
20-01-2022, 03:58 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة :
|
|
رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد

تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الاول
الحلقة (10)
صــ 123إلى صــ 134
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( اللَّهِ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ "اللَّهِ " ، فَإِنَّهُ عَلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ لَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - : هُوَ الَّذِي يَأْلَهُهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَيَعْبُدُهُ كُلُّ خَلْقٍ . [ ص: 123 ]
141 - وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : "اللَّهِ " ذُو الْأُلُوهِيَّةِ وَالْمَعْبُودِيَّةِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : فَهَلْ لِذَلِكَ فِي "فَعَلَ وَيَفْعَلُ " أَصْلٌ كَانَ مِنْهُ بِنَاءُ هَذَا الِاسْمِ ؟
قِيلَ : أَمَّا سَمَاعًا مِنْ الْعَرَبِ فَلَا وَلَكِنِ اسْتِدْلَالًا .
فَإِنْ قَالَ : وَمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ هِيَ الْعِبَادَةُ ، وَأَنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ ، وَأَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي "فَعَلَ وَيَفْعَلُ " .
قِيلَ : لَا تَمَانُعَ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي الْحُكْمِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ - يَصِفُ رَجُلًا بِعِبَادَةٍ ، وَبِطَلَبِ مَا عِنْدَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ : "تَأَلَّهَ فَلَانٌ " - بِالصِّحَّةِ وَلَا خِلَافَ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ :
لِلَّهِ دَرُّ الْغَانِيَاتِ الْمُدَّهِ سَبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مِنْ تَأَلُّهِي
يَعْنِي : مِنْ تَعَبُّدِي وَطَلَبِي اللَّهَ بِعَمَلِي .
وَلَا شَكَّ أَنَّ "التَّأَلُّهَ " ، التَّفَعُّلَ مِنْ : "أَلَهَ يَأْلَهُ " ، وَأَنَّ مَعْنَى "أَلَهَ " - إِذَا نُطِقَ بِهِ : - عَبَدَ اللَّهَ . وَقَدْ جَاءَ مِنْهُ مَصْدَرٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ نَطَقَتْ مِنْهُ بِ "فَعَلَ يَفْعَلُ " بِغَيْرِ زِيَادَةٍ .
142 - وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَرَأَ " وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ " سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 127 قَالَ : عِبَادَتَكَ ، وَيُقَالُ : إِنَّهُ كَانَ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ . [ ص: 124 ]
143 - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَسَنِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : ( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) ، قَالَ : إِنَّمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يُعْبَدُ وَلَا يَعْبُدُ
وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا وَمُجَاهِدٌ .
144 - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ دَاوُدَ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي حَجَّاجٌ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : قَوْلُهُ " وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ " قَالَ : وَعِبَادَتَكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِلَاهَةَ - عَلَى مَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ - مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : أَلَهَ اللَّهَ فُلَانٌ إِلَاهَةً ، كَمَا يُقَالُ : عَبَدَ اللَّهَ فُلَانٌ عِبَادَةً ، وَعَبَرَ الرُّؤْيَا عِبَارَةً . فَقَدْ بَيَّنَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ هَذَا : أَنَّ "أَلَهَ " عَبَدَ ، وَأَنَّ "الْإِلَاهَةَ " مَصْدَرُهُ .
فَإِنْ قَالَ : فَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَبَدَ اللَّهَ : أَلَهَهُ - عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ - فَكَيْفَ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ ، إِذَا أَرَادَ الْمُخْبِرُ الْخَبَرَ عَنِ اسْتِيجَابِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِهِ ؟ [ ص: 125 ]
قِيلَ : أَمَّا الرِّوَايَةُ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ - عَلَى قِيَاسِ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي : -
145 - حَدَّثَنَا بِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ عِيسَى أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ إِلَى الْكُتَّابِ لِيُعَلِّمَهُ فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ اكْتُبْ "اللَّهَ " فَقَالَ لَهُ عِيسَى : "أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ اللَّهُ إِلَهُ الْآلِهَةِ " .
- أَنْ يُقَالَ ، اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ أَلَهَ الْعَبْدَ ، وَالْعَبْدُ أَلَهَهُ . وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ "اللَّهِ " - مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ أَصْلُهُ "الْإِلَهُ " .
فَإِنْ قَالَ : وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، مَعَ اخْتِلَافِ لَفْظَيْهِمَا ؟
قِيلَ : كَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 38 ] أَصْلُهُ : لَكِنَّ أَنَا ، هُوَ اللَّهُ رَبِّي ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ ، أَيْ أَنْتَ مُذْنِبٌ وَتَقْلِينَنِي ، لَكِنَّ إِيَّاكِ لَا أَقْلِي
يُرِيدُ : لَكِنَّ أَنَا إِيَّاكِ لَا أَقْلِي ، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ مِنْ "أَنَا " فَالْتَقَتْ نُونُ "أَنَا " "وَنُونُ "لَكِنْ " وَهِيَ سَاكِنَةٌ ، فَأُدْغِمَتْ فِي نُونِ "أَنَا " فَصَارَتَا نُونًا مُشَدَّدَةً . فَكَذَلِكَ "اللَّهُ " أَصْلُهُ "الْإِلَهُ " ، أُسْقِطَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي هِيَ فَاءُ الِاسْمِ ، فَالْتَقَتِ اللَّامُ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الِاسْمِ ، وَاللَّامُ الزَّائِدَةُ الَّتِي دَخَلَتْ مَعَ الْأَلِفِ الزَّائِدَةِ وَهِيَ سَاكِنَةٌ ، فَأُدْغِمَتْ فِي [ ص: 126 ] الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ عَيْنُ الِاسْمِ ، فَصَارَتَا فِي اللَّفْظِ لَامًا وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً ، كَمَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَأَمَّا " الرَّحْمَنُ " ، فَهُوَ فَعْلَانُ ، مِنْ رَحِمَ ، وَ "الرَّحِيمُ " فَعِيلٌ مِنْهُ . وَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تَبْنِي الْأَسْمَاءَ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " عَلَى "فَعْلَانِ " ، كَقَوْلِهِمْ مِنْ غَضِبَ : غَضْبَانُ ، وَمَنْ سَكِرَ : سَكْرَانُ ، وَمِنْ عَطِشَ : عَطْشَانُ . فَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ "رَحْمَنُ " مِنْ رَحِمَ ، لِأَنَّ "فَعِلَ " مِنْهُ : رَحِمَ يَرْحَمُ . وَقِيلَ "رَحِيمٌ " ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ "فَعِلَ " مِنْهَا مَكْسُورَةً ، لِأَنَّهُ مَدْحٌ . وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ يَحْمِلُوا أَبْنِيَةَ الْأَسْمَاءِ - إِذَا كَانَ فِيهَا مَدْحٌ أَوْ ذَمٌّ - عَلَى "فَعِيلٍ " ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُ "فَعِلَ " مِنْهَا مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً ، كَمَا قَالُوا مِنْ "عَلِمَ " عَالِمٌ وَعَلِيمٌ ، وَمِنْ "قَدَرَ " قَادِرٌ وَقَدِيرٌ . وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهَا بِنَاءً عَلَى أَفْعَالِهَا ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " وَ "فَعَلَ يَفْعِلُ " فَاعِلٌ . فَلَوْ كَانَ "الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ " خَارِجَيْنِ عَلَى بِنَاءِ أَفْعَالِهِمَا لَكَانَتْ صُورَتُهُمَا "الرَّاحِمَ " .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا كَانَ الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ اسْمَيْنِ مُشْتَقَّيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ ، فَمَا وَجْهُ تَكْرِيرِ ذَلِكَ ، وَأَحَدُهُمَا مُؤَدٍّ عَنْ مَعْنَى الْآخَرِ ؟
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ ، بَلْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مِنْهُمَا مَعْنًى لَا تُؤَدِّي الْأُخْرَى مِنْهُمَا عَنْهَا .
فَإِنْ قَالَ : وَمَا الْمَعْنَى الَّذِي انْفَرَدَتْ بِهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَصَارَتْ إِحْدَاهُمَا غَيْرَ مُؤَدِّيَةٍ الْمَعْنَى عَنِ الْأُخْرَى ؟
قِيلَ : أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَلَا تَمَانُعَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ ، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : "الرَّحْمَنُ " - عَنْ أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ [ ص: 127 ] مِنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " - أَشَدُّ عُدُولًا مِنْ قَوْلِهِ "الرَّحِيمُ " . وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، أَنَّ كُلَّ اسْمٍ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فِي "فَعِلَ يَفْعَلُ " - ثُمَّ كَانَ عَنْ أَصْلِهِ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " أَشَدَّ عُدُولًا - أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ مُفَضَّلٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِالِاسْمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَصْلِهِ مَنْ "فَعِلَ يَفْعَلُ " ، إِذَا كَانَتِ التَّسْمِيَةُ بِهِ مَدْحًا أَوْ ذَمًّا . فَهَذَا مَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ "الرَّحْمَنُ " ، مِنْ زِيَادَةِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ "الرَّحِيمُ " فِي اللُّغَةِ .
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ وَالْخَبَرِ ، فَفِيهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ اخْتِلَافٌ : -
146 - فَحَدَّثَنِي السُّرِّيُّ بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْعَرْزَمِيَّ يَقُولُ : "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، قَالَ : الرَّحْمَنُ بِجَمِيعِ الْخَلْقِ ، "الرَّحِيمُ" قَالَ : بِالْمُؤْمِنِينَ .
147 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - وَمِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - يَعْنِي الْخُدْرِيَّ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ : الرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا ، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ الْآخِرَةِ " .
فَهَذَانِ الْخَبِرَانِ قَدْ أَنْبَآ عَنْ فَرْقٍ مَا بَيْنَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "رَحْمَنُ " ، وَتَسْمِيَتُهُ بِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "رَحِيمٌ " ، وَاخْتِلَافُ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ - وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْفَرْقِ ، فَدَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ، وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ .
فَإِنْ قَالَ : فَأَيُّ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ أَوْلَى عِنْدَكَ بِالصِّحَّةِ ؟ [ ص: 128 ]
قِيلَ : لِجَمِيعِهِمَا عِنْدَنَا فِي الصِّحَّةِ مَخْرَجٌ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ قَائِلٍ : أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ بِالرَّحْمَنِ ، دُونَ الَّذِي فِي تَسْمِيَتِهِ بِالرَّحِيمِ : هُوَ أَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحْمَنِ مَوْصُوفٌ بِعُمُومِ الرَّحْمَةِ جَمِيعَ خَلْقِهِ ، وَأَنَّهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِالرَّحِيمِ مَوْصُوفٌ بِخُصُوصِ الرَّحْمَةِ بَعْضَ خَلْقِهِ ، إِمَّا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ ، وَإِمَّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ . فَلَا شَكَّ - إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - أَنَّ ذَلِكَ الْخُصُوصَ الَّذِي فِي وَصْفِهِ بِالرَّحِيمِ لَا يَسْتَحِيلُ عَنْ مَعْنَاهُ ، فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ أَوْ فِي الْآخِرَةِ ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا .
فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ - وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ خَصَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِمَا لَطَفَ بِهِمْ مِنْ تَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ لِطَاعَتِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ ، مِمَّا خُذِلَ عَنْهُ مَنْ أَشْرَكَ بِهِ ، وَكَفَرَ وَخَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَرَكِبَ مَعَاصِيَهُ; وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، مَا أَعَدَّ فِي آجِلِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالْفَوْزِ الْمُبِينِ ، لِمَنْ آمَنَ بِهِ ، وَصَدَّقَ رُسُلَهُ ، وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ ، خَالِصًا ، دُونَ مَنْ أَشْرَكَ وَكَفَرَ بِهِ - كَانَ بَيِّنًا أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، مَعَ مَا قَدْ عَمَّهُمْ بِهِ وَالْكُفَّارَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى جَمِيعِهِمْ ، فِي الْبَسْطِ فِي الرِّزْقِ ، وَتَسْخِيرِ السَّحَابِ بِالْغَيْثِ ، وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ ، وَصِحَّةِ الْأَجْسَامِ وَالْعُقُولِ ، وَسَائِرِ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى ، الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ .
فَرَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ رَحْمَنُ جَمِيعِ خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَرَحِيمُ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَأَمَّا الَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ فَكَانَ رَحْمَانًا لَهُمْ بِهِ ، فَمَا ذَكَرْنَا مَعَ نَظَائِرِهِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَى إِحْصَائِهَا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 34 ، وَسُورَةُ النَّحْلِ : 18 ] .
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ ، فَالَّذِي عَمَّ جَمِيعَهُمْ بِهِ فِيهَا مِنْ رَحْمَتِهِ ، فَكَانَ لَهُمْ رَحْمَانًا ، تَسْوِيَتُهُ [ ص: 129 ] بَيْنَ جَمِيعِهِمْ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي عَدْلِهِ وَقَضَائِهِ ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ . فَذَلِكَ مَعْنَى عُمُومِهِ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعَهُمْ بِرَحْمَتِهِ ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحْمَانًا فِي الْآخِرَةِ .
وَأَمَّا مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنْ رَحْمَتِهِ ، الَّذِي كَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ فِيهَا ، كَمَا قَالَ جُلَّ ذِكْرِهِ : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) [ سُورَةُ الْأَحْزَابِ : 43 ] فَمَا وَصَفْنَا مِنَ اللُّطْفِ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ ، فَخَصَّهُمْ بِهِ ، دُونَ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ .
وَأَمَّا مَا خَصَّهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَكَانَ بِهِ رَحِيمًا لَهُمْ دُونَ الْكَافِرِينَ ، فَمَا وَصَفْنَا آنِفًا مِمَّا أَعَدَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّعِيمِ ، وَالْكَرَامَةِ الَّتِي تَقْصُرُ عَنْهَا الْأَمَانِيُّ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي تَأْوِيلِهِ فَهُوَ مَا : -
148 - حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ ، عَنِ الضَّحَّاكِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : الرَّحْمَنُ ، الْفِعْلَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ . قَالَ : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ : الرَّقِيقُ الرَّفِيقُ بِمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْحَمَهُ ، وَالْبَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْنُفَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي بِهِ رَبُّنَا رَحْمَنُ ، هُوَ الَّذِي بِهِ رَحِيمٌ ، وَإِنْ كَانَ لِقَوْلِهِ "الرَّحْمَنِ " مِنَ الْمَعْنَى ، مَا لَيْسَ لِقَوْلِهِ "الرَّحِيمِ " . لِأَنَّهُ جَعَلَ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ " بِمَعْنَى الرَّقِيقِ عَلَى مَنْ رَقَّ عَلَيْهِ ، وَمَعْنَى "الرَّحِيمِ " بِمَعْنَى الرَّفِيقِ بِمَنْ رَفُقَ بِهِ .
وَالْقَوْلُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْنَاهُ عَنِ الْعَرْزَمِيِّ ، أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَإِنْ [ ص: 130 ] كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا مَعْنَاهُ مَعْنَى ذَلِكَ ، فِي أَنَّ لِلرَّحْمَنِ مِنَ الْمَعْنَى مَا لَيْسَ لِلرَّحِيمِ ، وَأَنَّ لِلرَّحِيمِ تَأْوِيلًا غَيْرَ تَأْوِيلِ الرَّحْمَنِ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا : -
149 - حَدَّثَنِي بِهِ عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ نَصْرُ بْنُ عَمْرٍو اللَّخْمِيُّ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ يَقُولُ : كَانَ الرَّحْمَنُ ، فَلَمَّا اخْتَزَلَ الرَّحْمَنُ مِنِ اسْمِهِ كَانَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ .
وَالَّذِي أَرَادَ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، عَطَاءٌ بِقَوْلِهِ هَذَا : أَنَّ الرَّحْمَنَ كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَتَسَمَّى بِهَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ، فَلَمَّا تَسَمَّى بِهِ الْكَذَّابُ مُسَيْلِمَةُ - وَهُوَ اخْتِزَالُهُ إِيَّاهُ ، يَعْنِي اقْتِطَاعَهُ مِنْ أَسْمَائِهِ لِنَفْسِهِ - أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ اسْمَهُ "الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ " لِيَفْصِلَ بِذَلِكَ لِعِبَادِهِ اسْمَهُ مِنِ اسْمِ مَنْ قَدْ تَسَمَّى بِأَسْمَائِهِ ، إِذْ كَانَ لَا يُسَمَّى أَحَدٌ "الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ " ، فَيُجْمَعُ لَهُ هَذَانِ الِاسْمَانِ ، غَيْرَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ . وَإِنَّمَا يَتَسَمَّى بَعْضُ خَلْقِهِ إِمَّا رَحِيمًا ، أَوْ يَتَسَمَّى رَحْمَنَ . فَأَمَّا "رَحْمَنُ رَحِيمٌ " ، فَلَمْ يَجْتَمِعَا قَطُّ لِأَحَدٍ سِوَاهُ ، وَلَا يُجْمَعَانِ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ . فَكَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ هَذَا : أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا فَصَلَ بِتَكْرِيرِ الرَّحِيمِ عَلَى الرَّحْمَنِ ، بَيْنَ اسْمِهِ وَاسْمِ غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ ، اخْتَلَفَ مَعْنَاهُمَا أَوِ اتَّفَقَا .
وَالَّذِي قَالَ عَطَاءٌ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ فَاسِدِ الْمَعْنَى ، بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَصَّ نَفْسَهُ بِالتَّسْمِيَةِ بِهِمَا مَعًا مُجْتَمِعَيْنَ ، إِبَانَةً لَهَا مِنْ خَلْقِهِ ، لِيَعْرِفَ عِبَادُهُ بِذِكْرِهِمَا مَجْمُوعَيْنِ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِذِكْرِهِمَا دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ ، مَعَ مَا فِي تَأْوِيلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي لَيْسَ فِي الْآخَرِ مِنْهُمَا . [ ص: 131 ]
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْغَبَاءِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ "الرَّحْمَنَ " ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي لُغَتِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ) [ سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 60 ] ، إِنْكَارًا مِنْهُمْ لِهَذَا الِاسْمِ ، كَأَنَّهُ كَانَ مُحَالًا عِنْدَهُ أَنْ يُنْكِرَ أَهْلُ الشِّرْكِ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِصِحَّتِهِ ، أَوْ : لَا ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَتْلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَوْلَ اللَّهِ ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ ) - يَعْنِي مُحَمَّدًا - ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ) [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 146 ] وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِهِ مُكَذِّبُونَ ، وَلِنُبُوَّتِهِ جَاحِدُونَ! فَيَعْلَمَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُدَافِعُونَ حَقِيقَةً مَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ صِحَّتُهُ ، وَاسْتَحْكَمَتْ لَدَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ . وَقَدْ أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَهْلَاءِ :
أَلَا ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا أَلَا قَضَبَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا
وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ السَّعْدِيُّ :
عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجْلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدْ وَيُطْلِقُ
[ ص: 132 ]
وَقَدْ زَعَمَ أَيْضًا بَعْضُ مَنْ ضَعُفَتْ مَعْرِفَتُهُ بِتَأْوِيلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ ، وَقَلَّتْ رِوَايَتُهُ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ ، أَنَّ "الرَّحْمَنَ " مَجَازُهُ : ذُو الرَّحْمَةِ ، وَ "الرَّحِيمَ " مَجَازُهُ : الرَّاحِمُ ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ يُقَدِّرُونَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ ، وَذَلِكَ لِاتِّسَاعِ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ . قَالَ : وَقَدْ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالُوا : نَدْمَانُ وَنَدِيمٌ ، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ بِبَيْتِ بُرْجِ بْنِ مُسْهِرٍ الطَّائِيِّ :
وَنَدْمَانٍ يَزِيدُ الْكَأَسَ طِيبًا ، سَقَيْتُ وَقَدْ تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ
وَاسْتَشْهَدَ بِأَبْيَاتِ نَظَائِرِهِ فِي النَّدِيمِ وَالنَّدْمَانِ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ فِي التَّأْوِيلِ لِقَوْلِهِ : الرَّحْمَنُ ذُو الرَّحْمَةِ ، وَالرَّحِيمُ الرَّاحِمُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ بَيَانَ تَأْوِيلِ مَعْنَيَيْهِمَا عَلَى صِحَّتِهِ . ثُمَّ مَثَّلَ ذَلِكَ بِاللَّفْظَيْنِ يَأْتِيَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، فَعَادَ إِلَى مَا قَدْ جَعَلَهُ بِمَعْنَيَيْنِ ، فَجَعَلَهُ مِثَالَ مَا هُوَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَا الرَّحْمَةِ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّ لَهُ الرَّحْمَةَ ، وَصَحَّ أَنَّهَا لَهُ صِفَةٌ; وَأَنَّ الرَّاحِمَ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ سَيَرْحَمُ ، أَوْ قَدْ رَحِمَ فَانْقَضَى ذَلِكَ مِنْهُ ، أَوْ هُوَ فِيهِ .
وَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ حِينَئِذٍ أَنَّ الرَّحْمَةَ لَهُ صِفَةٌ ، كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَهُ صِفَةٌ ، إِذَا وُصِفَ بِأَنَّهُ ذُو الرَّحْمَةِ . فَأَيْنَ مَعْنَى "الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " عَلَى تَأْوِيلِهِ ، مِنْ مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ تَأْتِيَانِ مُقَدَّرَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَاتِّفَاقِ الْمَعَانِي ؟ وَلَكِنَّ الْقَوْلَ إِذَا كَانَ غَيْرَ أَصْلٍ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ ، كَانَ وَاضِحًا عَوَارُهُ .
وَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ : وَلِمَ قَدَّمَ اسْمَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهُ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنُ " ، وَاسْمَهُ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنُ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمُ " ؟
قِيلَ : لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ ، إِذَا أَرَادُوا الْخَبَرَ عَنْ مُخْبَرٍ عَنْهُ ، أَنْ يُقَدِّمُوا اسْمَهُ ، ثُمَّ يُتْبِعُوهُ صِفَاتِهِ وَنُعُوتَهُ . وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْحُكْمِ : أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُقَدَّمًا قَبْلَ نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ ، لِيَعْلَمَ السَّامِعُ الْخَبَرَ ، عَمَّنِ الْخَبَرُ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ - [ ص: 133 ] وَكَانَ لِلَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ أَسْمَاءٌ قَدْ حَرَّمَ عَلَى خَلْقِهِ أَنْ يَتَسَمَّوْا بِهَا ، خَصَّ بِهَا نَفْسَهُ دُونَهُمْ ، وَذَلِكَ مِثْلُ "اللَّهِ " وَ "الرَّحْمَنِ " وَ "الْخَالِقِ "; وَأَسْمَاءٌ أَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يُسَمِّيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا ، وَذَلِكَ : كَالرَّحِيمِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالْكَرِيمِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ - كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تُقَدَّمَ أَسْمَاؤُهُ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ ، لِيَعْرِفَ السَّامِعُ ذَلِكَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَمْدُ وَالتَّمْجِيدُ ، ثُمَّ يُتْبِعُ ذَلِكَ بِأَسْمَائِهِ الَّتِي قَدْ تَسَمَّى بِهَا غَيْرُهُ ، بَعْدَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَوِ السَّامِعِ مَنْ تُوَجَّهُ إِلَيْهِ مَا يَتْلُو ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي . فَبَدَأَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ لِأَنَّ الْأُلُوهِيَّةَ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، لَا مِنْ جِهَةِ التَّسَمِّي بِهِ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى . وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى "اللَّهِ " تَعَالَى ذِكْرُهُ الْمَعْبُودُ ، وَلَا مَعْبُودَ غَيْرُهُ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَأَنَّ التَّسَمِّيَ بِهِ قَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَإِنْ قَصَدَ الْمُتَسَمِّي بِهِ مَا يَقْصِدُ الْمُتَسَمِّي بِسَعِيدٍ وَهُوَ شَقِيٌّ ، وَبِحَسَنٍ وَهُوَ قَبِيحٌ .
أَوَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ قَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ : ( أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ) فَاسْتَكْبَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُقِرِّ بِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي خُصُوصِهِ نَفْسَهُ بِاللَّهِ وَبِالرَّحْمَنِ : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوَا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) [ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 110 ] . ثُمَّ ثَنَّى بِاسْمِهِ ، الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ ، إِذْ كَانَ قَدْ مَنَعَ أَيْضًا خَلْقَهُ التَّسَمِّيَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ قَدْ يَسْتَحِقُّ تَسْمِيَتَهُ بِبَعْضِ مَعَانِيهِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ وَصْفُ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ دُونَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ ، بِبَعْضِ صِفَاتِ الرَّحْمَةِ . وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ الْأُلُوهِيَّةِ أَحَدٌ دُونَهُ . فَلِذَلِكَ جَاءَ الرَّحْمَنُ ثَانِيًا لِاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "اللَّهِ " .
وَأَمَّا اسْمُهُ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمِ " فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِمَّا هُوَ جَائِزٌ وَصْفُ غَيْرِهِ بِهِ . وَالرَّحْمَةُ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ، فَكَانَ - إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا - وَاقِعًا مَوَاقِعَ نُعُوتِ الْأَسْمَاءِ اللَّوَاتِي هُنَّ تَوَابِعُهَا ، بَعْدَ تَقَدُّمِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهَا . فَهَذَا وَجْهُ تَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ [ ص: 133 ] الَّذِي هُوَ "اللَّهِ " ، عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنِ " ، وَاسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحْمَنِ " عَلَى اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "الرَّحِيمِ " .
وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ فِي "الرَّحْمَنِ " مِثْلَ مَا قُلْنَا ، أَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي مَنَعَ التَّسَمِّيَ بِهَا الْعِبَادَ .
150 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ ، عَنْ عَوْفٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : "الرَّحْمَنِ " اسْمٌ مَمْنُوعٌ .
مَعَ أَنَّ فِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مِنْ مَنْعِ التَّسَمِّي بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ ، مَا يُغْنِي عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|