقة على خلق الله بحسب ما قدر ، ولا يدخر لنفسه من [ ص: 322 ] ذلك شيئا ; بل لا يجعل من ذلك حظا لنفسه من الحظوظ ; إما لعدم تذكره لنفسه لاطراح حظها حتى يصير عنده من قبيل ما ينسى ، وإما قوة يقين بالله ; لأنه عالم به وبيده ملكوت السماوات والأرض وهو حسبه فلا يخيبه ، أو عدم التفات إلى حظه يقينا بأن رزقه على الله فهو الناظر له بأحسن مما ينظر لنفسه ، أو أنفة من الالتفات إلى حظه مع حق الله تعالى ، أو لغير ذلك من المقاصد الواردة على أصحاب الأحوال ، وفي مثل هؤلاء جاء : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ الحشر : 9 ] .

وقد نقل عن عائشة رضي الله عنها أن ابن الزبير بعث لها بمال في غرارتين - قال الراوي : أراه ثمانين ومائة ألف ، فدعت بطبق وهى يومئذ صائمة ، فجعلت تقسمه بين الناس ، فأمست وما عندها من ذلك درهم ، فلما أمست قالت : " يا جارية هلمي أفطري " ، فجاءتها بخبز وزيت . فقيل لها أما استطعت فيما قسمت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه ؟ فقالت : لا تعنيني ، لو كنت ذكرتني لفعلت .

وخرج مالك أن مسكينا سأل عائشة وهى صائمة وليس في بيتها إلا رغيف ; فقالت لمولاة لها : اعطيه إياه . فقالت : ليس لك ما تفطرين عليه . فقالت : اعطيه إياه . قالت : ففعلت . [ قالت ] : فما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان [ ص: 323 ] - ما [ كان ] يهدي لنا شاة - وكفنها ; فدعتني عائشة ، فقالت : كلي من هذا . هذا خير من قرصك .

وروى عنها أنها قسمت سبعين ألفا وهي ترقع ثوبها ، وباعت ما لها بمائة ألف وقسمته ، ثم أفطرت على خبز الشعير ، وهذا يشبه الوالي على بعض المملكة ، فلا يأخذ إلا من الملك ، لأنه قام له اليقين بقسم الله وتدبيره مقام تدبيره لنفسه ، ولا اعتراض على هذا المقام بما تقدم ، فإن صاحبه يرى تدبير الله له خيرا من تدبيره لنفسه ، فإذا دبر لنفسه انحط عن رتبته إلى ما هو دونها ، [ ص: 324 ] وهؤلاء هم أرباب الأحوال .

ومنهم من يعد نفسه كالوكيل على مال اليتيم ; إن استغنى استعف ، وإن احتاج أكل بالمعروف ، وما عدا ذلك صرفه كما يصرف مال اليتيم في منافعه ; فقد يكون في الحال غنيا عنه ; فينفقه حيث يجب الإنفاق ، ويمسكه حيث يجب الإمساك ، وإن احتاج أخذ منه مقدار كفايته بحسب ما أذن له من غير إسراف ولا إقتار ، وهذا أيضا براءة من الحظوظ في ذلك الاكتساب ; فإنه لو أخذ بحظه لحابى نفسه دون غيره ، وهو لم يفعل ، بل جعل نفسه كآحاد الخلق ، فكأنه قسام في الخلق يعد نفسه واحدا منهم .

وفي الصحيح عن أبي موسى ; قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة ، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد ; فهم مني وأنا منهم .

[ ص: 325 ] وفي حديث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هذا ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل في مغازيه من هذا ما هو مشهور ، فالإيثار بالحظوظ محمود غير مضاد لقوله عليه الصلاة والسلام : ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ، [ ص: 326 ] بل يحمل على الاستقامة في حالتين .

فهؤلاء والذين قبلهم لم يقيدوا أنفسهم بالحظوظ العاجلة ، وما أخذوا لأنفسهم لا يعد سعيا في حظ ; إذ للقصد إليه أثر ظاهر ، وهو أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره ، ولم يفعل هنا ذلك ، بل آثر غيره على نفسه ، أو سوى نفسه مع غيره ، وإذا ثبت ذلك كان هؤلاء برءاء من الحظوظ ، كأنهم عدوا أنفسهم بمنزلة من لم يجعل له حظ ، وتجدهم في الإجارات والتجارات لا يأخذون إلا بأقل ما يكون من الربح أو الأجرة ، حتى يكون ما حاول أحدهم من ذلك كسبا لغيره لا له ، ولذلك بالغوا في النصيحة فوق ما يلزمهم ; لأنهم كانوا وكلاء للناس لا لأنفسهم ; فأين الحظ هنا ؟ بل كانوا يرون المحاباة لأنفسهم وإن جازت كالغش لغيرهم ; فلا شك أن هؤلاء لاحقون حكما بالقسم الأول ، بإلزامهم أنفسهم لا باللزوم الشرعي الواجب ابتداء .

ومنهم من لم يبلغ مبلغ هؤلاء ، بل أخذوا ما أذن لهم فيه من حيث الإذن ، وامتنعوا مما منعوا منه ، واقتصروا على الإنفاق في كل ما لهم إليه حاجة ; [ ص: 327 ] فمثل هؤلاء بالاعتبار المتقدم أهل حظوظ ، لكن مأخوذة من حيث يصح أخذها ، فإن قيل في مثل هذا : إنه تجرد عن الحظ ، فإنما يقال من جهة أنهم لم يأخذوها بمجرد أهوائهم تحرزا ممن يأخذها غير ملاحظ للأمر والنهي ، وهذا هو الحظ المذموم ، إذ لم يقف دون ما حد له ، بل تجرأ كالبهيمة لا تعرف غير المشي في شهواتها ، ولا كلام في هذا ، وإنما الكلام في الأول ، وهو لم يتصرف إلا لنفسه ، فلا يجعل في حكم الوالي على المصالح العامة على المسلمين ، بل هو وال على مصلحة نفسه ، وهو من هذا الوجه ليس بوال عام ، والولاية العامة هي المبرأة من الحظوظ ، فالصواب والله أعلم أن أهل هذا القسم معاملون حكما بما قصدوا من استيفاء الحظوظ ; فيجوز لهم ذلك بخلاف القسمين الأولين ، وهما من لا يأخذ بتسبب أو يأخذ به ، لكن على نسبة القسمة ونحوها .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 238.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 232.34 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (2.47%)]