|
|||||||
| هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ فصلت الحلقة (1211) صــ 431 الى صــ 440 حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) قال: لو زَكَّوا وهم مشركون لم ينفعهم. والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: معناه: لا يؤدّون زكاة أموالهم; وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة، وأن في قوله: (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) دليلا على أن ذلك كذلك، لأن الكفار الذين عنوا بهذه الآية كانوا لا يشهدون أن لا إله إلا الله، فلو كان قوله: (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) مرادا به الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله لم يكن لقوله: (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) معنى، لأنه معلوم أن من لا يشهد أن لا إله إلا الله لا يؤمن بالآخرة، وفي إتباع الله قوله: (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) قوله (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) ما ينبئ عن أن الزكاة في هذا الموضع معنيّ بها زكاة الأموال. وقوله: (وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) يقول: وهم بقيام الساعة، وبعث الله خلقه أحياء من قبورهم، من بعد بلائهم وفنائهم منكرون. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) } يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بما أمرهم الله به ورسوله، وانتهوا عما نهاهم عنه، وذلك هو الصالحات من الأعمال. (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول: لمن فعل ذلك أجر غير منقوص عما وعدهم أن يأجرهم عليه. وقد اختلف في تأويل ذلك أهل التأويل، وقد بيَّناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال بعضهم: غير منقوص. وقال بعضهم: غير ممنون عليهم. حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يقول: غير منقوص. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، قوله: (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال: محسوب. وقوله: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) وذلك يوم الأحد ويوم الاثنين; وبذلك جاءت الأخبار عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقالته العلماء، وقد ذكرنا كثيرا من ذلك فيما مضى قبل، ونذكر بعض ما لم نذكره قبل إن شاء الله. * ذكر بعض ما لم نذكره فيما مضى من الأخبار بذلك: حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال هناد: قرأت سائر الحديث على أبي بكر "أن اليهود أتت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فسألته عن خلق السموات والأرض، قال:" خَلَقَ اللهُ الأرْضَ يَوْمَ الأحَد وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الجِبَالَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ وَما فِيهِنَّ مِنْ مَنَافِعَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الأرْبَعاء الشَّجَرَ وَالمَاءَ وَالمَدَائِنَ وَالعُمْرَانَ والخَرَابَ، فَهَذِهِ أرْبَعَةٌ، ثُمَّ قال: أئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدَادًا، ذلك رَبُّ العَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبَارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أقْوَاتَهَا في أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً للسَّائِلِينَ لِمَنْ سأل. قالَ: وَخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الجُمْعَةِ النُّجُومَ والشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالمَلائِكَةَ إلَى ثَلاثِ سَاعَاتٍ بَقِيَتْ مِنْهُ فَخَلَقَ فِي أَوَّلِ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ الآجَالِ حِينَ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ، وفِي الثَّانِيَةِ ألْقَى الآفَةَ على كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ وَأَسْكَنَهُ الجَنَّةَ، وَأَمَرَ إبْلِيسَ بالسُّجُودِ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ "قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال:" ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ "، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا: ثم استراح; فغضب النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم غضبا شديدا، فنزل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) ." حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن غالب بن غلاب، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: إن الله خلق يوما واحدا فسماه الأحد، ثم خلق ثانيا فسماه الإثنين، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسا فسماه الخميس; قال: فخلق الأرض في يومين: الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، فذلك قول الناس: هو يوم ثقيل، وخلق مواضع الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحوش والهوامّ والسباع يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، ففرغ من خلق كلّ شيء يوم الجمعة. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) في الأحد والإثنين. وقد قيل غير ذلك. وذلك ما حدثني القاسم بن بشر بن معروف والحسين بن علي قالا ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بيدي فقال: "خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيها الجِبالَ يَوْمَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ،" وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأرْبَعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابّ يوم الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ آخِرِ خَلْق في آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ ساعاتِ الجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ "." وقوله: (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا) يقول: وتجعلون لمن خلق ذلك كذلك أندادا، وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله، وقد بيَّنا معنى الندّ بشواهده فيما مضى قبل. وقوله: (ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) يقول: الذي فعل هذا الفعل، وخلق الأرض في يومين، مالك جميع الجن والإنس، وسائر أجناس الخلق، وكل ما دونه مملوك له، فكيف يجوز أن يكون له ندّ؟! هل يكون المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء ندّا لمالكه القادر عليه؟. القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) } يقول تعالى ذكره: وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالا رواسي، وهي الثوابت في الأرض من فوقها، يعني: من فوق الأرض على ظهرها. وقوله: (وَبَارَكَ فِيهَا) يقول: وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها. وقد ذُكر عن السديّ في ذلك ما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ: (وَبَارَكَ فِيهَا) قال: أنبت شجرها. (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) اختلف أهل التأويل في ذلك، فقال بعضهم: وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: أرزاقها. حدثني موسى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: قدر فيها أرزاق العباد، ذلك الأقوات. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) يقول: أقواتها لأهلها. وقال آخرون: بل معناه: وقدر فيها ما يصلحها. * ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن خليد بن دعلج، عن قتادة، قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: صلاحها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) : خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها، وساكنها من الدواب كلها. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: جبالها ودوابها وأنهارها وبحارها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر فيها أقواتها من المطر. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: من المطر. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الآخر منها لمعاش، بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة. * ذكر من قال ذلك: حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: ثنا أبو محصن، قال: ثنا حسين، عن عكرمة، في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: اليمانيّ باليمن، والسابريّ بسابور. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا أبو محصن، عن حصين، قال: قال عكرمة (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) اليمانية باليمن، والسابرية بسابور، وأشباه هذا. حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت حصينا عن عكرمة في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: في كل أرض قوت لا يصلح في غيرها، اليماني باليمن، والسابري بسابور. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: البلد يكون فيه القوت أو الشيء لا يكون لغيره، ألا ترى أن السابري إنما يكون بسابور، وأن العصب إنما يكون باليمن ونحو ذلك. حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثنا ابن عبد الواحد بن زياد، عن خصيف، عن مجاهد، في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: السابريّ بسابور، والطيالسة من الريّ. حدثني إسماعيل، قال: ثنا أبو النضر صاحب البصري، قال: ثنا أبو عوانة، عن مطرف، عن الضحاك في قوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: السابريّ بسابور، والطيالسة من الريّ. فى قوله (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) قال: السابريّ من سابور، والطيالسة من الريّ، والحِبَر من اليمن. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها، وذلك ما يقوتهم من الغذاء، ويصلحهم من المعاش، ولم يخصص جلّ ثناؤه بقوله (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) أنه قَدّر فيها قوتا دون قوت، بل عم الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات، ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء، وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرّف في البلاد لما خصّ به بعضا دون بعض، ومما أخرج من الجبال من الجواهر، ومن البحر من المآكل والحليّ، ولا قول في ذلك أصح مما قال جلّ ثناؤه: قدّر في الأرض أقوات أهلها، لما وصفنا من العلة. وقال جلّ ثناؤه: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا عن ابن عباس، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه فرغ من خلق الأرض وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة أيام، أوّلهنّ يوم الأحد، وآخرهن يوم الأربعاء. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: خلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين، في الثلاثاء والأربعاء. وقال بعض نحويي البصرة: قال. خلق الأرض في يومين، ثم قال في أربعة أيام، لأنه يعني أن هذا مع الأول أربعة أيام، كما تقول: تزوّجت أمس امرأة، واليوم ثنتين، وإحداهما التي تزوّجتها أمس. وقوله: (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض، وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة، وقدّر فيها الأقوات بأهلها، وجَدَهُ كما أخبر الله أربعه أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن منه. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) من سأل عن ذلك وجده، كما قال الله. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) قال: من سأل فهو كما قال الله. حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يقول: من سأل فهكذا الأمر. وقال آخرون: بل معنى ذلك: سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق، فإن الله قد قدّر له من الأقوات في الأرض، على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم. *ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) قال: قدّر ذلك على قدر مسائلهم، يعلم ذلك أنه لا يكون من مسائلهم شيء إلا شيء قد علمه قبل أن يكون. واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء الأمصار غير أبي جعفر والحسن البصري: (سَوَاءً) بالنصب. وقرأه أبو جعفر القارئ: "سَوَاءٌ" بالرفع. وقرأ الحسن: "سَوَاءٍ" بالجر. والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار، وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه، ولصحة معناه. وذلك أن معنى الكلام: قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة، وعلى ما يصلحهم. وقد ذُكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: "وَقَسَّمَ فِيهَا أقْوَاتَهَا" . وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب سواءً، فقال بعض نحويي البصرة: من نصبه جعله مصدرا، كأنه قال: استواء. قال: وقد قرئ بالجر وجعل اسما للمستويات: أي في أربعة أيام تامَّة. وقال بعض نحويي الكوفة: من خفض سواء، جعلها من نعت الأيام، وإن شئت من نعت الأربعة، ومن نصبها جعلها متصلة بالأقوات. قال: وقد ترفع كأنه ابتداء، كأنه قال: ذلك (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يقول: لمن أراد علمه. والصواب من القول في ذلك أن يكون نصبه إذا نصب حالا من الأقوات، إذ كانت سواء قد شبهت بالأسماء النكرة، فقيل: مررت بقوم سواء، فصارت تتبع النكرات، وإذا تبعت النكرات انقطعت من المعارف فنصبت، فقيل: مررت بإخوتك سواء، وقد يجوز أن يكون إذا لم يدخلها تثنية ولا جمع أن تشبه بالمصادر. وأما إذا رُفعت، فإنما ترفع ابتداء بضمير ذلك ونحوه، وإذا جرت فعلى الاتباع للأيام أو للأربعة. وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) يعني تعالى ذكره: ثم استوى إلى السماء، ثم ارتفع إلى السماء. وقد بيَّنا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى قبل. وقوله: (فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) يقول جلّ ثناؤه: فقال الله للسماء والأرض: جيئا بما خلقت فيكما، أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات، وتشقَّقِي عن الأنهار (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) جئنا بما أحدثت فينا من خلقك، مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام، قال: ثنا ابن يمان، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، عن ابن عباس، (فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) قال: قال الله للسموات: أطلعي شمسي وقمري، وأطلعي نجومي، وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، فقالتا: أعطينا طائعين. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس، في قوله (اِئْتِيَا) : أعطيا. وفي قوله: (قَالَتَا أَتَيْنَا) قالتا: أعطينا. وقيل: أتينا طائعين، ولم يقل طائعتين، والسماء والأرض مؤنثتان، لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله (أَتَيْنَا) نظيره كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم، فأجرى قوله (طَائِعِينَ) على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك. وقد كان بعض أهل العربية يقول: ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهنّ. وقال آخرون منهم: قيل ذلك كذلك لأنهما لما تكلمتا أشبهتا الذكور من بني آدم. القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) } يقول تعالى ذكره: ففرغ من خلقهنّ سبع سموات في يومين، وذلك يوم الخميس ويوم الجمعة. كما حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: استوى إلى السماء وهي دخان من تنفس الماء حين تنفس، فجعلها سماء واحدة، ففتقها، فجعلها سبع سموات في يومين، في الخميس والجمعة. وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض. وقوله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) يقول: وألقى في كل سماء من السموات السبع ما أراد من الخلق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ![]()
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ فصلت الحلقة (1212) صــ 441 الى صــ 450 * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) قال: ما أمر الله به وأراده. حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) قال: خلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) : خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وصلاحها. وقوله: (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا) يقول تعالى ذكره: وزيَّنا السماء الدنيا إليكم أيها الناس بالكواكب وهي المصابيح. كما حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ) قال: ثم زين السماء بالكواكب، فجعلها زينة (وَحِفْظًا) من الشياطين. واختلف أهل العربية في وجه نصبه قوله: (وَحِفْظًا) فقال بعض نحويي البصرة: نصب بمعنى: وحفظناها حفظا، كأنه قال: ونحفظها حفظا، لأنه حين قال: "زَيَّنَّاهَا بِمَصَابِيحَ" قد أخبر أنه قد نظر في أمرها وتعهدها، فهذا يدلّ على الحفظ، كأنه قال: وحفظناها حفظا. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: نصب ذلك على معنى: وحفظا زيناها، لأن الواو لو سقطت لكان إنا زينا السماء الدنيا حفظا; وهذا القول الثاني أقرب عندنا للصحة من الأوّل. وقد بيَّنا العلة في نظير ذلك في غير موضع من هذا الكتاب، فأغنى ذلك عن إعادته. وقوله: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصفت لكم من خلقي السماء والأرض وما فيهما، وتزييني السماء الدنيا بزينة الكواكب، على ما بينت تقدير العزيز في نقمته من أعدائه، العليم بسرائر عباده وعلانيتهم، وتدبيرهم على ما فيه صلاحهم. القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) } يقول تعالى ذكره: فإن أعرض هؤلاء المشركون عن هذه الحجة التي بيَّنتها لهم يا محمد، ونبهتهم عليها فلم يؤمنوا بها ولم يقروا أن فاعل ذلك هو الله الذي لا إله غيره، فقل لهم: أنذرتكم أيها الناس صاعقة تهلككم مثل صاعقة عاد وثمود. وقد بيَّنا فيما مضى أن معنى الصاعقة: كلّ ما أفسد الشيء وغيره عن هيئته. وقيل في هذا الموضع عنى بها وقيعة من الله وعذاب. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) قال: يقول: أنذرتكم وقيعة عاد وثمود، قال: عذاب مثل عذاب عاد وثمود. وقوله: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يقول: فقل: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقه عاد وثمود التي أهلكتهم، إذ جاءت عادا وثمود الرسل من بين أيديهم; فقوله "إذ" من صلة صاعقة. وعنى بقوله: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الرسل التي أتت آباء الذين هلكوا بالصاعقة من هاتين الأمتين. وعنى بقوله: (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) : من خلف الرسل الذين بعثوا إلى آبائهم رسلا إليهم، وذلك أن الله بعث إلى عاد هودا، فكذبوه من بعد رسل قد كانت تقدمته إلى آبائهم أيضا، فكذبوهم، فأهلكوا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا) ... إلى قوله: (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) قال: الرسل التي كانت قبل هود، والرسل الذين كانوا بعده، بعث الله قبله رسلا وبعث من بعده رسلا. وقوله: (أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ) يقول تعالى ذكره: جاءتهم الرسل بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له. قالوا: (لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً) يقول جل ثناؤه: فقالوا لرسلهم إذ دعوهم إلى الإقرار بتوحيد الله: لو شاء ربنا أن نوحده، ولا نعبد من دونه شيئا غيره، لأنزل إلينا ملائكة من السماء رسلا بما تدعوننا أنتم إليه، ولم يرسلكم وأنتم بشر مثلنا، ولكنه رضي عبادتنا ما نعبد، فلذلك لم يرسل إلينا بالنهي عن ذلك ملائكة. وقوله: (فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) يقول: قال لرسلهم: فإنا بالذي أرسلكم به ربكم إلينا جاحدون غير مصدّقين به. القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) } يقول تعالى ذكره: (فَأَمَّا عَادٌ) قوم هود (فَاسْتَكْبَرُوا) على ربهم وتجبروا (فِي الأرْضِ) تكبرا وعتوّا بغير ما أذن الله لهم به (وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ) وأعطاهم ما أعطاهم من عظم الخلق، وشدة البطش (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فيحذروا عقابه، ويتقوا سطوته لكفرهم به، وتكذيبهم رسله. يقول: وكانوا بأدلتنا وحججنا عليهم يجحدون. القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) } يقول تعالى ذكره: فأرسلنا على عاد ريحا صرصرا. واختلف أهل التأويل في معنى الصرصر، فقال بعضهم: عني بذلك أنها ريح شديدة. * ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: شديدة. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (رِيحًا صَرْصَرًا) شديدة السَّموم عليهم. وقال آخرون: بل عنى بها أنها باردة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا) قال: الصرصر: الباردة. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: باردة. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (رِيحًا صَرْصَرًا) قال: باردة ذات الصوت. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت. الضحاك يقول، في قوله: (رِيحًا صَرْصَرًا) يقول: ريحا فيها برد شديد. وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد، وذلك أن قوله: (صَرْصَرًا) إنما هو صوت الريح إذا هبت بشدة، فسمع لها كقول القائل: صرر، ثم جعل ذلك من أجل التضعيف الذي في الراء، فقال ثم أبدلت إحدى الراءات صادا لكثرة الراءات، كما قيل في ردده: ردرده، وفي نههه: نهنهه، كما قال رؤبة? فالْيَوْمَ قَدْ تُنَهْنِهُني ... وَأَوَّلُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالْمُسَفَّهِ (1) وكما قيل في كففه: كفكفه، كما قال النابغة? أُكَفكِفُ عَبْرَةً غَلَبَتْ عُدَاتِي ... إذَا نَهْنَهْتُهَا عادَت ذُباحا (2) وقد قيل: إن النهر الذي يسمى صرصرا، إنما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه، وإنه "فعلل" من صرر نظير الريح الصرصر. (1) البيتان في ديوانه (طبع ليبسج 166) وهما أل (19، 20) ونهنهني زجرني وكفنى. يقول هذا بعد أن كبر وضعف. والأول: الرجوع. والحلم العقل. والسفه: المنسوب إلى السفه. يقول: كنت أستجيب لدواعي الصبا ما دمت شابا، أما اليوم وقد علتني كبرة، ورجع إلى ما عزب من عقلي، فقد كفني عن الطيش حلمي وعقلى، فلا أفعل ما كنت أفعل في الشباب. (2) نسب المؤلف البيت إلى النابغة، ولم أجده في الديوان ولا في شروحه المختلفة. ومعنى أكفكف العبرة: أردها. وقوله غلبت عداتي: أي أنهم كانوا حراصا على أن أبكي بما يسيئون إلى، فغلبتهم عبرتي التي حبستها، ونهنهتها: كففتها ورددتها. وذباحا: ذبحا. ذبحا. يريد أنه حبس عبرته، وكان حبسها كالذبح من شدة الألم لأن البكاء يخفف ما يضطرم في النفس من ألم وغيظ ونحوه. والبيت عند المؤلف شاهد على أن كفكف ونهنه وصرصر ونحوها من الفعل الرباعي المضعف: أصلها: كفف ونهه وصرر، فلما اجتمع فيه ثلاث أحرف أمثال، أبدلت إحدى الراءات من نوع فاء الكلمة. وهذا مذهب لبعض النحويين الكوفيين، والله أعلم. وقوله: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) اختلف أهل التأويل في تأويل النحسات، فقال بعضهم: عني بها المتتابعات. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: أيام متتابعات أنزل الله فيهن العذاب. وقال آخرون: عني بذلك المشائيم. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: مشائيم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) أيام والله كانت مشئومات على القوم. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: النحسات: المشئومات النكدات. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: أيام مشئومات عليهم. وقال آخرون: معنى ذلك: أيام ذات شر. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله: (أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: النحس: الشر; أرسل عليهم ريح شر ليس فيها من الخير شيء. وقال آخرون: النحسات: الشداد. * ذكر من قال ذلك: حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) قال: شداد. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بها: أيام مشائيم ذات نحوس، لأن ذلك هو المعروف من معنى النحس في كلام العرب. وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقراته عامة قراء الأمصار غير نافع وأبي عمرو (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) بكسر الحاء، وقرأه نافع وأبو عمرو: "نَحْسَاتٍ" بسكون الحاء. وكان أبو عمرو فيما ذكر لنا عنه يحتج لتسكينه الحاء بقوله: (يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) وأن الحاء فيه ساكنة. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما قرّاء علماء مع اتفاق معنييهما، وذلك أن تحريك الحاء وتسكينها في ذلك لغتان معروفتان، يقال هذا يوم نحْس، ويوم نَحِس، بكسر الحاء وسكونها; قال الفرّاء: أنشدني بعض العرب? أبْلِغْ جُذَاما وَلَخْما أنَّ إخْوَتَهُمْ ... طَيَّا وَبَهْرَاءَ قَوْمٌ نَصْرُهُمْ نَحِسُ (1) وأما من السكون فقول الله (يَوْمِ نَحْسٍ) ; منه قول الراجز? يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْما شَمْسا ... نَجْمَيْنِ بالسَّعْدِ وَنَجْما نَحْسا (2) (1) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 289) عند قوله تعالى: "في أيام نحسات" . قال: العوام على تثقيلها بكسر الحاء. وقد خفف بعض أهل المدينة (بسكون الحاء) . قال وقد سمعت بعض العرب ينشد: "أبلغ جذاما ... البيت" فهذا لمن ثقل. ومن خفف بناه على قوله "في يوم نحس مستمر" وفي (اللسان: نحس) وقرأ أبو عمرو: "فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات" بسكون الحاء. قال الأزهري: هي جمع أيام نحسة ثم جمع الجمع (بسكون الحاء فيهما) . وقرأت في أيام نحسات (بكسر الحاء) وهي المشؤمات عليهم في الوجهين. اهـ. (2) البيتان من مشطور الرجز، ولم نعرف قائلهما. واستشهد المؤلف بهما على أن النحس فيه لغتان: سكون الحاء، كهذا البيت وكسرها كالشاهد الذي قبله. وعلى هاتين اللغتين جاءت قراءة من قرأ قوله تعالى: "في أيام نحسات" وقد سبق القول عليه في الشاهد السابق. فمن كان في لغته: "يوْمٌ نَحْسٌ" قال: "في أيَّامٍ نَحْساتٍ" ، ومن كان في لغته: (يَوْمِ نَحْسٍ) قال: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) ، وقد قال بعضهم: النحْس بسكون الحاء: هو الشؤم نفسه، وإن إضافة اليوم إلى النحس، إنما هو إضافة إلى الشوم، وإن النحِس بكسر الحاء نعت لليوم بأنه مشئوم، ولذلك قيل: (فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ) لأنها أيام مشائيم. وقوله: (لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يقول جل ثناؤه: ولعذابنا إياهم في الآخرة أخزى لهم وأشد إهانة وإذلالا. يقول: وهم يعني عادا لا ينصرهم من الله يوم القيامة إذا عذبهم ناصر، فينقذهم منه، أو ينتصر لهم. القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) } يقول تعالى ذكره: فبينا لهم سبيل الحق وطريق الرشد. كما حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) : أي بيَّنا لهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) بينا لهم سبيل الخير والشرّ. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) بينا لهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) قال: أعلمناهم الهدى والضلالة، ونهيناهم أن يتبعوا الضلالة، وأمرناهم أن يتبعوا الهدى. وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله: (ثَمُودُ) فقرأته عامة القراء من الأمصار غير الأعمش وعبد الله بن أبي إسحاق برفع ثمود، وترك إجرائها على أنها اسم للأمة التي تعرف بذلك. وأما الأعمش فإنه ذكر عنه أنه كان يجري ذلك في القرآن كله إلا في قوله: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) فإنه كان لا يجريه في هذا الموضع خاصة من أجل أنه في خطّ المصحف في هذا الموضع بغير ألف، وكان يوجه ثمود إلى أنه اسم رجل بعينه معروف، أو اسم جيل معروف. وأما ابن إسحاق فإنه كان يقرؤه نصبا. وأما ثمود بغير إجراء، وذلك وإن كان له في العربية وجه معروف، فإن أفصحَ منه وأصحّ في الإعراب عند أهل العربية الرفع لطلب أما الأسماء وأن الأفعال لا تليها، وإنما تعمل العرب الأفعال التي بعد الأسماء فيها إذا حسن تقديمها قبلها والفعل في أما لا يحسن تقديمه قبل الاسم; ألا ترى أنه لا يقال: وأما هدينا فثمود، كما يقال: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) . والصواب من القراءة في ذلك عندنا الرفع وترك الإجراء; أما الرفع فلما وصفت، وأما ترك الإجراء فلأنه اسم للأمة. وقوله: (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) يقول: فاختاروا العمى على البيان الذي بينت لهم، والهدى الذي عرفتهم، بأخذهم طريق الضلال على الهدى، يعني على البيان الذي بينه لهم، من توحيد الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط. عن السديّ (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) قال: اختاروا الضلالة والعمى على الهدى. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) قال: أرسل الله إليهم الرسل بالهدى فاستحبوا العمى على الهدى. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى) يقول: بينا لهم، فاستحبوا العمى على الهدى. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) قال: استحبوا الضلالة على الهدى، وقرأ: و (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) ... إلى آخر الآية، قال: فزين لثمود عملها القبيح، وقرأ: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) ... إلى آخر الآية. وقوله: (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يقول: فأهلكتهم من العذاب المذل المهين لهم مهلكة أذلتهم وأخزتهم; والهون: هو الهوان. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (عَذَابَ الْهُونِ) قال: الهوان. وقوله: (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) من الآثام بكفرهم بالله قبل ذلك، وخلافهم إياه، وتكذيبهم رسله. وقوله: (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) يقول: ونجينا الذين آمنوا من العذاب الذي أخذهم بكفرهم بالله، الذين وحدوا الله، وصدقوا رسله. يقول: وكانوا يخافون الله أن يحل بهم من العقوبة على كفرهم لو كفروا ما حل بالذين هلكوا منهم، فآمنوا اتقاء الله وخوف وعيده، وصدقوا رسله، وخلعوا الآلهة والأنداد. القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) } ![]()
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ فصلت الحلقة (1213) صــ 451 الى صــ 460 يقول تعالى ذكره: ويوم يجمع هؤلاء المشركون أعداء الله إلى النار، إلى نار جهنم، فهم يحبس أولهم على آخرهم. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال: يحبس أوّلهم على آخرهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَهُمْ يُوزَعُونَ) قال: عليهم وزعة تردّ أولاهم على أُخراهم. وقوله: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ) يقول: حتى إذا ما جاءوا النار شهد عليهم سمعهم بما كانوا يصغون به في الدنيا إليه، ويسمعون له، وأبصارهم بما كانوا ينظرون إليه في الدنيا (وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) . وقد قيل: عني بالجلود في هذا الموضع: الفروج. * ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن الحكم الثقفي، رجل من آل أبي عقيل رفع الحديث، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) إنما عني فروجهم، ولكن كني عنها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا حرملة، أنه سمع عبيد الله بن أبي جعفر، يقول (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) قال: جلودهم: الفروج. وهذا القول الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه في معنى الجلود، وإن كان معنى يحتمله التأويل، فليس بالأغلب على معنى الجلود ولا بالأشهر، وغير جائز نقل معنى ذلك المعروف على الشيء الأقرب إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها. القول في تأويل قوله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين يحشرون إلى النار من أعداء الله سبحانه لجلودهم إذ شهدت عليهم بما كانوا في الدنيا يعملون: لم شهدتم علينا بما كنا نعمل في الدنيا؟. فأجابتهم جلودهم: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فنطقنا; وذكر أن هذه الجوارح تشهد على أهلها عند استشهاد الله إياها عليهم إذا هم أنكروا الأفعال التي كانوا فعلوها في الدنيا بما سخط الله، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. * ذكر الأخبار التي رُويت عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: حدثنا أحمد بن حازم الغفاريّ، قال: أخبرنا عليّ بن قادم الفزاري، قال: أخبرنا شريك، عن عبيد المُكْتِب، عن الشعبيّ، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ذات يوم حتى بدت نواجذه، ثم قال: "ألا تَسْأَلُونِي ممَّ ضَحِكْتُ؟" قالوا: ممّ ضحكتَ يا رسول الله؟ قال: "عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ العَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ! قال: يقُولُ: يا رَبّ ألَيْسَ وَعَدْتَنِي أنْ لا تَظْلِمَنِي؟ قالَ: فإنَّ لكَ ذلكَ، قال: فإنّي لا أقْبَلُ عليَّ شاهدًا إلا مِنْ نَفْسِي، قالَ: أوَلَيْس كفَى بِي شَهِيدًا، وَبالمَلائِكَةِ الكرَام الكاتبين؟ قالَ فَيُخْتمُ عَلى فِيه، وَتَتَكَلَّمُ أرْكانُهُ بِمَا كانَ يَعْمَلُ، قالَ: فَيَقُولُ لَهُنَّ: بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقنا، عَنْكُنَّ كُنْتُ أُجادِلُ" . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عبيد المكتب، عن فضيل بن عمرو، عن الشعبي، عن أنس، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه. حدثني عباس بن أبي طالب، قال: ثنا يحيى بن أبي بكر، عن شبل، قال: سمعت أبا قزعة يحدّث عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال، وأشار بيده إلى الشأم، قال: "هاهُنا إلى هاهُنا تحْشَرُونَ رُكْبانا وَمُشاةً على وُجُوهِكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، على أفْوَاهِكُمْ الفِدامُ، تُوَقُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أنْتُمْ آخِرُها وأكْرَمُها على الله، وإن أوَّلَ ما يُعْرِبُ مِنْ أحَدِكُمْ فَخِذُهُ" . حدثنا مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا الحريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: وتَجِيئُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ على أفْوَاهِكُمْ الفِدامُ، وإنَّ أوَّلَ ما يَتَكَلَّمُ مِنَ الآدَمِيّ فَخِذُهُ وكَفُّهُ "." حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن بمز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم "ما لي أُمْسكُ بحُجَزِكُمْ مِنَ النَّارِ؟ ألا إن رَبِّي داعيَّ وإنَّهُ سائِلي هَلْ بَلَّغْت عِبادَهُ؟ وإنّي قائِلٌ: رَبّ قَدْ بَلَّغْتُهُمْ، فَيُبَلِّغَ شاهدُكُمْ غائِبَكُمْ، ثُمَّ إنَّكُمْ مُدَّعُونَ مُفَدَّمَةً أفْوَاهُكُمْ بالفِدامِ، ثُمَّ إنَّ أوَّل ما يُبِينُ عَنْ أَحْدِكَمْ لفَخِذُهُ وكَفُّهُ" . حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا الهيثم بن خارجة، عن إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زُرْعة، عن شريح بن عبيد، عن عقبة، سمع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "إنَّ أوَّل عَظْمٍ تَكَلَّمَ مِنَ الإنْسانِ يَوْمَ يخْتَمُ على الأفْوَاهِ فَخِذُه ُمِنَ الرِّجْل الشمال" . وقوله: (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) يقول تعالى ذكره: والله خلقكم الخلق الأول ولم تكونوا شيئا. يقول: وإليه مصيركم من بعد مماتكم. (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) في الدنيا (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ) يوم القيامة (سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) . واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ، فقال بعضهم: معناه: وما كنتم تستخفون. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) : أي تَسْتَخْفُونَ منها. وقال آخرون: معناه: وما كنتم تتقون. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) قال: تتقون. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كنتم تظنون. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) يقول: وما كنتم تظنون (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ) حتى بلغ (كَثِيرًا مِمَّا) كنتم (1) (تَعْمَلُونَ) ، والله إن عليك يا ابن آدم لشهودا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سر أمرك وعلانيتك، فإنه لا يخفي عليه خافية، الظلمة عنده ضوء، والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظنّ فليفعل، ولا قوّة إلا بالله. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: وما كنتم تَستَخْفُون، فتتركوا ركوب محارم الله في الدنيا حذرا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم اليوم. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن المعروف من معاني الاستتار الاستخفاء. (1) الظاهر أن لفظة "كنتم" زيدت سهوًا من المؤلف في الموضعين. فإن قال قائل: وكيف يستخفي الإنسان عن نفسه مما يأتي؟ قيل: قد بيَّنا أن معنى ذلك إنما هو الأماني، وفي تركه إتيانه إخفاؤه عن نفسه. وقوله: (وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا كنتم (1) تَعْمَلُونَ) يقول جلّ ثناؤه: ولكن حسبتم حين ركبتم في الدنيا من معاصي الله أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من أعمالكم الخبيثة، فلذلك لم تستتروا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فتتركوا ركوب ما حرّم الله عليكم. وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل نفر تدارَءُوا بينهم في علم الله بما يقولونه ويتكلمون سرًا. * ذكر الخبر بذلك. حدثني ابن يحيى القطعي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا قيس، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر الأزدي، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنت مستترا بأستار الكعبة، فدخل ثلاثة نفر، ثَقَفيان وقُرشيّ، أو قُرشيان وثَقَفي، كثير شحوم بطونهما، قليل فقه قلوبهما، فتكلموا بكلام لم أفهمه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ فقال الرجلان: إذا رفعنا أصواتنا سمع، وإذا لم نرفع لم يسمع، فأتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكرت له ذلك، فنزلت هذه الآية: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ) ... إلى آخر الآية. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبد الله بن مسعود، قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ دخل ثلاثة نفر، ثقفي وختناه قرشيان، قليل فقه قلوبهما، كثير شحوم بطونهما، فتحدثوا بينهم بحديث، فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إنه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا خفضنا. وقال الآخر: إذا كان يسمع منه شيئا فهو يسمعه كله، قال: فأتيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ (1) الظاهر أن لفظة "كنتم" زيدت سهوًا من المؤلف في الموضعين. وَسَلَّم، فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ) ... حتى بلغ (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) . حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: ثني منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بنحوه. القول في تأويل قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) } يقول تعالى ذكره: وهذا الذي كان منكم في الدنيا من ظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من قبائح أعمالكم ومساويها، هو ظنكم الذي ظننتم بربكم في الدنيا أرداكم، يعني أهلككم. يقال منه: أردى فلانا كذا وكذا: إذا أهلكه، وردي هو: إذا هلك، فهو يردى ردى; ومنه قول الأعشى? أفِي الطَّوْفِ خِفْتِ عَليَّ الرَّدَى ... وكَمْ مِنْ ردًى أهْلَهُ لَمْ يَرِمْ (1) يعني: وكم من هالك أهله لم يرم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (أَرْدَاكُمْ) قال: أهلككم. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: تلا الحسن: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) فقال: إنما عمل الناس (1) هذا البيت للأعشى يخاطب ابنته. وقد سبق القول فيه مفصلا في الجزء (23: 62) وموضع الشاهد هنا هو (الردى) بمعنى الهلاك. وهو مصدر ردي (كفرح) يردى ردى. ومنه قوله تعالى: "وذلكم ظنكم الذي ظننتم الذي بربكم أرداكم" . على قدر ظنونهم بربهم; فأما المؤمن فأحسن بالله الظن، فأحسن العمل; وأما الكافر والمنافق، فأساءا الظن فأساءا العمل، قال ربكم: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ) ... حتى بلغ: الخاسرين. قال معمر: وحدثني وجل: أنه يؤمر برجل إلى النار، فيلتفت فيقول: يا ربّ ما كان هذا ظني بك، قال: وما كان ظنك بي؟ قال: كان ظني أن تغفر لي ولا تعذّبني، قال: فإني عند ظنك بي "." حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: الظنّ ظنان، فظنّ منج، وظنّ مُرْدٍ قال: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ) قال (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ) ، وهذا الظنّ المنجي ظنا يقينا، وقال ها هنا: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) هذا ظنّ مُرْدٍ. وقوله: وقال الكافرون (إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) وذُكر لنا أن نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقول ويروي ذلك عن ربه: "عَبْدِي عِنْدَ ظنِّه بِي، وأنا مَعَهُ إذَا دَعانِي" . وموضع قوله: (ذَلِكُمْ) رفع بقوله ظنكم. وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: (أَرْدَاكُمْ) في موضع نصب بمعنى: مرديا لكم. وقد يُحتمل أن يكون في موضع رفع بالاستئناف، بمعنى: مردٍ لكم، كما قال: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً) في قراءة من قرأه بالرفع. فمعنى الكلام: هذا الظنّ الذي ظننتم بربكم من أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون هو الذي أهلككم، لأنكم من أجل هذا الظنّ اجترأتم على محارم الله فقدمتم عليها، وركبتم ما نهاكم الله عنه، فأهلككم ذلك وأرداكم. يقول: فأصبحتم اليوم من الهالكين، قد غبنتم ببيعكم منازلكم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار. القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) } يقول تعالى ذكره: فإن يصبر هؤلاء الذين يحشرون إلى النار على النار، فالنار مسكن لهم ومنزل. يقول: وإن يسألوا العُتبى، وهي الرجعة لهم إلى الذي يحبون بتخفيف العذاب عنهم. يقول: فليسوا بالقوم الذين يرجع بهم إلى الجنة، فيخفف عنهم ما هم فيه من العذاب، وذلك كقوله جلّ ثناؤه مخبرا عنهم: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا) ... إلى قوله (وَلا تُكَلِّمُونِ) وكقولهم لخزنة جهنم: (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ) ... إلى قوله: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) . القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) } يعنى تعالى ذكره بقوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ) وبعثنا لهم نُظراء من الشياطين، فجعلناهم لهم قرناء قرنَّاهم بهم يزيِّنون لهم قبائح أعمالهم، فزينوا لهم ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ) قال: الشيطان. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ) قال: شياطين. وقوله: (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) يقول: فزين لهؤلاء الكفار قرناؤُهم من الشياطين ما بين أيديهم من أمر الدنيا. فحسنوا ذلك لهم وحبَّبوه إليهم حتى آثروه على أمر الآخرة (وَمَا خَلْفَهُمْ) يقول: وحسَّنوا لهم أيضا ما بعد مماتهم بأن دعوهم إلى التكذيب بالمعاد، وأن من هلك منهم، فلن يُبعث، وأن لا ثواب ولا عقاب حتى صدّقوهم على ذلك، وسهل عليهم فعل كلّ ما يشتهونه، وركوب كلّ ما يلتذونه من الفواحش باستحسانهم ذلك لأنفسهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الدنيا (وَمَا خَلْفَهُمْ) من أمر الآخرة. وقوله: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يقول تعالى ذكره: ووجب لهم العذاب بركوبهم ما ركبوا مما زين لهم قرناؤهم وهم من الشياطين. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) قال: العذاب. (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) ، يقول تعالى ذكره: وحق على هؤلاء الذين قيضنا لهم قُرَناء من الشياطين، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم العذاب في أمم قد مضت قبلهم من ضربائهم، حق عليهم من عذابنا مثل الذي حَقّ على هؤلاء بعضهم من الجن وبعضهم من الإنس. (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) يقول: إن تلك الأمم الذين حق عليهم عذابنا من الجنّ والإنس، كانوا مغبونين ببيعهم رضا الله ورحمته بسخطه وعذابه. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) } يقول تعالى ذكره: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله من مشركي قريش: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) يقول: قالوا للذين يطيعونهم من أوليائهم من المشركين: لا تسمعوا لقارئ هذا القرآن إذا قرأه، ولا تصغوا له، ولا تتبعوا ما فيه فتعملوا به. كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) قال: هذا قول المشركين، قالوا: لا تتبعوا هذا القرآن والهوا عنه. وقوله: (وَالْغَوْا فِيهِ) يقول: الغطوا بالباطل من القول إذا سمعتم قارئه يقرؤه كَيْما لا تسمعوه، ولا تفهموا ما فيه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد، في قول الله: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) قال: المكاء والتصفير، وتخليط من القول على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا قرأ، قريش تفعله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (وَالْغَوْا فِيهِ) قال: بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إذا قرأ القرآن، قريش تفعله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) : أي اجحدوا به وأنكروه وعادوه، قال: هذا قول مشركي العرب. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال بعضهم في قوله: (وَالْغَوْا فِيهِ) قال: تحدثوا وصيحوا كيما لا تسمعوه. وقوله: (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) يقول: لعلكم بفعلكم ذلك تصدون من أراد استماعه عن استماعه، فلا يسمعه، وإذا لم يسمعه ولم يفهمه لم يتبعه، فتغلبون بذلك من فعلكم محمدا. ![]()
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ فصلت الحلقة (1214) صــ 461 الى صــ 470 قال الله جل ثناؤه: (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله من مشركي قريش الذين قالوا هذا القول عذابا شديدا في الآخرة (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) يقول: ولنثيبنهم على فعلهم ذلك وغيره من أفعالهم بأقبح جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) } يقول تعالى ذكره: هذا الجزاء الذي يجزى به هؤلاء الذين كفروا من مشركي قريش جزاء أعداء الله; ثم ابتدأ جلّ ثناؤه الخبر عن صفة ذلك الجزاء، وما هو فقال: هو النار، فالنار بيان عن الجزاء، وترجمة عنه، وهي مرفوعة بالردّ عليه; ثم قال: (لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ) يعني لهؤلاء المشركين بالله في النار دار الخلد يعني دار المكث واللبث، إلى غير نهاية ولا أمد; والدار التي أخبر جلّ ثناؤه أنها لهم في النار هي النار، وحسن ذلك لاختلاف اللفظين، كما يقال: لك من بلدتك دار صالحة، ومن الكوفة دار كريمة، والدار: هي الكوفة والبلدة، فيحسن ذلك لاختلاف الألفاظ، وقد ذكر لنا أنها في قراءة ابن مسعود: "ذَلكَ جَزَاءُ أعْدَاء اللهِ النَّارُ دَارُ الخُلْدِ" ففي ذلك تصحيح ما قلنا من التأويل في ذلك، وذلك أنه ترجم بالدار عن النار. وقوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) يقول: فعلنا هذا الذي فعلنا بهؤلاء من مجازاتنا إياهم النار على فعلهم جزاء منا بجحودهم في الدنيا بآياتنا التي احتججنا بها عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ (29) } يقول تعالى ذكره: وقال الذين كفروا بالله ورسوله يوم القيامة بعد ما أدخلوا جهنم: يا ربنا أرنا اللذين أضلانا من خلقك من جنهم وإنسهم. وقيل: إن الذي هو من الجنّ إبليس، والذي هو من الإنس ابن آدم الذي قتل أخاه. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ثابت الحداد، عن حبة العرنيّ (1) عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: (أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) قال: إبليس الأبالسة وابن آدم الذي قتل أخاه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سلمة، عن مالك بن حصين، عن أبيه عن عليّ رضي الله عنه في قوله: (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) قال: إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي مالك وابن مالك، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) قال: ابن آدم الذي قتل أخاه، وإبليس الأبالسة. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السيديّ، عن (1) كذا في خلاصة الخزرجي، حبة بن جوين العرني، بضم المهملة الأولى، أبو قدامة الكوفي؛ عن علي؛ وعنه سلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة. قال العجلي: ثقة؛ وقال ابن سعد: مات سنة ست وسبعين. وفي الأصل: العوفي، تحريف. علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في قوله: (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) ... الآية، فإنهما ابن آدم القاتل، وإبليس الأبالسة. فأما ابن آدم فيدعو به كلّ صاحب كبيرة دخل النار من أجل الدعوة. وأما إبليس فيدعو به كل صاحب شرك، يدعوانهما في النار. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، قال: ثنا معمر، عن قتادة (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ) هو الشيطان، وابن آدم الذي قتل أخاه. وقوله (نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ) يقول: نجعل هذين اللذين أضلانا تحت أقدامنا، لأن أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض، وكل ما سفل منها فهو أشد على أهله، وعذاب أهله أغلظ، ولذلك سأل هؤلاء الكفار ربهم أن يريهم اللذين أضلاهم ليجعلوهما أسفل منهم ليكونا في أشد العذاب في الدرك الأسفل من النار. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) } يقول تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ) وحده لا شريك له، ويرثوا من الآلهة والأنداد، (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على توحيد الله، ولم يخلطوا توحيد الله بشرك غيره به، وانتهوا إلى طاعته فيما أمر ونهى. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن رسوله الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقاله أهل التأويل على اختلاف منهم، في معنى قوله: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) ذُكر الخبر بذلك عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا سالم بن قتيبة أبو قتيبة، قال: ثنا سهيل بن أبي حزم القطعي، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: "قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام" . وقال بعضهم: معناه: ولم يشركوا به شيئا. ولكن تموا على التوحيد. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار. قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن عمران، قال: قد قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئا. حدثنا ابن وكيع. قال: ثنا أبي، عن سفيان بإسناده، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، مثله. قال ثنا جرير بن عبد الحميد. وعبد الله بن إدريس عن الشيياني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن الأسود بن هلال، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لأصحابه (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: قالوا: ربنا الله ثم عملوا بها، قال: لقد حملتموها على غير المحمل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) الذين لم يعدلوها بشرك ولا غيره. حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا ثنا إدريس، قال: أخبرنا الشيباني، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن الأسود بن هلال المحاربي، قال: قال أبو بكر: ما تقولون في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: ربنا الله ثم استقاموا من ذنب، قال: فقال أبو بكر: لقد حملتم على غير المحمل، قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: أي على: لا إله إلا الله. قال: ثنا حكام عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به. قال: ثنا حكام عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، قوله (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: أسلموا ثم لم يشركوا به حتى لحقوا به. قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال مثل ذلك. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: تموا على ذلك. حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا حفص بن عمر، قال: ثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله. وقال آخرون: معنى ذلك: ثم استقاموا على طاعته. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: ثنا يونس بن يزيد عن الزهري، قال: تلا عمر رضي الله عنه على المنبر: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: استقاموا ولله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعلب. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال استقاموا على طاعة الله. وكان الحسن إذا تلاها قال: اللهمَّ فأنت ربنا فارزقنا الاستقامة. حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) يقول: على أداء فرائضه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: على عبادة الله وعلى طاعته. وقوله: (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) يقول: تتهبط عليهم الملائكة عند نزول الموت بهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد، في قوله: (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) قال: عند الموت. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال: عند الموت. وقوله: (أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) يقول: تتنزل عليهم الملائكة بأن لا تخافوا ولا تحزنوا; فإن في موضع نصب إذا كان ذلك معناه. وقد ذُكر عن عبد الله أنه كان يقرأ ذلك "تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا" بمعنى: تتنزل عليهم قائلة: لا تخافوا، ولا تحزنوا. وعنى بقوله: (أَلا تَخَافُوا) ما تقدمون عليه من بعد مماتكم (وَلا تَحْزَنُوا) على ما تخلفونه وراءكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) قال لا تخافوا ما أمامكم، ولا تحزنوا على ما بعدكم. حدثني يونس، قال: أخبرنا يحيى بن حسان، عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا) قال: لا تخافوا ما تقدمون عليه من أمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم من أهل وولد، فإنا نخلفكم في ذلك كله. وقيل: إن ذلك في الآخرة. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّة) فذلك في الآخرة. وقوله: (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) يقول: وسروا بأن لكم في الآخرة الجنة التي كنتم توعدونها في الدنيا على إيمانكم بالله، واستقامتكم على طاعته. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) } يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل ملائكته التي تتنزل على هؤلاء المؤمنين الذين استقاموا على طاعته عند موتهم: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ) أيها القوم (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) كنا نتولاكم فيها; وذكر أنهم الحفظة الذين كانوا يكتبون أعمالهم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة. وقوله: (وَفِي الآخِرَةِ) يقول: وفي الآخرة أيضا نحن أولياؤكم، كما كنا لكم في الدنيا أولياء، يقول: ولكم في الآخرة عند الله ما تشتهي أنفسكم من اللّذات والشهوات. وقوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) يقول: ولكم في الآخرة ما تدّعون. وقوله: (نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) يقول: أعطاكم ذلك ربكم نزلا لكم من ربّ غفور لذنوبكم، رحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم; ونصب نزلا على المصدر من معنى قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) لأن في ذلك تأويل أنزلكم ربكم بما يشتهون من النعيم نزلا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) } يقول تعالى ذكره: ومن أحسن أيها الناس قولا ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: تلا الحسن: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال: هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحبّ الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة الله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) ... الآية، قال: هذا عبد صدّق قولَه عملُه، ومولَجه مخرجُه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه، وإن المنافق عبد خالف قوله عمله، ومولجه مخرجه، وسرَّه علانيته، وشاهده مغيبه. واختلف أهل العلم في الذي أريد بهذه الصفة من الناس، فقال بعضهم: عني بها نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) قال: محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم حين دعا إلى الإسلام. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قال: هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقال آخرون: عُني به المؤذّن. * ذكر من قال ذلك: حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب البصري، قال: ثنا عمرو بن جرير البجلي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، في قول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ) قال: المؤذن (وَعَمِلَ صَالِحًا) قال: الصلاة ما بين الأذان إلى الإقامة. وقوله: (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يقول: وقال: إنني ممن خضع لله بالطاعة، وذل له بالعبودة، وخشع له بالإيمان بوحدانيته. وقوله: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) يقول تعالى ذكره: ولا تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، فأحسنوا في قولهم، وإجابتهم وبهم إلى ما دعاهم إليه من طاعته، ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه، وسيئة الذين قالوا: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم، ولكنها تختلف كما وصف جلّ ثناؤه أنه خالف بينهما، وقال جلّ ثناؤه: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ) فكرر لا والمعنى: لا تستوي الحسنة ولا السيئة، لأن كلّ ما كان غير مساو شيئا، فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه، كما أن كل ما كان مساويا لشيء فالآخر الذي هو له مساو، مساو له، فيقال: فلان مساو فلانا، وفلان له مساو، فكذلك فلان ليس مساويا لفلان، لا فلان مساويا له، فلذلك كرّرت لا مع السيئة، ولو لم تكن مكرّرة معها كان الكلام صحيحا. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: يجوز أن يقال: الثانية زائدة; يريد: لا يستوي عبد الله وزيد، فزيدت لا توكيدا، كما قال (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ) أي لأن يعلم، وكما قال: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) . وقد كان بعضهم ينكر قوله هذا في: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) ، وفي قوله: (لا أُقْسِمُ) فيقول: لا الثانية في قوله: (لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) أن لا يقدرون ردّت إلى موضعها، لأن النفي إنما لحق يقدرون لا العلم، كما يقال: لا أظنّ زيدا لا يقوم، بمعنى: أظن زيدا لا يقوم; قال: وربما استوثقوا فجاءوا به أوّلا وآخرا، وربما اكتفوا بالأول من الثاني. وحُكي سماعا من العرب: ما كأني أعرفها: أي كأني لا أعرفها. قال: وأما "لا" في قوله (لا أُقْسِمُ) فإنما هو جواب، والقسم بعدها مستأنف، ولا يكون حرف الجحد مبتدأ صلة. وإنما عنى يقوله. (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَة) ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته. ![]()
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ فصلت الحلقة (1215) صــ 471 الى صــ 480 وقوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ادفع يا محمد بحلمك جهل من جهل عليك، ويعفوك عمن أساء إليك إساءة المسيء، وبصبرك عليهم مكروه ما تجد منهم، ويلقاك من قِبلهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في تأويله. * ذكر من قال ذلك. حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوُّهم، كأنه وليّ حميم. وقال آخرون: معنى ذلك: ادفع بالسلام على من أساء إليك إساءته. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: بالسلام. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن مجاهد (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال: السلام عليك إذا لقيته. وقوله: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) يقول تعالى ذكره: افعل هذا الذي أمرتك به يا محمد من دفع سيئة المسيء إليك بإحسانك الذي أمرتك به إليه، فيصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة، كأنه من ملاطفته إياك. وبرّه لك، وليّ لك من بني أعمامك، قريب النسب بك، والحميم: هو القريب. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد. قال: ثنا سعيد،، عن قتادة (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) : أي كأنه وليّ قريب. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) } يقول تعالى ذكره: وما يعطى دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا لله على المكاره، والأمور الشاقة; وقال: (وَمَا يُلَقَّاهَا) ولم يقل: وما يلقاه، لأن معنى الكلام: وما يلقى هذه الفعلة من دفع السيئة بالتي هي أحسن. وقوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) . يقول: وما يلقى هذه إلا ذو نصيب وجدّ له سابق في المبرات عظيم. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) : ذو جدّ. وقيل: إن ذلك الحظ الذي أخبر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية أنه لهؤلاء القوم هو الجنة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا) ... الآية. والحظّ العظيم: الجنة. ذكر لنا أن أبا بكر رضي الله عنه شتمه رجل ونبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم شاهد، فعفا عنه ساعة، ثم إن أبا بكر جاش به الغضب، فردّ عليه، فقام النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فاتبعه أبو بكر، فقال يا رسول الله شتمني الرجل، فعفوت وصفحت وأنت قاعد، فلما أخذت أنتصر قمت يا نبيّ الله، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنَّهُ كانَ يَرُدُّ عَنْكَ مَلَكٌ من المَلائكَةِ، فَلَمَّا قَرُبْتَ تَنْتَصِرُ ذَهَبَ المَلَكُ وَجاءَ" الشَّيْطانُ، فَوَاللهِ ما كُنْتُ لأجالِسَ الشَّيْطانَ يا أبا بَكْرٍ "." حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) يقول: الذين أعدّ الله لهم الجنة. وقوله: (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ... الآية، يقول تعالى ذكره: وإما يلقين الشيطان يا محمد في نفسك وسوسة من حديث النفس إرادة حملك على مجازاة المسيء بالإساءة، ودعائك إلى مساءته، فاستجر بالله واعتصم من خطواته، إن الله هو السميع لاستعاذتك منه واستجارتك به من نزغاته، ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك، العليم بما ألقى في نفسك من نزغاته، وحدثتك به نفسك ومما يذهب ذلك من قبلك، وغير ذلك من أمورك وأمور خلقه. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ) قال: وسوسة وحديث النفس (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد (وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ) هذا الغضب. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) } يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالته على وحدانيته، وعظيم سلطانه، اختلاف الليل والنهار، ومعاقبة كلّ واحد منهما صاحبه، والشمس والقمر، لا الشمس تدرك القمر (وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) لا تسجدوا أيها الناس للشمس ولا للقمر، فإنهما وإن جريا في الفلك بمنافعكم، فإنما يجريان به لكم بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما، لا بأنهما يقدران بأنفسهما على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما، أو يستطيعان لكم نفعا أو ضرّا، وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم، فله فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونها، فإنه إن شاء طمس ضوءهما، فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلا ولا تبصرون شيئا. وقيل: (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) فجمع بالهاء والنون، لأن المراد من الكلام: واسجدوا لله الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، وذلك جمع، وأنث كنايتهن، وإن كان من شأن العرب إذا جمعوا الذكر إلى الأنثى أن يخرجوا كنايتهما بلفظ كناية المذكر فيقولوا: أخواك وأختاك كلموني، ولا يقولوا: كلمنني، لأن من شأنهم أن يؤنثوا أخبار الذكور من غير بني آدم في الجمع، فيقولوا: رأيت مع عمرو أثوابا فأخذتهن منه. وأعجبني خواتيم لزيد قبضتهنّ منه. وقوله: (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) يقول: إن كنتم تعبدون الله، وتذلون له بالطاعة; وإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة، ولا تشركوا في طاعتكم إياه وعبادتكموه شيئا سواه، فإن العبادة لا تصلح لغيره ولا تنبغي لشيء سواه. القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) } يقول تعالى ذكره: فإن استكبر يا محمد هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم من مشركي قريش، وتعظموا عن أن يسجدوا لله الذي خلقهم وخلق الشمس والقمر، فإن الملائكة الذين عند ربك لا يستكبرون عن ذلك، ولا يتعظمون عنه، بل يسبحون له، ويصلون ليلا ونهارًا، (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) يقول وهم لا يفترون عن عبادتهم، ولا يملون الصلاة له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي. عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) قال: يعني محمدا، يقول: عبادي، ملائكة صافون يسبحون ولا يستكبرون. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله أيضا وأدلته على قدرته على نشر الموتى من بعد بلاها، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها أنك يا محمد ترى الأرض دارسة غبراء، لا نبات بها ولا زرع. كما حدثنا بشر، قاله: ثنا يزيد، قاله: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً) : أي غبراء متهشمة. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً) قال: يابسة متهمشة. (فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ) يقول تعالى ذكره: فإذا أنزلنا من السماء غيثا على هذه الأرض الخاشعة اهتزت بالنبات. يقول: تحرّكت به. كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال. ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (اهْتَزَّتْ) قال: بالنبات (وَرَبَتْ) يقول: انتفخت. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، (وَرَبَتْ) انتفخت. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) يعرف الغيث في سحتها وربوها. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَرَبَتْ) للنبات، قال: ارتفعت قبل أن تنبت. وقوله: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى) يقول تعالى ذكره: إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة فأخرج منها النبات، وجعلها تهتزّ بالزرع من بعد يبسها ودثورها بالمطر الذي أنزل عليها لقادر أن يحيي أموات بني آدم من بعد مماتهم بالماء الذي ينزل من السماء لإحيائهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: كما يحيي الأرض بالمطر، كذلك يحيي الموتى بالماء يوم القيامة بين النفختين. يعني بذلك تأويل قوله: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى) . وقوله: (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد على إحياء خلقه بعد مماتهم وعلى كل ما يشاء ذو قدرة لا يعجزه شيء أراده، ولا يتعذّر عليه فعل شيء شاءه. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) } يعني جلّ ثناؤه بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) إن الذين يميلون عن الحق في حججنا وأدلتنا، ويعدلون عنها تكذيبا بها وجحودا لها. وقد بيَّنت فيما مضى معنى اللحد بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع. وسنذكر بعض اختلاف المختلفين في المراد به من معناه في هذا الموضع. اختلف أهل التأويل في المراد به من معنى الإلحاد في هذا الموضع، فقال بعضهم: أريد به معارضة المشركين القرآن باللغط والصفير استهزاء به. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) قال: المُكَاء وما ذكر معه. وقال بعضهم: أريد به الخبر عن كذبهم في آيات الله. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) قال: يكذّبون في آياتنا. وقال آخرون: أريد به يعاندون. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا) قال: يشاقُّون: يعاندون. وقال آخرون: أريد به الكفر والشرك. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد، في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) قال: هؤلاء أهل الشرك وقال: الإلحاد: الكفر والشرك. وقال آخرون: أريد به الخبر عن تبديلهم معاني كتاب الله. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثنى عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) قال: هو أن يوضع الكلام على غير موضعه. وكل هذه الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك في قريبات المعاني، وذلك أن اللحد والإلحاد: هو الميل، وقد يكون ميلا عن آيات الله، وعدولا عنها بالتكذيب بها، ويكون بالاستهزاء مكاء وتصدية، ويكون مفارقة لها وعنادا، ويكون تحريفا لها وتغييرا لمعانيها. ولا قول أولى بالصحة في ذلك مما قلنا، وأن يعم الخبر عنهم بأنهم ألحدوا في آيات الله، كما عمّ ذلك ربنا تبارك وتعالى. وقوله: (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) يقول تعالى ذكره: نحن بهم عالمون لا يخفون علينا، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا، وذلك تهديد من الله جلّ ثناؤه لهم بقوله: سيعلمون عند ورودهم علينا ماذا يلقون من أليم عذابنا. ثم أخبر جلّ ثناؤه عما هو فاعل بهم عند ورودهم عليه، فقال: (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يلحدون في آياتنا اليوم في الدنيا يوم القيامة عذاب النار، ثم قال الله: أفهذا الذي يلقى في النار خير، أم الذي يأتي يوم القيامة آمنا من عذاب الله لإيمانه بالله جلّ جلاله؟ هذا الكافر، إنه إن آمن بآيات الله، واتبع امر الله ونهيه، أمنه يوم القيامة مما حذره منه من عقابه إن ورد عليه يومئذ به كافرا. وقوله: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) وهذا أيضا وعيد لهم من الله خرج مخرج الأمر، وكذلك كان مجاهد يقول: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) قال: هذا وعيد. وقوله: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يقول جلّ ثناؤه: إن الله أيها الناس بأعمالكم التي تعملونها ذو خبرة وعلم لا يخفي عليه منها، ولا من غيرها شيء. القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } يقول تعالى ذكره: إن الذين جحدوا هذا القرآن وكذّبوا به لما جاءهم، وعنى بالذكر القرآن. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) كفروا بالقرآن. وقوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) يقول تعالى ذكره: وإن هذا الذكر لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه، وحفظه من كل من أراد له تبديلا أو تحريفا، أو تغييرا، من إنسي وجني وشيطان مارد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) يقول: أعزه الله لأنه كلامه، وحفظه من الباطل. حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) قال: عزيز من الشيطان. وقوله: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) اختلف أهل التأويل في تأويله فقال بعضهم: معناه: لا يأتيه النكير من بين يديه ولا من خلفه. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) قال: النكير من بين يديه ولا من خلفه. وقال آخرون: معنى ذلك: لا يستطيع الشيطان أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه باطلا قالوا: والباطل هو الشيطان. وقوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من قبل الحق (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) من قبل الباطل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) الباطل: إبليس لا يستطيع أن ينقص منه حقا، ولا يزيد فيه باطلا. وقال آخرون: معناه: إن الباطل لا يطيق أن يزيد فيه شيئا من الحروف ولا ينقص، منه شيئا منها. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) قال: الباطل: هو الشيطان لا يستطيع أن يزيد فيه حرفا ولا ينقص. وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: معناه: لا يستطيع ذو باطل بكيده تغييره بكيده، وتبديل شيء من معانيه عما هو به، وذلك هو الإتيان من بين يديه، ولا إلحاق ما ليس منه فيه، وذلك إتيانه من خلفه. وقوله: (تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) يقول تعالى ذكره: هو تنزيل من عند ذي حكمة بتدبير عباده، وصرفهم فيما فيه مصالحهم، (حَمِيدٌ) يقول: محمود على نعمه عليهم بأياديه عندهم. القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) } يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذّبون ما جئتهم به من عند ربك إلا ما قد قاله من قبلهم من الأمم الذين كانوا من قبلك، يقول له: فاصبر على ما نالك من أذى منهم، كما صبر أولو العزم من الرسل، (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ![]()
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ فصلت الحلقة (1216) صــ 481 الى صــ 490 يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذّبون ما جئتهم به من عند ربك إلا ما قد قاله من قبلهم من الأمم الذين كانوا من قبلك، يقول له: فاصبر على ما نالك من أذى منهم، كما صبر أولو العزم من الرسل، (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) يعزي نبيّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كما تسمعون، يقول: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) . حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ في قوله: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) قال: ما يقولون إلا ما قد قال المشركون للرسل من قبلك. وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) يقول: إن ربك لذو مغفرة لذنوب التائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم (وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) يقول: وهو ذو عقاب مؤلم لمن أصرّ على كفره وذنوبه، فمات على الإصرار على ذلك قبل التوبة منه. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) } يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزلناه يا محمد أعجميا لقال قومك من قريش: (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) يعني: هلا بينت أدلته وما فيه من آية، فنفقهه ونعلم ما هو وما فيه، أأعجميّ، يعني أنهم كانوا يقولون إنكارا له: أأعجميّ هذا القرآن ولسان الذي أنزل عليه عربي؟. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) قال: لو كان هذا القران أعجميا لقالوا: القرآن أعجميّ، ومحمد عربيّ. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني محمد بن أبي عديّ، عن داود بن أبي هند، عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير في هذه الآية: (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) قال: الرسول عربيّ، واللسان أعجميّ. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني عبد الأعلى، قال: ثنا أبو داود عن سعيد بن جبير في قوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) قرآن أعجميّ ولسان عربيّ. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى، عن عبد الله بن مطيع بنحوه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) فجعل عربيا، أعجميّ الكلام وعربيّ الرجل. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) يقول: بُينت آياته، أأعجميّ وعربيّ، نحن قوم عرب ما لنا وللعجمة. وقد خالف هذا القول الذي ذكرناه عن هؤلاء آخرون، فقالوا: معنى ذلك (لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) بعضها عربيّ، وبعضها عجميّ. وهذا التأويل على تأويل من قرأ (أَعْجَمِيّ) بترك الاستفهام فيه، وحمله خبرا من الله تعالى عن قيل المشركين ذلك، يعني: هلا فصلت آياته، منها عجميّ تعرفه العجم، ومنها عربيّ تفقهه العرب. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا، فأنزل الله (لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) فأنزل الله بعد هذه الآية كل لسان، فيه (حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) قال: فارسية أعربت سنك وكل. وقرأت قراء الأمصار: (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟) على وجه الاستفهام، وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: أعجميّ بهمزة واحدة على غير مذهب الاستفهام، على المعنى الذي ذكرناه عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير. والصواب من القراءة في ذلك عندنا القراءة التي عليها قراء الأمصار لإجماع الحجة عليها على مذهب الاستفهام. وقوله: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهم: هو، ويعني بقوله (هُوَ) القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسوله، وصدقوا بما جاءهم به من عند ربهم (هُدًى) يعني بيان للحق (وَشِفَاءٌ) يعني أنه شفاء من الجهل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال. ثنا سعيد، عن قتادة (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) قال: جمله الله نورا وبركة وشفاء للمؤمنين. حدثنا محمد، قال. ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) قال: القرآن. وقوله: (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) يقول تعالى ذكره: والذين لا يؤمنون بالله ورسوله، وما جاءهم به من عند الله في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن، وصمم لا يستمعونه ولكنهم يعرضون عنه، (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) يقول: وهذا القرآن على قلوب هؤلاء المكذّبين به عمى عنه، فلا يبصرون حججه عليهم، وما فيه من مواعظه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) عموا وصموا عن القرآن، فلا ينتفعون به، ولا يرغبون فيه. حدثنا محمد، قال. ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ) قال: صمم (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) قال: عميت قلوبهم عنه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) قال: العمى: الكفر. وقرأت قرّاء الأمصار: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) بفتح الميم. وذُكر عن ابن عباس أنه قرأ: "وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمٍ" بكسر الميم على وجه النعت للقرآن. والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار. وقوله: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: معنى ذلك: تشبيه من الله جلّ ثناؤه، لعمى قلوبهم عن فهم ما أنزل في القرآن من حججه ومواعظه ببعيد، فهم كما مع صوت من بعيد نودي، فلم يفهم ما نودي، كقول العرب للرجل القليل الفهم: إنك لتنادى من بعيد، وكقولهم للفهم: إنك لتأخذ الأمور من قريب. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن بعض أصحابه، عن مجاهد (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قال: بعيد من قلوبهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن ابن جريج عن مجاهد، بنحوه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قال: ضيعوا أن يقبلوا الأمر من قريب، يتوبون ويؤمنون، فيقبل منهم، فأبوا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنهم ينادون يوم القيامة من مكان بعيد منهم بأشنع أسمائهم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أجلح، عن الضحاك بن مزاحم (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) قال: ينادَى الرجل بأشنع اسمه. واختلف أهل العربية في موضع تمام قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) فقال بعضهم: تمامه: (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وجعل قائلو هذا القول خبر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) - (أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) ; وقال بعض نحويي البصرة: يجوز ذلك ويجوز أن بكون على الأخبار التي في القرآن يستغنى بها، كما استغنت أشياء عن الخبر إذا طال الكلام، وعرف المعنى، نحو قوله: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ) . وما أشبه ذلك. قال: وحدثني شيخ من أهل العلم، قال: سمعت عيسى بن عمر يسأل عمرو بن عبيد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) أين خبره؟ فقال عمرو: معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت جواب (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وإن شئت كان جوابه في قوله: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) ، فيكون جوابه معلوما، فترك فيكون أعرب الوجهين وأشبهه بما جاء في القرآن. وقال آخرون: بل ذلك مما انصرف عن الخبر عما ابتدئ به إلى الخبر عن الذي بعده من الذكر; فعلى هذا القول ترك الخبر عن الذين كفروا بالذكر، وجعل الخبر عن الذكر فتمامه على هذا القول; وإنه لكتاب عزيز; فكان معنى الكلام عند قائل هذا القول: إن الذكر الذي كفر به هؤلاء المشركون لما جاءهم، وإنه لكتاب عزيز، وشبهه بقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) . وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: هو مما ترك خبره اكتفاء بمعرفة السامعين بمعناه لما تطاول الكلام. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) } يقول تعالى ذكره: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) يا محمد، يعني التوراة، كما آتيناك الفرقان، (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) يقول: فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يقول: ولولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم أنه أخر عذابهم إلى يوم القيامة. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) قال: أخروا إلى يوم القيامة. وقوله: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يقول: وإن الفريق المبطل منهم لفي شكّ مما قالوا فيه (مُريب) يقول: يريبهم قولهم فيه ما قالوا، لأنهم قالوا بغير ثبت، وإنما قالوه ظنًّا. القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (46) } يقول تعالى ذكره: من عمل بطاعة الله في هذه الدنيا، فائتمر لأمره، وانتهى عما نهاه عنه (فَلِنَفْسِهِ) يقول: فلنفسه عمل ذلك الصالح من العمل، لأنه يجازى عليه جزاءه، فيستوجب في المعاد من الله الجنة، والنجاة من النار. (وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) يقول: ومن عمل بمعاصي الله فيها، فعلى نفسه جنى، لأنه أكسبها بذلك سخط الله، والعقاب الأليم. (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) يقول تعالى ذكره: وما ربك يا محمد بحامل عقوبة ذنب مذنب على غير مكتسبه، بل لا يعاقب أحدا إلا على جرمه الذي اكتسبه في الدنيا، أو على سبب استحقه به منه، والله أعلم. القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) } يقول تعالى ذكره: إلى الله يرد العالمون به علم الساعة، فإنه لا يعلم ما قيامها غيره. (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) يقول: وما تظهر من ثمرة شجرة من أكمامها التي هي متغيبة فيها، فتخرج منها بارزة. ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى) يقول: وما تحمل من أنثى من حمل حين تحمله، ولا تضع ولدها إلا بعلم من الله، لا يخفى عليه شيء من ذلك. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (مِنْ أَكْمَامِهَا) قال: حين تطلع. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) قال: من طلعها والأكمام جمع كمة (1) وهو كل ظرف لماء أو غيره، والعرب تدعو قشر الكفراة كمَّا. واختلفت القراء في قراءة قوله: (مِنْ ثَمَرَاتٍ) فقرأت ذلك قرّاء المدينة: (مِنْ ثَمَرَاتٍ) على الجماع، وقرأت قراء الكوفة "من ثمرات" على لفظ الواحدة، وبأي القراءتين قرئ ذلك فهو عندنا صواب لتقارب معنييهما مع شهرتهما في القراءة. وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي) يقول تعالى ذكره: ويوم ينادي الله هؤلاء المشركين به في الدنيا الأوثان والأصنام: أين شركائي الذين كنتم تشركونهم في عبادتكم إياي؟. (قَالُوا آذَنَّاكَ) يقول: أعلمناك (مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) يقول: قال هؤلاء المشركون لربهم يومئذ: ما منا من شهيد يشهد أن لك شريكا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثما أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن (1) لعل الأصل: جمع كم، بلا تاء، لأن الأكمام جمع "كم" لا جمع كمة. انظر (اللسان: كم) . ابن عباس، قوله (آذَنَّاكَ) يقول: أعلمناك. حدثني محمد، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) قالوا: أطعناك (1) ما منا من شهيد على أن لك شريكا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) } يقول تعالى ذكره: وضلّ عن هؤلاء المشركين يوم القيامة آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا، فأخذ بها طريق غير طريقهم، فلم تنفعهم، ولم تدفع عنهم شيئا من عذاب الله الذي حلّ بهم. وقوله: (وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) يقول: وأيقنوا حينئذ ما لهم من ملجأ: أي ليس لهم ملجأ يلجئون إليه من عذاب الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) : استيقنوا أنه ليس لهم ملجأ. واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أبطل عمل الظنّ في هذا الموضع، فقال بعض أهل البصرة فعل ذلك، لأن معنى قوله: (وَظَنُّوا) : استيقنوا. قال: و "ما" هاهنا حرف وليس باسم، والفعل لا يعمل في مثل هذا، فلذلك جعل الفعل ملغى. وقال بعضهم: ليس يلغي الفعل وهو عامل في المعنى (1) كذا في الأصل. ولعله "أطلعناك" ، ليكون فيه معنى العلم. إلا لعلة. قال: والعلة أنه حكاية، فإذا وقع على ما لم يعمل فيه كان حكاية وتمنيا، وإذا عمل فهو على أصله. وقوله: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) يقول تعالى ذكره: لا يمل الكافر بالله من دعاء الخير، يعني من دعائه بالخير، ومسألته إياه ربه. والخير في هذا الموضع: المال وصحة الجسم، يقول: لا يملّ من طلب ذلك. (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) يقول: وإن ناله ضرّ في نفسه من سُقم أو جهد في معيشته، أو احتباس من رزقه (فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) يقول: فإنه ذو يأس من روح الله وفرجه، قنوط من رحمته، ومن أن يكشف ذلك الشرّ النازل به عنه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ) يقول: الكافر (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) : قانط من الخير. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ) قال: لا يملّ. وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: "لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دَعَاءٍ بالخَيْرِ" . القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) } يقول تعالى ذكره: ولئن نحن كشفنا عن هذا الكافر ما أصابه من سقم في نفسه وضرّ، وشدّة في معيشته وجهد، رحمة منا، فوهبنا له العافية في نفسه بعد السقم، ورزقناه مالا فوسعنا عليه في معيشته من بعد الجهد والضرّ. (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي) عند الله، لأن الله راض عني برضاه عملي، وما أنا عليه مقيم. ![]()
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشورى الحلقة (1217) صــ 491 الى صــ 500 كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي) : أي بعملي، وأنا محقوق بهذا. يقول: وما أحسب القيامة قائمة يوم تقوم. يقول: وإن قامت أيضا القيامة، ورددت إلى الله حيا بعد مماتي. يقول: إن لي عنده غنى ومالا. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) يقول: غنى. يقول تعالى ذكره: فلنخبرن هؤلاء الكفار بالله، المتمنين عليه الأباطيل يوم يرجعون إليه بما عملوا في الدنيا من المعاصي، واجترحوا من السيئات، ثم لنجازينّ جميعهم على ذلك جزاءهم. وذلك العذاب الغليظ تخليدهم في نار جهنم، لا يموتون فيها ولا يحيون. القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) } يقول تعالى ذكره: وإذا نحن أنعمنا على الكافر، فكشفنا ما به من ضرّ، ورزقناه غنى وسعة، ووهبنا له صحة جسم وعافية، أعرض عما دعوناه إليه من طاعته، وصدّ عنه (وَنَأَى بِجَانِبِهِ) يقول: وبعد من إجابتنا إلى ما دعوناه إليه، ويعني بجانبه بناحيته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ) يقول: أعرض: صدّ بوجهه، ونأى بجانبه: يقول: تباعد. وقوله: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) يعني بالعريض: الكثير. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) يقول: كثير، وذلك قول الناس: أطال فلان الدعاء: إذا أكثر، وكذلك أعرض دعاءه. القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) } يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (قُلْ) يا محمد للمكذّبين بما جئتهم به من عند ربك من هذا القرآن (أَرَأَيْتُمْ) أيها القوم (إِنْ كَانَ) هذا الذي تكذبون به (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) ألستم في فراق وبعد من الصواب، فجعل مكان التفريق الخبر، فقال: (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) إذا كان مفهوما معناه. وقوله: (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) يقول: قل لهم من أشد ذهابا عن قصد السبيل، وأسلك لغير طريق الصواب، ممن هو في فراق لأمر الله وخوف له، بعيد من الرشاد. القول في تأويل قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) } يقول تعالى ذكره: سنري هؤلاء المكذّبين، ما أنزلنا على محمد عبدنا من الذكر، آياتنا في الآفاق. واختلف أهل التأويل في معنى الآيات التي وعد الله هؤلاء القوم أن يريهم، فقال بعضهم: عني بالآيات في الآفاق وقائع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها، وبقوله: (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فتح مكة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أبي قيس، عن المنهال، في قوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ) قال: ظهور محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الناس. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ) يقول: ما نفتح لك يا محمد من الآفاق (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) في أهل مكة، يقول: نفتح لك مكة. وقال آخرون: عنى بذلك أنه يريهم نجوم الليل وقمره، وشمس النهار، وذلك ما وعدهم أنه يريهم في الآفاق. وقالوا: عنى بالآفاق: آفاق السماء، وبقوله: (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) سبيل الغائط والبول. * ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) قال: آفاق السموات: نجومها وشمسها وقمرها اللاتي يجرين، وآيات فى أنفسهم أيضا. وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الأول، وهو ما قاله السديّ، وذلك أن الله عزّ وجلّ وعد نبيّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذّبين آيات في الآفاق، وغير معقول أن يكون تهدّدهم بأن يريهم ما هم راءوه، بل الواجب أن يكون ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا راؤه قبل من ظهور نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم، فأما النجوم والشمس والقمر، فقد كانوا يرونها كثيرا قبل وبعد ولا وجه لتهددهم بأنه يريهم ذلك. وقوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) يقول جلّ ثناؤه: أري هؤلاء المشركين وقائعنا بأطرافهم وبهم حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا إلى محمد، وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو ما بعثناه به من الدين على الأديان كلها، ولو كره المشركون. وقوله: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) يقول تعالى ذكره: أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه، لا يعزب عنه علم شيء منه، وهو مجازيهم على أعمالهم، المحسن بالإحسان، والمسيء جزاءه. وفي قوله: (أنَّهُ) وجهان: أحدهما: أن يكون في موضع خفض على وجه تكرير الباء، فيكون معنى الكلام حينئذ: أولم يكف بربك بأنه على كلّ شيء شهيد؟ والآخر: أن يكون في موضع رفع رفعا، بقوله: يكف، فيكون معنى الكلام: أولم يكف بربك شهادته على كل شيء. القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) } يقول تعالى ذكره: ألا إن هؤلاء المكذّبين بآيات الله في شكّ من لقاء ربهم، يعني أنهم في شك من البعث بعد الممات، ومعادهم إلى ربهم. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ) يقول: في شك. وقوله: (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) يقول تعالى ذكره: ألا أن الله بكل شيء مما خلق محيط علما بجميعه، وقدرة عليه، لا يعزب عنه علم شيء منه أراده فيفوته، ولكن المقتدر عليه العالم بمكانه. آخر تفسير سورة فصلت تفسير سورة الشورى بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) } قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في معاني حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل ما افتتح بها من سور القرآن، وبينا الصواب من قولهم في ذلك عندنا بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع إذ كانت هذه الحروف نظيرة الماضية منها. وقد ذكرنا عن حُذيفة في معنى هذه خاصة قولا وهو ما حدثنا به أحمد بن زهير، قال: ثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، قال: ثنا أبو المُغيرة عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، عن أرطأة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له وعنده حُذيفة بن اليمان، أخبرني عن تفسير قول الله: (حم عسق) قال: فأطرق ثم أعرض عنه، ثم كرّر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء وكره مقالته، ثم كرّرها الثالثة فلم يجبه شيئا، فقال له حُذيفة: أنا أنبئك بها، قد عرفت بم كرهها; نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق، تبنى عليه مدينتان يشقّ النهر بينهما شقا، فإذا أذن الله في زوال مُلكهم، وانقطاع دولتهم ومدتهم، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت، كأنها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة، كيف أفلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله: (حم عسق) يعني: عزيمة من الله وفتنة وقضاء حم، عين: يعني عدلا منه، سين: يعني سيكون، وقاف: يعني واقع بهاتين المدينتين. وذُكر عن ابن عباس أنه كان يقرأه "حم. سق" بغير عين، ويقول: إن السين: عمر كل فرقة كائنة وإن القاف: كل جماعة كائنة; ويقول: إن عليا إنما كان يعلم العين بها. وذُكر أن ذلك في مصحف عبد الله (1) على مثل الذي ذكر عن ابن عباس من قراءته من غير عين. وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يقول تعالى ذكره: هكذا يوحي إليك يا محمد والى الذين من قبلك من أنبيائه. وقيل: إن حم عين سين قد أوحيت إلى كل نبي بعث، كما أوحيت إلى نبينا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، ولذلك قيل: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ) في انتقامه من أعدائه (الحَكِيمُ) في تدبيره خلقه. القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) } يقول تعالى ذكره: (لِلَّهِ) ملك (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) من الأشياء كلها (وَهُوَ الْعَلِيُّ) يقول: وهو ذو علوّ وارتفاع على كل شيء، والأشياء كلها دونه، لأنهم في سلطانه، جارية عليهم قدرته، ماضية فيهم مشيئته (العَظِيمُ) الذي له العظمة والكبرياء والجبرية. وقوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) يقول تعالى ذكره: تكاد (1) عبد الله: هو ابن مسعود رضي الله عنه، معلم أهل الكوفة القرآن. السموات يتشققن من فوق الأرضين، من عظمة الرحمن وجلاله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ![]()
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشورى الحلقة (1218) صــ 501 الى صــ 510 * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) قال: يعني من ثقل الرحمن وعظمته تبارك وتعالى. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) : أي من عظمة الله وجلاله. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) قال: يتشقَّقن في قوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال: منشقّ به. حدثنا عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله: (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) يقول: يتصدعن من عظمة الله. حدثنا محمد بن منصور الطوسي، قال: ثنا حسين بن محمد، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: جاء رجل إلى كعب فقال: يا كعب أين ربنا؟ فقال له الناس: دقّ الله تعالى، أفتسال عن هذا؟ فقال كعب: دعوه، فإن يك عالما ازداد، وإن يك جاهلا تعلم. سألت أين ربنا، وهو على العرش العظيم متكئ، واضع إحدى رجليه على الأخرى، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، حتى تمّ سبع أرضين، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، والله على العرم متكئ، ثم تفطر السموات. ثم قال كعب: اقرءوا إن شئتم (مِنْ فَوْقِهِنَّ) .... الآية. وقوله: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) يقول تعالى ذكره: والملائكة يصلون بطاعة ربهم وشكرهم له من هيبة جلاله وعظمته. كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قال: والملائكة يسبحون له من عظمته. وقوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ) يقول: ويسألون ربهم المغفرة لذنوب من في الأرض من أهل الإيمان به. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ) قال: للمؤمنين. يقول الله عزّ وجلّ: ألا إن الله هو الغفور لذنوب مؤمني عباده، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها. القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) يا محمد من مشركي قومك (مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) آلهة يتولونها ويعبدونها (اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) يحصي عليهم أفعالهم، ويحفظ أعمالهم، ليجازيهم بها يوم القيامة جزاءهم. (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) يقول: ولست أنت يا محمد بالوكيل عليهم بحفظ أعمالهم، إنما أنت منذر، فبلغهم ما أرسلت به إليهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب. القول في تأويل قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) يقول تعالى ذكره: وهكذا (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يا محمد (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) بلسان العرب، لأن الذين أرسلتك إليهم قوم عرب، فأوحينا إليك هذا القرآن بألسنتهم، ليفهموا ما فيه من حجج الله وذكره، لأنا لا نرسل رسولا إلا بلسان قومه، ليبين لهم (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) وهي مكة (وَمَنْ حَوْلَهَا) يقول: ومن حول أم القرى من سائر الناس. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى) قال: مكة. وقوله: (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) يقول عزّ وجلّ: وتنذر عقاب الله في يوم الجمع عباده لموقف الحساب والعرض. وقيل: وتنذر يوم الجمع، والمعنى: وتنذرهم يوم الجمع، كما قيل: يخوّف أولياءه، والمعنى: يخوّفكم أولياءه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) قال: يوم القيامة. وقوله: (لا رَيْبَ فِيهِ) يقول: لا شكّ فيه. وقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) يقول: منهم فريق في الجنة، وهم الذين آمنوا بالله واتبعوا ما جاءهم به رسوله (وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) يقول: ومنهم فريق في الموقدة من نار الله المسعورة على أهلها، وهم الذين كفروا بالله، وخالفوا ما جاءهم به رسوله. وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي قبيل المعافريّ، عن شفيّ الأصبحيّ، عن رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: "خرج علينا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وفى يده كتابان، فقال:" هل تدرون ما هذا؟ "فقلنا: لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال:" هَذَا كِتابٌ مِنْ رَبّ العَالمِينَ، فِيهِ أسْمَاءُ أهْلِ الجَنَّة، وأسْمَاءُ آبائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ "، ثُمَّ أجْمَلَ (1) على آخِرِهِمْ، فَلا يُزَاد فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبَدًا، وهَذَا كِتَابُ أهْلِ النَّارِ بأسْمائِهِمْ وأسْمَاءِ آبَائِهِمْ" ، ثُمَّ أجْمَلَ على آخِرِهِمْ، "فَلا يُزَادُ ولا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أبَدًا" ، قال أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ففيم إذن نعمل إن كان هذا أمر قد فُرغ منه؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "بَلْ سَدِّدُوا وقَارِبُوا، فإنَّ صَاحبَ الجَنَّة يُخْتَمُ لَهُ بعَمَلِ الْجَنَّةِ وإنْ عَمِلَ أيَّ عَمَلٍ، وَصَاحِبُ النَّارِ يُخْتَمُ لَه بعَمَلِ النَّارِ وإنْ عَمِلَ أيَّ عَمَلٍ، فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ العِبَادِ" ثم قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بيديه فنبذهما: "فَرَغَ رَبُّكُمْ مِنَ الخَلْقِ، فَرِيقٌ في الجَنَّةِ، وفَرِيقٌ في السَّعِيرِ" قالوا: سبحان الله، فلم نعمل وننصب؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "العَمَلُ إلى خَوَاتِمِهِ" . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح، عن يحيى بن أبي أسيد، أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن الله تعالى ذكره لما خلق آدم نفضه نفض المزود، فأخرج منه كلّ ذرية، فخرج أمثال النغف، فقبضهم قبضتين، ثم قال: شقي وسعيد، ثم ألقاهما، ثم قبضهما فقال: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) "." قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي شُبُّويه، حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى قال: يا ربّ خلقك الذين خلقتهم، جعلت منهم فريقا في الجنة، (1) أجمل: أي ذكر جملة عددهم في آخر الكتاب. وفريقا في السعير، لو ما أدخلتهم كلهم الجنة قال: يا موسى ارفع زرعك، فرفع، قال: قد رفعت، قال: ارفع، فرفع، فلم يترك شيئا، قال: يا رب قد رفعت، قال: ارفع، قال: قد رفعت إلا ما لا خير فيه، قال: كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه. وقيل: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) فرفع. وقد تقدم الكلام قبل ذلك بقوله: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) بالنصب، لأنه أريد به الابتداء، كما يقال: رأيت العسكر مقتول أو منهزم، بمعنى: منهم مقتول، ومنهم منهزم. القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) } يقول تعالى ذكره: ولو أراد الله أن يجمع خلقه على هدى، ويجعلهم على ملة واحدة لفعل، و (لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) يقول: أهل ملة واحدة، وجماعة مجتمعة على دين واحد. يقول: لم يفعل ذلك فيجعلهم أمة واحدة، ولكن يدخل من يشاء، من عباده في رحمته، يعني أنه يدخله في رحمته بتوفيقه إياه للدخول في دينه، الذي ابتعث به نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. يقول: والكافرون بالله ما لهم من ولي يتولاهم يوم القيامة، ولا نصير ينصرهم من عقاب الله حين يعاقبهم، فينقذهم من عذابه، ويقتص لهم ممن عاقبهم، وإنما قيل هذا لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تسلية له عما كان يناله من الهمّ بتولية قومه عنه، وأمرا له بترك إدخال المكروه على نفسه من أجل إدبار من أدبر عنه منهم، فلم يستجب لما دعاه إليه من الحق، وإعلاما له أن أمور عباده بيده، وأنه الهادي إلى الحق من شاء، والمضل من أراد دونه، ودون كلّ أحد سواه. القول في تأويل قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) } يقول تعالى ذكره: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله أولياء من دون الله يتولونهم. (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ) يقول: فالله هو وليّ أوليائه، وإياه فليتخذوا وليا لا الآلهة والأوثان، ولا ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا. (وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى) يقول: والله يحيي الموتى من بعد مماتهم، فيحشرهم يوم القيامة. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقول: والله القادر على إحياء خلقه من بعد مماتهم وعلى غير ذلك، إنه ذو قدرة على كل شيء. وقوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) يقول تعالى ذكره: وما اختلفتم أيها الناس فيه من شيء فتنازعتم بينكم، فحكمه إلى الله. يقول: فإن الله هو الذي يقضي بينكم ويفصل فيه الحكم. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) قال ابن عمرو في حديثه: فهو يحكم فيه، وقال الحارث: فالله يحكم فيه. وقوله: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) يقول لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء المشركين بالله هذا الذي هذه الصفات صفاته ربي، لا آلهتكم التي تدعون من دونه، التي لا تقدر على شيء (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في أموري، وإليه فوضت أسبابي، وبه وثقت (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) يقول: وإليه أرجع في أموري وأتوب من ذنوبي. القول في تأويل قوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } يقول تعالى ذكره: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) ، خالق السموات السبع والأرض. كما: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: خالق. وقوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) يقول تعالى ذكره: زوّجكم ربكم من أنفسكم أزواجا. وإنما قال جلّ ثناؤه: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) لأنه خلق حوّاء من ضلع آدم، فهو من الرجال. (وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا) يقول جلّ ثناؤه: وجعل لكم من الأنعام أزواجا من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ذكورا وإناثا، ومن كل جنس من ذلك. (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) يقول: يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم، ويعيشكم فيما جعل لكم من الأنعام. وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) في هذا الموضع، فقال بعضهم: معنى ذلك: يخلقكم فيه. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيع، عن مجاهد، في قوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال: نسل بعد نسل من الناس والأنعام. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (يَذْرَؤُكُمْ) قال: يخلقكم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد، في قوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال: نسلا بعد نسل من الناس والأنعام. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال ثنا شعبة، عن منصور، أنه قال في هذه الآية: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال يخلقكم. وقال آخرون: بل معناه: يعيشكم فيه. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) يقول: يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال: يعيشكم فيه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) قال: عيش من الله يعيشكم فيه. وهذان القولان وإن اختلفا في اللفظ من قائليهما فقد يحتمل توجيههما إلى معنى واحد، وهو أن يكون القائل في معناه يعيشكم فيه، أراد بقوله ذلك: يحييكم بعيشكم به كما يحيي من لم يخلق بتكوينه إياه، ونفخه الروح فيه حتى يعيش حيا. وقد بينت معنى ذرء الله الخلق فيما مضى بشواهده المغنية عن إعادته. وقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فيه وجهان: أحدهما أن يكون معناه: ليس هو كشيء، وأدخل المثل في الكلام توكيدًا للكلام إذا اختلف اللفظ به وبالكاف، وهما بمعنى واحد، كما قيل: ما إن نديت بشيء أنت تكرهه (1) (1) هذا مصراع أول من بيت للنابغة الذبياني. وعجزه: * إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي * (انظر مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي) ورواية الشطر الأول فيه: * ما قلت من سييء مما أتيت به * قال شارحه: يقول: إذا كنت قلت هذا الذي بلغك، فشلت يدي حتى لا أطيق رفع السوط على خفته. وروى في اللسان والتاج كرواية المؤلف، قال الزبيدي: يقال: ما نديني من فلان شيء أكرهه، أي ما بلني ولا أصابني. وما نديت له كفى بشر وما نديت بشيء. ومحل الشاهد في البيت عند المؤلف قوله "ما إن" حيث أدخل حرف النفي "ما" على حرف النفي "إن" لاختلاف لفظهما، توكيدا للكلام. وهو نظير إدخال كاف التشبيه، على كلمة "مثل" التي تفيد التشبيه، في قوله تعالى (ليس كمثله شيء) ، لتوكيد الكلام؛ لاختلاف اللفظين. فأدخل على "ما" وهي حرف جحد "إن" وهي أيضًا حرف جحد، لاختلاف اللفظ بهما، وإن اتفق معناهما توكيدا للكلام، وكما قال أوس بن حجر: وَقَتْلَى كمِثْلِ جذُوعِ النَّخيلْ ... تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ (1) ومعنى ذلك: كجذوع النخيل، وكما قال الآخر: سَعْدُ بْنُ زيد إذَا أبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ ... ما إن كمِثْلِهِمِ فِي النَّاسِ مِنْ أحَدٍ (2) والآخر: أن يكون معناه: ليس مثل شيء، وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام، كقول الراجز: * وَصَالِياتٍ كَكَما يُؤْثَفَيْنِ (3) (1) وهذا الشاهد من كلام أوس بن حجر التميمي، وهو شاعر جاهلي مشهور، شاهد كالشاهد السابق، أدل فيه أداة التشبيه "الكاف" على أختها في المعنى "مثل" لاختلاف لفظهما، توكيدا للكلام، وهو نظير "ما" في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) . (2) لم أقف على قائل هذا البيت. وقد استشهد به المؤلف على إدخال أداتي التشبيه (الكاف، ومثل) معا على شيء واحد، فهو في معنى الشاهدين قبله. (3) هذا بيت من عدة أبيات من مشطور الرجز، ينسبان على خطام المجاشعي، ونسبهما الجوهري في الصحاح، والصقلي في شرحه لأبيات الإيضاح للفارسي، إلى هميان بن قحافة. وبيت الشاهد آخرها بيتا. (انظر الأبيات في هامش صفحة 282 من الجزء الأول من سر صناعة الإعراب لابن جنى طبعة شركة مصطفى البابي الحبي وأولاده) وفيه: الصاليات: الأثافي التي توضع عليها القدور وقد صليت النار حتى اسودت. ويؤثفين: يجعلن أثافي للقدر، وهي جمع أثفية، يقال أثفى القدر يثفيها: جعل لها أثافي. ومحل الشاهد قوله "كما" فإن الكاف الأولى حرف، والثانية اسم بمعنى مثل. والمعنى: لم يبق إلا حجارة منصوبة كمثل الأثافي. واستشهد به المؤلف على دخول الكاف على الكاف لتوكيد الكلام. فأدخل على الكاف كافا توكيدا للتشبيه، وكما قال الآخر: تَنْفِي الغَيادِيقُ عَلى الطَّرِيقِ ... قَلَّصَ عَنْ كَبَيْضَةٍ فِي نِيقِ (1) فأدخل الكاف مع "عن" ، وقد بيَّنا هذا في موضع غير هذا المكان بشرح هو أبلغ من هذا الشرح، فلذلك تجوّزنا في البيان عنه في هذا الموضع. وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يقول جلّ ثناؤه واصفا نفسه بما هو به، وهو يعني نفسه: السميع لما تنطق به خلقه من قول، البصير لأعمالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء، ولا يعزب عنه علم شيء منه، وهو محيط بجميعه، محصٍ صغيره وكبيره (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) من خير أو شرّ. القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) } يعني تعالى ذكره بقوله: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) : له مفاتيح خزائن السموات والأرض وبيده مغاليق الخير والشر ومفاتيحها، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. (1) لم أقف على قائل البيت. ولم يتضح لي معناه تماما، ولعل فيه تحريفا من الناسخ. وموضع الشاهد فيه واضح، وهو دخول "عن" على الكاف في قوله "كبيضة" فإما أن تكون الكاف زائدة، أي عن بيضة، وإما أن تكون الكاف اسما بمعنى مثل في محل جر. ![]()
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشورى الحلقة (1219) صــ 511 الى صــ 520 * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: مفاتيح بالفارسية. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: مفاتيح السموات والأرض. وعن الحسن بمثل ذلك. ثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) قال: خزائن السموات والأرض. وقوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) يقول: يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه، ويبسط له، ويكثر ماله ويغنيه. ويقدر: يقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيقه ويفقره. (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: إن الله تبارك وتعالى بكل ما يفعل من توسيعه على من يوسع، وتقتيره على من يقتر، ومن الذي يُصلحه البسط عليه في الرزق، ويفسده من خلقه، والذي يصلحه التقتير عليه ويفسده، وغير ذلك من الأمور، ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره، من صلاح تدبير خلقه. يقول تعالى ذكره: فإلى من له مقاليد السموات والأرض الذي صفته ما وصفت لكم في هذه الآيات أيها الناس فارغبوا، وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والآلهة والأصنام، التي لا تملك لكم ضرّا ولا نفعا. القول في تأويل قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) يقول تعالى ذكره: (شَرَعَ لَكُمْ) ربكم أيها الناس (مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) أن يعمله (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) يقول لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: وشرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك يا محمد، فأمرناك به (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) يقول: شرع لكم من الدين، أن أقيموا الدين "فأن" إذ كان ذلك معنى الكلام، في موضع نصب على الترجمة بها عن "ما" التي في قوله: (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) . ويجوز أن تكون في موضع خفض ردّا على الهاء التي في قوله: (بِهِ) ، وتفسيرا عنها، فيكون معنى الكلام حينئذ: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه. وجائز أن تكون في موضع رفع على الاستئناف، فيكون معنى الكلام حينئذ: شرع لكم من الدين ما وصى به، وهو أن أقيموا الدين. وإذ كان معنى الكلام ما وصفت، فمعلوم أن الذي أوصى به جميع هؤلاء الأنبياء وصية واحدة، وهي إقامة الدين الحق، ولا تتفرقوا فيه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) قال: ما أوصاك به وأنبيائه، كلهم دين واحد. حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) قال: هو الدين كله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) بعث نوح حين بعث بالشريعة بتحليل الحلال، وتحريم الحرام (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) . حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) قال: الحلال والحرام. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) .... إلى آخر الآية، قال: حسبك ما قيل لك. وعنى بقوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) أن اعملوا به على ما شرع لكم وفرض، كما قد بينا فيما مضى قبل في قوله: (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، في قوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) قال: اعملوا به. وقوله: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) يقول: ولا تختلفوا في الدين الذي أمرتم بالقيام به، كما اختلف الأحزاب من قبلكم. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) تعلموا أن الفرقة هلكة، وأن الجماعة ثقة. وقوله: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: كبر على المشركين بالله من قومك يا محمد ما تدعوهم إليه من إخلاص العبادة لله، وإفراده بالألوهية والبراءة مما سواه من الآلهة والأنداد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) قال: أنكرها المشركون، وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلا الله، فصادمها إبليس وجنوده، فأبى الله تبارك وتعالى إلا أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها. وقوله: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يقول: الله يصطفي إليه من يشاء من خلقه، ويختار لنفسه، وولايته من أحبّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) يقول: ويوفق للعمل بطاعته، واتباع ما بعث به نبيه عليه الصلاة والسلام من الحق من أقبل إلى طاعته، وراجع التوبة من معاصيه. كما حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) : من يقبل إلى طاعة الله. القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) } يقول تعالى ذكره: وما تفرّق المشركون بالله في أديانهم فصاروا أحزابا، إلا من بعد ما جاءهم العلم، بأن الذي أمرهم الله به، وبعث به نوحا، هو إقامة الدين الحقّ، وأن لا تتفرّقوا فيه. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) فقال: إياكم والفرقة فإنها هلكة (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) يقول: بغيا من بعضكم على بعض وحسدا وعداوة على طلب الدنيا. (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) يقول جلّ ثناؤه: ولولا قول سبق يا محمد من ربك لا يعاجلهم بالعذاب، ولكنه أخر ذلك إلى أجل مسمى، وذلك الأجل المسمى فيما ذُكر: يوم القيامة. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال: يوم القيامة. وقوله: (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يقول: لفرغ ربك من الحكم بين هؤلاء المختلفين في الحق الذي بعث به نبيه نوحا من بعد علمهم به، بإهلاكه أهل الباطل منهم، وإظهاره أهل الحقّ عليهم. وقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يقول: وإن الذين أتاهم الله من بعد هؤلاء المختلفين في الحقّ كتابه التوراة والإنجيل. (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يقول: لفي شكّ من الدين الذين وصّى الله به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد، وأمركما بإقامته مريب. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) قال: اليهود والنصارى. القول في تأويل قوله تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) يقول تعالى ذكره: فإلى ذلك الدين الذي شَرَع لكم، ووصّى به نوحا، وأوحاه إليك يا محمد، فادع عباد الله، واستقم على العمل به، ولا تزغ عنه، واثبت عليه كما أمرك ربك بالاستقامة. وقيل: فلذلك فادع، والمعنى: فإلى ذلك، فوضعت اللام موضع إلى، كما قيل: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) وقد بيَّنا ذلك في غير موضع من كتابنا هذا. وكان بعض أهل العربية يوجه معنى ذلك، في قوله: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ) إلى معنى هذا، ويقول: معنى الكلام: فإلى هذا القرآن فادع واستقم. والذي قال من هذا القول قريب المعنى مما قلناه، غير أن الذي قلنا في ذلك أولى بتأويل الكلام، لأنه في سياق خبر الله جلّ ثناؤه عما شرع لكم من الدين لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإقامته، ولم يأت من الكلام ما يدلّ على انصرافه عنه إلى غيره. وقوله: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولا تتبع يا محمد أهواء الذين شكُّوا في الحقّ الذي شرعه الله لكم من الذين أورثوا الكتاب من بعد القرون الماضية قبلهم، فتشك فيه، كالذي شكوا فيه. يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: صدّقت بما أنزل الله من كتاب كائنا ما كان ذلك الكتاب، توراة كان أو إنجيلا أو زبورا أو صحف إبراهيم، لا أكذب بشيء من ذلك تكذيبكم ببعضه معشر الأحزاب، وتصديقكم ببعض. وقوله: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم معشر الأحزاب، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه. كالذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) قال: أمر نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يعدل، فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه. والعدل ميزان الله في الأرض، به يأخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من الشديد، وبالعدل يصدّق الله الصادق، ويكذّب الكاذب، وبالعدل يردّ المعتدي ويوبخه. ذكر لنا أن نبي الله داود عليه السلام: كان يقول: ثلاث من كن فيه أعجبني جدا: القصد في الفاقة والغنى، والعدل في الرضا والغضب، والخشية في السر والعلانية; وثلاث من كن فيه أهلكه: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وأربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: لسان ذاكر، وقلب شاكر، وبدن صابر، وزوجة مؤمنة. واختلف أهل العربية في معنى اللام التي في قوله: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) فقال بعض نحويي البصرة: معناها: كي، وأمرت كي أعدل; وقال غيره: معنى الكلام: وأمرت بالعدل، والأمر واقع على ما بعده، وليست اللام التي في لأعدل بشرط; قال: (وَأُمِرْتُ) تقع على "أن" وعلى "كي" واللام أمرت أن أعبد، وكي أعبد، ولأعبد. قال: وكذلك كلّ من طالب الاستقبال، ففيه هذه الأوجه الثلاثة. والصواب من القول في ذلك عندي أن الأمر عامل في معنى لأعدل، لأن معناه: وأمرت بالعدل بينكم. وقوله: (اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) يقول: الله مالكنا ومالككم معشر الأحزاب ما أهل الكتابين التوراة والإنجيل. يقول: لنا ثواب ما اكتسبناه من الأعمال، ولكم ثواب ما اكتسبتم منها. وقوله: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) يقول: لا خصومة بيننا وبينكم. كما: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; والحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم) قال: لا خصومة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله عز وجل: (لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) لا خصومة بيننا وبينكم، وقرأ: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .... إلى آخر الآية. وقوله: (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا) يقول: الله يجمع بيننا يوم القيامة، فيقضي بيننا بالحقّ فيما اختلفنا فيه. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يقول: وإليه المعاد والمرجع بعد مماتنا. القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) } يقول تعالى ذكره: والذين يخاصمون في دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من بعد ما استجاب له الناس، فدخلوا فيه من الذين أورثوا الكتاب (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) يقول: خصومتهم التي يخاصمون فيه باطلة ذاهبة عند ربهم (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) يقول: وعليهم من الله غضب، ولهم في الآخرة عذاب شديد، وهو عذاب النار. وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود خاصموا أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في دينهم، وطمعوا أن يصدوهم عنه، ويردوهم عن الإسلام إلى الكفر. * ذكر الرواية عمن ذكر ذلك عنه: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) قال: هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين، ويصدّونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله. وقال: هم أهل الضلالة كان استجيب لهم على ضلالتهم، وهم يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) قال: طمع رجال بأن تعود الجاهلية. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، أنه قال في هذه الآية (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) قال: بعد ما دخل الناس في الإسلام. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال: هم اليهود والنصارى، قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) الآية، قال: هم اليهود والنصارى حاجوا أصحاب نبي الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن أولى بالله منكم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ) .... إلى آخر الآية، قال: نهاه عن الخصومة. القول في تأويل قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) يقول تعالى ذكره: (اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ) هذا (الكِتَابَ) يعني القرآن (بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) يقول: وأنزل الميزان وهو العدل، ليقضي بين الناس بالإنصاف، ويحكم فيهم بحكم الله الذي أمر به في كتابه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) قال: العدل. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) قال: الميزان: العدل. وقوله: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) يقول تعالى ذكره: وأيّ شيء يدريك ويعلمك، لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة قريب (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا) : يقول: يستعجلك يا محمد بمجيئها الذين لا يوقنون بمجيئها، ظنا منهم أنها غير جائية (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا) يقول: والذين صدّقوا بمجيئها، ووعد الله إياهم الحشر فيها، (مُشْفِقُونَ مِنْهَا) يقول: وَجِلون من مجيئها، خائفون من قيامها، لأنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم فيها (وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) يقول: ويوقنون أن مجيئها الحقّ اليقين، لا يمترون في مجيئها (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ) يقول تعالى ذكره: ألا إن الذين يخاصمون في قيام الساعة ويجادلون فيه (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) يقول: لفي جَور عن طريق الهدى، وزيغ عن سبيل الحقّ والرشاد، بعيد من الصواب. ![]()
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
![]() تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن الإمام محمد بن جرير الطبري الجزء الحادى والعشرون تَفْسِيرِ سُّورَةِ الشورى الحلقة (1220) صــ 521 الى صــ 530 القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) } يقول تعالى ذكره: الله ذو لطف بعباده، يرزق من يشاء فيوسع عليه ويقتر على من يشاء منهم. (وَهُوَ الْقَوِيُّ) الذي لا يغلبه ذو أيد لشدته، ولا يمتنع عليه إذا أراد عقابه بقدرته (العَزِيزُ) في انتقامه إذا انتقم من أهل معاصيه. (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في حرثه: يقول: نزد له في عمله الحسن، فنجعل له بالواحدة عشرا، إلى ما شاء ربنا من الزيادة (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) يقول: ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للآخرة، نؤته منها ما قسمنا له منها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) ... إلى (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) قال: يقول: من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا) .... الآية، يقول: من آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلا النار، ولم نزده بذلك من الدنيا شيئا إلا رزقا قد فرغ منه وقسم له. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) قال: من كان يريد الآخرة وعملها نزد له في عمله (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) ... إلى آخر الآية، قال: من أراد الدنيا وعملها آتيناه منها، ولم نجعل له في الآخرة من نصيب، الحرث العمل، من عمل للآخرة أعطاه الله، ومن عمل للدنيا أعطاه الله. حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) قال: من كان يريد عمل الآخرة نزد له في عمله. وقوله: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) قال: للكافر عذاب أليم. القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) } يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين بالله شركاء في شركهم وضلالتهم (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) يقول: ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبح الله لهم ابتداعه (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولولا السابق من الله في أنه لا يعجل لهم العذاب في الدنيا، وأنه مضى من قيله إنهم مؤخرون بالعقوبة إلى قيام الساعة، لفرغ من الحكم بينكم وبينهم بتعجيله العذاب لهم في الدنيا، ولكن لهم في الآخرة من العذاب الأليم، كما قال جلّ ثناؤه: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يقول: وإن الكافرين بالله لهم يوم القيامة عذاب مؤلم مُوجع. القول في تأويل قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ترى يا محمد الكافرين بالله يوم القيامة (مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا) يقول: وَجِلين خائفين من عقاب الله على ما كسبوا في الدنيا من أعمالهم الخبيثة. (وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ) يقول: والذين هم مشفقون منه من عذاب الله نازل بهم، وهم ذائقوه لا محالة. وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ) يقول تعالى ذكره: والذين آمنوا بالله وأطاعوه فيما أمر ونهى في الدنيا في روضات البساتين في الآخرة. ويعني بالروضات: جمع روضة، وهي المكان الذي يكثر نبته، ولا تقول العرب لمواضع الأشجار رياض; ومنه قول أبي النجم. والنَّغضَ مِثْلَ الأجْرَبِ المُدَّجَّلِ ... حَدائِقَ الرَّوْضِ التي لَمْ تُحْلَلِ (1) يعني بالروض: جمع روضة. وإنما عنى جل ثناؤه بذلك: الخبر عما هم (1) هذان بيتان من مشطور الرجز، لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي والأرجوزة بتمامها في مجلة المجمع العلمي (مجلد 8: 472) وروى البيت الأول منهما وفسره ابن قتيبة في كتابه (المعاني الكبير، طبع الهند 332 - 333) والنغض من أسماء الظليم، لأنه يحرك رأسه إذا عدا. والمدجل: المهنوء بالقطران. وشبهه بالأجرب، لأنه قد أسن وذهب ريشه من أرفاغه. وفي (اللسان: دجل) : شدة طلي الجرب بالقطران. والمدجل: المهنوء بالقطران. ونغض برأسه ينغض نغضا: حركه. وإنما سمي الظليم نغضا، لأنه إذا عجل في مشيته ارتفع وانخفض. اهـ. والنغض منصوب بالفعل "راعت" في البيت قبله، أي راقبته ونظرت إليه. والحدائق: جمع حديقة، وهي القطعة من الزرع؛ وكل بستان كان عليه حائط فهو حديقة. وما لم يكن عليه حائط، لم يقل له حديقة. وقال الزجاج: الحدائق البساتين والشجر الملتف. وحدائق الروض: ما أعشب منه والتف. يقال: روضة بني فلان ما هي إلا حديقة. وإذا لم يكن فيها عشب فهي روضة (اللسان: حدق) ونصب قوله حدائق بقوله "تبقلت من أول التبقل" وهو بيت في أول الأرجوزة. والتي لم تحال: التي لم توطأ ولم ترعها الحيوانات، فيقل نبتها. فيه من السرور والنعيم. كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ) إلى آخر الآية. قال في رياض الجنة ونعيمها. وقوله: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقول للذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في الآخرة ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم، ذلك هوالفوز الكبير، يقول تعالى ذكره: هذا الذي أعطاهم الله من هذا النعيم، وهذه الكرامة في الآخرة: هو الفضل من الله عليهم، الكبير الذي يفضل كلّ نعيم وكرامة في الدنيا من بعض أهلها على بعض. القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) } يقول تعالى ذكره: هذا الذي أخبرتكم أيها الناس أني أعددته للذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرة من النعيم والكرامة، البشرى التي يبشر الله عباده الذين آمنوا به في الدنيا، وعملوا بطاعته فيها. (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد للذين يمارونك في الساعة من مشركي قومك: لا أسألكم أيها القوم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذي جئتكم به، والنصيحة التي أنصحكم ثوابا وجزاء، وعوضا من موالكم تعطوننيه (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) . واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) . فقال بعضهم: معناه: إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتصلوا رحمي بيني وبينكم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن ابن عباس، في قوله: (لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وبينهم قرابة، فقال: "قل لا أسألكم عليه أجرا أن تودّوني في القرابة التي بيني وبينكم" . حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: سئل عنها ابن عباس، فقال ابن جبير: هم قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت، إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن بطن من بطون قريش إلا وله فيهم قرابة، قال: فنزلت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: "إلا القرابة التي بيني وبينكم أن تصلوها" . حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: كان لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرابة في جميع قريش، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال: "يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونُصرتي منكم" . حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يعني محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال لقريش: "لا أسألكم من أموالكم شيئا، ولكن أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم، فإنكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني" . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة، قال: إن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم كان واسطا من قريش، كان له في كلّ بطن من قريش نسب، فقال: ولا أسْألُكُمْ على ما أدْعُوكُمْ إلَيْهِ إلا أنْ تَحْفظُوني في قَرَابَتِي، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى "." حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم واسط النسب من قريش، ليس حيّ من أحياء قريش إلا وقد ولدوه; قال: فقال الله عز وجل: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) : "إلا أن تودّوني لقرابتي منكم وتحفظوني" . حدثنا أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من بني هاشم وأمه من بني زهرة وأم أبيه من بني مخزوم، فقال: "احفظوني في قرابتي" . حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا حرمي، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني عمارة، عن عكرمة، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: تعرفون قرابتي، وتصدّقونني بما جئت به، وتمنعوني. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) وإن الله تبارك وتعالى أمر محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن لا يسأل الناس على هذا القرآن أجرا إلا أن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة، وكلّ بطون قريش قد ولدته وبينه وبينهم قرابة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) أن تتبعوني، وتصدقوني وتصلوا رحمي. حدثنا محمد، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، فى قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فيهم ولادة، فقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني لقرابتي منكم. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يعني قريشا. يقول: إنما أنا رجل منكم، فأعينوني على عدويّ، واحفظوا قرابتي، وإن الذي جئتكم به لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى، أن تودّوني لقرابتي، وتعينوني على عدويّ. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: يقول: إلا أن تودّوني لقرابتي كما توادّون في قرابتكم وتواصلون بها، ليس هذا الذي جئت به يقطع ذلك عني، فلست أبتغي على الذي جئت به أجرا آخذه على ذلك منكم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن عطاء بن دينار، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) يقول: لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا، إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتمنعوني من الناس. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: كل قريش كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قرابة، فقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني بالقرابة التي بيني وبينكم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لمن تبعك من المؤمنين: لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا إلا أن تودّوا قرابتي. * ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا إسماعيل بن أبان، قال: ثنا الصباح بن يحيى المريّ، عن السديّ، عن أبي الديلم قال: لما جيء بعليّ بن الحسين رضي الله عنهما أسيرا، فأقيم على درج دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم، وقطع قربى الفتنة، فقال له عليّ بن الحسين رضي الله عنهما: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم، قال: ما قرأت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ؟ قال: وإنكم لأنتم هم؟ قال نعم. حدثنا أبو كُرَيب قال: ثنا مالك بن إسماعيل، قال: ثنا عبد السلام، قال: ثنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا، فكأنهم فخروا، قال ابن عباس، أو العباس، شكّ عبد السلام: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأتاهم في مجالسهم، فقال: "يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ألَمْ تَكُونُوا أذِلَّةً فأعَزَّكُمُ الله بِي؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ألَمْ تَكُونُوا ضُلالا فَهَدَاكُمْ الله بِي؟ "قالوا: بلى يا رسول الله، قال:" أفلا تُجِيبُونِي؟ "قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال:" ألا تقولون: ألَمْ يُخْرِجْكَ قَوْمُكَ فآوَيْناكَ، أوَلَمْ يُكَذِّبُوكَ فَصَدَّقْنَاكَ، أوَلَمْ يَخْذُلُوكَ فَنَصَرْنَاكَ؟ "قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله، قال: فنزلت (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ." حدثني يعقوب، قال: ثنا مروان، عن يحيى بن كثير، عن أبي العالية، عن سعيد بن جُبير، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: هي قُربى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. حدثني محمد بن عمارة الأسدي ومحمد بن خلف قالا ثنا عبيد الله قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق قال: سألت عمرو بن شعيبٍ، عن قول الله عزّ وجلّ: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: قُربى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لا أسألكم أيها الناس على ما جئتكم به أجرا إلا أن تودّدوا إلى الله، وتتقربوا بالعمل الصالح والطاعة. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ بن داود ومحمد بن داود أخوه أيضًا قالا ثنا عاصم بن عليّ، قال: ثنا قزعة بن سويد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "قل لا أسألُكُمْ على ما أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ البَيِّنَاتِ والهُدَى أجْرًا إلا أنْ تَوَدَّدُوا الله وتَتَقَرَّبُوا إلَيْهِ بطاعَتِهِ" . حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن أنه قال في هذه الآية (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: القُربى إلى الله. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا عوف، عن الحسن، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: إلا التقرّب إلى الله، والتودّد إليه بالعمل الصالح. بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الحسن: في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قل لا أسألكم على ما جئتكم به، وعلى هذا الكتاب أجرا، إلا المودّة في القربى، إلا أن تودّدوا إلى الله بما يقرّبكم إليه، وعمل بطاعته. قال بشر: قال يزيد: وحدثنيه يونس، عن الحسن، حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) إلا أن توددوا إلى الله فيما يقرّبكم إليه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا أن تصلوا قرابتكم. * ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا قرة، عن عبد الله بن القاسم، في قوله: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) قال: أمرت أن تصل قرابتك. وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معناه: قل لا أسألكم عليه أجرا يا معشر قريش، إلا أن تودّوني في قرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم. وإنما قلت: هذا التأويل أولى بتأويل الآية لدخول "في" في قوله: (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ، ولو كان معنى ذلك على ما قاله من قال: إلا أن تودوا قرابتي، أو تقربوا إلى الله، لم يكن لدخول "في" في الكلام في هذا الموضع وجه معروف، ولكان التنزيل: إلا مودّة القُربى إن عُنِي به الأمر بمودّة قرابة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو إلا المودّة بالقُرْبَى، أو ذا القربى إن عُنِي به التودّد والتقرب. وفي دخول "في" في الكلام أوضح الدليل على أن معناه: إلا مودّتي في قرابتي منكم، وأن الألف واللام فى المودّة أدخلتا بدلا من الإضافة، كما قيل: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) وقوله: "إلا" في هذا الموضع استثناء منقطع. ومعنى الكلام: قل لا أسألكم عليه أجرا، لكني أسألكم المودّة في القُربى، فالمودّة منصوبة على المعنى الذي ذكرت. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: هي منصوبة بمضمر من الفعل، بمعنى: إلا أن أذكر مودّة قرابتي. وقوله: (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) يقول تعالى ذكره: ومن يعمل حسنة، وذلك أن يعمل عملا يطيع الله فيه من المؤمنين (نزدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) يقول: نضاعف عمله ذلك الحسن، فنجعل له مكان الواحد عشرا إلى ما شئنا من الجزاء والثواب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ![]()
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 10 ( الأعضاء 0 والزوار 10) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |