|
|||||||
| رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#21
|
||||
|
||||
|
غصون رمضانية (21) عشر السابقين عبدالله بن عبده نعمان العواضي ها هم الصائمون قد قطعوا ثلثي المسافة، وما بقي على خط الختام إلا القليل، نعم، مضت عشرون أحسنَ فيها من أحسن، وأساء فيها من أساء، وفتر فيها من فتر. لقد كانت سريعة التقضي لدى المحبين، بطيئة الخطو عند الكارهين، ليصل الجميع - بعد ذلك - إلى هذه العشر الأخيرة، وبها تصل مطاياهم إلى نهاية السباق. فلأهلِ الخمولِ، وذوي الحُمُر المعقرة، أخدانِ الآمال بلا أعمال، نقول: إن المضمار ما زال يحويكم، فأسرجوا مراكب الهمم، وامتطوا مُطيَّ العزم الجامح؛ فلعلكم أن تلحقوا. وللمسابقين، إيهِ إيهِ أيها الركب الظافر - إن شاء الله -، جددوا العزم، ولا ترخوا عِنان الجد، ولا تسترضعوا لبان الفتور، ولا تلتفتوا إلى الوراء؛ فالسباق لم ينته بعد، وأنتم على خطوط النهاية التي يتميز فيها الفرسان، ويُكسب فيها الرهان، وتنال فيها الجوائز، والفارس قد يبطئ في أول المجال، لكن إذا لاحت له أعلام النهاية طار إليها طيرة لا تُدرك، فإن كنتم أنتم أهل الغرام بهذا السباق فأروا ربكم من أنفسكم شواهد الحب؛ فصادق الحب لا يشغله غير محبوبه، ولا يفتر في ميدان الوصول إلى لقاء مطلوبه، ولسان الحال: ما إنْ تقاعد جسمي عن لقائكمُ ![]() إلا وقلبي إليكمْ شيِّق عَجِلُ ![]() وكيف يقعد مشتاقٌ يحرّكه ![]() إليكم الباعثان الشوق والأمل ![]() فإن نهضتُ فما لي غيركم وطرٌ ![]() وكيف ذاك ومالي عنكم بدل ![]() وكم تعرّض ليَ الأقوام بعدكمُ ![]() يستأذنون على قلبي فما وصلوا[1] ![]() هذه العشر هي الجولة الأخيرة التي يُعرف فيها عباد الرحمن، وطلاّب الرضوان، وفارس الفرسان، وحائز خطر السبق يوم الرهان؛ ولهذا حظيت هذه العشر المباركة بنواصي الأعمال والفضائل؛ ففي صدرها الرحب ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، وفيها سُنّة الاعتكاف التي ينسلخ فيها المعتكف من عالم الخلطة بالبشر إلى عالم الخلوة والأنس برب البشر وحده، وفيها إخراج زكاة الفطر تطهيراً للنفس، وجبراً للنقص؛ ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعد لهذه العشر الفاضلة استعداداً خاصًا، فيحلّق في سماء المسابقة، مفارقًا فراش الأهل، وحاملاً لهم على الجد، ومباينًا النومَ في الليل، وعاكفًا في محراب العبادة المتنوعة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله)[2]. وعنها رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح، ثم يدخله) [3]. في هذه العشر المباركة مظهر من مظاهر رحمة الله وإكرامه لعباده؛ فقد أقطعهم جنةً تزهو بأينع الثمر، وتفوح أزهارها بأطيب الطيب، وقال لهم: دونكم هذه الروضةَ الغنّاء التي أبيحت لكم، فجذّوا ما تشاؤون، واطعموا ما تشتهون، واستقوا ما تريدون، وتطيبوا ما تحبون، وادخروا لحاجتكم من خيرها ما تبغون؛ فهي لكم أنفسُ ما في الهدية السنوية، وهي بيت القصيد، وواسطة القلادة، وإنسان الحدقة، ودرة التاج، كما هي رحمة بالمسيئين، ومكافأة للمحسنين. وما تلك العشرون السالفة إلا مقدمة بين يديها، وترويض للنفس على الاستعداد لخيرها، كما في المثل: " لمثل هَذَا كُنْتُ أُحْسِيْكَ الجُرَعَ"[4]، وقول الشاعر على المنوال نفسه: يقول لما غاب فيها واستوى ♦♦♦ لمِثلها كنتُ أُحسِّيك الحَسى[5] فيا باغي الخير، شدّ المئزر، وشمر عن ساعد الجد، واركب إلى العلياء مطية الحزم، وتخلّص من أسباب اللهو، ودع الدنيا لأهلها، وأقبل إلى البستان الكريم فارّاً إليه، غير خارج منه، حتى يخرج عنك بهلال الوداع. فلا تضيع ليالي هذه العشر التي تقطر بالفضائل، وأيامها التي تسيل بالنوائل، فليكن لك حظ وافر من طول السهر للقيام المتدثر بالانشغال بالأعمال، لا السهر المعمور بالقيل والقال، وليكن لك سهم في الاعتكاف، ولو ساعات معدودات، ولتستمر على خيراتك السابقة مضاعفًا إياها من تلاوة وجود ودعاء وخلق حسن. وإياك إياك أن تسرق الأسواقُ لياليك المقمرة من أجل مطالب العيد؛ فتظلم مشاعل قلبك، وتوهجَ وقتك. فإذا وصلت بك العشر على مركب الجد إلى شروق العيد فهناك: عند الصَّباح يحمدُ القومُ السُّرى ♦♦♦ وتنجلي عنهم غياياتُ الكرى[6] [1] الكشكول، للعاملي (1/ 83). [2] متفق عليه. [3] رواه البخاري. [4] قصة المثل في مجمع الأمثال، للميداني (2/ 190). [5] الأغاني، للأصفهاني (10/ 37). [6] هذا الرجز لخالد بن الوليد، وقيل لغيره، شرح كتاب الأمثال (ص: 254).
__________________
|
|
#22
|
||||
|
||||
|
عروسُ الليالي غصون رمضانية (22) عبدالله بن عبده نعمان العواضي لقد تزينّت للخُطّاب، وانتظرتْ الأحباب على الباب، فأين مراكب الحُبِّ التي توصلهم إليها، لتكشف لهم عما هي عليه من الحلاوة والحِلى، والصباحة والملاحة، والشرف الباذخ، والطهر الشامخ، من رآها بعين الإيمان يعتقد أنه لم تفتحِ العين على أتمَّ منها في الخَلق حُسنًا، ولا أكمل منها في الطرْف صورة، قد أُفرغ فيها الجمال إفراغًا، وحوتْ من بديع المحاسن ما جعلها عروسَ الليالي، وملكةَ جمال الدهر. تِلْكَ الَّتِي تَيَّمَتْ قَلْبِي فَصَارَ لَهَا ![]() منْ ودِّهِ ظاهرٌ بادٍ ومكتومُ [1]. ![]() تلكَ التي بلغتْ في الحسن غايته ![]() و لم تدعْ لنفيسٍ بعدها رُتبا ![]() حتى اغتدى الدرّ في أسلاكه صدفاً ![]() والمندلُ الرطب في أوطانهِ حطبا[2] ![]() • • • ![]() تلك التي قرَّت عيونُ العُلى ![]() والفضلُ فيها يا ابنَ مِفضالها ![]() وفي السما قد قامَ جبريلُها ![]() يُهدي شذا البِشْر لميكالها[3] ![]() إنها تنادي حبيبها للسهر، وهجر النوم فتقول: يا أيها الراقد كم ترقدُ ![]() قم يا حبيبي قد دنا الموعد ![]() وخذ من الليل وساعاته ![]() حظّاً إذا ما هجع الرّقّد[4] ![]() فصادقو الحب يبقون ساهرين منتظرين اللقاء، مشتاقين لذلك الموعد الوضّاء، يعدون الشهور والليالي والأيام، وكلما اقترب الزمن زاد الحنين. تلك التي كانت هوايَ وحاجتي ♦♦♦ لو أنّ داراً بالأحبّة تُسْعِف[5] إنه الموعد السنوي مع الليلة المباركة ليلة القدر، التي يرتقبها أهل الصلاح والعبادة؛ طمعًا في فضلها، وحرصًا على خيرها، فهي مُزنة الخيرات، ومنهل البركات، وليلة الزاد العظيم، والكنز الثمين الذي إذا حازه الإنسان فقد ظفر بخير كثير. ليلة يخبئ رحمُها سعادة رحبة لمن قامها مخلصًا، فهي معراج بلوغ الآمال، وزوال الآلام، وإحراق الذنوب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)[6] هي ليلة واحدة، لكنها دهر، وساعات معدودة، لكنها سنوات ممتدة، وزمن قصير في حشاه خير كثير، ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3]. إنها ليلة تختصر مسافة الزمن، وطريقَ الوصول إلى الهدف المأمول. هذه الليلة المباركة هي الليلة التي شمّر لقيامها أهل السباق، ونصبوا لأجلها أقدمَهم بين يدي الخلاّق، وأسهروا عيونهم، وادخروا الدموع الكثيرة ليريقوها هذه الليلة، لمثلِها كنتُ أصونُ الدُّموعْ ♦♦♦ فلْتذرِفِ العينُ ويَنْأ الهُجوعْ[7]. إن الله تعالى قد شرّف هذه الليلة بنزول القرآن الكريم فيها من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] وهي ليلة ذات شرف وفضل وعظمة ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]، وتفوق بهذا الفضل والشرف والعمل الصالح فيها ألفَ شهر ليس فيها ليلةُ قدر، ومن براهين فضلها وخيرها: أن الملائكة يكثر نزولهم إلى الأرض ومن بينهم جبريل عليه السلام، ولا تهبط الملائكة إلا بالخير ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، وهي ليلة كاملة ذات سلامة من المكروهات، وتسليم من الملائكة على المؤمنين، وينبغي عدم الخصام والاختلاف فيها، ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5]، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: (إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفِعت، وعسى أن يكون خيراً لكم)[8]. وفيها ليلة التقدير السنوي بالأرزاق والآجال والأعمال، يُفصل ذلك من اللوح المحفوظ إلى الكتبة من الملائكة (ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ) . فيا أيها المسلم، برهنْ على صدق إيمانك، وحرصك على الخير بقيامك هذه الليلة في العشر الأواخر؛ ابتغاء وجه الله، ومن رحمة الله تعالى أن هذه الليلة أُخفي تحديدها؛ حتى يكثر اجتهاد العابدين، وتزيد قربات المتقربين، من هذا المنهل المَعين. لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قرّب ذلك الزمن فحث على التماسها في أوتار العشر، وهي ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فقال عليه الصلاة والسلام: (التمسوها في العشر الأواخر (يعني: ليلة القدر) فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)[9]، وقال: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)[10]. وينبغي للمسلم أن يحث أهله على قيامها، واستغلال وقتها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) [11]. إن أهل قيام هذه الليلة ليعجبون من انشغال كثير من المسلمين عن خيرها بأمور الدنيا، فأين الرغبة في الآخرة، والرغبة عن الدنيا؟! فيا فوزَ من وفِّق لقيام هذه الليلة، ويا خسارة من فاته فضلها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حُرم) [12]. [1] ديوان ذو الرمة (ص: 93). [2] ديوان ابن نباتة المصري (ص: 96). [3] ديوان حيدر بن سليمان الحلي (ص: 302). [4] المستطرف، للأبشيهي (2/ 193). [5] المستطرف، للأبشيهي (2/ 193). [6] متفق عليه. [7] الأغاني، للأصفهاني (6/ 45). [8] رواه البخاري. [9] رواه مسلم. [10] رواه البخاري. [11] رواه الترمذي وأحمد وابن ماجه والحاكم، وهو صحيح. [12] رواه النسائي والبيهقي، وقال الألباني: صحيح لغيره.
__________________
|
|
#23
|
||||
|
||||
|
غصون رمضانية (23) لحظات القرب عبدالله بن عبده نعمان العواضي يهبّ رمضان بنسائمه العذبة على المجتمع المسلم فيفرح المؤمنون بها، وينزلونها منازلها من قلوبهم وأرواحهم، فيطفئ برد تلك النسائم حرارة حزن الدنيا ولأوائها. في الثلث الأخير من رمضان تخرج مواكب الإيمان في الثلث الأخير من الليل إلى رحاب المساجد لتشهد لحظات غالية في زمن الدنيا الرخيص، تتسامى فيها الروح إلى الملاء الأعلى على معارج الخشوع، ومصاعد السجود والركوع، لحظات خصبة تهتز فيها النفس وتربو فتنبت من الخيرات من كل زوج بهيج، لحظات تزهر فيها النفوس، وتلين فيها القلوب، وتذرف في رياضها العيون، وتسكن في روابيها الجوارح، ويجتمع فيها شعث الروح، ويطير فيها الفكر على جناحي الخوف والرجاء متأملاً في المصير المنتظر. إن الحياة طريق إلى الله وهذه الطريق طويلة، فقام أهل العزم والشوق هذه اللحظات يقربون المسافة بينهم وبين وجهتهم، مستغلين خلو الطريق من المارة: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)[1]، والطريق إلى الله شاقة فقاموا في هذه اللحظات يخففون من مشقتها بالتزود من بركات هذه الأوقات وخيراتها، منتهزين غناها وفضلها، وقوة تأثيرها في تذليل الصعوبات. والطريق إلى الله كثيرة المخاطر فنهضوا هذه الساعة سائرين مستغلين هجعة لصوص هذه السبيل، داعين الله بالثبات عليها، والنجاة من قطّاعها، والنهار فيه حرارة وصخب وازدحام وانشغال بال فقاموا هذه اللحظات لطيب نسيمها وهدوئها، وتفرغ البال وصفاء الذهن، وسكون القلوب وخضوع الجوارح. والنهار انتشار ورؤية وابتداء انطلاقة وسعي، وهم يريدون أن يراهم من في السماء وحده، وأن يسبقوا ابتداء الناس، وأن لا يكونوا مساوين، أو متأخرين عليهم، فقاموا تلك الساعة ليراهم لا ليروهم، وقاموا في تلك الساعة مسارعين ليكونوا من المتقين ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. تنطلق تلك الأقدام عجلى تحمل أجساداً تحذر الآخرة، وترجو رحمة ربها: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، تتجافى جنوب أولئك الركب الطاهر عن المضاجع والفراشُ وثير، والأنيس ودود، والنوم لذيذ، والبرد شديد، ولكن الشوق إذا سما لا تهبطه نوازع المحابِّ الصادة، والمكاره الرادة، والغاية متى عظمت فما في الدنيا شاغل عنها ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16]، وينطلقون إلى محاريب العبادة فيمرون على أقوام في أحضان النوم غاطين، أو في راحات الغفلة سادرين، فيقولون: من يوقظ هؤلاء النائمين والغافلين؟!، (استيقظ النبي صلى الله عله وسلم ليلة فقال: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)[2]. إذا ما الليل أظلم كابدوه ![]() فيسفر عنهمُ وهمُ ركوع ![]() أطار الخوفُ نومهم فقاموا ![]() وأهلُ الأمن في الدنيا هجوع[3] ![]() تصل تلك الجموع إلى بيوت الله فتقف صفوفها بين يدي الله قائمة وساجدة، وراكعة وخاشعة وسامعة منصتة، فما أهيبَ الصفوف، وأعظم الوقوف، وما أعذب المسموع، وأحلى الخشوع، وأعز السجود والركوع!. إنها تجد للصلاة في تلك اللحظات لذة، حينما يسدل عليها من حضور القلب وسكينة الجوارح ما تستعذب فيه طولَ القيام، وتجد للقرآن حلاوة تتسلل إلى النفس حاملة معها حروفًا من نور تتفرع في جوانبها لتضيء حياتها بأسرها، وتجد للدعاء طعمًا آخر، فتلهج به الألسنة، فيصعد إلى السماء في لحظات القرب والإجابة، والاستغفار والإنابة، عندما يقرب العبد فيها من ربه، ويقرب الرب فيها من عبده، فتفتح السماء فيستجاب دعاء الداعين، وتقبل توبة التائبين، وتقضى حاجات السائلين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يعطى، هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له؟ حتى ينفجر الصبح)[4]. فأين أصحاب الحاجات في هذه اللحظات، وأين من لفحتهم الخطايا عن برد هذه الأوقات؟. أي شرف للمؤمن في الدنيا أعظم من هذا الشرف! جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس)[5]، وأي ساعة ألذ من لحظات تلك الساعة!" "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"[6]، ومن ذاق عرف، وأي وجوه أشد تلألأً من وجوه أهل تلك اللحظات" من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار"[7]، وذلك حينما خلوا بنور السماوات والأرض فكساهم نوراً من نوره. ففي تلك اللحظات المضيئة ينسكب النور على القائمين الخاشعين فتكتسي الوجوه حُللَ السناء والضياء، وتشرق القلوب فترى طريقها إلى الله تعالى، وتنشرح الصدور فتعرف قدر كلام الله. فتلك اللحظات ما أحلاها! وأي حلاوة في لذات الدنيا تفوق حلاوتها، وتلك اللحظات ما أغلاها! فغالي الحياة رخيص معها، وتلك اللحظات ما أعلاها! وهل للروح مصعد أقرب وأسرع إلى السماء منها، وتلك اللحظات ما أطهرها وأنقاها! فمن تنجس بدنس الذنوب فليردْها ففيها مغتسل بارد وشراب. فإذا انقضت لحظات القرب من الرب رجع أولئك الأخيار سيماهم في وجوههم من أثر بقائهم في تلك الرياض ركعًا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، فعادوا كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، فبسق عود الإيمان، وتفرعت أغصانه، وينعت ثماره سكينة وطمأنينة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. [1] حديث صحيح رواه الترمذي. [2] رواه البخاري. [3] البيتان لابن المبارك، إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 357). [4] متفق عليه. [5] رواه الحاكم والطبراني، وهو حسن. [6] إحياء علوم الدين، للغزالي (1/ 358). [7] قاله شريك بن عبد الله القاضي، الإرشاد في معرفة علماء الحديث، للقزويني (1/ 171).
__________________
|
|
#24
|
||||
|
||||
|
غصون رمضانية (24) أفنان التيسير عبدالله بن عبده نعمان العواضي مظاهر الرحمة لهذه الأمة ألوانٌ متعددة، ولها صور متجددة، ما زالت سُحُبها تنهلُّ عليها لتنمو من غيثها الثجَّاج بساتينُ النعمة زاخرةً بكل زوج بهيج من التقديرات والتشريعات السماوية التي تنال الأمة من ثمراتها النضيجة حلاوةَ العبادة، وإدراك عظمة الإسلام، وأسبابًا للثبات عليه. ومن تلك الثمار اليانعة التي بسقت بمُزن الرحمة في بستان النعمة: تيسير دين الإسلام، ورفع الحرج عن معتنقيه، قال تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6]، وقال: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقال: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]. فسبحان الله! ما أعظم هذا الدين الذي جاء به سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام!، وما أكثرَ نعم الله تعالى على أهله التي اصطفى لهم بعضها دون غيرهم من أهل الأمم السابقة! دِينٌ حباه الله أمةَ أحمدٍ ![]() فرأتْ به دربَ الحياة مُنيرا ![]() لا إصرَ فيه ولا مشقةَ طالما ![]() شرعَ الرحيمُ بفضله التيسيرا ![]() إن هذه السمة البارزة في الشريعة الإسلامية جليّة الظهور في كثير من تشريعات الإسلام، وهذا يدل على رسوخها في التكوين التشريعي. فمن تلك الأبواب التي أضحى فيها التيسير واضحَ المعالم، يدرك عمومَه المسلمُ الجاهل، والمسلم العالم: التيسيرُ والتخفيف في باب صيام رمضان. ففي رمضان تمتد أفنان التيسير على الصائمين فيجدون في ظلالها السهولة واليسر في القيام بهذه العبادة العظيمة. ففي حديث سورة البقرة عن صيام رمضان جاء قولُ الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، ليبين أن "مشروعية الصيام -وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر- فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي: تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم"[1]، فالله تعالى" أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر؛ فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة، ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر، وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة"[2]، "وإن شرعية صيام رمضان مع الرخص التي تسوغ الإفطار هو من تيسير أداء الفريضة؛ ذلك أن من شأن هذه الشريعة أنها إذا كلّفت تكليفًا فيه مشقة فتحت بابَ الترخيص؛ ليسهل الأداء وليداوم عليه ويستمر من غير تململ، ولا تحمل المكلفين على أقصى المشقات؛ ولذا قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185] وهذا النص الكريم فيه إشارة إلى تعليل هذه الرخص، وفيه إشارة إلى الوصف العام لشرع الله تعالى الذى دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يسروا ولا تعسروا) [3]، (وما خُيِّر النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن معصية) [4] [5]. والناظر المتتبع يجد هذه الهدية الربانية السَنية شاخصة في كثير من نواحي صيام رمضان، فمن ذلك: أن رمضان لم ينزل إيجابه مرة واحدة، بل مر بمراحل كان آخرها إيجاب صيامه بشروطه، وكان هذا دفعًا للمشقة؛ فإن النفوس في ذلك الوقت لم تعهد صيام شهر كامل على الوجوب. ومن صور التيسير: أن صيام رمضان ضيفٌ عزيز يأتي إلى المسلمين مرة واحدة في العام، فلو كثر نزوله ربما تُلفى فيه مشقة، وهذه الزيارة مدة يسيرة، وليست إقامة طويلة ترهق المُنزِلين، وتبغّض الضيف إلى المضيفين، فالمدة شهر قمري واحد فقط، وتأمّل التعبير عن ذلك بقوله: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184]، فقد " عبّر عن رمضان بأيام -وهي جمع قلة- ووصف بمعدودات -وهي جمع قلة أيضًا-؛ تهوينًا لأمره على المكلفين، والمعدودات كناية عن القلة؛ لأن الشيء القليل يعد عداً؛ ولذلك يقولون: الكثير لا يعد، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء، وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر"[6]. ومن صور التيسير: أنه لا يجب على جميع أفراد المسلمين، بل على بعضهم ممن توفرت فيهم شروط الإيجاب، فلا يجب على صبي مطلقًا؛ لأنه تكليف، وهو فاقد لسببه، وهو نقصان عقله، إضافة إلى وهن جسمه، ولا يجب مطلقًا على مجنون؛ لذهاب مناط التكليف عنه، وهو العقل الذي يضبط الأفعال والتصرفات، والمجنون لا يدري ما الصيام ولا مفطراته ولا مباحاته، فاقتضت رحمة الله تعالى دفع مشقة الصوم عنهما تيسيراً عليهما. ولا يجب على مريض حال مرض يشق عليه الصيام أثناءه، ولكن يجب عليه إذا شُفي؛ فالصوم لكونه تكليفًا فيه نوع مشقة، والمريض مطوَّق بمشقة السقم، فلا يرغب بمعكر إضافي؛ إذ قد يضاعف الصومُ مرضه، أو يؤدي إلى وفاته، ويلحق بالمريض: الهرم والشيخ الكبير، والحامل والمرضع. ولا يجب على مسافر حال سفره؛ لأن (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه)[7]، كما قال عليه الصلاة والسلام. ولا يجب على الحائض والنفساء حتى تطهرا؛ إذ هما تعانيان غالبًا مشقةَ السيلان وآثاره من الإرهاق، وتغير الأخلاق، فاقتضى التيسير الشرعي العفوَ عنهما عفواً آنيًا حتى يصحّا. ومن صور التيسير: أن صيام رمضان فيه أجور عظيمة، فأصحاب الأعذار السابقة لكي لا يحرَموا هذا الفضل الذي ناله غيرهم؛ فتصيبهم مشقة نفسية بالحرمان؛ جُعل لهم وقت آخر عقب رمضان ليدركوا من ذلك الخير، ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185] ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. ومن فروع التيسير: أن (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)[8]كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وذلك أن النسيان صفة ملازمة للإنسان، فربما نسي كونه صائمًا فطعم أو شرب، فجاء التيسير ليكسوه ثوب العفو، ويحثه على استمرار الصيام. ومن صور التيسير: أن من أصبح جنبًا فإن صيامه صحيح، وعليه الغسل، كما قالت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم) [9]، فقد ينام الإنسان على جنابة ولا يستيقظ إلا بعد أذان الفجر، أو قد ينسى أنه على جنابة ولا يتذكر إلا بعد الصبح، أو أثناء النهار، فمن التيسير: أنه يصح صومه ويجب عليه الاغتسال، فلو كان ذلك مفطراً له لكان فيه مشقة عليه بالفطر ووجوب القضاء، وربما فاته ذلك بنسيان أو ذهول، أو ضيق الوقت، وهو معذور في هذه الأحوال. ومثله الحائض والنفساء إذا طهرتا من دميهما أثناء الليل أو قبل الفجر صح صومهما إذا دخل عليهما النهار ولم يغتسلا، ثم يجب عليهما الغسل؛ وكان ذلك كله تيسراً من الله تعالى. ومن صور التيسير: أن المحتلم نهاراً لا يفطر، وما عليه إلا الاغتسال ومتابعة الصوم؛ لأن نزول مائه لم يكن بإرادته، فلو كان حكم عليه بالإفطار لكان فيه مشقة. ومن صور التيسير: أن الله تعالى لم يحرم المعاشرة الزوجية إلا أثناء نهار الصيام، ولو حرمت كذلك في الليل لكان في ذلك مشقة، ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]. ومن صور التيسير: أن من أفطر عامداً فعليه أن يقضي ما أفطر من رمضان بعد تولي رمضان؛ لأنه لو لم يصح قضاؤه لكان ثَم مشقة بحرمانه من ذلك. وفنن آخر من أفنان التيسير وهو: أن المفطرات أصناف قليلة معدودة، وغير المفطرات للصائم غير محدودة في إطار المباح، فلو كان الأمر على عكس ذلك لأحاطت بنا المشقة. إضافة إلى هذه الصور: يذكر أهل العلم رخصًا للصائم إذا فعلها لم يفطر، وهي كثيرة غير محصورة، منها: تذوق الطعام للصائم، واستعمال الأدوية التي لا تقوم مقام الأكل والشرب، والقيء من غير تعمد، والأمثلة كثيرة. فالحمد لله الذي أوجب فيّسر، وشرع وسهّل، وأنعمَ فأفضل، وجاد فأجزل. لك الحمد كلّ الحمد يا بارئ النَّسَمْ ♦♦♦ ويا شارع التيسيرَ يا واسع الكرمْ [1] التحرير والتنوير 2/ 173. [2] تفسير الرازي : مفاتيح الغيب 5/78. [3] متفق عليه. [4] متفق عليه. [5] زهرة التفاسير، لأبي زهرة ص: 560. [6] التحرير والتنوير، لابن عاشور 2/ 159. [7] متفق عليه. [8] متفق عليه. [9] متفق عليه.
__________________
|
|
#25
|
||||
|
||||
|
غصون رمضانية (25) سارق الصوم عبدالله بن عبده نعمان العواضي السرقة انحراف سلوكي، يدل على وهن نفسي أمام نداء الشهوة المعوجة، وهي تشير إلى خواء داخلي خلا من تعظيم حق الخالق، وتعظيم حق المخلوق، وهي استجابة جامحة للسطو على معصوم الآخرين من غير كابح من دين أو خلق. وهذا في الحقوق الحسية كالأموال، وهناك سرقة أشد منها شناعة وهي السرقة في الحقوق المعنوية كالسرقة من العبادات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها[1]. فهذا الذي لم يطمئن في صلاته فأسرع فيها حتى لم يتم ركوعها ولا سجودها؛ قد سرق من حق الله تعالى في الصلاة وهو تمام الاطمئنان في جميع الأركان، فالعجلة في أدائها نقصانٌ وهدر لذلك التمام الذي تجب المحافظة عليه، وهو سرقة من ثواب الصلاة؛ لأنها إذا كملت وقبلت تمّ ثواب صاحبها، فإذا أسرع فيها أنقص من ذلك الكمال. وعلى هذا المنوال يعيش ناس في رمضان يسرقون صومهم؛ تكاسلاً، أو جهلاً، أو طلبًا للراحة وهروبًا من ثقل العبادة، ونحو ذلك من الأسباب. فهناك من الصائمين من يسرق من صومه كجعله صيامَ رمضان عادة لا عبادة، وذلك حينما لا يبتغي به وجه الله تعالى، ولا يقوم به كما جاء في الشرع، وإنما يجاري به جمعَ المسلمين، فكيفما صام الناس صام، وما ألِفه المجتمع من العادات السيئة في رمضان جعله دينًا يدين به. ومن سُرّاق صومهم: من يصوم رمضان ولا يصلي الصلوات الخمس، أو بعضها، فيا لله للعجب! فكيف يصح صيامٌ لم يقم على بنيان الصلاة التي هي الركن الثاني وهو الركن الرابع، فهل يصح لبانٍ أن يعلي بنيانًا لا يقوم على قاعدة راسخة؟ ومن سُرّاق صومهم: من يظل نهار رمضان في نوم طويل، فلا يعرف من يوم الصوم إلا نصفه، أو ثلثه، أو ربعه، بل إن بعضهم لا يستيقظ إلا عند الإفطار! فماذا بقي من الصيام بعد هذه السرقة التي اجتاحته أو اجتاحت معظمه؟! فرمضان عند هذا الصنف نزيلٌ على الفراش، وقِراه النوم العميق، ولسان حالهم: فأهلاً بالصيام على سريرٍ ![]() وفرش ناعمٍ حلوِ الوساده ![]() بها يُقرى صيامُ الشهر فينا ![]() ويلقى فوقها كرمَ الوفاده ![]() ولا عتبٌ على ما كان منّا ![]() فنومُ الصائمين لهم عباده![2] ![]() ومن سُرّاق صومهم: مَن يجرحون صيامهم ببذاءة اللسان، وينزعون إلى تلبية دواعي الغضب، فهذا الفعل يسرق عليهم كمالَ الأجر، وينقصهم عن الظفر بتمام الثواب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم) [3]. وهناك سارق يسرق صيام بعض الصائمين برضى من الصائمين، بل بحُبٍّ منهم له، بل بسعي إليه ليسرق كنز الصوم منهم، هذا السارق هو: الإعلام السيء الذي يصيب الصيام في مقتل، فما كان من فضيلة نالها الصائم استلبها منه، وما كان من داء يسحتُ صيامَه وهبه له، وهو سارق يعامل المسروق منه عن بُعد على مدار الساعة، وفي أي ظرف كان فيه، وقد لا يشعر بعض الصائمين بهذا السارق الخادع إلا إذا آبوا إلى عقولهم الصافية، وإيمانهم المشرق، لكن مادام في العقول غبش، وفي الإيمان غشش فإن هذا السارق الظريف سيستمر في السرقة المحبوبة لدى المسروق منهم! وقريب من هذا السارق: الإعلام الملهي الذي يسرق على بعض الصائمين كنز الوقت الثمين، الذي يفتقرون إلى إنفاقه في الأعمال الصالحة في هذا الشهر الكريم. فمن كان فطنًا مؤمنًا فلا يسرق من صيامه؛ فيوقع نفسه في الخسارة، فيكون حاله كمن قيل فيه: " يَدَاكَ أوْكَتَا وَفُوكَ نَفَخَ" وأصل المثل:" أن رَجُلاً كان في جزيرة من جزائر البحر فأراد أن يعْبر على زق نفخ فيه فلم يحسن إحكامه، حتى إذا توسّطَ البحرَ خرجت منه الريح فغرق، فلما غَشِيه الموتُ استغاث برجل فَقَالَ له: يدَاكَ أوكَتَا وفُوكَ نفخ، يضرب لمن يجني على نفسه الحَيْنَ"[4]،- يعني: الهلاك-. ولا يأذن كذلك لأحد ليسرق من صومه باختياره ورضاه، وإلا كان حاله كحال ذلك الأعرابي الذي" رَبَّى بالبادية ذئباً، فلما شبَّ افترسَ سَخْلة له، فقال الأعرابي: فَرَسْتَ شُوَيْهَتِي وفَجَعْتَ طِفْلاً ![]() وَنِسْوَاناً وَأنْتَ لَهُمْ رَبِيبُ ![]() نَشَأتَ مَعَ السِّخَالِ وَأنْتَ طِفْلٌ ![]() فَمَا أدْرَاكَ أنَّ أبَاكَ ذِيبُ؟! ![]() إذَا كَانَ الطِّبَاعُ طِبَاعُ سُوءٍ ![]() فَلَيسَ بِمُصْلِحٍ طَبْعاً أدِيبُ[5] ![]() [1] رواه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم، وهو صحيح. [2] " نوم الصائم عبادة" حديث ضعيف، ينظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (10/ 230). [3] رواه البخاري. [4] مجمع الأمثال، للميداني (2/ 414). [5] مجمع الأمثال، للميداني (1/ 446).
__________________
|
|
#26
|
||||
|
||||
|
غصون رمضانية (26) شهر الحب عبدالله بن عبده نعمان العواضي الحُبّ كلمة، لكنها قاموس زاخر يُهدي للناس من أعماقه لآلئ ثمينة، يتزينون بها في مجالسهم، وتسرق أبصارَ الإعجاب إليهم، ينظرون إلى أنفسهم وعليهم قلائد الحب فيفرحون، وتضيء عليهم فيستنيرون. والحب نور ونار، نور يضيء دروب المحبين، ونار تحرق أكباد الحاسدين، والحب قلب فسيح يتسع ولا يضيق، ونهر يتدفق ولا ينضب. والحب جنة أريضة، تفوح بأطيب العطور، وتنبت أجمل الزهور. والحب معراج الشرفاء إلى ربابة الأحِبّاء، وعِلْق نفيس لا ينبغي أن يعلّق إلا في صدور المعالي. سقا الله روضَ الحُب بالطلِّ والنَّدى ![]() ودامَ شذيَّ العَرْف ما بقيَ الدهرُ ![]() فإني رأيتُ العيش إن صار عاطلاً ![]() من الحب يومًا لا يطيب به العمرُ ![]() وإذ ذكرتُ الحب هنا فإنما أعني به ذلك الحب الطهور الذي تسقي القلوبَ به غمامةُ الإيمان، والخلق الكريم، فتهتز أرضها بكل زوج بهيج من الصفات الفواضل، والخصال الكوامل. ولا أريد به ذلك الحبَّ الكدِر الذي يسيل به الانحراف فترتشفه القلوب الخاوية من حراسة التقى، والعقول الخالية من حصانة ورود البلوى؛ لأن ذلك الحب حينما ضل طريقه تجرّع أهله مرارة الإباق فصار عليهم عذابًا يجدون في سعيره شدةَ الإحراق بحطب الأشواق، كما قال ابن دريد: وَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ ![]() وَإِنْ وَجَدَ الهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ ![]() تراهُ باكياً في كلِّ وقتٍ ![]() مخافةَ فرقةٍ أوْ لاشتياقِ ![]() فيبكي إنْ نأى شوقاً إليهمْ ![]() ويبكي إنْ دنوا خوفَ الفراقِ ![]() فتسخنُ عينهُ عندَ التنائي ![]() وتسخنُ عينهُ عندَ التلاقي[1] ![]() لقد أساء ذوو الأهواء الطائشة إلى هذه الكلمة المقدسة حينما أسروها في قبّة الرذيلة، وصاروا يعلنون بدائهم وشقائهم باحثين عن آمالهم وشفائهم فاجتمعت عليهم الأسماع والعيون فنقلت عنهم مفهوم الحب الذي رأته للمشوق والمهجور كالتنور المسجور. فماذا الذى يشفي من الحب بعدما ♦♦♦ تشرّبه بطنُ الفؤاد وظاهرهْ[2] مع أن الحب أطهر من أن يُرمى بذره في هذه السباخ، وأشرف من أن يتجه هذه الاتجاه. إن الحب عبادة من العبادات، وقربة من أعلى القربات، وهو تكليفٌ أمرَ الله تعالى عباده به، فمن عصى الأمر بالحب أثِم، ومن ماطل في الوفاء بحقه غرِم. فمن ذلك حب الله تعالى، فالله أعظم مَن يُصرف له حبُّ المحبين، ووداد الوادّين، فالمحب الصادق لله تعالى يحب ذاته وأسماءه وصفاته، وأفعاله ودينه الذي شرعه. وكيف لا نحب الله تعالى حبًا لا يعلوه حب، وهو ذو الكمال والجلال والجمال. وكيف لا نحب الله عز وجل وهو الذي خلقنا ورزقنا وصوّرنا فأحسن صورنا، كفانا وآوانا، وحمانا وأعطانا. إن أحسنا آجرنا وأثابنا، وإن أسأنا حلم علينا وأمهلنا، وإن تبنا رحمنا فغفر لنا. وكيف لا نحب ربنا تبارك وتعالى، وكل خير نحن فيه فمن عنده، وكل شر دُفع عنا فمن فضله!. ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 165]. ومن ذلك حب نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، قرة أعيننا، وهادي طريقنا، وقدوة سيرنا، الذي دلنا على الخيرات، وحذرنا من المنكرات، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم برهانُه اتباعُ سنته والعمل بهديه، ومحبة ما يحب، وكره ما يكره، ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]. يطرق رمضانُ أبوابَ المسلمين وفي يديه أمزانُ الحب التي تسقي فراديس حبهم فإن قبلوا ماءها وسقوها به غدت جنانهم بهجة للناظرين، ونالت رضا رب العالمين، فكانت لهم أُنسًا في الخلوة، وزينة في الجلوة. من ذاق حلاوة العبادة المتنوعة في رمضان، وفكّر في عظمة تشريع صيامه وما يحف به من الأعمال الصالحة وما يعقبها من الأجر العظيم زاد حبه لله تعالى الذي كتب صيام رمضان على عباده، وتفضل عليهم بنوائله في هذا الشهر الكريم. فحبّك يا مولايَ زادي وعُدّتي ![]() إلى قبلة القربّى وتبريحِ أشواقي ![]() تفيض عطاياك الحسانُ فيرتقي ![]() ودادُك في قلبي وتخضرّ أوراقي ![]() ومن قرأ القرآن الكريم في رمضان قراءةَ تأمل وتدبر، وفهم ما يراد منه، زاد حبه لهذا الكتاب العظيم الذي تنقل بين أفيائه، وتمتع طرفه بمروره بين صفحاته. ومن تقرّب إلى الله تعالى بالطاعات، وتلذذت نفسه في مخارف القربات، عظم في قلبه حب الإسلام الذي ألفى فيه هذه الخيرات. ومن طاب عنده خير رمضان، ونال منه غذاء الروح قوي في قلبه حبُّ نبي الأمة صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى بهذا العطاء الجزيل إليه. كما أنه عندما تحلو له الحياة في الجو الرمضاني الجميل وهو يعبد الله تعالى كأنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في استقاء الشريعة الغراء يعلن بالحب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ولمن تلاهم من أهل العلم والعبادة الذين حملوا هذه الأمانة إليه حتى عبد الله تعالى بما أوصلوه من الحق إلى حيث كان. وفي الوقت نفسه يطفح قلبه بالحب الوافر للمسلمين الذين كانوا رفقاء دربه في رحلة الصيام، فرمضان جاء ليقتلع من فؤاده أشواك الحقد والبغضاء، ويغرس بدلاً عنها ورد الإخاء والصفاء. كيف لا يكون رمضان شهر الحب بين المسلمين، والمسلم مأمور فيه بكف لسانه وجوارحه عن الإيذاء للمسلمين، وكيف لا يكون شهر الحب والصائم مندوبٌ إلى تفطير الصائمين، ومد يد السخاء إلى المحتاجين، فالغني يحب الفقير؛ لأنه كان جهةً لبذله فكان سببًا لثوابه، والفقير يحب الغني؛ لأنه سد حاجته، وأعانه على طاعة ربه بتفريج كربه ليجد وقتًا يتقرب فيه إلى الله. وكيف لا يكون شهر الحب وهذا الجمع الكبير من المسلمين يجتمعون على عبادة واحدة لرب واحد بشرائط واحدة، فينبغي أن يكنّ المسلم الحب لمن هم مثله، ويسيرون معه إلى غاية واحدة. إذن: رمضان بريدُ الحُبّ إلى المسلمين يحمل إليهم رسائل المِقةِ فيقول: أطيعوا لتُحَبّوا، وأحبِّوا لتودّوا، وتأملوا في بساط رمضان تروا مشاعل هادية تقود خطاكم إلى تنمية واجب الحب ومستحبه. فذقْ عذْبَ هذا الحبِّ واشربْ رحيقه ![]() فلستَ ملومَ الودِّ في غاية عُليا ![]() ولا تخشَ إظماءَ الحبيب وهجره ![]() فأنت على وصلٍ وأنت على سُقيا ![]() [1] ديوان ابن دريد (ص: 79). [2] البيت لابن الدمينة، اللآلي في شرح أمالي القالي، للبكري (2/ 693)
__________________
|
|
#27
|
||||
|
||||
|
غصون رمضانية (27) نسيم التغيير عبدالله بن عبده نعمان العواضي من دوحة رمضان الزكية ينبعث نسيمُ التغيير على النفوس فيحملها على أُفُقِه الناعم في رحلة سعيدة تنتقل بها من الضيق إلى السعة، ومن الإظلام إلى الإصباح، ومن وهْي الرُّوح وشيخوختها إلى ريعانها وعنفوانها، ومن ذلِّ الأسر في يد النفس الأمارة بالسوء إلى فضاء النفس المطمئنة التي تجد الحياة مبتسمة رغم العبوس، طليقة رغم القيد، صحيحة رغم الجراح، آملة رغم الآلام. خذوني للعُلا معكمْ خذوني ![]() ولا تدعوا فؤادي للفُتونِ ![]() خذوني قد برِمتُ بحكم همّي ![]() وفرّقَ جورُه بين الجفونِ ![]() نزل بالنفوس هذا الضيف الكريم لينزع عنها أغشية عمّها غبارُ الشقاء والإعراض عن سلسبيل الجلاء، وليحلّيها حُلل التقوى التي تجعلها تبدو في غاية الرونق والبهاء، ﴿ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26]. يحمل رمضان بين ثناياه رياحَ التغيير فتمر بطيبها على الأرواح والقلوب والعقول والجوارح فتدعوها إلى تغيير شامل من حياةٍ تسلّط عليها النفور عن الطاعة، والقصور عن المسابقة، إلى حياة تصبح الطاعة هي روحها التي بها تحيا، والمعصية منونها التي بها تموت، وإن بقي الجسد يمشي على الأرض. إن شهر رمضان موسم خصب للتغيير الحسن الذي ينشده الصادقون، وينتظره المشتاقون، والناظر في أحوال رمضان يجد على جبينه ملامح التغيير تعظ بصمت؛ لعل الناس أن يفهموا رسالة صمتها التي أبلغت في الذكرى، فجدول الإنسان اليومي الحياتي وصلت إليه يد التغيير عما كان قبل رمضان؛ فنوم الإنسان واستيقاظه، وأكله وإمساكه، ومعاشرته وبعدُه، ودوامه الوظيفي وسكونه، وغير ذلك؛ كله قد تغيّر، فهذا التغيير الدنيوي يحث على تغيير ديني، والتغيير في العادات يدعو إلى التغيير في العبادات، من شر إلى خير، ومن كسل إلى نشاط، ومن غفلة إلى يقظة. ومن حِكم جعلِ الله تعالى واجبَ الصيام شهراً كاملاً: أنه يساعد على حصول التغيير، وكسر حاجز العادة المطردة، فيكون ذلك حاثّا للمسلم على الاستجابة لنداء التغيير، ولكن في الجانب الروحي كما تم في الجانب البدني. تعيش الروح غالبًا قبل رمضان في ناحية ضيقة فيشرق عليها شهر الصيام بدعوتها إلى تغيير صالح ينقلها به إلى نواحٍ واسعة من أفراح الروح، تحلّق فيها متلذذةً بأنواع من القربات كثرةً ووصفًا. وتهب رياح التغيير الرمضاني إلى القلب ولعله كان أسيراً في أغلال القسوة فتسعى إلى تحريره؛ ليكون سيّداً في عالم الرقة وسموِّ الإيمان، حتى يصير من أهل هذه الآية: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]. وتأتي إليه أسيفًا يحسو كؤوس الأوجاع فتهطل عليه بغيث السرور؛ لينطلق فرحًا بين خمائل الطاعات. وتزور العقل ويكاد -أو يكون- غارقًا في أمواج شهوات الدنيا مفكراً كَلِفًا مهمومًا بها وحدها فترمي إليه قوارب النجاة ليطفو عليها؛ ليفكر في مصالح الآخرة وأعمالها؛ حتى يصل إلى مرافئ السلامة لدنياه وآخرته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدّر له)[1]. وتمر بالجوارح فتجد لسانًا يفري في أعراض الأحياء والأموات، وطَرْفًا يسرح في أودية المحارم، وأذنًا تسرق مقالات الألسنة مما حرم عليها سرقته، ويداً تستطيل إلى مآثم الأخذ، ورجلاً ترسل الخطو إلى مسالك الخطيئة، فتقول لها: قفي فالاتجاه غير صحيح؛ فأمامك منحدرات ومنعطفات تقود إلى الهاوية. فمن تأمّل بعد هذا يلحظ أن رمضان مدرسة للتغيير العام الذي يحوي منهجًا متكاملاً لتبديل الأحوال السيئة إلى أحوال حسنة في الواقع الإيماني والتفكيري والسلوكي، فمن تخرج في هذه المدرسة ناجحًا، وحمل نجاحه إلى ما بعد رمضان فهو الناجح حقًا، وإلا ففي انتظامه في هذه المدرسة نظر؛ ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)[2]. [1] رواه الترمذي وغيره، وهو صحيح. [2] رواه الترمذي والحاكم، وهو صحيح.
__________________
|
|
#28
|
||||
|
||||
|
غصون رمضانية (28) طهرة الصائم عبدالله بن عبده نعمان العواضي يوشك الصائم أن ترحل عنه دوحة رمضان، ويذهب عن رُوحه رَوحُها المنعش، ونسيمها السَّجسج، وبردُ العيش تحت أفنانها الظليلة، ولكن بركاتها ما برحت تمدّ إليه غصونَ الخير إلى آخر لحظات زمانها السعيد. فهي كالغيث خيرٌ كله مقبلاً ومدبراً، وكرحيق الجنة لذيذُ الأوائل والأواخر. فمن الهدايا التي يُتحَف بها أهلُ رمضان على مشارف توديعه: صدقةُ الفطر. والصائم الصادق لا يشبع من جنى هذا الشهر الكريم - خصوصًا ما زخر به آخره - وخيرات الدنيا قد تعظم أوائلها وتضعف أواخرها، لكن شهر رمضان عظيم كله، بل إن أواخره خير من أوائله؛ حتى يبقى المسلم على ترقٍّ في مدارج النشاط والجد؛ حتى يحوز جوائز الإكرام عند الختام وهو على وتيرة مستقيمة لم تنحدر إلى منعطفات الفتور. كما أن المؤمن يحرص على خواتم الأمور؛ طلبًا للقاء الله على أحسن الأحوال، وأرقى الأعمال، فربما فاجأه الموت وهو في آخر ساعات رمضان. تأتي صدقة الفطر في أعقاب صيام رمضان فرضًا على كل مسلم صغير وكبير، وذكر وأنثى، حاملةً في ثناياها الخيرَ اللازم والخير المتعدي، فلكي لا يفوت المسلمَ والمسلمين هذا الخيرُ الخاص والعام جعل الشرع إخراجَه فرضًا لازمًا على من ملك قوت ليلة العيد ويومه. هذا العبادة الكريمة تجيء كالختم على صحيفة رمضان التي ستُرفع إلى الله تعالى، وهذا الختم يقوم بعملية تطهير لصحيفة الأعمال مما يكدرها من اللغو والرفث، فتصعد إلى الله تعالى مشرقة بعد أن صُقلت بهذا التطهير، وتأتي كذلك تعبيراً عن شكر العبد لله تعالى على توفيقه له لفعل الخير في شهر الخير، فكما أن الله تعالى أحسن إليه بذلك فهو يحسن إلى إخوانه المسلمين الذين شاركوه في عبادة الله، فيعطيهم شكراً لله وإحسانًا إليهم، ورحمة بهم، وحبًا في إسعاد غيره كما أسعده الله تعالى، فتحمل السعادة على أجنحتها المعطي والآخذ. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين) [1]. قال عروة بن الورد: إنِّي امرؤٌ عافِي إناَئِيَ شِرْكةٌ ![]() وَأنْتَ امرؤٌ عافِي إنائكَ وَاحدُ ![]() أتَهزَأُ مِنِّي أنْ سَمِنْتَ وأنْ تَرى ![]() بوَجْهي شُحُوبَ الحَقِّ والحَقُّ جاهِدُ ![]() أُقَسِّمُ جِسْمِي في جُسُومٍ كثِيرةٍ ![]() وَأحْسُو قَرَاحَ الماءِ والمَاءُ بارِدُ[2] ![]() وتعطي هذه العطية الواجبة المؤمنَ المسابق للخيرات قبل غيره درسًا في ترك الشموخ إلى الزهو بالطاعة، والنظرِ من ذلك المكان العالي إلى الناس العصاة أو المقصرين بعين الاحتقار، فصومه وإن كان في الدرجات العلا من السلامة فإنه يحتاج إلى مطهِّر يجبر نقصه؛ لأنه قد تحصل منه الغفلات والخطيئات؛ فالقائمون الليلَ الذين هجروا لذاتهم، وقاموا محبِّين بين يدي ربهم كان حالهم في ختام هذه العبادة الشريفة كما وصف الله تعالى: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]. فهم قاموا، ولكنهم رفعوا القيام إلى الله مصحوبًا بالاستغفار، وغيرهم لم يقم ولم يستغفر! وحينما ننظر إلى جنس ما يُخرج ومقداره نلاحظ أنه نُظر فيه إلى أهمّ ما يحتاجه الإنسان لإقامة حياته الجسدية، وهو الغذاء الذي لا بقاء للبدن بدونه، وغالب الناس لديهم الغذاء-وإن تفاوتوا في مقاديره وأصنافه-؛ فلهذا كان الأمر بالإخراج مما يقتات؛ لكونه من الضروريات التي تحفظ به حياة هذه الأبدان التي تقوم عليها عبادة الله، ولو فاتت مع ذلك الحاجيات والكماليات. ثم إن هذا الواجب هو على من ملك قوت ليلة العيد ويومه، فمن لم يكن له ذلك فلا وجوب عليه؛ إذ لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها، وضرورة المرء ومن يعول مقدمة على غيره، ولكن لو ملك مقدار فطرة نفس واحدة من الأسرة فإنه يجب عليه إخراجها؛ حتى يصح في حقه وصف العادم للزيادة عن قوت ليلة العيد ويومه، كما أن المبادرة إلى إخراج ذلك القليل ولو عن نفس واحدة يشعر بنزول هذه العبادة في قلبه منزلة عظيمة لا ترضى بالمنع واحتقار القليل؛ إذ لا يجد إلا جهده، وفيه رسالة غير مباشرة لأصحاب الطَول تدعوهم إلى عدم البخل في إخراج عن هذا الحق. وما ليَ شيءٌ غيرُ نفس بذلتُها ![]() لِحُبكمُ والبذلُ للنفس مُكْلِفُ ![]() ولكنه جهدُ المُقلِّ سخاْ به ![]() وكم واجدٍ عند المكارم يرجف! ![]() وفي إخراج ما زاد على قوت اليوم والليلة درس إيماني مضمونه: أن على المسلم أن يكون يقينُه واطمئنانه في أمر رزقه على ما عند الله، وليس على ما عنده، فإعطاؤه ما زاد على قوت ليلة العيد ويومه صورةٌ من صور التوكل على الغني الرزاق سبحانه وتعالى. ينسب للشافعي قوله: إذا أصبحتُ عندي قوتُ يومي ![]() فخلِّ الهمَّ عني يا سعيدُ ![]() ولا تخْطرْ هموم غدٍ ببالي ![]() فإن غداً له رزق جديد[3] ![]() ومن تأمل في مقدار ما يخرج يجده شيئًا زهيداً لا تبخل به النفوس الكريمة، غير أنه لا تستغني عنه النفوس المعوزة، فمتى تعددت صِيعانُ الإنفاق سقط طغيان الإملاق. وفي اختيار صنف المساكين دون بقية مصارف الزكاة نظرة دقيقة إلى كون حاجة المساكين إلى القوت أكثر من بقية الأصناف، وهي حاجة مستمرة، خصوصًا أن غالب الناس يقفون عن طلب الأرزاق يوم العيد، فمن مراعاة المشاعر أن يجعلوا مشاركين للأغنياء في فرحة العيد وهمْ في أمن غذائي. واختيار وقت الفضيلة لإخراج هذه الصدقة-وهو بعد صلاة فجر يوم العيد- ليبدأ المسلم يومه بطاعة الله تعالى المتعدية التي تدخل السرور على أخيه المسلم مبكراً حينما تقطر مزنةُ الإحسان من أيدي الباذلين فتنبِت أزهارَ الابتسامة في وجوه المحتاجين. [1] رواه أبوداود وابن ماجه والحاكم وغيرهم، وهو حسن. [2] ديوان عروة بن الورد (ص: 13). [3] ديوان الإمام الشافعي (ص: 6).
__________________
|
|
#29
|
||||
|
||||
__________________
|
|
#30
|
||||
|
||||
|
شروقُ العيد غصون رمضانية (30) عبدالله بن عبده نعمان العواضي ذبلت رياض رمضان الندية، ورحلت أيامه السعيدة، ولياليه المشرقة، رزقنا الله فيه القبول، وأخلف لنا بعده صلاح العاقبة، وحسن المنقلب، ودوام الاستقامة. وعلى عقب رحيله شرعت النفوس في استقبال مولوده وخليفته من بعده، فغربت شمس رمضان فطلع هلال شوال مؤذنًا بحلول عيد الفطر فأهل الناس بالتكبير؛ شكراً لله تعالى على نعمة الإتمام للصيام، ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. لقد صدحت الأجواء، وتعالت أصوات المكبرين في الأرجاء قائلين: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد، إنها عبارات عذبة تفوه بها القلوب والألسنة بأصوات جهورية؛ لتسمع الكون حروف التعظيم، وجُمل التوحيد، وكلمات الشكر والاعتراف بالنعمة، فمعبود المسلمين عز وجل أكبر من كل شيء يُتقرب إليه بعبادة، أو يتزلف إليه بقربة. فالله أكبر! تعظيم وتوحيد لمن عُبد بالصيام وسائر القربات، والله أكبر! حداء طلائع الاستقبال؛ فرحًا بتفضل الله عليهم بإكمال فريضة الصيام، وما حفه من الطاعات العظام، لا فرحًا بملاقاة ملذات النهار المفطرة بعد فراق شهر كامل، ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58]. والله أكبر! شعار وليدِ رمضان يُلقى في أذن الزمن الجديد في كل مكان: في المساجد والبيوت، والطرقات والأسواق، يردده الجميع: زرافات ووحدانًا، ابتداء من ليلة العيد إلى صعود الخطيب المنبر. إن العيد عَودٌ حميد إلى الأرض بعد رحلة ممتعة حلّقت بها الروح في فضاء الصفاء، فعانقت هناك نجوم السمو الروحي فاقتبست من أنوارها مشاعل هداية ممتدة. والعيد تذكير بعوائد الله تعالى وفضائله على عباده، وأن عادة الله إكرام خلقه، وإسباغ نوائله عليهم، ولكن معاصيهم حجب عنهم استمرارها. العيد ولادة جديدة من رحم شهر التربية والاستقامة فيخرج منه المؤمن صقيلاً مطهَّراً. فالاغتسال عند الذهاب للمصلى تفاؤلٌ مبكِّر بإزالة الخطايا بماء التكفير والعتق في ختام رمضان، ولبس الجديد تفاؤل بفتح صفحة ناصعة مع الله تعالى وعزم على الاجتلاء والبهاء، فالاغتسال تخلية ولبس الجديد تحلية، والتطيب حرص على التعطر بأفعال يطيب سماعها، وتحسن رؤيتها؛ فالسمعة الطيبة هي عَرْف الصالحين بين العالمين. تنطلق الجموع المكبرة إلى مصلياتها وقد أفطرت على تمرات أو غيرها، وخرجت من الإمساك إلى الإفطار؛ فصلاً بين الزمانين، وتمييز مبكر ليوم الفطر. تتقاطر فئام المسلمين إلى المصليات وهي تحمل على ألسنتها ذكر الله تعالى، وعلى وجوهها البسمة والألق، وعلى قلوبها الفرحة والمحبة، تتلاقى الأعناق وتتصافح الأيدي، وتزهر بينهم عبارات التهنئة بسلامة البقاء، والدعاء بقبول العمل، وحسن ما يجيء في المستقبل. ما أعظم ذلك الجمع الذي خرج إلى صعيد واحد رجالاً ونساء صغاراً وكباراً!. ما أشبه اليوم بالغد! يوم يبعثر ما في القبور، ويخرج الخلق كأنهم جراد منتشر إلى صعيد القيامة منتظرين، اليوم خرجوا من بيوتهم إلى المصلى ينتظرون حلول الصلاة، وغداً يخرجون من قبورهم ينتظرون فصل القضاء بين يدي الله. في العيد تبتهج النفوس، وتنداح دائرة السرور، فأكمل الناس حظًا في العيد من أدخلوا الفرحة إلى قلوب البؤساء والمحزونين، يمسحون دمعة يتيم، ويخففون وجْد أرملة، ويمدون أغصان الإحسان إلى مسكين فيلامس في أكفهم السخاء، ويسمع من ألسنتهم القول المعروف، وتسبق إلى فؤاده بسماتهم، قبل أن تصل إلى كفه عطاياهم. هؤلاء السعداء المسعِدون يتفقدون الجار والقريب، ويبحثون عن أحلاس البيوت من الحاجة، ويتفرسون في الوجوه والأحوال فيعرفون الذين أحصروا عن الفرحة لعوزهم وفاقتهم، غشاهم الحياء، وسترهم التعفف والرضا بالقضاء، ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]. هؤلاء الأسخياء هم الذين تتم لهم الفرحة، وتكتمل في قلوبهم ووجوههم البهجة؛ فأسعدُ الناس مَن أسعدَ الناس، كما قيل. وإذا كان يوم العيد يومَ فرحة وحبور فإن ذلك لا يعني الانطلاق إلى هتك حدود المآثم، ومعانقة المخالفات والجرائم، ففرحة المسلم يجب أن تكون في إطار حدود الله، الذي منَّ بالفرحة فيجب فعل ما يرضى تعبداً وشكراً. وفرحة العيد عند النظر العميق هي لأهل الاجتهاد في رمضان الذين بذلوا وقدموا وصبروا، فحق لهم أن يبتهجوا بيوم الجوائز للفائز، وكأن حالهم في هذا اليوم كحال المؤمنين يوم القيامة الذين صبروا ابتغاء وجه الله في الدنيا، وعملوا لذلك اليوم فهنيئًا لهم أن يقال لهم: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]، فيطير الواحد منهم فرحًا قائلاً: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 19 - 24]. أما أهل التفريط والكسل في شهر البذر فلماذا يفرحون، وبماذا يفرحون؟! فلعل بعضهم يفرح لكونه عتق من حبس رمضان لشهواته، وانطلاقه لجرائره، فهل بهذا يفرح العاقل، وقد فاته موسم خصب جدّ فيه زارعون فحصدوا يوم العيد جزاءَ جدّهم جنى الرحمن المبارك؟! من فاته ربح الشهر الكريم، وخسر فيه جوائز الرحمن، فبغروب شمس رمضان يتنفس الصعداء فيقول بلسان حاله: رمضانُ ولّى هاتها يا ساقي ![]() مشتاقةً تسعى إلى مشتاقِ ![]() ما كان أكثرَه على ألَّافِها ![]() وأقلَّه في طاعة الخلاّق ![]() بالأمسِ قد كنّا سجيني طاعةٍ ![]() واليوم منَّ العيد بالإطلاق[1] ![]() فيَشرعُ يمدُّ مائدة المحظورات ليختار ما لذ وطاب لديه من الخطيئات في سمع أو بصر أو قول أو فعل! والعجب كل العجب ممن أحسنوا في رمضان بعض الإحسان فجاء العيد فركبوا إلى المخالفة كلَّ صعب وذلول مسافرين إلى معاطن الفساد، ومراضع اللهو، وسوح الاختلاط، يوزعون حسنات رمضان في تلك الملاهي، مجارين للعابثين، ومشاركين للمفرّطين، فأصبح حالهم كالتي ذكر الله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ﴾ [النحل: 92]، فينكثون ما أبرموه، ويبددون ما جمعوه، ويضيعون ما تعبوا من أجله!. فطوبى لمن كان يوم فطره يزيد في أجره، ويكفِّر من وزره، ويصبح بشرى مشرقة لابتداء حياة الطاعة الخاصة بعد حياة الطاعة العامة، وبهذا يعرف أهل العزائم والمغانم من أهل الفتور والمغارم. [1] الأبيات لشوقي.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |