تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد - الصفحة 127 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 5053 - عددالزوار : 2230450 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4635 - عددالزوار : 1508956 )           »          الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 294 - عددالزوار : 42115 )           »          أفضل الكلام وأحبه إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 189 )           »          قلبٌ وقلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 58 - عددالزوار : 15450 )           »          خواطرفي سبيل الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 15955 )           »          السؤال عن علة الحكم مرفوض فى الشريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          الإجماع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          المقدمات المحتاج إليها قبل النظر ​ فى علم أصول الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 35 )           »          فقه المآل بين أهل الظاهر وغيرهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 26-07-2025, 04:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الحجرات
الحلقة (1261)
صــ 281 الى صــ 290





ذكر ابن الزبير جدّه، يعني أبا بكر.
وقوله (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ) يقول: أن لا تحبط أعمالكم فتذهب باطلة لا ثواب لكم عليها، ولا جزاء برفعكم أصواتكم فوق صوت نبيكم، وجهركم له بالقول كجهر بعضكم لبعض.
وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك، فقال بعض نحويي الكوفة: معناه: لا تحبط أعمالكم. قال: وفيه الجزم والرفع إذا وضعت "لا" مكان "أن" . قال: وهي في قراءة عبد الله (فَتَحْبَطْ أَعْمَالُكُمْ) وهو دليل على جواز الجزم، وقال بعض نحويي البصرة: قال: أن تحبط أعمالكم: أي مخافة أن تحبط أعمالكم وقد يقال: أسند الحائط أن يميل.
وقوله (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) يقول: وأنتم لا تعلمون ولا تدرون.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين يكفون رفع أصواتهم عند رسول الله، وأصل الغضّ: الكفّ في لين. ومنه: غضّ البصر، وهو كفه عن النظر، كما قال جرير:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْر ... فَلا كَعْبا بَلَغتَ وَلا كِلابا (1)
(1)
البيت لجرير بن الخطفي، من قصيدة يهجو بها الراعي النميري الشاعر. (ديوانه 64) يقول له. غض نظرك أي كف بصرك ذلا ومهانة. وهذا موضع الشاهد عند قوله تعالى "يغضون أصواتهم عند رسول الله" وهو من ذلك. قال في "اللسان: غض" : وغض طرفه وبصره، يغضه غضا وغضاضا (ككتاب) وغضاضة (كسحابة) فهو مغضوض وغضيض "كفه وخفضه وكسره، وقيل: هو إذا دانى بين جفونه ونظر. وقيل: الغضيض: الطرف المسترخي الأجفان. وفي الحديث" كان إذا فرح غض طرفه "، أي كسره وأطرق، ولم يفتح عينيه. وإنما كان يفعل ذلك، ليكون أبعد من الأشر والمرح. أهـ. وكعب وكلاب: حيان من تميم."

وقوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله، هم الذين اختبر الله قلوبهم بامتحانه إياها، فاصطفاها وأخلصها للتقوى، يعني لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخلص جيدها، ويبطل خبثها (1) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) قال: أخلص.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) قال: أخلص الله قلوبهم فيما أحبّ.
وقوله (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) يقول: لهم من الله عفو عن ذنوبهم السالفة، وصفح منه عنها لهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) يقول: وثواب جزيل، وهو الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ 4 وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
(1)
الضمير في جيدها وخبثها: راجع إلى الذهب، لأنها مؤنثة، وقد تذكر.

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: إن الذين ينادونك يا محمد من وراء حجراتك، والحجرات: جمع حجرة، والثلاث: حُجَر، ثم تجمع الحجر فيقال: حجرات وحُجْرات، وقد تجمع بعض العرب الحجر:
حَجرات بفتح الجيم، وكذلك كلّ جمع كان من ثلاثة إلى عشرة على فُعَلٍ يجمعونه على فعَلات بفتح ثانيه، والرفع أفصح وأجود; ومنه قول الشاعر:
أما كانَ عَبَّادٌ كَفِيئا لِدَارِم ... بَلى، وَلأبْياتٍ بِها الحُجُرَات (1) يقول: بلى ولبني هاشم.
وذُكر أن هذه الآية والتي بعدها نزلت في قوم من الأعراب جاءوا ينادون رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا أبو عمار المروزي، والحسن بن الحارث، قالا ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق، عن البرّاء في قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: يا محمد إنّ حمدي زين، وإن ذمِّي شين، فقال: "ذَاكَ اللهُ تَباركَ وتَعَالى" .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن أبي إسحاق، عن البراء بمثله، إلا أنه قال: ذاكم الله عزّ وجلّ.
(1)
في كتاب الكامل للمبرد (طبعة الحلبي 85) : يقال: فلان كفاء فلان، وكفيء فلان، وكفء فلان؛ أي: عديله. ويروى أن الفرزدق بلغه أن رجلا من الحبطات بن عمرو بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، فقال الفرزدق: بَنُو دَارِمٍ أكْفاؤُهُمْ آلُ مِسْمَعٍ ... وتنكح في أكفائها الحَبِطاتُ

(آل مسمع بيت بكر بن وائل في الإسلام، وهم من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة) قال: فقال رجل من الحبطات: "أما كان عباد كفيئا ..." البيت. يعني بني هاشم (يريد أبيات بني هاشم) من قول الله عز وجل: "إن الذين ينادونك من وراء الحجرات" . والشاهد في البيت قوله "الحجرات" بضم الحاء والجيم، وهي جمع حجرة، وتجمع الحجرة وما شابهها على حجرات بضمتين، وبضم ففتح، وبضم فسكون. ويرى المؤلف أن الجمع الأول أفصح وأجود. أهـ.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا المعتمر بن سليمان التيمي، قال: سمعت داود الطُّفاوي يقول: سمعت أبا مسلم البجلي يحدث عن زيد بن أرقم، قال: جاء أناس من العرب إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملِكا نعش في جناحه; قال: فأتيت النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأخبرته بذلك، قال: ثم جاءوا إلى حجر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجعلوا ينادونه. يا محمد، فأنزل الله على نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال: فأخذ نبيّ الله بأذني فمدّها، فجعل يقول: "قَدْ صَدَّقَ اللهُ قَوْلَكَ يا زَيْدُ، قَدْ صَدَّقَ اللهُ قَوْلَكَ يا زَيْدُ" .
حدثنا الحسن بن أبي يحيى المقدمي، قال: ثنا عفان، قال: ثنا وُهَيب، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن أبي سَلَمة، قال: ثني الأقرع بن حابس التميميّ أنه أتى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فناداه، فقال: يا محمد إن مدحي زين، وإن شتمي شين; فخرج إليه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: وَيْلَكَ ذَلِكَ اللهُ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) ... الآية.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) : أعراب بني تميم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة "أن رجلا جاء إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فناداه من وراء الحُجَر، فقال: يا محمد إنّ مدحي زين، وإنّ شتمي شَيْن; فخرج إليه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: وَيْلَكَ ذلكَ اللهُ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ."
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) ... الآية، ذُكر لنا أن رجلا جعل ينادي يا
نبيّ الله يا محمد، فخرج إليه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: ما شأنُكَ؟ فقال: والله إنّ حمده لزين، وإنّ ذمَّه لَشَيْن، فقال نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ذَاكُمُ اللهُ، فأدبر الرجل، وذُكر لنا أن الرجل كان شاعرا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، قال: كان بشر بن غالب ولَبيد بن عُطارد، أو بشر بن عُطارد ولبيد بن غالب، وهما عند الحجاج جالسان، يقول بشر بن غالب للبيد بن عطارد نزلت في قومك بني تميم (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) فذكرت ذلك لسعيد بن جُبير، فقال: أما إنه لو علم بآخر الآية، أجابه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) قالوا: أسلمنا، ولم يقاتلك بنو أسد.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: "أتى أعرابيّ إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من وراء حجراته، فقال: يا محمد، يا محمد; فخرج إليه النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: مالك؟ مالك؟، فقال: تعلم أنّ مدحي لزين، وأن ذمِّي لشين، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ذَاكُمُ اللهُ، فنزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) " .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) فقرأته قرّاء الأمصار بضمّ الحاء والجيم من الحُجُرات، سوى أبي جعفر القارئ، فإنه قرأ بضم الحاء وفتح الجيم على ما وصفت من جمع الحُجرة حُجَر، ثم جمع الحُجْر: حُجُرات "."
والصواب من القراءة عندنا الضم في الحرفين كليهما لما وصفت قبل.
وقوله (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) يقول: أكثرهم جهال بدين الله، واللازم لهم من حقك وتعظيمك.
وقوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) يقول تعالى ذكره: ولو أن هؤلاء الذين ينادونك يا محمد من وراء الحجرات صبروا فلم ينادوك حتى تخرج إليهم إذا خرجت، لكان خيرا لهم عند الله، لأن الله قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، فهم بتركهم نداءك تاركون ما قد نهاهم الله عنه، (وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: الله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب، إن هو تاب من معصية الله بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك، وفي غيره; رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) عن قوم (فَتَبَيَّنُوا) .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (فَتَبَيَّنُوا) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة (فَتَثَبَّتُوا) بالثاء، وذُكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء. وقرأ ذلك بعض القرّاء فتبيَّنوا بالباء، بمعنى: أمهلوا حتى تعرفوا صحته، لا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى (فَتَثَبَّتُوا) .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط.
* ذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك:
حدثنا أبو كُريب، قال: ثنا جعفر بن عون، عن موسى بن عبيدة، عن ثابت موْلى أمّ سلمة، عن أمّ سلمة، قالت: "بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمسلمون قال: فبلغ القوم رجوعه قال: فأتوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فصفوا"
له حين صلى الظهر فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلا مصدّقا، فسررنا بذلك، وقرّت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال، وأذّن بصلاة العصر; قال: ونزلت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) . . . الآية، قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم أحد بني عمرو بن أمية، ثم أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق، ليأخذ منهم الصدقات، وإنه لما أتاهم الخبر فرحوا، وخرجوا ليَتَلَقَّوْا رسول رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإنه لما حدّث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم غضبا شديدا، فبينما هو يحدّث نفسه أن يغزوهم، إذ أتاه الوفد، فقالوا: يا رسول الله، إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن يكون إنما ردّه كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "في قوله (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) قال: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى بني المصطلق، ليصدّقهم، فتلقوه بالهدية فرجع إلى محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: إن بني المصطلق جمعت"
لتقاتلك "."
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) ... حتى بلغ (بِجَهَالَةٍ) وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة، بعثه نبيّ لله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مصدّقا إلى بني المصطلق، فلما أبصروه أقبلوا نحوه، فهابهم، فرجع إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام، فبعث نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد، وأمره أن يتثبَّت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه; فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد، فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأخبره الخبر، فأنزل الله عزّ وجلّ ما تسمعون، فكان نبيّ الله يقول: التَّبَيُّنُ مِنَ اللهِ، والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطان "."
حدثنا بن عبد الأعلى، قال: ثنا أبن ثور، عن معمر، عن قتادة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) فذكر نحوه.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن هلال الوزّان، عن ابن أبي ليلى، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) قال: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حُمَيد، عن هلال الأنصاري، عن عبد الرحمن بن أبي لَيلى (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) قال: نزلت في الوليد بن عقبة حين أُرسل إلى بني المصطلق.
قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم، الوليد بن أبي معيط; فلما سمعوا به ركبوا إليه; فلما سمع بهم خافهم فرجع إلى رسول الله صلى الله، فأخبره أن القوم قد هَموا بقتله، ومنعوا ما قِبَلهم من صدقاتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى همّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بأن يغزوهم، فبينما هم في ذلك قَدِم وفدهم على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّم، فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه، ولنؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فاستمرّ راجعا، فبلغنا أنه يزعم لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنا خرجنا إليه لنقاتله، ووالله ما خرجنا لذلك; فأنزل الله في الوليد بن عقبة وفيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ) ... الآية.
قال: (1) بعث رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا من أصحابه إلى قوم يصدقهم، فأتاهم الرجل، وكان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية; فلما أتاهم رحبوا به، وأقرّوا بالزكاة، وأعطوا ما عليهم من الحقّ، فرجع الرجل إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: يا رسول الله، منع بنو فلان الصدقة، ورَجعوا عن الإسلام، فغضب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وبعث إليهم فأتوْه فقال: أمَنَعْتُمُ الزَّكاةَ، وَطَرَدْتُمْ رَسُولي؟ "فقالوا: والله ما فعلنا، وإنا لنعلم أنك رسول الله، ولا بدّ لنا، ولا منعنا حقّ الله في أموالنا، فلم يصدقهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأنزل الله هذه الآية، فعذرهم."
وقوله (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) يقول تعالى ذكره: فتبيَّنوا لئلا تصيبوا قوما برآء مما قذفوا به بجناية بجهالة منكم (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) يقول: فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) }
يقول تعالى ذكره: لأصحاب نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: واعلموا أيها
(1)
يظهر أن هذا بدء رواية أخرى، أوردها في الدر عن جابر.

المؤمنون بالله ورسوله، (أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرّفه أنباءكم، ويقوّمه على الصواب في أموره.
وقوله (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ) يقول تعالى ذكره: لو كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم (لَعَنِتُّمْ) يقول: لنالكم عنت، يعني الشدّة والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق: إنهم قد ارتدّوا، ومنعوا الصدقة، وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم، كان قد قتل، وقتلتم من لا يحلّ له ولا لكم قتله، وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحلّ له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين، فنالكم من الله بذلك عنت (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ) بالله ورسوله، فأنتم تطيعون رسول الله، وتأتمون به فيقيكم الله بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه، وكان يطيعكم لنالكم وأصابكم.
وقوله (وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) يقول: وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) بالله (وَالْفُسُوقَ) يعني الكذب، (وَالْعِصْيَانَ) يعني ركوب ما نهى الله عنه في خلاف أمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وتضييع ما أمر الله به (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) يقول: هؤلاء الذين حبَّب الله إليهم الإيمان، وزيَّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحق.
وقوله (فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) يقول: ولكن الله حبَّب إليكم الإيمان، وأنعم عليكم هذه النعمة التي عدّها فضلا منه، وإحسانا ونعمة منه أنعمها عليكم (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يقول: والله ذو علم بالمحسن منكم من المسيء، ومن هو لنعم الله وفضله أهل، ومن هو لذلك غير أهل، وحكمة في تدبيره خلقه،
وصرفه إياهم فيما شاء من قضائه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ) قال أهل التأويل.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 26-07-2025, 04:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الحجرات
الحلقة (1262)
صــ 291 الى صــ 300





* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) ... حتى بلغ (لَعَنِتُّمْ) هؤلاء أصحاب نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، لو أطاعهم نبيّ الله في كثير من الأمر لعنتم، فأنتم والله أسخف رأيا، وأطيش عقولا اتهم رجل رأيه، وانتصح كتاب الله، وكذلك كما قلنا أيضا في تأويل قوله (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ) قالوا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) قال: حببه إليهم وحسَّنه في قلوبهم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) قالوا أيضا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) قال: الكذب والعصيان; قال: عصيان النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) من أين كان هذا؟ قال: فضل من الله ونعمة; قال: والمنافقون سماهم الله أجمعين في القرآن الكاذبين; قال:
والفاسق: الكاذب في كتاب الله كله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) }
يقول تعالى ذكره: وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى) يقول: فإن أبَت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله له، وعليه وتعدّت ما جعل الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) يقول: فقاتلوا التي تعتدي، وتأبى الإجابة إلى حكم الله (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) يقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) يقول: فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياهم إلى الرضا بحكم الله في كتابه، فأصلحوا بينها وبين الطائفة الأخرى التي قاتلتها بالعدل: يعني بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه.
وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) فإن الله سبحانه أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم
بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ، فحقّ على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقرّوا بحكم الله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ... إلى آخر الآية، قال: هذا أمر من الله أمر به الوُلاة كهيئة ما تكون العصبة بين الناس، وأمرهم أن يصلحوا بينهما، فإن أبوْا قاتل الفئة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله، فإذا رجعت أصلحوا بينهما، وأخبروهم أن المؤمنين إخوة، فأصلحوا بين أخويكم; قال: ولا يقاتل الفئة الباغية إلا الإمام.
وذُكر أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه، مما سأذكره إن شاء الله تعالى.
* ذكر الرواية بذلك:
حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس، قال: قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: لو أتيت عبد الله بن أُبيّ، قال: فانطلق إليه وركب حمارا، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة; فلما أتاه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: إليك عني، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لنتن حمار رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله بن أُبيّ رجل من قومه قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه نزلت فيهم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) .
حدثني أبو حُصين عبد الله بن أحمد بن يونس، قال: ثنا عبثر، قال: ثني حصين، عن أبي مالك في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال: رجلان اقتتلا فغضب لذا قومه، ولذا قومه، فاجتمعوا
حتى اضربوا بالنعال حتى كاد يكون بينهم قتال، فأنزل الله هذه الآية.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال: كان بينهم قتال بغير سلاح.
حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال: كانا حيين من أحياء الأنصار، كان بينهما تنازع بغير سلاح.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: أخبرنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، في قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال: كان قتالهم بالنعال والعصيّ، فأمرهم أن يصلحوا بينهم.
قال: ثنا مهران، قال: ثنا المُبارك بن فَضَالة، عن الحسن (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعوهم إلى الحكم، فيأبَوْن أن يجيبوا فأنزل الله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) يقول: ادفعوهم إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع.
قال: ثنا مهران، قال: ثنا سفيان، عن السديّ (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها أم زيد، تحت رجل، فكان بينها وبين زوجها شيء، فرقاها إلى علية، فقال لهم: احفظوا، فبلغ ذلك قومها، فجاءوا وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي والنعال فبلغ ذلك النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجاء ليصلح بينهم، فنزل القرآن (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى) قال: تبغي: لا ترضى بصلح رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أو بقضاء رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح،
عن مجاهد، قوله (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ... الآية، ذُكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حقّ بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر حتى تدافعوا، وحتى تناول بعضهم بعضا بالأيدي والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف، فأمر الله أن تُقاتل حتى تفيء إلى أمر الله، كتاب الله، وإلى حكم نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم; وليست كما تأوّلها أهل الشبهات، وأهل البدع، وأهل الفراء على الله وعلى كتابه، أنه المؤمن يحلّ لك قتله، فوالله لقد عظَّم الله حُرمة المؤمن حتى نهاك أن تظنّ بأخيك إلا خيرا، فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ... الآية.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن، أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي، فأنزل الله فيهم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) قال قتادة: كان رجلان بينهما حقّ، فتدارءا فيه، فقال أحدهما: لآخذنَّه عنوة، لكثرة عشيرته; وقال الآخر: بيني وبينك رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال: ثني عبد الله بن عباس، قال: قال زيد، في قول الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) ، وذلك الرجلان يقتتلان من أهل الإسلام، أو النفر والنفر، أو القبيلة والقبيلة; فأمر الله أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحقّ الذي أنزله في كتابه: إما القصاص والقود، وإمَّا العقل والعير، وإمَّا العفو، (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى) بعد ذلك كان المسلمون مع المظلوم على
الظالم، حتى يفيء إلى أمر الله، ويرضى به.
حدثنا ابن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرنا ابن جُرَيج، قال: ثني ابن شهاب وغيره: يزيد في الحديث بعضهم على بعض، قال: "جلس رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في مجلس فيه عبد الله بن رواحة، وعبد الله بن أُبيّ بن سلول: فلما ذهب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال عبد الله بن أُبيّ بن سلول: لقد آذانا بول حماره، وسدّ علينا الروح، وكان بينه وبين ابن رواحة شيء حتى خرجوا بالسلاح، فأتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأتاهم، فحجز بينهم، فلذلك يقول عبد الله بن أُبيّ:"
مَتى ما يَكُنْ مَوْلاكَ خَصْمَكَ جاهدا ... تُظَلَّم وَيَصْرَعْكَ الَّذينَ تُصَارِعُ (1)
قال: فأنزلت فيهم هذه الآية (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) .
وقوله (وَأَقْسِطُوا) يقول تعالى ذكره: واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يقول: إن الله يحب العادلين في أحكامهم، القاضين بين خلقه بالقسط.
(1)
البيت لعبد الله بن أبي بن سلول، كما عزاه المؤلف. وقد وردت قصيدة ابن سلول هذه في السيرة لابن هشام الطبعة الأولى بمطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة 2: 236، 237. وورد في أثنائها البيت ومعه بيت آخر، رواه ابن هشام عن غير ابن إسحاق وهما: متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل ... تذل ويصرعك الذين تصارع

وهل ينهض البازي بغير جناحه ... وإن جذ يوما ريشه فهو واقع
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا، قاصدًا إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه، فمر بطريقه بأطم ابن سلول، فنزل يسلم عليه، وتلا عنده شيئا من القرآن. فكلم رسول الله كلامًا خشنًا، ونهاه أن يغشى مجالس الأنصار، ويعرض عليهم القرآن. وكان ابن رواحة حاضرًا، فتلطف برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بلى فاغشنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، هو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به، وهدانا له، فقال ابن أبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى ... البيتين.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره لأهل الإيمان به (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في الدين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله وحكم رسوله. ومعنى الأخوين في هذا الموضع: كل مقتتلين من أهل الإيمان، وبالتثنية قرأ ذلك قرّاء الأمصار. وذُكر عن ابن سيرين أنه قرأ بين إخوانكم بالنون على مذهب الجمع، وذلك من جهة العربية صحيح، غير أنه خلاف لما عليه قرّاء الأمصار، فلا أحب القراءة بها (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يقول تعالى ذكره: وخافوا الله أيها الناس بأداء فرائضه عليكم في الإصلاح بين المقتتلين من أهل الإيمان بالعدل، وفي غير ذلك من فرائضه، واجتناب معاصيه، ليرحمكم ربكم، فيصفح لكم عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه، واتبعتم أمره ونهيه، واتقيتموه بطاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) يقول: المهزوء منهم خير من الهازئين (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) يقول: ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات، عسى المهزوء منهنّ أن يكنّ خيرا من الهازئات.
واختلف أهل التأويل في السخرية التي نهى الله عنها المؤمنين في هذه الآية،
فقال بعضهم: هي سخرية الغنيّ من الفقير، نهي أن يسخر من الفقير لفقره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) قال: لا يهزأ قوم بقوم أن يسأل رجل فقير غنيا، أو فقيرا، وإن تفضل رجل عليه بشيء فلا يستهزئ به.
وقال آخرون: بل ذلك نهي من الله من ستر عليه من أهل الإيمان أن يسخر ممن كشف في الدنيا ستره منهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) قال: ربما عثر على المرء عند خطيئته عسى أن يكونوا خيرا منهم، وإن كان ظهر على عثرته هذه، وسترت أنت على عثرتك، لعلّ هذه التي ظهرت خير له في الآخرة عند الله، وهذه التي سترت أنت عليها شرّ لك، ما يدريك لعله ما يغفر لك; قال: فنهي الرجل عن ذلك، فقال (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) وقال في النساء مثل ذلك.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.
وقوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) يقول تعالى ذكره: ولا يغتب بعضكم بعضا أيها المؤمنون، ولا يطعن بعضكم على بعض; وقال: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) فجعل اللامز أخاه لامزا نفسه، لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير. ولذلك رُوي الخبر عن
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: "المُؤْمِنُونَ كالجَسَدِ الواحِد إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سائِرُ جَسَدِهِ بالحُمَّى والسَّهَر" . وهذا نظير قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بمعنى: ولا يقتل بعضكم بعضا.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) قال: لا تطعنوا.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) يقول: ولا يطعن بعضكم على بعض.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) يقول: لا يطعن بعضكم على بعض.
قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) يقول: ولا تداعوا بالألقاب; والنبز واللقب بمعنى واحد، يُجمع النبز: أنبازا، واللقب: ألقابا.
واختلف أهل التأويل في الألقاب التي نهى الله عن التنابز بها في هذه الآية، فقال بعضهم: عنى بها الألقاب التي يكره النبز بها الملقَّب، وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا نهوا أن يدعو بعضهم بعضا بما يكره من أسمائه التي كان يدعى بها في الجاهلية.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا حميد بن مسعدة، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا داود،
عن عامر، قال: قال أبو جبيرة بن الضحاك: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة، قدِم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وما منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا الرجل بالاسم، قلنا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا، فنزلت هذه الآية (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) ... الآية كلها.
حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر، عن أبي جُبيرة بن الضحاك، قال: كان أهل الجاهلية يسمون الرجل بالأسماء، فدعا النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلا باسم من تلك الأسماء، فقالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هذا، فأنزل الله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، قال: ثني أبو جُبيرة بن الضحاك، فذكر عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، نحوه.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: أخبرنا داود عن الشعبيّ، قال: ثني أبو جبيرة بن الضحاك، قال: نزلت في بني سلمة (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: قَدِم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان يدعو الرجل، فتقول أمه: إنه يغضب من هذا قال، فنزلت (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) . وقال مرّة: كان إذا دعا باسم من هذا، قيل: يا رسول الله إنه يغضب من هذا، فنزلت الآية.
وقال آخرون: بل ذلك قوم الرجل المسلم للرجل المسلم: يا فاسق، يا زان.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا هناد بن السري، قال: ثنا أبو الأحوص، عن حصين، قال: سألت عكرِمة، عن قول الله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: هو قول الرجل للرجل: يا منافق، يا كافر.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال أخبرنا حصين، عن عكرِمة، في قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26-07-2025, 04:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الحجرات
الحلقة (1263)
صــ 301 الى صــ 310





حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حصين، عن عكرِمة (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: يا فاسق، يا كافر.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد أو عكرِمة (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: يقول الرجل للرجل: يا فاسق، يا كافر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: دُعي رجل بالكفر وهو مسلم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) يقول الرجل: لا تقل لأخيك المسلم: ذاك فاسق، ذاك منافق، نهى الله المسلم عن ذلك وقدّم فيه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) يقول: لا يقولنّ لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) قال: تسميته بالأعمال السيئة بعد الإسلام زان فاسق.
وقال آخرون: بل ذلك تسمية الرجل الرجل بالكفر بعد الإسلام، والفسوق والأعمال القبيحة بعد التوبة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) ... الآية، قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات
ثم تاب منها، وراجع الحقّ، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: قال الحسن: كان اليهودي والنصرانيّ يسلم، فيلقب فيقال له: يا يهوديّ، يا نصراني، فنهوا عن ذلك.
والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب؛ والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمّ الله بنهية ذلك، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة يكرهها. وإذا كان ذلك كذلك صحت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض، لأن كلّ ذلك مما نهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا.
وقوله (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدّم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا إن فعلتموه أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق، وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ) عليه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثنا به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) قال: بئس الاسم الفسوق حين تسميه بالفسق بعد الإسلام، وهو على الإسلام. قال: وأهل هذا الرأي هم المعتزلة، قالوا: لا نكفره كما كفره أهل الأهواء، ولا نقول له مؤمن كما قالت الجماعة، ولكنا نسميه باسمه إن كان سارقا فهو سارق، وإن كان خائنا سموه خائنا; وإن كان زانيا سموه زانيا قال: فاعتزلوا الفريقين أهل الأهواء وأهل الجماعة، فلا بقول هؤلاء قالوا، ولا بقول هؤلاء، فسموا بذلك المعتزلة.
فوجه ابن زيد تأويل قوله (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ) إلى من دعي فاسقا، وهو تائب من فسقه، فبئس الاسم ذلك له من أسمائه ... وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدّم بالنهي عما تقدّم بالنهي عنه في أوّل هذه الآية، فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدّم على بغيه، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهى عنه، لا أن يخبر عن قُبح ما كان التائب أتاه قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح، فيختم آخرها بالوعيد عليه أو بالقبيح.
وقوله (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يقول تعالى ذكره: ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها عقاب الله بركوبهم ما نهاهم عنه.
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال: ومن لم يتب من ذلك الفسوق فأولئك هم الظالمون.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين، وذلك إن تظنوا بهم سوءا، فإن الظانّ غير محقّ، وقال جلّ ثناؤه: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) ولم يقل: الظنّ كله، إذ كان قد أذن للمؤمنين
أن يظن بعضهم ببعض الخير، فقال: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) فأذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين.
وبنحو الذي قلنا في معنى ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) يقول: نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن شرّا.
وقوله (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) يقول: إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم، لأن الله قد نهاه عنه، ففعل ما نهى الله عنه إثم.
وقوله (وَلا تَجَسَّسُوا) يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا تَجَسَّسُوا) يقول: نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَلا تَجَسَّسُوا) قال: خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا) هل تدرون ما التجسس أو التجسيس؟ هو أن تتبع، أو تبتغي عيب أخيك لتطلع على سرّه.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (وَلا تَجَسَّسُوا) قال: البحث.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا) قال: حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه، حتى أعرف حقّ هو، أم باطل؟ ; قال: فسماه الله تجسسا، قال: يتجسس كما يتجسس الكلاب، وقرأ قول الله (وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) وقوله (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) يقول: ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وقال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك، والأثر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم:
حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ، قال: ثنا خالد بن عبد الله الطحان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: "سُئل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الغيبة، فقال: هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ، فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ كُنْتَ كاذِبا فَقَدْ بَهَتَّهُ" .
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، قال: ثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، بنحوه.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت العلاء يحدّث، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "هَلْ تَدْرُونَ ما الغيبة؟ قال: قالوا الله ورسوله أعلم; قال: ذِكْرُكَ أخاكَ بِمَا لَيْسَ فِيه، قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول له; قال: إنْ كان فِيه ما تَقُولُ"
فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ "."
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سعيد بن الربيع، قال: ثنا شعبة، عن العباس، عن رجل سمع ابن عمر يقول: "إذا ذكرت الرجل بما فيه، فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بَهَتَّهُ" . وقال شعبة مرّة أخرى: "وإذا ذكرته بما ليس فيه، فهي فِرْية قال أبو موسى: هو عباس الجَريريّ."
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق قال: إذا ذكرت الرجل بأسوأِ ما فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: إذا قلت في الرجل ما ليس فيه فقد بَهَته.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال الغيبَة: أن يقول للرجل أسوأ ما يعلم فيه، والبهتان: أن يقول ما ليس فيه.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم، مولى معاوية، قال: سمعت ابن أمّ عبد يقول: ما التقم أحد لقمة أشرّ من اغتياب المؤمن، إن قال فيه ما يعلم فقد اغتابه، وإن قاله فيه ما لا يعلم فقد بَهَتَه.
حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، قال: إذا ذكرت الرجل بما فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت يونس، عن الحسن أنه قال في الغيبة: أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله، فإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان.
حدثنا ابن أبي الشوارب، قال: ثنا عبد الواحد بن زياد، قال: ثنا سليمان الشيبانيّ، قال: ثنا حسان بن المخارق "أن امرأة دخلت على عائشة; فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بيدها إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أي أنها قصيرة، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اغْتَبْتِها" .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: لو مرّ بك أقطع، فقلت: ذاك الأقطع، كانت منك غيبة; قال: وسمعت معاوية بن قرة يقول ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت معاوية بن قُرة يقول: لو مرّ بك رجل أقطع، فقلت له: إنه أقطع كنت قد اغتبته، قال: فذكرت ذلك لأبي إسحاق الهمداني فقال: صدق.
حدثني جابر بن الكرديّ، قال: ثنا ابن أبي أويس، قال: ثني أخي أبو بكر، عن حماد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة "أن رجلا قام عند رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فرأوا في قيامه عجزا، فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أكَلْتُم أخاكُمْ واغَتَبْتُمُوه" .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا حبان بن عليّ العنزيّ عن مثنى بن صباح، عن عمرو بن شعيب، عن معاذ بن جبل، قال: "كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذكر القوم رجلا فقالوا: ما يأكل إلا ما أطعم، وما يرحل إلا ما رحل له، وما أضعفه; فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: اغْتَبْتُمْ أخاكُمْ، فقالوا يا رسول الله وغيبته أن نحدّث بما فيه؟ قال: بحَسْبِكُمْ أنْ تُحَدِّثُوا عن أخِيكُمْ ما فِيه" .
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا خالد بن محمد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إذَا ذَكَرْتَ أخاكَ بما يَكْرَهُ فإنْ كانَ فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ"
فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ "."
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: "كنا نحدّث أن الغيبة أن تذكر أخاك بما يشينه، وتعيبه بما فيه، وإن كذبت عليه فذلك البهتان" .
وقوله (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه، لأن الله حرّم ذلك عليكم، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته، فاكرهوا غيبته حيا، كما كرهتم لحمه ميتا، فإن الله حرّم غيبته حيا، كما حرم أكل لحمه ميتا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) قال: حرّم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء، كما حرّم المَيْتة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) قالوا: نكره ذلك، قال: فكذلك فاتقوا الله.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) يقول: كما أنت كاره لو وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، فكذلك فاكره غيبته وهو حيّ.
وقوله (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله أيها الناس، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم بأخيه المؤمن
ظنّ السوء، وتتبع عوراته، والتجسس عما ستر عنه من أمره، واغتيابه بما يكرهه، تريدون به شينه وعيبه، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) يقول: إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله (لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) فقرأته عامة قرّاء المدينة بالتثقيل (مَيِّتا) ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة (مَيْتا) بالتخفيف، وهما قراءتان عندنا معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
يقول تعالى ذكره: يا أيها الناس إنا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة، وقد قال تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، قال: ثنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قوله (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) قال: ما خلق الله الولد إلا من نطفة الرجل والمرأة جميعا، لأن الله يقول (خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) .
وقوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) يقول: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبًا; فالمناسب
النسب البعيد من لم ينسبه أهل الشعوب، وذلك إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر، أو من ربيعة. وأما أهل المناسبة القريبة أهل القبائل، وهم كتميم من مضر، وبكر من ربيعة، وأقرب القبائل الأفخاذ وهما كشيبان من بكر ودارم من تميم، ونحو ذلك، ومن الشَّعْب قول ابن أحمر الباهلي:
مِن شَعْبِ هَمْدانَ أوْ سَعْدِ العَشِيرَة أوْ ... خَوْلانَ أو مَذْحِجٍ هَاجُوا لَهُ طَرَبا (1)
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: ثنا أبو حُصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الجُمَّاع والقبائل: البطون.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، في قوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الجُمَّاع. قال خلاد، قال أبو بكر: القبائل العظام، مثل بني تميم، والقبائل: الأفخاذ.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبَير (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الجمهور، والقبائل: الأفخاذ.
(1)
البيت لابن أحمر الباهلي، كما نسبه المؤلف. والشاهد فيه كلمة "الشعب" ، وهو الفرع الكبير من الأصل، يجمع عددا من القبائل، كما أوضحه المؤلف. وقال النويري في (نهاية الأرب 2: 284) الشعب: هو الذي يجمع القبائل، وتتشعب منه. وفي مجاز القرآن لأبي عبيد (الورقة 225 - 1) : "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" : يقال: من أي شعب أنت؟ فتقول: من مضر، من ربيعة، والقبائل دون ذلك. قال ابن أحمر "من شعب همدان ... البيت" .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26-07-2025, 04:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الحجرات
الحلقة (1264)
صــ 311 الى صــ 320





حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (شُعُوبًا) قال: النسب البعيد. (وَقَبَائِلَ) دون ذلك.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: النسب البعيد، والقبائل كقوله: فلان من بني فلان، وفلان من بني فلان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة. (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا) قال: هو النسب البعيد. قال: والقبائل: كما تسمعه يقال: فلان من بني فلان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا) قال: أما الشعوب: فالنسب البعيد.
وقال بعضهم: الشعوب: الأفخاذ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبير (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الأفخاذ، والقبائل: القبائل.
وقال آخرون: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يحيى بن طلحة، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: البطون، والقبائل: الأفخاذ الكبار.
وقال آخرون: الشعوب: الأنساب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) قال: الشعوب: الأنساب.
وقوله (لِتَعَارَفُوا) يقول: ليعرف بعضكم بعضا في النسب، يقول تعالى ذكره: إنما جعلنا هذه الشعوب والقبائل لكم أيها الناس، ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقُربة تقرّبكم إلى الله، بل أكرمكم عند الله أتقاكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) قال: جعلنا هذا لتعارفوا، فلان بن فلان من كذا وكذا.
وقوله (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) يقول تعالى ذكره: إن أكرمكم أيها الناس عند ربكم، أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن لهيعة، عن
الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "النَّاسُ لآدَمَ وَحَوَّاءَ كَطَفِّ الصَّاعِ لَمْ يَمْلأوهُ، إنَّ اللهُ لا يسألُكُمْ عَنْ أحْسابِكُمْ وَلا عَنْ أنْسابِكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ، إن أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ" .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عليّ بن رباح، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إنَّ أنْسابِكُمْ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمَسابٍّ عَلى أحَدٍ، وإنَّمَا أنْتُمْ وَلَدُ آدَمَ طَفَّ الصَّاعِ لَمْ تَمْلأوهُ، لَيْسَ لأحَدٍ على أحَدٍ فضْلٌ إلا بِديْنٍ أوْ عَمَلٍ صالِحٍ حَسْبُ الرَّجُل أنْ يَكُونَ فاحِشا بَذيًّا بَخِيلا جَبانا" .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ابن جُرَيْج، قال: سمعت عطاء يقول: قال ابن عباس: "ثلاث آيات جحدهنّ الناس: الإذن كله، وقال: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وقال الناس أكرمكم: أعظمكم بيتا; وقال عطاء: نسيت الثالثة" .
وقوله (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس ذو علم بأتقاكم عند الله وأكرمكم عنده، ذو خبرة بكم وبمصالحكم، وغير ذلك من أموركم، لا تخفى عليه خافية.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) }
يقول تعالى ذكره: قالت الأعراب: صدّقنا بالله ورسوله، فنحن مؤمنون، قال الله لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل يا محمد لهم (لَمْ تُؤْمِنُوا) ولستم مؤمنين (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) .
وذُكر أن هذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن
أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا) قال: أعراب بنى أسد بن خُزَيمة.
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء الأعراب: قولوا أسلمنا، ولا تقولوا آمنا، فقال بعضهم: إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك، لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم، ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم، فقيل لهم: قولوا أسلمنا، لأن الإسلام قول، والإيمان قول وعمل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهري (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: إن الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، وأخبرني الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: أعطى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا، فقال سعد: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا، ولم تعط فلانا شيئا، وهو مؤمن، فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: أو مُسْلِمٌ؟ حتى أعادها سعد ثلاثا، والنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: أوْ مُسْلِمٌ، ثم قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إني أُعْطِي رِجالا وأَدَعُ مَنْ هُوَ أحَبُّ إليَّ مِنْهُمْ، لا أُعْطِيه شَيْئا مَخافَةَ أنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ "."
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) قال: لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم، فردّ الله ذلك عليهم (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) ، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون، صدّقوا إيمانهم بأعمالهم; فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق; قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب، وليس بصادق.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مُغيرة، عن إبراهيم (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: هو الإسلام.
وقال آخرون: إنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقيل ذلك لهم، لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، فأعلمهم الله أن لهم أسماء الأعراب، لا أسماء المهاجرين.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا) ... الآية، وذلك أنهم أرادوا أن يتسَمَّوا باسم الهجرة، ولا يتسَمَّوا بأسمائهم التي سماهم الله، وكان ذلك في أول الهجرة قبل أن تنزل المواريث لهم.
وقال آخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإسلامهم، فقال الله لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهم لم تؤمنوا، ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) ولعمري ما عمت هذه الآية الأعراب، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكن إنما أنزلت في حيّ من أحياء الأعراب امتنوا بإسلامهم على نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: أسلمنا، ولم نقاتلك، كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال الله: (لا تقولوا آمنا. . .) ، (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) حتى بلغ (فِي قُلُوبِكُمْ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: لم تعمّ هذه الآية الأعراب، إن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله، ولكنها في طوائف
من الأعراب.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رَباح، عن أبي معروف، عن سعيد بن جُبَير (قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: استسلمنا لخوف السباء والقتل.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد (قُولُوا أَسْلَمْنَا) قال: استسلمنا.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، وقرأ قول الله (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) استسلمنا: دخلنا في السلم، وتركنا المحاربة والقتال بقولهم: لا إله إلا الله، وقال قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "أُمِرْتُ أنْ أُقاتِل النَّاس حتى يَقُولُوا لا إلَهَ إلا اللهُ، فإذَا قالُوا لا إلَهَ إلا اللهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وأمْوَالهُمْ إلا بِحَقِّها وَحِسابُهُمْ على اللهِ" .
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك القول الذي ذكرناه عن الزهريّ، وهو أن الله تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول، ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ، وهو أن يقولوا أسلمنا، بمعنى: دخلنا في الملة والأموال، والشهادة الحق (1) .
قوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) يقول تعالى ذكره: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان، وحقائق معانيه في قلوبكم.
وقوله (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، إن تطيعوا الله ورسوله أيها القوم، فتأتمروا لأمره وأمر رسوله،
(1)
لعله دخلنا في الملة لحفظ الأنفس والأموال بالشهادة ... إلخ.

وتعملوا بما فرض عليكم، وتنتهوا عما نهاكم عنه، (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول: لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) يقول: لن يظلمكم من أعمالكم شيئا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) قال: إن تصدقوا إيمانكم بأعمالكم يقبل ذلك منكم.
وقرأت قرّاء الأمصار (لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) بغير همز ولا ألف، سوى أبي عمرو، فإنه قرأ ذلك (لا يَأْلَتْكُمْ) بألف اعتبارا منه في ذلك بقوله (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فمن قال: ألت، قال: يألت.
وأما الآخرون فإنهم جعلوا ذلك من لات يليت، كما قال رُؤبةُ بن العجاج:
وَلَيْلَةٍ ذَاتِ نَدًى سَرَيت ... ولَمْ يَلِتْنِي عَنْ سُرَاها لَيْتُ (1)
والصواب من القراءة عندنا في ذلك، ما عليه قرّاء المدينة والكوفة (لا يَلِتْكُمْ) بغير ألف ولا همز، على لغة من قال: لات يليت، لعلتين: إحداهما: إجماع الحجة من القرّاء عليها. والثانية أنها في المصحف بغير ألف، ولا تسقط الهمزة في مثل هذا الموضع، لأنها ساكنة، والهمزة إذا سكنت ثبتت، كما يقال:
(1)
البيتان نسبهما المؤلف إلى رؤبة بن العجاج، ولم أجدهما في ديوانه ولا في ديوان أبيه العجاج. وأوردهما صاحب اللسان في (حنن) محمد ونسبهما على أبي الفقعسي. وقد استشهد بهما المؤلف مرة قبل هذه في (15: 2) من هذه المطبوعة، عند أول سورة الإسراء. وشرحناهما شرحًا مفصلا يناسب هذه المقام، فراجعهما ثمة.

تأمرون وتأكلون، وإنما تسقط إذا سكن ما قبلها، ولا يحمل حرف في القرآن إذا أتى بلغة على آخر جاء بلغة خلافها إذا كانت اللغتان معروفتين في كلام العرب. وقد ذكرنا أن ألت ولات لغتان معروفتان من كلامهم.
وقوله (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول تعالى ذكره: إن الله ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه، وتاب إليه من سالف ذنوبه، فأطيعوه، وانتهوا إلى أمره ونهيه، يغفر لكم ذنوبكم، رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم على ما تابوا منه، فتوبوا إليه يرحمكم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) غفور للذنوب الكثيرة أو الكبيرة، شكّ يزيد، رحيم بعباده.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) }
يقول تعالى ذكره للأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم: إنما المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا الله ورسوله، ثم لم يرتابوا، يقول: ثم لم يشكوا في وحدانية الله، ولا في نبوّة نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وألزم نفسه طاعة الله وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليه من فرائض الله بغير شكّ منه في وجوب ذلك عليه (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يقول: جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مُهجِهم في جهادهم، على ما أمرهم الله به من جهادهم، وذلك سبيله لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
وقوله (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) يقول: هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون في قولهم: إنا مؤمنون، لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) قال: صدّقوا إيمانهم بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (16) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبهم: (أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ) أيها القوم بدينكم، يعني بطاعتكم ربكم (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ) يقول: والله الذي تعلِّمونه أنكم مؤمنون، علام جميع ما في السموات السبع والأرضين السبع، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف تعلمونه بدينكم، والذي أنتم عليه من الإيمان، وهو لا يخفى عليه خافية، في سماء ولا أرض، فيخفى عليه ما أنتم عليه من الدين (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يقول: والله بكلّ ما كان، وما هو كائن، وبما يكون ذو علم. وإنما هذا تقدّم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي، عن أن يكذّبوا ويقولوا غير الذي هم عليه في دينهم. يقول: الله محيط بكلّ شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم، فينالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: يمنّ عليك هؤلاء
الأعراب يا محمد أن أسلموا (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ) يقول: بل الله يمن عليكم أيها القوم أن وفقكم للإيمان به وبرسوله (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) يقول: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا، فإن الله هو الذي منّ عليكم بأن هداكم له، فلا تمنوا عليّ بإسلامكم.
وذُكر أن هؤلاء الأعراب من بني أسد، امتنوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: آمنا من غير قتال، ولم نقاتلك كما قاتلك غيرنا، فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَير في هذه الآية (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أهم بنو أسد؟ قال: قد قيل ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا سهل بن يوسف، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: قلت لسعيد بن جُبَير (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أهم بنو أسد؟ قال: يزعمون ذاك.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، قال: كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد، أو بشر بن عطارد، ولبيد بن غالب عند الحجاج جالسين، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد: نزلت في قومك بني تميم (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ) فذكرت ذلك لسعيد بن جُبَير، فقال: إنه لو علم بآخر الآية أجابه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) قالوا أسلمنا ولم تقاتلك بنو أسد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لا تَمُنُّوا) أنا أسلمنا بغير قتال لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فقال الله لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: (قُلْ) لهم (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ) .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) قال: فهذه الآيات نزلت في الأعراب.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26-07-2025, 04:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ ق
الحلقة (1265)
صــ 321 الى صــ 330





القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) }
يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من رسولنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وجنده، فلا تعلمونا دينكم وضمائر صدوركم، فإن الله يعلم ما تكنه ضمائر صدوركم، وتحدّثون به أنفسكم، ويعلم ما غاب عنكم، فاستسرّ في خبايا السموات والأرض، لا يخفى عليه شيء من ذلك (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) يقول: والله ذو بصر بأعمالكم التي تعملونها، أجهرا تعملون أم سرّا، طاعة تعملون أو معصية؟ وهو مجازيكم على جميع ذلك، إن خيرا فخير، وان شرّا فشرّ وكُفُؤه.
و (أنْ) في قوله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) في موضع نصب بوقوع يمنون عليها، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ إِسْلامَهُمْ) ، وذلك دليل على صحة ما قلنا، ولو قيل: هي نصب بمعنى: يمنون عليك لأن أسلموا، لكان وجها يتجه. وقال بعض أهل العربية: هي في موضع خفض. بمعنى: لأن أسلموا.
وأما (أن) التي في قوله (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ) فإنها في موضع نصب بسقوط الصلة لأن معنى الكلام: بل الله يمنّ عليكم بأن هداكم للإيمان.
آخر تفسير سورة الحجرات




تفسير سورة ق

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) }
اختلف أهل التأويل في قوله: (ق) ، فقال بعضهم: هو اسم من أسماء الله تعالى أقسم به.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله: (ق) و (ن) وأشباه هذا، فإنه قسم أقسمه الله، وهو اسم من أسماء الله.
وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (ق) قال: اسم من أسماء القرآن.
وقال آخرون: (ق) اسم الجبل المحيط بالأرض، وقد تقدّم بياننا في تأويل حروف المعجم التي في أوائل سور القرآن بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) يقول: والقرآن الكريم.

كما حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قال: الكريم.
واختلف أهل العربية في موضع جواب هذا القسم، فقال بعض نحويِّي البصرة (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قسم على قوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) وقال بعض نحويِّي أهل الكوفة: فيها المعنى الذي أقسم به، وقال: ذكر أنها قضى والله، وقال: يقال: إن قاف جبل محيط بالأرض، فإن يكن كذلك فكأنه في موضع رفع: أي هو قاف والله; قال: وكان ينبغي لرفعه أن يظهر لأنه اسم وليس بهجاء; قال: ولعلّ القاف وحدها ذكرت من اسمه، كما قال الشاعر:
قُلْت لَها قفي لَنَا قالَتْ قاف (1)
ذُكرت القاف إرادة القاف من الوقف: أي إني واقفة.
وهذا القول الثاني عندنا أولى القولين بالصواب، لأنه لا يعرف في أجوبة الأيمان قد، وإنما تجاب الأيمان إذا أجيبت بأحد الحروف الأربعة: اللام، وإن، وما، ولا أو بترك جوابها فيكون ساقطا.
وقوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما كذّبك يا محمد مشركو قومك أن لا يكونوا عالمين بأنك صادق محقّ، ولكنهم كذّبوك تعجبا من أن جاءهم منذر ينذرهم
(1)
في (اللسان: وقف) غير منسوب. وقوله * قلت لها قفي قالت قاف *

بسكون الكاف الفاء: إنما أراد: قد وقفت فاكتفى بذكر القاف. قال ابن جني: ولو نقل هذا الشاعر إلينا شيئا من جملة الحال، فقال مع قوله: قالت قاف، وأمسكت زمام بعيرها، أو عاجته عليها، لكان أبين، لما كانوا عليه، وأدل على أنها أرادت قفي لنا، أي يقول لي قفي لنا! متعجبة منه. وهو إذا شاهدها وقد وقفت علم أن قولها: قاف إجابة لقوله، وتعجب منه في قوله قفي لنا. أهـ. وفي معاني القرآن للفراء (الورقة 308) أورد البيت ثم قال: ذكرت القاف من الوقت، أي إني واقفة. أهـ.
عقاب الله منهم، يعني بشرا منهم من بني آدم، ولم يأتهم مَلك برسالة من عند الله.
وقوله (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) يقول تعالى ذكره: فقال المكذّبون بالله ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) : أي مجيء رحل منا من بني آدم برسالة الله إلينا، (هَلا (1) أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) .
القول في تأويل قوله تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) }
يقول القائل: لم يجر للبعث ذكر، فيخبر عن هؤلاء القوم بكفرهم ما دعوا إليه من ذلك، فما وجه الخبر عنهم بإنكارهم ما لم يدعوا إليه، وجوابهم عما لم يسألوا عنه. قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فنذكر ما قالوا في ذلك، ثم نتبعه البيان إن شاء الله تعالى، فقال في ذلك بعض نحويِّي البصرة قال (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ، لم يذكر أنه راجع، وذلك والله أعلم لأنه كان على جواب، كأنه قيل لهم: إنكم ترجعون، فقالوا (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) وقال بعض نحويِّي الكوفة قوله: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا) كلام لم يظهر قبله، ما يكون هذا جوابا له، ولكن معناه مضمر، إنما كان والله أعلم: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) لَتُبْعثنّ بعد الموت، فقالوا: أإذا كنا ترابا بُعثنا؟ جحدوا البعث، ثم قالوا (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) جحدوه أصلا قوله (بَعِيدٌ) كما تقول للرجل يخطئ في المسألة، لقد ذهبت مذهبا بعيدا من الصواب: أي أخطأت.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن في هذا الكلام متروكا استغني
(1)
التلاوة "لولا" . أهـ. مصححه.

بدلالة ما ذُكر عليه من ذكره، وذلك أن الله دلّ بخبره عن تكذيب هؤلاء المشركين الذين ابتدأ هذه السورة بالخبر عن تكذيبهم رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بقوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) على وعيده إياهم على تكذيبهم محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فكأنه قال لهم: إذ قالوا منكرين رسالة الله رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ستعلمون أيها القوم إذا أنتم بُعثتم يوم القيامة ما يكون حالكم في تكذيبكم محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإنكاركم نبوّته، فقالوا مجيبين رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا) نعلم ذلك، ونرى ما تعدنا على تكذيبك (ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) : أي أن ذلك غير كائن، ولسنا راجعين أحياء بعد مماتنا، فاستغني بدلالة قوله (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) فقال الكافرون (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) من ذكر ما ذكرت من الخبر عن وعيدهم.
وفيما حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) قالوا: كيف يحيينا الله، وقد صرنا عظاما ورفاتا، وضللنا في الأرض، دلالة على صحة ما قلنا من أنهم أنكروا البعث إذا توعِّدوا به.
وقوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول تعالى ذكره: قد علمنا ما تأكل الأرض من أجسامهم بعد مماتهم، وعندنا كتاب بما تأكل الأرض وتفني من أجسامهم، ولهم كتاب مكتوب مع علمنا بذلك، حافظ لذلك كله، وسماه الله تعالى حفيظا، لأنه لا يدرس ما كتب فيه، ولا يتغير ولا يتبدل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، فال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما تأكل الأرض من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، قوله (مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) قال: من عظامهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما تأكل الأرض منهم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) قال: يعني الموت، يقول: من يموت منهم، أو قال: ما تأكل الأرض منهم إذا ماتوا.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، قال الله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ) يقول: ما أكلت الأرض منهم ونحن عالمون به، وهم عندي مع علمي فيهم في كتاب حفيظ.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) }
يقول تعالى ذكره: ما أصاب هؤلاء المشركون القائلون (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) في قيلهم هذا (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) ، وهو القرآن (لَمَّا جَاءَهُمْ) من الله.
كالذي حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ) أي كذّبوا بالقرآن (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) يقول: فهم في أمر مختلط عليهم ملتبس، لا يعرفون حقه من باطله، يقال (1) قد
(1)
زيادة لربط الكلام، ونظن أنها سقطت من قلم الناسخ.

مرج أمر الناس إذا اختلط وأهمل.
وقد اختلفت عبارات أهل التأويل في تأويلها، وإن كانت متقاربات المعاني، فقال بعضهم: معناها: فهم في أمر منكر; وقال: المريج: هو الشيء المنكر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سلم بن قُتيبة، عن وهب بن حبيب الآمدي، عن أبي حمزة، عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله (أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: المريج: الشيء المنكر; أما سمعت قول الشاعر:
فَجالَتْ والْتَمَسَتْ بهِ حَشاها ... فَخَرَّ كأنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ (1)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: في أمر مختلف.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) في قول: مختلف.
وقال آخرون: بل معناه: في أمر ضلالة.
(1)
البيت للداخل بن حرام الهذلي، كما في شرح أشعار الهذليين للسكري طبعة أوربا، ص 269 وليس لأبي ذؤيب، كما قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 225 ب) . والضمير في جالت للبقرة. وفي به إلى السهم الذي وصفه. ويروي: فراغت: في موضع "فجالت" . أي حادت عن السهم. والحشا: حشوة الجوف. وخر: سقط. وخوط: غصن أو قضيب. ومريج: أي قد طرح وترك، يقال: مرج إذا وقع فترك. ويقال مريج: قلق، يقال مرج الخاتم في يدي، أي انسل يمرج مرحبا أي قلق وتقلقل واضطرب ومرج، وفي (اللسان: مرج) المرج بالتحريك: مصدر قولك: مرج الخاتم في يدي مرجا: أي قلق. وفي التنزيل "فهم في أمر مريج" يقول: في ضلال. وقال أبو إسحاق: في أمر مختلف، ملتبس عليهم، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم مرة: ساحر. ومرة شاعر، ومرة معلم مجنون. وهذا الدليل على أن قوله "مريج" ملتبس عليهم. أهـ. وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة (الورقة 225 ب) مريج مختلط؛ يقال قد مرج أمر الناس: اختلط وأهمل. وقال أبو ذؤيب (كذا) "فخر كأنه خوط مريج" أي سهم. أهـ.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26-07-2025, 04:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ ق
الحلقة (1266)
صــ 331 الى صــ 340





* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: هم في أمر ضلالة.
وقال آخرون: بل معناه: في أمر مُلْتبِس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَير، في قوله (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: مُلْتَبِسٍ.
حدثنا محمد بن عمرو، قال أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: ملتبس.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ملتبس عليهم أمره.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، قال: والتبس عليه دينه.
وقال آخرون: بل هو المختلط.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) قال: المريج: المختلط.
وإنما قلت: هذه العبارات وإن اختلفت الفاظها فهي في المعنى متقاربات، لأن الشيء مختلف ملتبس، معناه مشكل. وإذا كان كذلك كان منكرا، لأن المعروف واضح بين، وإذا كان غير معروف كان لا شكّ ضلالة، لأن الهدى بين لا لبس فيه.
وقوله (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا) يقول تعالى ذكره: أفلم ينظر هؤلاء المكذّبون بالبعث بعد الموت المنُكرون قُدرتنا على إحيائهم بعد بلائهم (إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا) فسوّيناها سقفا محفوظا، وزيناها بالنجوم (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) يعني: وما لها من صدوع وفُتوق.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مِنْ فُرُوجٍ) قال: شَقّ.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) قلت له، يعني ابن زيد: الفروج: الشيء المتبرئ بعضه من بعض، قال: نعم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) }
وقوله (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا) يقول: والأرض بسطناها (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) يقول: وجعلنا فيها جبالا ثوابت، رست في الأرض، (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) يقول تعالى ذكره: وأنبتنا في الأرض من كلّ نوع من نبات حسن، وهو البهيج.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن
عليّ، عن ابن عباس، قوله (بَهِيجٍ) يقول: حسن.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) والرواسي الجبال (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) : أي من كلّ زوج حسن.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لابن زيد (البَهِيج) : هو الحسن المنظر؟ قال نعم.
وقوله (تَبْصِرَةً) يقول: فعلنا ذلك تبصرة لكم أيها الناس نبصركم بها قدرة ربكم على ما يشاء، (وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) يقول: وتذكيرا من الله عظمته وسلطانه، وتنبيها على وحدانيته (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) يقول: لكل عبد رجع إلى الإيمان بالله، والعمل بطاعته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (تَبْصِرَة) نعمة من الله يبصرها العباد (وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) : أي بقلبه إلى الله.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (تَبْصِرَةً وَذِكْرَى) قال: تبصرة من الله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (تَبْصِرَةً) قال: بصيرة.
حدثنا ابن حُمَيد قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن عطاء ومجاهد (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) قالا مجيب.
القول في تأويل قوله تعالى: وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا
فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
يقول تعالى ذكره (وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) مطرا مباركا، فأنبتنا به بساتين أشجارا، وحبّ الزرع المحصود من البرّ والشعير، وسائر أنواع الحبوب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) هذا البرّ والشعير.
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) قال: هو البرّ والشعير.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) قال: الحِنطة.
وكان بعض أهل العربية يقول في قوله (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) الحبّ هو الحصيد، وهو مما أضيف إلى نفسه مثل قوله (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) .
وقوله (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) يقول: وأنبتنا بالماء الذي أنزلنا من السماء النخل طوالا والباسق: هو الطويل يقال للجبل الطويل: حبل باسق، كما قال أبو نوفل لابن هُبَيرة:
يا بْنَ الَّذِينَ بِفَضْلِهِمْ ... بَسَقَتْ عَلى قَيْسٍ فَزَارَهْ (1)
(1)
البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 225 ب) قال: "والنخل باسقات" : طوال. يقال جبل باسق، وحسب باسق، قال أبو نوفل لابن هبيرة: "يا بن الذين ..." البيت. وفي اللسان: بسق (بسق الشيء يبسق بسوقًا: تم طوله) . وفي التنزيل: "والنخل باسقات" الفراء: باسقات: طوالا، فهن طوال النخل، وبسق على قومه: علاهم في الفضل. وأنشد ابن بري لأبي نوفل: "يا بن الذين ... البيت" . أهـ.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (باسِقاتٍ) يقول: طوال.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال: النخل الطوال.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن شدّاد في قوله (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال: بسُوقها: طولها في إقامة.
حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرِمة، في قوله (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) الباسقات: الطوال.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (باسِقاتٍ) قال: الطوال.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال: بسوقها طولها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال: يعني طولها.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) قال: البسوق: الطول.
وقوله (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) يقول: لهذا النخل الباسقات طلع وهو الكُفُرَّى، نضيد: يقول: منضود بعضه على بعض متراكب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) قال: يقول بعضه على بعض.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، لها: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (نَضِيدٌ) قال: المنضَّد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) يقول: بعضه على بعض.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ) ينضد بعضه على بعض.
وقوله (رِزْقًا لِلْعِبَادِ) يقول: أنبتنا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء هذه الجنات، والحبّ والنخل قوتا للعباد، بعضها غذاء، وبعضها فاكهة ومتاعا.
وقوله (وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) يقول تعالى ذكره وأحيينا بهذا الماء الذي أنزلناه من السماء بلدة ميتا قد أجدبت وقحطت، فلا زرع فيها ولا نبت.
وقوله (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) يقول تعالى ذكره: كما أنبتنا بهذا الماء هذه الأرض الميتة، فأحييناها به، فأخرجنا نباتها وزرعها، كذلك نخرجكم يوم القيامة أحياء من قبوركم من بعد بلائكم فيها بما ينزل عليها من الماء.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) }
يقول تعالى ذكره (كذَّبتْ) قبل هؤلاء المشركين الذين كذّبوا محمدا
صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من قومه (قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ) وقد مضى ذكرنا قبل أمر أصحاب الرسّ، وأنهم قوم رسُّوا نبيهم في بئر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبي بكر، عن عكرمة بذلك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَصْحَابُ الرَّسِّ) والرس: بئر قُتل فيها صاحب يس.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَصْحَابُ الرَّسِّ) قال: بئر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن عبد الله، عن قتادة أنه قال: إن أصحاب الأيكة، "والأيكة: الشجر الملتفّ" ، وأصحاب الرّسّ كانتا أمتين، فبعث الله إليهم نبيا واحدا شعيبا، وعذّبهما الله بعذابين (وَثمُودُ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ، وَإِخْوَانُ لُوطٍ، وأصْحابُ الأيْكَةِ) وهم قوم شعيب، وقد مضى خبرهم قبل (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) .
وكان قوم تُبَّعٍ أهل أوثان يعبدونها، فيما حدثنا به ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
وكان من خبره وخبر قومه، ما حدثنا به مجاهد بن موسى، قال: ثنا يزيد، قال: أخبرنا عمران بن حُدَير، عن أبي مجلز، عن ابن عباس، أنه سأل عبد الله بن سلام، عن تُبَّع ما كان؟ فقال: إن تبعا كان رجلا من العرب، وإنه ظهر على الناس، فاختار فِتية من الأخيار فاستبطنهم واستدخلهم، حتى أخذ منهم وبايعهم، وإن قومه استكبروا ذلك وقالوا: قد ترك دينكم، وبايع الفِتية; فلما فشا ذلك، قال للفتية، فقال الفتية: بيننا وبينهم النار تُحْرِق الكاذب،
وينجو منها الصادق، ففعلوا، فعلق الفتية مصاحفهم في أعناقهم، ثم غدوا إلى النار، فلما ذهبوا أن يدخلوها، سفعت النار في (1) وجوههم، فنكصوا عنها، فقال لهم تبَّع: لتدخلنها; فلما دخلوها أفرجت عنهم حتى قطعوها، وأنه قال لقومه ادخلوها; فلما ذهبوا يدخلونها سفعت النار وجوههم، فنكصوا عنها، فقال لهم تبَّع: لتدخلنها، فلما دخلوها أفرجت عنهم، حتى إذا توسطوا أحاطت بهم، فأحرقتهم، فأسلم تُبع، وكان تُبَّع رجلا صالحا.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله يحدّث "أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حِمْيَر بينه وبين ذلك، وقالوا لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار، قال نعم، قال: وكانت في اليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم فيما بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضرّ المظلوم، فلما قالوا ذلك لتبَّع، قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم، وما يتقرّبون به في دينهم قال: وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديهما، حتى قعدوا للنار عند مخرجها التي تخرج منه، فخرجت للنار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فرموهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها، فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قرّبوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حِمْيَر وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما، تعرق جباههما لم تضرّهما، فأطبقت حِمْيَر، عند ذلك على دينه، فمن هنالك وغير ذلك كان أصل اليهودية باليمن" .
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق عن بعض أصحابه أن الحَبرين، ومن خرج معهما من حِمْيَر، إنما اتبعوا النار ليردّوها، وقالوا:
(1)
كذا في الأصل، وسيجيء نظيره قريبًا بإسقاط (في) من الكلام. ولعله زاد (في) على التضمين.

من ردّها فهو أولى بالحقّ فدنا منهم رجال من حمير بأوثانهم ليردُّوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا فلم يستطيعوا ردّها، ودنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان التوراة، وتنكص حتى ردّاها إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأطبقت عند ذلك على دينهما، وكان رئام بيتا لهم يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلمون منه، إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبَّع إنما هو شيطان يعينهم ويلعب بهم، فخلّ بيننا وبينه، قال: فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود، فذبحاه، ثم هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن كما ذُكر لي "."
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن لهيعة، عن عمرو بن جابر الخضرميّ، حدثه قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي، يحدّث عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه قال: "لا تَلْعَنُوا تُبَّعا فإنَّهُ كانَ قَدْ أسْلَمَ" .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد أن شعيب بن زرعة المعافريّ، حدثه، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وقال له رجل: إن حِمْيَر تزعم أن تبعا منهم، فقال: نعم والذي نفسي بيده، وإنه في العرب كالأنف بين العينين. وقد كان منهم سبعون ملكا.
وقوله (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) يقول تعالى ذكره: كلّ هؤلاء الذين ذكرناهم كذّبوا رسل الله الذين أرسلهم (فَحَقَّ وَعِيدِ) يقول: فوجب لهم الوعيد الذي وعدناهم على كفرهم بالله، وحل بهم العذاب والنقمة. وإنما وصف ربنا جلّ ثناؤه ما وصف في هذه الآية من إحلاله عقوبته بهؤلاء المكذّبين الرسل ترهيبا منه بذلك مشركي قريش وإعلاما منه لهم أنهم إن لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، أنه محلّ بهم من العذاب، مثل الذي أحلّ بهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَحَقَّ وَعِيدِ) قال: ما أهلكوا به تخويفا لهؤلاء.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) }
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) }
وهذا تقريع من الله لمشركي قريش الذين قالوا: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) يقول لهم جلّ ثناؤه: أفعيينا بابتداع الخلق الأول الذي خلقناه، ولم يكن شيئا فنعيا بإعادتهم خلقا جديدا بعد بلائهم في التراب، وبعد فنائهم; يقول: ليس يعيينا ذلك، بل نحن عليه قادرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ) يقول: لم يعينا الخلق الأوّل.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ) يقول: أفعيي علينا حين أنشأناكم خلقا جديدا، فتمتروا بالبعث.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي ميسرة (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ) قال: إنا خلقناكم.
وقوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) يقول تعالى ذكره: ما يشكّ هؤلاء المشركون المكذّبون بالبعث أنا لم نعي بالخلق الأوّل، ولكنهم في شكّ من قُدرتنا على أن نخلقهم خلقا جديدا بعد فنائهم، وبَلائهم في قبورهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26-07-2025, 04:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ ق
الحلقة (1267)
صــ 341 الى صــ 350





* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) يقول: في شكّ من البعث.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي ميسرة (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) قال: الكفار (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) قال: أن يخلقوا من بعد الموت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) : أي شكّ والخلق الجديد: البعث بعد الموت، فصار الناس فيه رجلين: مكذّب، ومصدّق.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) قال: البعث من بعد الموت.
وقوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما تحدِّث به نفسه، فلا يخفى علينا سرائره وضمائر قلبه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يقول: ونحن أقرب للإنسان من حبل العاتق; والوريد: عرق بين الحلقوم والعلباوين، والحبل: هو الوريد، فأضيف إلى نفسه لاختلاف لفظ اسميه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يقول: عرق العنق.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (حَبْلِ الْوَرِيدِ) قال: الذي يكون في الحلق.
وقد اختلف أهل العربية في معنى قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فقال بعضهم: معناه: نحن أملك به، وأقرب إليه في المقدرة عليه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) بالعلم بما تُوَسْوس به نفسه.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) }
يقول تعالى ذكره: ونحن أقرب إلى الإنسان من وريد حلقه، حين يتلقى الملَكان، وهما المتلقيان (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) وقيل: عنى بالقعيد: الرصد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (قَعِيدٌ) قال: رَصَد.
واختلف أهل العربية في وجه توحيد قعيد، وقد ذُكر من قبل متلقيان، فقال بعض نحويي البصرة: قيل: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) ولم يقل: عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، أي أحدهما، ثم استغنى، كما قال: (نُخْرِجُكُمْ طِفْلا) ثم استغنى بالواحد عن الجمع، كما قال: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا) . وقال بعض نحويي الكوفة (قَعِيدٌ) يريد: قعودا عن اليمين وعن الشمال، فجعل فعيل جمعا، كما يجعل الرسول للقوم وللاثنين، قال الله
عزّ وجل: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لموسى وأخيه، وقال الشاعر:
أَلِكْنِي إلَيْها وَخَيْرُ الرَّسو ... ل أعْلَمُهُمْ بِنَوَاحي الخَبَرْ (1)
فجعل الرسول للجمع، فهذا وجه وإن شئت جعلت القعيد واحدا اكتفاء به من صاحبه، كما قال الشاعر:
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأنْتَ بِمَا ... عِنْدَك رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ (2)
ومنه قول الفَرَزدق:
إنّي ضَمِنْتُ لِمَنْ أتانِي ما جَنى ... وأَبي فَكانَ وكُنْتُ غَيرَ غَدُورِ (3)
ولم يقل: غَدُورَيْن.
(1)
البيت لأبي ذؤيب (اللسان: رسل) وروايته فيه كرواية المؤلف هنا، وقد نقلها المؤلف عن معاني القرآن للفراء (الورقة 309) وفي (اللسان: ألك) : بخبر الرسول. وأعلمهم بهمزة المتكلم في المضارع. وقال في رسل: وفي التنزيل العزيز "إنا رسول رب العالمين" ولم يقل رسل لأن فعولا وفعيلا يستوي فيهما المذكر والمؤنث، والواحد والجمع مثل عدو وصديق. وقول أبي ذؤيب "ألكني إليها.... البيت" أراد بالرسول: الرسل، فوضع الواحد موضع الجمع، وقولهم: كثر الدينار والدرهم لا يريدون به الدينار بعينه، إنما يريدون كثرة الدنانير والدراهم. وفي (اللسان: ألك) : ألكني: أي أبلغ رسالتي، من الألوك والمألكة، وهي الرسالة. وقال الفراء في معاني القرآن عند قوله تعالى "عن اليمين وعن الشمال قعيد" : لم يقل قعيدان: وروي عن ابن عباس قال: قعيدان، عن اليمين عن الشمال، يريد قعود (بضم القاف) وجعل القعيد جمعا، كما تجعل الرسول للقوم وللاثنين، كما قال الله: "إنا رسولا رب العالمين" لموسى وأخيه، وقال الشاعر: "ألكني إليها.... البيت" . أهـ.

(2)
البيت لقيس ابن الخطيم، وقد تقدم الاستشهاد به (10: 122) من هذه الطبعة شرحناه هناك شرحًا مفسرًا فارجع إليه ثمة. (وانظر الكتاب لسيبويه 1: 38) .

(3)
البيت للفرزدق (الكتاب لسيبويه طبعة مصر 1: 38) وهو من شواهد النحويين في باب التنازع، فإن قوله كان وكنت يطلب الخبر وهو قوله "غير غدور" . والأصل: وكنت غير غدور. والعرب تحذف في مثل هذا خبر أحد العاملين، اكتفاء بدلالة خبره على المحذوف. وعند البصريين أن الخبر الموجود هو خبر الثاني لا الأول فقد حذف خبره، وهو ظاهر في الشاهد الذي قبل هذا، "نحن بما عندنا ..." إلخ (وقال الفراء في معاني القرآن الورقة 309 ومثله) أي مثل الشاهد الذي قبله، قول الفرزدق: "إني ضمنت ... البيت" ، ولم يقل غدورين. وقد نقل المؤلف كلامه.

وقوله (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) يقول تعالى ذكره: ما يلفظ الإنسان من قول فيتكلم به، إلا عندما يلفظ به من قول رقيب عَتيد، يعني حافظ يحفظه، عتيد مُعَدُّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) فال: عن اليمين الذي يكتب الحسنات، وعن الشمال الذي يكتب السيئات.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، في قوله (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) قال: صاحب اليمين أمِير أو أمين على صاحب الشمال، فإذا عمل العبد سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: أمسك لعله يتوب.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عمرو، عن منصور، عن مجاهد (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) قال ملك عن يمينه، وآخر عن يساره، فأما الذي عن يمينه فيكتب الخير، وأما الذي عن شماله فيكتب الشرّ.
قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: مع كل إنسان مَلكان: ملك عن يمينه، وملك عن يساره; قال: فأما الذي عن يمينه، فيكتب الخير، وأما الذي عن يساره فيكتب الشرّ.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) ... إلى (عَتِيدٌ) قال: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل، وحافظين في النهار، يحفظان عليه عمله، ويكتبان أثره.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) ، حتى بلغ (عَتِيدٌ) قال الحسن وقتادة (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي ما يتكلم به من شيء إلا كتب عليه. وكان عكرِمة يقول: إنما ذلك في الخير والشرّ يكتبان عليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتاده، قال: تلا الحسن (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) قال: فقال: يا ابن آدم بُسِطت لك صحيفة، ووكل بك ملَكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن شمالك; فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ; وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل بما شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك، فجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوما القيامة، فعند ذلك يقول (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ... حتى بلغ (حَسِيبا) عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) قال: كاتب الحسنات عن يمينه، وكاتب السيئات عن شماله.
قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: بلغني أن كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات، فإذا أذنب قال له. لا تعجل لعله يستغفر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) قال: جعل معه من يكتب كلّ ما لفظ به، وهو معه رقيب.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن هشام الحمصي، أنه بلغه أن الرجل إذا عمل سيئة قال كاتب اليمين لصاحب الشمال: اكتب، فيقول: لا بل أنت اكتب، فيمتنعان، فينادي مناد: يا صاحب الشمال اكتب ما ترك صاحب اليمين.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) }
وفي قوله (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) وجهان من التأويل، أحدهما: وجاءت سكرة الموت وهي شدّته وغلبته على فهم الإنسان، كالسكرة من النوم أو الشراب بالحقّ من أمر الآخرة، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه. والثاني: وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت.
وقد ذُكر عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الحَقّ بالمَوْتِ) .
* ذكر الرواية بذلك:
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن واصل، عن أبي وائل، قال: لما كان أبو بكر رضي الله عنه يقضي، قالت عائشة رضي الله عنها هذا، كما قال الشاعر:
إذَا حَشْرَجَتْ يَوْما وَضَاقَ بِها الصَّدْرُ (1)
فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا تقولي ذلك، ولكنه كما قال الله عزّ وجلّ: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (2) . وقد ذُكر أن
(1)
هذا عجز بيت، وصدره كما في (اللسان: حشرج) * لعمرك ما يغني الثراء ولا الغنى *

قال: الحشرجة: تردد صوت النفس وهو الغرغرة في الصدور. وفي حديث عائشة ودخلت على أبيها - رضي الله عنهما - عند موته، فأنشدت: "لعمرك ... البيت" فقال: ليس كذلك، ولكن: "وجاء سكرة الحق بالموت" . وهي قراءة منسوبة إليه وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 309) عند قوله تعالى: "وجاءت سكرة الموت بالحق" : وفي قراءة عبد الله (ابن مسعود) وإن شئت جعلت السكرة هي الموت، أضفتها إلى نفسها كأنك قلت: جاءت سكرة الحق بالموت أهـ. قلت: ض وهذا البيت لحاتم الطائي، وروايته في ديوانه (لندن سنة 1872 ص 39) : أماوِيَّ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عنِ الفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوْما وَضَاقَ بها الصَّدْرُ
(2)
لعله سكرة الحق بالموت فإنها قراءة الصديق رضي الله عنه إلا أن تكون القراءة الأخرى رويت عنه أيضًا.

ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. ولقراءة من قرأ ذلك كذلك من التأويل وجهان:
أحدهما: وجاءت سكرة الله بالموت، فيكون الحقّ هو الله تعالى ذكره. والثاني: أن تكون السكرة هي الموت أُضيفت إلى نفسها، كما قيل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) . ويكون تأويل الكلام: وجاءت السكرةُ الحق بالموت.
وقوله (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) يقول: هذه السكرة التي جاءتك أيها الإنسان بالحقّ هو الشيء الذي كنت تهرب منه، وعنه تروغ.
وقوله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) قد تقدّم بياننا عن معنى الصُّور، وكيف النفخ فيه بذكر اختلاف المختلفين. والذي هو أولى الأقوال عندنا فيه بالصواب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) يقول: هذا اليوم الذي ينفخ فيه هو يوم الوعيد الذي وعده الله الكفار أن يعذّبهم فيه.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) }
يقول تعالى ذكره: وجاءت يوم ينفخ في الصور كلّ نفس ربها، معها سائق يسوقها إلى الله، وشهيد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن
يحيى بن رافع مولى لثقيف، قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب، فقرأ هذه الآية (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت.
قال: ثنا حكام، عن إسماعيل، عن أبي عيسى، قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب، فقرأ هذه الآية (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: السائق يسوقها إلى أمر الله، والشهيد يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: السائق من الملائكة، والشهيد: شاهد عليه من نفسه.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا سفيان، عن مهران، عن خَصِيف، عن مجاهد (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) سائق يسوقها إلى أمر الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) سائق يسوقها إلى أمر الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: المَلَكان: كاتب، وشهيد.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها إلى ربها، وشاهد يشهد عليها بعملها.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا أبو هلال،
قال: ثنا قتادة في قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها إلى حسابها، وشاهد يشهد عليها بما عملت.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن (مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها، وشاهد يشهد عليها بعملها.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: سائق يسوقها، وشاهد يشهد عليها بعملها.
وحُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) السائق من الملائكة، والشاهد من أنفسهم: الأيدي والأرجل، والملائكة أيضا شهداء عليهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) قال: مَلك وكِّل به يحصي عليه عمله، ومَلك يسوقه إلى محشره حتى يوافي محشره يوم القيامة.
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآيات; فقال بعضهم: عنى بها النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم. وقال بعضهم: عنى أهل الشرك، وقال بعضهم: عنى بها كلّ أحد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ، قال: سألت زيد بن أسلم، عن قوله الله (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) ... الآية، إلى قوله (سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) ، فقلت له: من يراد بهذا؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقلت له رسول الله؟ فقال: ما تنكر؟ قال الله عزّ وجلّ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى) قال: ثم سألت صالح بن كيسان عنها، فقال لي: هل سألت أحدا؟ فقلت: نعم،
قد سألت عنها زيد بن أسلم، فقال: ما قال لك؟ فقلت: بل تخبرني ما تقول، فقال: لأخبرنك برأيي الذي عليه رأيي، فأخبرني ما قال لك؟ قلت: قال: يراد بهذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقال: وما علم زيد؟ والله ما سن عالية، ولا لسان فصيح، ولا معرفة بكلام العرب، إنما يُراد بهذا الكافر، ثم قال: اقرأ ما بعدها يدلك على ذلك، قال: ثم سألت حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، فقال لي مثل ما قال صالح: هل سألت أحدا فأخبرني به؟ قلت: إني قد سألت زيد بن أسلم وصالح بن كيسان، فقال لي: ما قالا لك؟ قلت: بل تخبرني بقولك، قال: لأخبرنك بقولي، فأخبرته بالذي قالا لي، قال: أخالفهما جميعا، يريد بها البرّ والفاجر، قال الله: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) قال: فانكشف الغطاء عن البرّ والفاجر، فرأى كلّ ما يصير إليه.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) يعني المشركين.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عنى بها البرّ والفاجر، لأن الله أتبع هذه الآيات قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) والإنسان في هذا الموضع بمعنى: الناس كلهم، غير مخصوص منهم بعض دون بعض. فمعلوم إذا كان ذلك كذلك أن معنى قوله (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) وجاءتك أيها الإنسان سكرة الموت بالحقّ (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وإذا كان ذلك كذلك كانت بينة صحة ما قلنا.
وقوله (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) يقول تعالى ذكره: يقال له: لقد كنت في غفلة من هذا الذي عاينت اليوم أيها الإنسان من الأهوال والشدائد (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) يقول: فجلينا ذلك لك، وأظهرناه لعينيك، حتى رأيته وعاينته، فزالت الغفلة عنك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفوا في المقول ذلك له، فقال بعضهم: المقول ذلك له الكافر.
وقال آخرون: هو نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
وقال آخرون: هو جميع الخلق من الجنّ والإنس.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26-07-2025, 04:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ ق
الحلقة (1268)
صــ 351 الى صــ 360




* ذكر من قال: هو الكافر:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) وذلك الكافر.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) قال: للكافر يوم القيامة.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) قال: في الكافر.
* ذكر من قال: هو نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا) قال: هذا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: لقد كنت في غفلة من هذا الأمر يا محمد، كنت مع القوم في جاهليتهم. (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) .
وعلى هذا التأويل الذي قاله ابن زيد يجب أن يكون هذا الكلام خطابا من الله لرسوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه كان فى غفلة في الجاهلية من هذا الدين الذي بعثه به، فكشف عنه غطاءه الذي كان عليه في الجاهلية، فنفذ بصره بالإيمان وتبيَّنه حتى تقرّر ذلك عنده، فصار حادّ البصر به.
* ذكر من قال: هو جميع الخلق من الجنّ والإنس:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهريّ، قال: سألت عن ذلك الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، فقال: يريد به البرّ والفاجر، (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) قال: وكُشِف الغطاء عن البرّ والفاجر، فرأى كلّ ما يصير إليه.
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) قال: الحياة بعد الموت.
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ) قال: عاين الآخرة.
وقوله (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) يقول: فأنت اليوم نافذ البصر، عالم بما كنت عنه في الدنيا في غفلة، وهو من قولهم: فلان بصير بهذا الأمر: إذا كان ذا علم به، وله بهذا الأمر بصر: أي علم.
وقد رُوي عن الضحاك إنه قال: معنى ذلك (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) لسان الميزان، وأحسبه أراد بذلك أن معرفته وعلمه بما أسلف في الدنيا شاهد عدل عليه، فشبَّه بصره بذلك بلسان الميزان الذي يعدل به الحقّ في الوزن، ويعرف مبلغه الواجب لأهله عما زاد على ذلك أو نقص، فكذلك علم من وافي القيامة بما اكتسب في الدنيا شاهد عليه كلسان الميزان.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) }
يقول تعالى ذكره: وقال قرين هذا الإنسان الذي جاء به يوم القيامة معه سائق وشهيد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) الملك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) ... إلى آخر الآية، قال: هذا سائقه الذي وُكِّل به، وقرأ (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) .
وقوله (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل قَرينِ هذا الإنسان عند موافاته ربه به، ربّ هذا ما لديّ عتيد: يقول: هذا الذي هو عندي معدّ محفوظ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ) قال: والعتيد: الذي قد أخذه، وجاء به السائق والحافظ معه جميعا.
وقوله (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عليه منه، وهو: يقال ألقيا في جهنم، أو قال تعالى: ألقيا، فأخرج الأمر للقرين، وهو بلفظ واحد مخرج خطاب الاثنين. وفي ذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون القرين بمعنى الاثنين، كالرسول، والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد، والتثنية والجمع، فردّ قوله (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ) إلى المعنى. والثاني: أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول، وهو أن العرب تأمر الواحد والجماعة
بما تأمر به الاثنين، فتقول للرجل ويلك أرجلاها وازجراها، وذكر أنه سَمِعها من العرب; قال: وأنشدني بعضهم:
فَقُلْتُ لصَاحِبي لا تَحْبسانا ... بنزعِ أُصُولِهِ واجْتَزَّ شيحا (1)
قال: وأنشدني أبو ثروان:
فإنْ تَزْجُرانِي يا بْنَ عَفَّان أنزجِرْ ... وَإنْ تَدَعانِي أحْمِ عِرْضا مُمنَعَّا (2)
قال: فيروى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، وقال: ألا ترى
(1)
البيت لمضرس بن ربعي الفقعسي الأسدي، وليس ليزيد بن الطثرية كما نسبه الكسائي وثعلب إليه، وأخذه عنه الجوهري في الصحاح. قاله ياقوت فيما كتبه على الصحاح. وفي روايته: "لحاطبي" في موضع لصاحبي، وقوله: "لا تحبسانا" ، فإن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين (انظر شرح شواهد الشافية لعبد القادر البغدادي طبع القاهرة) . وقال الفراء في معاني القرآن (الورقة 309 عند قوله تعالى "ألقيا في جهنم" . العرب تأمر الواحد والقوم بما يؤمر به الاثنان، فيقولان للرجل قوما عنا. وسمعت بعضهم يقول: ويحك ارحلاها وازجراها. وأنشدني بعضهم "فقلت لصاحبي ... البيت" . قال: ويروى: واجدز يريد: واجتز. أهـ.

(2)
وهذا البيت أيضًا من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 309) على ما تقدم في نظيره من أن العرب قد تخاطب القوم والواحد بما تخاطب به الاثنين، قال بعد أن أنشد البيت: ونرى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما يكونون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه. أهـ.

وقال في (اللسان: جزر) إن العرب ربما خاطبت الواحد بلفظ الاثنين، كما قال سويد بن كراع العكلي: تقول ابنة العوفي ليلي ألا ترى ... إلى ابن كراع لا يزال مفزعا
مخافة هذين الأميرين سهدت ... رقادي وغشتني بياضا مقزعا
فإن أنتما أحكمتماني فازجرا ... أراهط تؤذي من الناس رضعا
وإن تزجراني ... البيت.
قال: وهذا يدل على أنه خاطب اثنين: سعيد بن عثمان، ومن ينوب عنه، أو يحضر معه. وقوله فإن أنتما أحكمتماني: دليل أيضا على أنه يخاطب اثنين. وقوله: أحكمتماني: أي منعتماني من هجائه. واصله من أحكمت الدابة: إذا جعلت فيها حكمة اللجام وقوله: "وإن تدعاني" أي إن تركتماني حميت عرضي ممن يؤذيني. وإن زجرتماني انزجرت وصبرت. والرضع: جمع راضع، وهو اللئيم. أهـ. وعلى هذا لا يكون في البيت شاهد للفراء، ولا للمؤلف.
الشعراء أكثر قيلا يا صاحبيّ يا خليليّ، وقال امرؤ القَيس:
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي على أُمّ جُنْدَبِ ... نُقَضِّ لُباناتِ الفُؤَادِ المُعَذَّبِ (1)
ثم قال:
أَلمْ تَرَ أنّي كُلَّما جِئْتُ طارِفا ... وَجَدْتُ بِها طِيْبات وَإنْ لَّمْ تَطَيَّبِ (2)
فرجع إلى الواحد، وأوّل الكلام اثنان; قال: وأنشدني بعضهم:
خَلِيلَي قُوما في عَطالَةَ فانْظُرَا ... أنارٌ تَرَى مِنْ ذِي أبانَيْنِ أَمْ بَرْقا (3)
وبعضهم يروي: أنارا نرى.
(كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) يعني: كل جاحد وحدانية الله عنيد، وهو العاند عن الحقّ وسبيل الهدى.
وقوله (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كان قتادة يقول في الخير في هذا الموضع: هو
(1)
هذا البيت مطلع قصيدة لامرئ القيس قالها في زوجته أم جندب من طيئ (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا طبعة الحلبي ص 43) والشاهد فيه أن يخاطب خليله، بلفظ التثنية، لأنهم كانوا ثلاثة في سفر. وبعد هذا المطلع قوله: فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب

(2)
وهذا البيت هو ثالث البيتين في القصيدة، وهو لامرئ القيس أيضًا. قال الفراء بعد كلامه الذي سبق في الشاهد الذي قبله: ثم قال: ألم تر، فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان. قلت: وكلام الفراء بناء على روايته في البيت. وهناك رواية أخرى في قوله "ألم تر" وهي: "ألم تريا" بصيغة الخطاب للمثنى، وهما رفيقاه، وشاهد عليها في البيت. وهي رواية الأعلم الشنتمري في شرحه للأشعار الستة، وأثبتها شارح مختار الشعر الجاهلي.

(3)
البيت لسويد بن كراع العكلي عن (التاج: عطل) وعطالة: جبل لبني تميم وذو وأبانين: أي المكان الذي فيه الجبلان: أبان الأبيض، وهو لبني جريد من بني فزارة خاصة، والأسود لبني والبة من بني الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد، ويشركهم فيه فزارة. وبين الجبلين نحو فرسخ، ووادي الرمة يقطع بينهما. قاله البكري في (معجم ما استعجم ص 95) . وقال الفراء بعد أن روى البيت: بعضهم يرويه: "أنارا ترى" . أهـ. وعلى هذه الرواية الأخيرة لا يكون في البيت شاهد على ما أراده المؤلف من أن العرب تخاطب الواحد بما تخاطب به المثنى. وقوله "من ذى أبانين" هذه رواية الطبري في الأصل، وهي تختلف عن رواية الفراء في معاني القرآن (309) وهي: "من نحو بابين" . قال في التاج: وبابين - مثنى - موضع بالبحرين

الزكاة المفروضة.
حدثنا بذلك بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة.
والصواب من القول في ذلك عندي أنه كلّ حق وجب لله، أو لآدمي فى ماله، والخير في هذا الموضع هو المال.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب من القول، لأن الله تعالى ذكره عمّ بقوله (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) عنه أنه يمنع الخير ولم يخصص منه شيئا دون شيء، فذلك على كلّ خير يمكن منعه طالبه.
وقوله (مُعْتَدٍ) يقول: معتد على الناس بلسانه بالبذاء والفحش في المنطق، وبيده بالسطوة والبطش ظلما.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: معتد في منطقه وسيرته وأمره.
وقوله (مُرِيبٍ) يعني: شاكّ في وحدانية الله وقُدرته على ما يشاء.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (مُرِيبٍ) : أي شاكّ.
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) }
يقول تعالى ذكره: الذي أشرك بالله فعبد معه معبودا آخر من خلقه (فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) يقول: فألقياه في عذاب جهنم الشديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) }
يقول تعالى ذكره: قال قرين هذا الإنسان الكفار المناع للخير، وهو شيطانه الذي كان موكلا به في الدنيا.
كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه شيطانه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (قَالَ قَرِينُهُ) قال: الشيطان قُيِّض له.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) هو المشرك (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه الشيطان.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه: الشيطان.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه: شيطانه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في
قوله (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: قرينه من الجنّ: ربنا ما أطغيته، تبرأ منه.
وقوله (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) يقول: ما أنا جعلته طاغيا متعدّيا إلى ما ليس له، وإنما يعني بذلك الكفر بالله (وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) يقول: ولكن كان في طريق جائر عن سبيل الهدى جورا بعيدا. وإنما أخبر تعالى ذكره هذا الخبر، عن قول قرين الكافر له يوم القيامة، إعلاما منه عباده، تبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) قال: تبرأ منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا عبد الله بن أبي بكر، قال: ثنا جعفر، قال: سمعت أبا عمران يقول في قوله (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) تبرأ منه.
وقوله (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) يقول تعالى ذكره: قال الله لهؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم، وصفة قرنائهم من الشياطين (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) اليوم (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) في الدنيا قبل اختصامكم هذا، بالوعيد لمن كفر بي، وعصاني، وخالف أمري ونهيي في كتبي، وعلى ألسن رسلي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا عبد الله بن أبي بكر، قال: ثنا جعفر، قال: سمعت أبا عمران يقول في قوله (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) قال: بالقرآن.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) قال: إنهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجتهم، وردّ عليهم قولهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) قال: يقول: قد أمرتكم ونهيتكم، قال: هذا ابن آدم وقرينه من الجن.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع، قال: قلت لأبي العالية (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) قال أبو جعفر الطبريّ: أحسبه قال: هم أهل الشرك، وقال في آية أخرى (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) فهم أهل القبلة.
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله للمشركين وقرنائهم من الجنّ يوم القيامة، إذ تبرأ بعضهم من بعض: ما يغير القول الذي قلته لكم فى الدنيا، وهو قوله (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ولا قضائي الذي قضيته فيهم فيها.
كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) قد قضيت ما أنا قاض.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهد، في قوله (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) قال: قد قضيت ما أنا قاض.
وقوله (وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) يقول: ولا أنا بمعاقب أحدا من خلقي بجرم غيره، ولا حامل على أحد منهم ذنب غيره فمعذّبه به.
وقوله (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ) يقول: وما أنا بظلام للعبيد في (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ) وذلك يوم القيامة، ويوم نقول من صلة ظلام. وقال تعالى ذكره لجهنم يوم القيامة: (هَلِ امْتَلأتِ) ؟ لما سبق من وعده إياها بأنه يملأها من الجِنَّة والناس أجمعين.
أما قوله (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: ما من مزيد. قالوا: وإنما يقول الله لها: هل امتلأت بعد أن يضع قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قطِ قطِ، من تضايقها;
فإذا قال لها وقد صارت كذلك: هل امتلأت؟ قالت حينئذ: هل من مزيد: أي ما من مزيد، لشدّة امتلائها، وتضايق بعضها إلى بعض.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال ابن عباس: "إن الله الملك تبارك وتعالى قد سبقت كلمته (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فلما بعث الناس وأحضروا، وسيق أعداء الله إلى النار زمرا، جعلوا يقتحمون في جهنم فوجا فوجا، لا يلقى في جهنم شيء إلا ذهب فيها، ولا يملأها شيء، قالت: ألستَ قد أقسمت لتملأني من الجِنَّة والناس أجمعين؟ فوضع قدمه، فقالت حين وضع قدمه فيها: قدِ قدِ، فإني قد امتلأت، فليس لي مزيد، ولم يكن يملأها شيء، حتى وَجَدَتْ مسّ ما وُضع عليها، فتضايقت حين جعل عليها ما جعل، فامتلأت فما فيها موضع إبرة" .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال: وعدها الله ليملأنها، فقال: هلا وفيتك؟ قالت: وهل من مَسلك.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول فى قوله (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) كان ابن عباس يقول: "إن الله الملك، قد سبقت منه كلمة (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ) لا يلقى فيها شيء إلا ذهب فيها، لا يملأها شيء، حتى إذا لم يبق من أهلها أحد إلا دخلها، وهي لا يملأها شيء، أتاها الربّ فوضع قدمه عليها، ثم قال لها: هل امتلأت يا جهنم؟ فتقول: قطِ قطِ; قد امتلأت، ملأتني من الجنّ والإنس فليس في مزيد; قال ابن عباس: ولم يكن يملأها شيء حتى وجدت"
مسّ قدم الله تعالى ذكره، فتضايقت، فما فيها موضع إبرة "."
وقال آخرون: بل معنى ذلك: زدني، إنما هو هل من مزيد، بمعنى الاستزادة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 26-07-2025, 04:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ ق
الحلقة (1269)
صــ 361 الى صــ 370




* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين بن ثابت، عن أنس، قال: "يلقى في جهنم وتقول: هل من مزيد ثلاثا، حتى يضع قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قطِ قطِ، ثلاثا" .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) لأنها قد امتلأت، وهل من مزيد: هل بقي أحد؟ قال: هذان الوجهان في هذا، والله أعلم، قال: قالوا هذا وهذا.
وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو بمعنى الاستزادة، هل من شيء أزداده؟
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بما حدثني أحمد بن المقدام العجلي، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاويّ، قال: ثنا أيوب، عن محمد، عن أبي هُريرة، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إِذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ، لَمْ يَظْلِمِ اللهُ أحَدًا مِنْ خَلْقِهِ شَيْئا، وَيُلْقِي فِي النَّارِ، تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حتى يَضَعَ عَلَيْها قَدَمَهُ، فَهنالكَ يَمْلأها، وَيُزْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ" .
حدثنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يحدّث عن قتادة، عن أنس، قال: "ما تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الله عليها قدمه، فتقول: قدِ قدِ، وما يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا، فيُسكنه فضول الجنة" .
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب وهشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هُريرة، قال: "اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي إنما يدخلني فقراء الناس وسقطهم; وقالت النار: ما لي إنما يدخلني الجبارون والمتكبرون، فقال: أنت رحمتي أصيب بك من أشاء، وأنت عذابي أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما الجنة فإن الله ينشئ لها من خلقه ما شاء. وأما النار فيُلقون فيها وتقول: هل من مزيد؟ ويلقون فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع فيها قدمه، فهناك تملأ ويزوى بعضها إلى بعض، وتقول: قط، قط" (1) .
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن ثور، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "احْتَجَّت الجَنَّةُ والنَّارُ، فَقالَتِ الجَنَّةُ: مالي لا يَدخُلُنِي إلا فُقَرَاءُ النَّاسِ؟ وَقالَتِ النَّارُ: مالي لا يَدْخُلُنِي إلا الجَبَّارُون والمُتَكَبِّرُونَ؟ فَقالَ للنَّار: أنْت عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ; وَقالَ للْجَنَّةِ: أنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُما مِلْؤُها; فأمَّا الجَنَّةُ فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا ما شاء; وأمَّا النَّارَ فَيُلْقَوْنَ فِيها وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حتى يَضَعَ قَدمَهُ فيها، هُنالكَ تَمْتَلِئ، وَيَنزوي بَعْضُها إلى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ" .
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيها وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حتى يَضَعَ رَبُّ العَالمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنزوِي بَعْضُها إلى بَعْضٍ وَتَقُولُ: قَدْ، قَدْ، بِعِزَّتِك وكَرَمِكَ، وَلا يَزَالُ فِي الجَنَّة فَضْلٌ حتى يُنْشئ اللهُ لَهَا خَلْقا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الجَنَّةِ" .
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا أبان العطار، قال: ثنا قتادة، عن أنس، أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ"
(1)
قط قط، وتقدم قبله: قد قد. وهما بمعنى: كفى كفى.

تَقُول هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حتى يَضَعَ رَبُّ العَالمِينَ فيها قَدَمَه، فَيَنزوِي بَعْضُها إلى بَعْض، فَتَقُولُ: بِعِزَّتِكَ قَطْ، قَطْ; وَما يَزَالُ فِي الجَنَّةِ فَضْلٌ حتى يُنْشِئَ اللهُ خَلْقا فَيُسْكِنَه في فَضْلِ الجَنَّةِ "."
قال: ثنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثنا قتادة، عن أنس، قال: ما تزال جهنم تقول: هل من مزيد فذكر نحوه "غير أنه قال: أو كما قال."
حدثنا زياد بن أيوب، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قال: "احْتَجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ، فَقالَتِ النَّارُ: يَدْخُلُنِي الجَبَّارُونَ والمُتَكَبِّرُونَ; وَقالَتِ الجنَّةُ: يَدخُلُنِي الفُقَرَاءُ وَالمَساكِينُ; فأَوْحَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى الجَنَّة: أنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ; وأَوْحَى إلى النَّار: أنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ، وَلِكُلّ وَاحِدَةٍ مِنْكُما مِلْؤُها; فأمَّا النَّارُ فَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حتى يَضَعَ قَدَمَهُ فِيها، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ" . ففي قول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ" دليل واضح على أن ذلك بمعنى الاستزادة لا بمعنى النفي، لأن قوله: "لا تزال" دليل على اتصال قول بعد قول.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) }
يعني تعالى ذكره بقوله (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) وأُدنيت الجنة وقرّبت للذين اتقوا ربهم، فخافوا عقوبته بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) يقول: وأدنيت (غَيْرَ بَعِيدٍ) .
وقوله (هَذَا مَا تُوعَدُونَ) يقول: قال لهم: هذا الذي توعدون أيها المتقون، أن تدخلوها وتسكنوها وقوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ) يعني: لكل راجع من معصية الله إلى طاعته، تائب من ذنوبه.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: هو المسبح، وقال بعضهم: هو التائب، وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته، غير أنا نذكر في هذا الموضع ما لم نذكره هنالك.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: ثنا محمد بن الصلت، قال: ثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس (لِكُلِّ أَوَّابٍ) قال: لكلّ مسبح.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، قال: الأوّاب: المسبح.
حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثني يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، قال: ثني أبي، عن الحكم بن عتيبة في قول الله (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال: هو الذاكر الله في الخلاء.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن يونس بن خباب، عن مجاهد (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال: الذي يذكر ذنوبه فيستغفر منها.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ) . قال: ثنا مهران، عن خارجة، عن عيسى الحناط، عن الشعبيّ، قال: هو الذي يذكر ذنوبه في خلاء فيستغفر منها (حَفِيظٍ) : أي مطيع لله كثير الصلاة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال: الأوّاب: التوّاب الذي يئوب إلى طاعة الله ويرجع
إليها.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن يونس بن خباب في قوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) قال: الرجل يذكر ذنوبه، فيستغفر الله لها.
وقوله (حَفِيظٍ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: حفظ ذنوبه حتى تاب منها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس، عن الأوّاب الحفيظ، قال: حفظ ذنوبه حتى رجع عنها.
وقال آخرون: معناه: أنه حفيظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (حَفِيظٍ) قال: حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره وصف هذا التائب الأوّاب بأنه حفيظ، ولم يخصّ به على حفظ نوع من أنواع الطاعات دون نوع، فالواجب أن يعمّ كما عمّ جلّ ثناؤه، فيقال: هو حفيظ لكلّ ما قرّبه إلى ربه من الفرائض والطاعات والذنوب التي سلَفت منه للتوبة منها والاستغفار.
وقوله (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) يقول: من خاف الله في الدنيا من قبل أن يلقاه، فأطاعه، واتبع أمره.
وفي (مَن) في قوله (مَنْ خَشِيَ) وجهان من الإعراب: الخفض على إتباعه كلّ في قوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ) والرفع على الاستئناف، وهو مراد به الجزاء من خشي الرحمن بالغيب، قيل له ادخل الجنة; فيكون حينئذ قوله (ادْخُلُوهَا
بِسَلامٍ) جوابا للجزاء أضمر قبله القول، وحمل فعلا للجميع، لأن (مَن) قد تكون في مذهب الجميع.
وقوله (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) يقول: وجاء الله بقلب تائب من ذنوبه، راجع مما يكرهه الله إلى ما يرضيه.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) : أي منيب إلى ربه مُقْبل.
القول في تأويل قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) }
يعني تعالى ذكره بقوله (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ) ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهمّ والغضب والعذاب، وما كنتم تَلقَونه في الدنيا من المكاره.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ) قال: سَلِموا من عذاب الله، وسلَّم عليهم.
وقوله (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) يقول: هذا الذي وصفت لكم أيها الناس صفته من إدخالي الجنة من أدخله، هو يوم دخول الناس الجنة، ماكثين فيها إلى غير نهاية.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) خلدوا والله، فلا يموتون، وأقاموا فلا يَظْعُنون، ونَعِمُوا فلا يبأسون.
وقوله (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا) يقول: لهؤلاء المتقين ما يريدون في هذه الجنة التي أزلفت لهم من كل ما تشتهيه نفوسهم، وتلذّه عيونهم.
وقوله (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) يقول: وعندنا لهم على ما أعطيناهم من هذه
الكرامة التي وصف جلّ ثناؤه صفتها مزيد يزيدهم إياه. وقيل: إن ذلك المزيد: النظر إلي الله جلّ ئناؤه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أحمد بن سهيل الواسطي، قال: ثنا قُرةُ بن عيسى، قال: ثنا النضر بن عربيّ عن جده، عن أنس، "إن الله عزّ وجلّ إذا أسكن أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هبط إلى مَرْج من الجنة أفيح، فمدّ بينه وبين خلقه حُجُبا من لؤلؤ، وحُجُبا من نور ثم وُضعت منابر النور وسُرُرُ النور وكراسيّ النور، ثم أُذِن لرجل على الله عزّ وجلّ بين يديه أمثال الجبال من النور يُسْمَع دَويّ تسبيح الملائكة معه، وصفْقُ أجنحتهم فمدّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذن له على الله؟ فقيل: هذا المجعول بيده، والمُعَلَّم الأسماء، والذي أُمرت الملائكة فسجدت له، والذي له أبيحت الجنة، آدم عليه السلام، قد أُذِن له على الله تعالى; قال: ثم يؤذَن لرجل آخر بين يديه أمثال الجبال من النور، يُسْمع دَوِيّ تسبيح الملائكة معه، وصفْقُ أجنحتهم; فمدّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذِن له على الله؟ فقيل: هذا الذي اتخذه الله خليلا وجعل عليه النار بَرْدا وسلاما، إبراهيم قد أُذن له على الله. قال: ثم أُذِن لرجل آخر على الله، بين يديه أمثال الجبال من النور يُسْمع دوي تسبيح الملائكة معه، وصَفْق أجنحتهم; فمدّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذن له على الله؟ فقيل: هذا الذي اصطفاه الله برسالته (1) وقرّبه نجيا، وكلَّمه [كلاما] (2) موسى عليه السلام، قد أُذِن له على الله. قال: ثم يُؤذن لرجل آخر معه مثلُ جميع مواكب النبيين قبله، بين يديه أمثال الجبال، [من النور] (3) يسمع دَوِي تسبيح الملائكة معه، وصَفْق أجنحتهم; فمدّ أهل الجنة أعناقهم، فقيل: من هذا الذي قد أُذِن له على الله؟ فقيل: هذا أوّل شافع، وأوّل مشفَّع، وأكثر"
(1)
كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وفي الأصل برسالاته، وقد سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.

(2)
كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وقد سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.

(3)
كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وقد سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.

الناس واردة، وسيد ولد آدم; وأوّل من تنشقّ عن ذُؤابتيه الأرض، وصاحب لواء الحمد، أحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، قد أُذِن له على الله. قال: فجلس النبيون على منابر النور، [والصدّيقون على سُرُر النور; والشهداء على كراسيّ النور] (1) وجلس سائر الناس على كُثْبان المسك الأذفر الأبيض، ثم ناداهم الربّ تعالى من وراء الحُجب: مَرْحَبًا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي. يا ملائكتي، انهضوا إلى عبادي، فأطعموهم. قال: فقرّبت إليهم من لحوم طير، كأنها البُخت لا ريش لها ولا عظم، فأكلوا، قال: ثم ناداهم الربّ من وراء الحجاب: مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي، أكلوا اسقوهم. قال: فنهض إليهم غلمان كأنهم اللؤلؤ المكنون بأباريق الذهب والفضة بأشربة مختلفة لذيذة، لذة آخرها كلذّة أوّلها، لا يُصَدّعون عنها ولا يُنزفون; ثم ناداهم الربّ من وراء الحُجب: مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا، فَكِّهوهم. قال: فيقرب إليهم على أطباق مكلَّلة بالياقوت والمرجان; ومن الرُّطَب الذي سَمَّى الله، أشدّ بياضا من اللبن، وأطيب عذوبة من العسل. قال: فأكلوا ثم ناداهم الربّ من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا، وفُكِّهوا; اكسوهم; قال ففتحت لهم ثمار الجنة بحلل مصقولة بنور الرحمن فألبسوها. قال: ثم ناداهم الربّ تبارك وتعالى من وراء الحجب: مرحبا بعبادي وزواري وجيراني ووفدي; أكلوا; وشربوا; وفُكِّهوا; وكُسُوا طَيِّبوهم. قال: فهاجت عليهم ريح يقال لها المُثيرة، بأباريق المسك [الأبيض] (2) الأذفر، فنفحت على وجوههم من غير غُبار ولا قَتام. قال: ثم ناداهم الربّ عز وجل من وراء الحُجب: مرحبا بعبادي وزوّاري وجيراني ووفدي، أكلوا وشربوا وفكهوا، وكسوا وطُيِّبوا، وعزتي لأتجلينّ لهم حتى ينظروا إليّ قال: فذلك انتهاء العطاء وفضل المزيد; قال: فتجلى لهم الربّ عزّ وجلّ، ثم قال: السلام عليكم عبادي، انظروا إليّ فقد رضيت عنكم. قال: فتداعت قصور الجنة وشجرها، سبحانك أربع مرّات، وخرّ القوم سجدا; قال: فناداهم الربّ تبارك وتعالى: عبادي ارفعوا رءوسكم فإنها ليست بدار عمل، ولا دار نَصَب إنما هي دار جزاء وثواب، وعزّتي وجلالي ما خلقتها إلا من أجلكم، وما من ساعة ذكرتموني فيها في دار الدنيا، إلا ذكرتكم فوق عرشي "."
حدثنا عليّ بن الحسين بن أبجر، قال: ثنا عمر بن يونس اليمامي، قال: ثنا جهضم بن عبد الله بن أبي الطفيل قال: ثني أبو طيبة، عن معاوية العبسيّ، عن عثمان بن عمير، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "أتانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِي كَفِّه مِرْآةٌ بَيْضَاءُ، فِيها نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَقُلْتُ: يا جِبْرِيلُ ما هَذِهِ؟ قالَ: هَذِهِ الجُمُعَةُ، قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ فِيها؟ قالَ: هِيَ السَّاعَةُ تَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الأيَّامِ عِنْدَنا، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ فِي الآخِرَةِ يَوْمَ الْمَزِيدِ; قُلْتٌ: وَلِمَ تَدْعُونَ يَوْمَ المَزِيدِ قالَ: إنَّ رَبَّكَ تَبارَكَ وَتَعالى اتَّخَذَ فِي الجَنَّةِ وَاديا أفْيَحَ مِنْ مِسْكٍ أبْيَضَ، فإذَا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ نزلَ مِنْ عِلِّيِّين على كُرْسِيِّه، ثُمَّ حَفَّ الكُرْسِيَّ بِمنَابِرَ مِنْ نُورٍ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّونَ حتى يَجْلِسُوا عَلَيْها ثُمَّ تَجِيءُ أهلُ الجَنَّةِ حتى يَجْلِسُوا على الكُثُبِ فَيَتَجَلَّى لَهمْ رَبُّهُمْ عَزَّ وَجَلَّ حتى يَنْظُرُوا إلى وَجْهِهِ وَهُوَ يَقُولُ: أنا الَّذِي صَدَقْتُكُم عِدَتِي، وأتْمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي، فَهَذَا مَحلُّ كَرَامَتِي، فَسَلُونِي، فَيَسألُونهُ الرِّضَا، فَيَقُولُ: رِضَايَ أحَلَّكُمْ دَارِي وأنالَكُم كَرَامَتِي، فَسَلُونِي، فَيَسأَلُونهُ حتى تَنْتَهِيَ رَغْبتهُمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ عِنْدَ ذلكَ ما لا عين رأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمعَتْ، وَلا خَطَر على قَلْبِ بَشَرٍ، إلى مِقْدَارٍ مُنْصَرَف النَّاسِ مِنَ الجُمُعَة حتى يَصْعَدَ على كُرْسِيِّه فَيَصْعَدُ مَعَهُ الصدّيقُونَ والشُّهَدَاءُ، وَتَرْجِعُ أهْلُ الجَنَّةِ إلى غُرَفِهِمْ دُرَّةً بَيْضَاءَ، لا نَظْمَ فِيها ولا فَصْمَ، أوْ ياقُوتَةً حَمْرَاءَ، أوْ زَبْرَجَدَةً خَضْرَاءَ، مِنْها غُرَفُها وأبْوَابُها، فَلَيْسُوا إلى شَيْءٍ أحْوَجَ مِنْهُمْ إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ، لِيَزْدَادُوا مِنْهُ كَرَامَةً، وَلِيَزْدَادُوا نَظَرًا إلى وَجْهِهِ، وَلِذَلكَ دُعِيَ يَوْمَ المَزِيدِ" .
(1)
كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وقد سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.

(2)
كذا في الدر المنثور للسيوطي (6: 108) نقلا عن المؤلف. وقد سقط من الأصل بعض عبارات ضرورية وضعناها بين هذين المعقوفين.

حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا جرير، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، نحو حديث عليّ بن الحسين.
حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا يعقوب بن إبراهيم، عن صالح بن حيان، عن أبي بُرَيدة، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنحوه.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا ابن عون، عن محمد، قال: حدثنا، أو قال: "قالوا: إن أدنى أهل الجنة منزلة، الذي يقال له تمنّ، ويذكِّره أصحابه فيتمنى، ويذكره أصحابه فيقال له ذلك ومثله معه. قال: قال ابن عمر: ذلك لك وعشرة أمثاله، وعند الله مزيد" .
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجا أبا السَّمْح، حدثه عن أبي الهَيثم، عن أبي سعيد الخُدريّ، أنه قال عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إنَّ الرَّجُلَ فِي الجَنَّةِ لَيَتَّكِئَ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْل أنْ يَتَحَوَّلَ ثُمَّ تأْتِيهِ امْرأتُهُ فَتَضْربُ على مَنْكِبَيْهِ، فَيَنْطُرُ وَجْهَهُ فِي خَدّها أصْفَى مِنْ المِرْآةِ، وإنَّ أدْنَى لُؤْلُؤْةٍ عَلَيْها لَتُضِيءُ ما بَينَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيرُدُّ السَّلامَ، وَيَسألُها مَنْ أَنْتِ؟ فَتَقُولُ: أنا مِنَ المَزِيدِ وَإنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْها سَبْعُونَ ثَوْبا أدْناها مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبى فَيَنْفُذُها بَصَرُهُ حتى يَرَى مُخَّ ساقِها مِنْ وَرَاءِ ذلكَ، وَإنَّ عَلَيْها مِن التِّيجانِ، وَإنَّ أدْنَى لُؤْلُؤْةٍ فِيها لَتُضِيءُ ما بَينَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ" .
وقوله (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) يقول تعالى ذكره: وكثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المشركين من قريش من القرون، (هُمْ أَشَدَّ) من قريش الذين كذّبوا محمدا (بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) يقول: فَخَرَّقُوا (1) البلادَ فساروا فيها، فطافوا
(1)
"قوله فخرقوا البلاد ... الخ" : هذا من كلام الفراء في معاني القرآن، ص 310، وفي المطبوعة: خربوا في البلاد. تحريف.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 26-07-2025, 04:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الثانى والعشرون
تَفْسِيرِ سُّورَةِ ق
الحلقة (1270)
صــ 371 الى صــ 380





وتوغَّلوا إلى الأقاصي منها; قال امرؤ القَيس:
لقَدْ نَقَّبْتُ فِي الآفاقِ حتَّى ... رَضِيتُ مِنَ الغَنِيمَةِ بالإياب (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) قال: أثَّروا.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) قال: يقول: عملوا في البلاد ذاك النقْب.
* ذكر من قال ذلك:
وقوله (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) يقول جلّ ثناؤه: فهل كان لهم بتنقبهم في البلاد من معدل عن الموت; ومَنْجي من الهلاك إذ جاءهم أمرنا.
وأضمرت كان في هذا الموضع، كما أضمرت في قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ) بمعنى: فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم. وقرأت القرّاء قوله (فَنَقَّبُوا) بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر
(1)
البيت لامرئ القيس بن حجر (مختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي ص 80) وفي روايته "وقد طوفت" . مكان "لقت نقبت" . ورواية أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 226) كرواية المؤلف. قال: عند قوله تعالى: "فنقبوا في البلاد" : طافوا وتباعدوا قال امرؤ القيس "لقد نقبت ... البيت" . وفي "اللسان: نقب (ونقب في الأرض: ذهب) وفي التنزيل العزيز" فنقبوا في البلاد هل من محيص "قال الفراء: قرأ الفراء: فنقبوا مشددا. يقول خرقوا البلاد، فساروا فيها طلبا للمهرب فهل كان لهم محيص من الموت؟ قال: ومن قرأ: فنقبوا بكسر القاف، فإنه كالوعيد، أي اذهبوا في البلاد وجيئوا. وقال الزجاج: فنقبوا: طوفوا فتشوا. قال: وقرأ الحسن: فنقبوا بالتخفيف. قال امرؤ القيس:" وقد نقبت ... البيت "أي ضربت في البلاد: أقبلت وأدبرت أ. هـ."

عنهم. وذُكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك (فَنَقِبُوا) بكسر القاف على وجه التهديد والوعيد: أي طوّفوا في البلاد، وتردّدوا فيها، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله (مِنْ مَحِيصٍ) قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) ... حتى بلغ (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) قد حاص الفَجرة فوجدوا أمر الله مُتَّبِعا.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قوله (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) قال: حاص أعداء الله، فوجدوا أمر الله لهم مُدْرِكا.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) قال: هل من منجي.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) }
يقول تعالى ذكره: إن في إهلاكنا القرون التي أهلكناها من قبل قريش (لَذِكْرَى) يُتذَكَّر بها (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) يعني: لمن كان له عقل من هذه الأمة، فينتهي عن الفعل الذي كانوا يفعلونه من كفرهم بربهم، خوفا من أن يحلّ بهم مثل الذي حل بهم من العذاب.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) : أي من هذه الأمة، يعني بذلك القلبِ: القلبَ الحيّ.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) قال: من كان له قلب من هذه الأمة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) قال: قلب يعقل ما قد سمع من الأحاديث التي ضرب الله بها من عصاه من الأمم. والقلب في هذا الموضع: العقل. وهو من قولهم: ما لفلان قلب، وما قلبه معه: أي ما عقله معه. وأين ذهب قلبك؟ يعني أين ذهب عقلك.
وقوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يقول: أو أصغى لإخبارنا إياه عن هذه القرون التي أهلكناها بسمعه، فيسمع الخبر عنهم، كيف فعلنا بهم حين كفروا بربهم، وعصوْا رسله (وَهُوَ شَهِيدٌ) يقول: وهو متفهم لما يخبرُ به عنهم شاهد له بقلبه، غير غافل عنه ولا ساه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفت الفاظهم فيه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يقول: إن استمع الذكر وشهد أمره، قال في ذلك: يجزيه إن عقله (1) .
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى: وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) قال: وهو لا يحدّث نفسه، شاهد القلب.
(1)
كذا في الأصل، ولعل صواب العبارة: فإن ذلك يجزيه إن عقله.

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال: العرب تقول: ألقى فلان سمعه: أي استمع بأذنيه، وهو شاهد، يقول: غير غائب.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال: يسمع ما يقول، وقلبه في غير ما يسمع.
وقال آخرون: عنى بالشهيد في هذا الموضع: الشهادة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) يعني بذلك أهل الكتاب، وهو شهيد على ما يقرأ في كتاب الله من بعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) على ما في يده من كتاب الله أنه يجد النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم مكتوبا.
قال: ثنا ابن ثور، قال: قال معمر، وقال الحسن: هو منافق استمع القول ولم ينتفع.
حدثنا أحمد بن هشام، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن السديّ، عن أبي صالح في قوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال: المؤمن يسمع القرآن، وهو شهيد على ذلك.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال: ألقى السمع يسمع ما قد كان مما لم يعاين من الأحاديث عن الأمم التي قد مضت، كيف عذّبهم الله وصنع بهم حين عَصوا رسله.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) }
يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا السموات السبع والأرض وما بينهما من الخلائق في ستة أيام، وما مسنا من إعياء.
كما حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن أبي سنان، عن أبي بكر، قال: جاءت اليهود إلى النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة؟ فقال: "خَلَقَ اللهُ الأرْضَ يَوْمَ الأحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلقَ الجِبالَ يَوْمَ الثُّلاثاءِ، وَخَلَقَ المَدائِنَ والأقْوَاتَ والأنهارَ وعُمْرانها وَخَرَابها يَوْمَ الأرْبِعاءِ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالمَلائِكَةَ يَوْمَ الخَمِيس إلى ثَلاثِ ساعاتٍ، يعْنِي مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، وَخَلَقَ فِي أوَّلِ الثَّلاثِ السَّاعاتِ الآجالَ، وفي الثَّانِيَةِ الآفَة، وفي الثَّالِثَةِ آدَمَ، قالوا: صدقت إن أتممت، فعرف النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما يريدون، فغضب، فأنزل الله (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) ."
قال ثنا مهران، عن سفيان (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) قال: من سآمة.
حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) يقول: من إزحاف (1) .
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه; عن ابن عباس: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) يقول: وما مسنا من نَصَب.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح،
(1)
الإزحاف: الإعياء، وهو بمعنى اللغوب (اللسان: زحف) .

عن مجاهد، قوله (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) قال: نصب.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ) ... الآية، أكذب الله اليهود والنصارى وأهل الفرى على الله، وذلك أنهم قالوا: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استراح يوم السابع، وذلك عندهم يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله (مِنْ لُغُوبٍ) قالت اليهود: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ففرغ من الخلق يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، فأكذبهم الله، وقال (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) .
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) كان مقدار كلّ ألف سنة مما تعدّون.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) قال: لم يَمَسَّنا في ذلك عناء، ذلك اللغوب.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء اليهود، وما يفترون على الله، ويكذبون عليه، فإن الله لهم بالمِرصاد (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يقول: وصلّ بحمد ربك صلاة الصبح قبل طلوع الشمس وصلاة العصر قبل الغروب.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة (وَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) لصلاة الفجر، وقبل غروبها: العصر.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) قبل طلوع الشمس: الصبح، وقبل الغروب: العصر.
وقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) اختلف أهل التأويل في التسبيح الذي أمر به من الليل، فقال بعضهم: عني به صلاة العَتمة.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَمِنَ اللَّيْلِ) قال: العَتَمة وقال آخرون: هي الصلاة بالليل في أيّ وقت صلى.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) قال: من الليل كله.
والقول الذي قاله مجاهد في ذلك أقرب إلى الصواب، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فلم يَحُدَّ وقتا من الليل دون وقت. وإذا كان ذلك كذلك كان على جميع ساعات الليل. وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، فهو بأن يكون أمرا بصلاة المغرب والعشاء، أشبه منه بأن يكون أمرا بصلاة العَتَمة، لأنهما يصلَّيان ليلا.
وقوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) يقول: سبح بحمد ربك أدبار السجود من صلاتك.
واختلف أهل التأويل في معنى التسبيح الذي أمر الله نبيه أن يسبحه أدبار السجود، فقال بعضهم: عُنِي به الصلاة، قالوا: وهما الركعتان اللتان يصليان بعد صلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، قال: سألت عليا، عن أديار السجود، فقال: الركعتان بعد المغرب.
حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، قال: ثنا ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: قال عليّ رضي الله عنه (أَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا مصعب بن سلام، عن الأجلح، عن أبي إسحاق، عن الحارث. قال: سمعت عليا رضي الله عنه يقول (أَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن
أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه، في قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: الركعتان بعد المغرب.
قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عاصم بن ضمرة، عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما، قال (أَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثني عليّ بن سهل، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عليّ بن زيد، عن أوس بن خالد، عن أبي هريرة، قال: أدبار السجود: ركعتان بعد صلاة المغرب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن علوان بن أبي مالك، عن الشعبيّ، قال: (أَدْبَارَ السُّجُودِ) الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن جابر، عن عكرِمة، عن ابن عباس وإبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد (أَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم، مثله.
حدثنا ابن المثنى. قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم في هذه الآية (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) - (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) قال: الركعتان قبل الصبح، والركعتان بعد المغرب، قال شعبة: لا أدري أيتهما أدبار السجود، ولا أدري أيتهما إدبار النجوم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: كان مجاهد يقول: ركعتان بعد المغرب.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: هما السجدتان بعد صلاة المغرب.
حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو فضيل، عن رشدين بن كُرَيب، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: قال لي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "يا ابْنَ عَبَّاس رَكْعَتانِ بَعْدَ المَغْرِب أدْبارَ السُّجُود" .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: أخبرنا أبو زرعة، وهبة الله بن راشد، قال: أخبرنا حيوة بن شريح، قال: أخبرنا أبو صخر، أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكريّ يقول: سألت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن (أَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: هما ركعتان بعد المغرب.
حدثني سعيد بن عمرو السكوني، قال: ثنا بقية، قال: ثنا جرير، قال: ثنا حمير بن يزيد الرحبي، عن كُرَيب بن يزيد الرحبي; قال: وكان جبير بن نفير يمشي إليه، قال: كان إذا صلى الركعتين قبل الفجر، والركعتين
بعد المغرب أخفّ، وفسَّر إدبار النجوم، وأدبار السجود.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا مهران، عن عيسى بن يزيد، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحسن (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن المُغيرة، عن إبراهيم، قال: كان يقال (أَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
قال: ثنا عنبسة، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) : الركعتان بعد المغرب.
قال: ثنا جرير، عن عطاء، قال: قال عليّ: أدبار السجود: الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن البرّ، قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سُئل الأوزاعيّ عن الركعتين بعد المغرب، قال: هما في كتاب الله (فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن حُمَيد، عن الحسن، عن عليّ رضي الله عنه في قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: الركعتان بعد المغرب.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: ركعتان بعد المغرب.
وقال آخرون: عنى بقوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) : التسبيح في أدبار الصلوات المكتوبات، دون الصلاة بعدها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس في (فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: هو التسبيح بعد الصلاة.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى;
وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) قال: كان ابن عباس يقول: التسبيح. قال ابن عمرو: في حديثه في إثر الصلوات كلها. وقال الحارث في حديثه في دُبر الصلاة كلها.
وقال آخرون: هي النوافل في أدبار المكتوبات.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 19 ( الأعضاء 0 والزوار 19)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 526.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 520.34 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.12%)]