|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (286) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - باب الخيار [1] من كمال الشريعة المطهرة أن شرع الله الخيار في بعض المعاملات التي قد يلحق العاقد منها ضرر لأي سبب من الأسباب، والعقود من جهة تعلق الخيار بها أقسام، والخيارات بحسب دواعيها أقسام أيضاً. وفي هذه المادة عرف الشيخ الخيار وذكر فوائده، ووجه دلالته على كمال الشريعة، كما بين أقسامه، وأقسام العقود التي يتعلق بها تعريف الخيار وأنواعه وحكمة مشروعيته بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قال رحمه الله: [باب الخيار]. يقول المصنف رحمه الله: (باب الخيار) الخيار مأخوذ من الخير. يقال: استخار إذا طلب الخير وسأله من الله عز وجل فيما هو قادم أو يريد القدوم عليه من أمور دينه أو دنياه. ومنه سميت الاستخارة استخارة؛ لأن المسلم يسأل الله عز وجل خير الأمرين من المضي أو عدم المضي. وسمي الخيار خياراً؛ لأن هذا النوع يكون فيه المتعاقدان أو أحدهما له حق الفسخ خلال مدة معلومة، أو له حق الفسخ ورد البيع لسبب معين خلال مدة معلومة مثل خيار الشرط، كأن يقول: أنا أشتري منك هذا البيت ولي الخيار ثلاثة أيام، فله أن يرد خلال هذه المدة المعلومة. وله أيضاً أن يرد لسبب معين كوجود عيب في الصفقة، وهذا يسمى خيار العيب. وخيار الغبن إذا غبنه. وخيار التدليس إذا دلّس عليه في السلعة. وهذا الباب يعتبر من أهم الأبواب المتعلقة بالمعاملات. والعلماء رحمهم الله يذكرون الخيار في البيع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا). ومناسبة ذكر المصنف للخيار عقب الشروط: أن الشروط فيها خيار، فحينما أقول لك: اشتريت منك هذه الدار على أن يكون لها صكّ شرعي، فمعناه أن لي الخيار في الفسخ إذا لم يظهر لها صك. أو: اشتريت منك هذه السيارة بعشرة آلاف على أن فيها صفة كذا وكذا، فمعناه أن لي الخيار إذا لم تظهر فيها الصفة، فكأن هناك صلة بين الخيار وبين الشروط. ومباحث الخيار تنبني على مباحث الشروط، أو تتصل بمباحث الشروط. فلذلك يعتني العلماء بذكر باب الخيار عقب باب الشروط. والخيارات أنواع منها: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار التدليس، وخيار الغبن، وخيار العيب ... إلى آخر ذلك من الخيارات التي سنبينها إن شاء الله ونوضحها في مواضعها. وقد شرع الله عز وجل الخيار لما فيه من دفع الضرر عن المسلمين، فإن المسلم إذا تبايع مع أخيه، أو تبايع مع الغير ربما ندم وأصابته الحسرة على هذه الصفقة التي أوجبها، فجعل الله عز وجل حداً معيناً يدفع فيه المسلم عن نفسه الضرر. فأنت مثلاً لو كنت جالساً مع أخيك المسلم فقال لك: هذه السيارة أبيعها بعشرة آلاف، ربما استعجلت وقلت له: وأنا اشتريت؛ لأنك ترى أن السلعة تستحق العشرة آلاف بل وأكثر من عشرة آلاف، فتتسرع في الإجابة؛ لكنك إذا أمعنت النظر وتدبرت وجدت أن دفعك للعشرة آلاف يجحف بحقوق واجبة عليك، ولربما يضر بأهلك ونفقة عيالك، ولربما لا تضمن دخلاً يعينك على سداد الأقساط إذا كان البيع مؤجلاً، فالمسلم بطبيعته بشر يعتريه ما يعتري البشر من التسرع في الأمور؛ فكأن الخيار يدفع هذا النوع من الضرر في حدود ضيقة: وهي أن يكون الإنسان مستعجلاً في بت البيع فأعطاه الشرع خيار المجلس. فما دمت مع البائع في نفس المجلس الذي تم فيه البيع، وانعقدت فيه صفقة البيع فمن حقك أن تقول: رجعت، ومن حقك أن تقول: لا أريد، وهذا النوع شرعه الله عز وجل دفعاً للضرر عن البائع ودفعاً للضرر عن المشتري، فكل منهما يدفع عن نفسه الضرر؛ لأنه ربما قال لك رجل: بعني سيارتك بعشرة آلاف، فإذا بك تستعجل وتقول: قبلت، فلما فكّرت ما هو البديل وما الذي ستشتريه بدل هذه السيارة، فوجدت أنك ستتضرر أكثر، فحينئذٍ تقول: لا أريد، وترجع عما قلت، وكان الأصل أنك ملزم بما قلت، لكن الشرع أعطاك هذا النوع من المهلة، وهو ما يسمى بخيار المجلس. كذلك من حكمة مشروعية خيار الشرط: أن المسلم يشترط على أخيه المسلم في صفقة البيع، وذلك من أجل أن يدفع الضرر الموجود في السلعة، أو يدفع الضرر الذي يتوقع حدوثه من المضي في البيع، أو نحو ذلك من الأسباب التي تدفعه إلى الشرط. مثال ذلك: لو أن رجلاً عرض عليك أرضه بعشرة آلاف، هذه الأرض قال لك: إنها طيبة وجيدة ويحتمل أنها في المستقبل تكون قيمتها أغلى، وهذا المكان الذي فيه الأرض له مميزات، فجعل يشرح لك الأمور التي ترغبك في شراء هذه الأرض، فبطبيعة الحال قد يكون الإنسان ليس عنده إلمام بمثل هذه الأمور، ويكون جاهلاً بسوق العقار، ولا يعلم كيف البيع والشراء كطالب علم لا يشتغل بمثل هذه الأمور. فالله عز وجل من حكمته جعل له خيار الشرط فيقول له: قبلت البيع؛ ولكن لي الخيار ثلاثة أيام أستشير فيها وأرجع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، فإن أنعموا البيع أنعمت وأمضيت، وإن أشاروا عليّ بغيره فإني على خياري. فهو حينئذٍ يدفع عن نفسه ضرراً، خاصة أن البيع قد يكون بمبالغ كبيرة يتضرر الإنسان بدخوله في مثل هذه الصفقات، وقد تكون محتاجاً إلى هذه الأرض ولا بد لك من أرض أو لا بد لك من سيارة. فهذا النوع الثاني من الخيارات، فكما أن الأول يدفع عنك ضرر الاستعجال في بتّ البيع، كذلك هذا يدفع عنك ضرر ما يقال في السلعة أو يقال في الصفقة من المرغبات التي لا حقيقة لها، فيكون خيار الشرط سبباً في حفظ المسلم من أن يخُتل أو يضر به أقسام عقود المعاملات ومن المعلوم أن عقود المعاملات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: يقوم على الغبن المحض. القسم الثاني: يقوم على الرفق المحض. القسم الثالث: يقوم على الغبن والرفق. وهذا مدخل نريد أن نبين به حكمة مشروعية الخيار تأكيداً لما تقدم. والبيع يعتبر من العقود التي تسمى بعقود المعاوضات، ونظراً لأننا ندرس المعاملات المالية فلا بد أن نعرف أنواع المعاملات حتى يستطيع الإنسان أن يدرك الأسرار والحكم التي يفرق من أجلها الشرع بين المعاملات، فيشدد في نوع ويخفف في نوع. فإذا أدركت السبب الذي من أجله خفف الشرع في هذا النوع وشدد في هذا النوع أدركت أنه لا أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، وأن هذه الأحكام الموجودة في البيوع لا يقصد بها التضييق على الناس وإنما المقصود منها أولاً وأخيراً خير الناس في دينهم ودنياهم وآخرتهم، وهذا يزيدك قناعة بحكم الشريعة وبصلاحيتها للفصل بين الناس وتوجيه الناس ودلالتهم على ما فيه صلاح أمور دنياهم، كما جاءت بما فيه صلاح أمور دينهم. وعقود المعاوضات: هي التي تدفع فيها شيئاً عوضاً عن شيء، وهذا يشمل البيع، فأنت تدفع -مثلاً- عشرة آلاف ريال عوضاً عن سيارة. ويشمل الإجارة، تقول له: أجرني بيتك أسكنه سنة بألف أو بخمسة آلاف. ويشمل أيضاً النكاح يقول له: زوجتك ابنتي بعشرة آلاف، فجعل الاستمتاع بالبنت لقاء العشرة آلاف وهي المهر: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24]. وكذلك يشمل الهبة إذا كانت هبة عوض، كأن يعطيه ساعة فيعطيه هدية في مقابلها أو هبة في مقابلها قلماً، فهذا أيضاً يعتبر من عقود المعاوضات. وكذلك الشركات حينما تقول: تدفع خمسين ألفاً وأدفع أنا خمسين ألفاً، ونشترك برأس مال مائة ألف على أن نتاجر، فهذا أيضاً من عقود المعاوضة؛ لأنه عاوضك بالخمسين الألف لقاء الخمسين الأف التي معه على أن يكونا رأس مال واحد. وكذلك المضاربة، وهي التي تسمى بالقراض؛ تقول للعامل: خذ هذه المائة ألف واضرب بها في الأرض وتاجر والربح بيني وبينك، فأصبح عمل العامل لقاء جزء من الربح. إذاً: ما يقصد منه الغبن المحض مثل: البيع والإجارة، فإن الرجل إذا قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ستقول: بل بتسعة، أو يقول: بعشرة، وتقول: بتسعة ونصف، أو هو يقول: بتسعة ونصف، فكأن هناك مبلغاً فيه غبن إما عليك وإما عليه، فإن قوي البائع صار الغبن في حق المشتري، وإن قوي المشتري صار الغبن في حق البائع، وقد يتكافآن لكن هذا النوع من العقود يقوم غالباً على الغبن. والإجارة كذلك، فلو قال له: أجّرتك هذه الشقة بعشرة آلاف في السنة سيقول: بل أستأجرها بتسعة آلاف بثمانية آلاف، فيماكسه ويحاول أن يحدث نقصاً، ويكون الغبن فيها في طرف المؤجر لا في طرف المستأجر، وهكذا لو قلت لعامل: اعمل عندي في المزرعة كل شهر بألف، فيقول: بل أعمل في هذه المزرعة كل شهر بألف ومائة، فكأن هناك مائة بين الطرفين. فهذا النوع من العقود الذي المقصود منها الغبن يشدد الشرع في شروطه كما قدمنا في شروط البيع، ويشدد أيضاً في فتح باب الضرر على أحد الطرفين، ومن هنا جعل خيار المجلس في عقد البيع، وجعل خيار المجلس في عقد الإجارة؛ لأن المسلم يحتاج إلى شيء من الروية قبل أن يبتّ البيع ويلزم به. فالمقصود أن هذا النوع وهو ما يقصد به الغبن نجد الشرع يحيط البائع والمشتري بسياج متين يقصد منه حفظ الحقين: حق البائع، وحق المشتري، فحق البائع ألا يبذل سلعته إلا وهو مطمئن، وحق المشتري ألا يدفع القيمة إلا وهو مطمئن إلى الوصول إلى ما يريده أو يبتغيه من صفقته العقود التي يدخلها الخيار والتي لا يدخلها ثم إن العقود تنقسم إلى أقسام: القسم الأول: ما لا يلزم الطرفين لا حالاً ولا مآلاً. القسم الثاني: ما يلزم الطرفين حالاً ومآلاً. القسم الثالث: ما يلزم الطرفين أو أحدهما مآلاً لا حالاً. فهذه ثلاثة أقسام للعقود. يتركب منها مسألة الخيار، فحتى نعرف أين محل الخيار في العقود والمعاملات المالية وما يتبعها، ينبغي أن نقسم بهذه التقسيمات: القسم الأول: ما كان من العقود غير لازم لا حالاً ولا مآلاً: وهذا يشمل الأنواع الآتية: أولها: عقد العارية. ثانيها: عقد الوديعة. ثالثها: عقد القراض أو ما يسمى بالمضاربة. رابعها: عقد الشركة. نبدأ بالعارية: وهي أن يأخذ يستعير منك شيئاً، كالسيارة مثلاً، فإنك لست بملزم بأن تدفع له السيارة، فلك أن تعطيه ولك ألَّا تعطيه. فإذا أخذ السيارة وجئت في أي وقت تقول له: أعطني إياها، فإنه يلزمه أن يعطيك. كذلك أيضاً إذا أخذها هو وأراد أن يردها لك في أي وقت فله ردها، فالأخذ في مقابله الرد لا يلزم لا حالاً ولا مآلاً، فهذا النوع يكون الخيار ثابتاً فيه للطرفين إلى الأبد، وليس من حق أحدهما أن يقطع الخيار على الآخر. وكذلك الوديعة: لو أن شخصاً جاءك وقال: هذه عشرة آلاف ضعها وديعةً عندك. فمن حقك أن تقول: لا أضعها، وتمتنع من ذلك، وإذا وضعتها فمن حقك بعد دقيقة واحدة أن تقول له: تعال يا فلان وخذ وديعتك، ولست ملزماً بأن تبقيها المدة التي اتفقتما عليها، وكذلك هو لو قال لك: ضعها وديعةً عندك شهراً، فجاءك بعد ساعة أو بعد يوم، فمن حقه أن يأخذها في أي وقت شاء. فإذاً: لا تَلزمك ولا تَلزمه لا حالاً ولا مآلاً. القسم الثاني من المعاوضات -وهو الذي يعنينا وهو المهم-: ما يلزم حالاً ومآلاً: وهو أن تتعاقد مع الطرف الثاني فتُلْزَم بالعقد حالاً، وتلزم به مآلاً، ويسمى هذا النوع من العقود: "العقود اللازمة"، ويعبر عنها بعض العلماء فيقول: تلزم في أول حال وثاني حال، مثل: البيع الإجارة النكاح الخلع. فمثلاً في البيع: لو قال لك: بعتك سيارتي بعشرة آلاف. فقلت: قبلت، فإذاً: "بعتك" إيجاب، و"قبلت" قبول، فتم العقد، فالأصل يقتضي أنك ملزَم بهذا البيع أن تدفع له العشرة آلاف ويدفع لك السيارة. كذلك لو قال لك: زوجتك بنتي فلانة بعشرة آلاف. فقلت: قبلت، فإنك ملزم بهذا النكاح، ويعتبر النكاح لازماً لولي المرأة ولازماً للمرأة ولازماً للزوج، أي: يعتبر لازماً لطرفي العقد أصالةً ووكالةً، فليس من حقك أن تقول: لا أريدها، فإذا قلت: لا أريدها فحينئذٍ هناك طريقة لفسخ هذا العقد، فالعقد لازمٌ وماضٍ، فإذا أردت أن تطلق طلقت، وهي إذا ظُلِمَت فلها أن تفسخ عن طريق القاضي؛ لكن العقد لازمٌ وماضٍ من حيث الأصل، فاللزوم ثابت فيه في أول العقد الذي هو الحال، ولازم في المآل، فهو باقٍ ولازمٌ إلى الأبد. كذلك أيضاً في الخلع؛ قالت له: خالعني بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإنه يُلزم بخلع المرأة منه ويلزمه قبول العشرة آلاف. فهذا العقد الذي تمّ بينهما وهو خلع النكاح وفسخه على هذا الوجه بعشرة آلاف، يلزم المرأة أن تدفع العشرة آلاف ويلزم الرجل أن يخالعها، إذاً: يلزمهم في الحال ويلزمهم في المآل. وهذا القسم الثاني من المعاملات الذي يلزم في الحال والمآل ينقسم إلى نوعين: النوع الأول: ما يدخله الخيار، وهذا هو الذي يعنينا هنا كالبيع والإجارة والسلم والصلح بعوض. النوع الثاني: ما لا يدخله الخيار، كالنكاح والرجعة والخلع، فهذه لا يدخلها خيار ألبتة. القسم الثالث: ما لا يلزم حالاً ويلزم مآلاً: فمن أمثلته: الجعالة، لو أن رجلاً قال: من وجد سيارتي الضائعة فله عليَّ عشرة آلاف ريال، فالناس غير ملزمين أن يذهبوا ليبحثوا عن سيارته، فإن شاءوا بحثوا وإن شاءوا لم يبحثوا، فليس بلازمٍ أن يقوموا بالعقد، فلو أن رجلاً ذهب وبحث ووجد السيارة لزم العقد، فهو ابتداء غير لازم، لكنه في المآل إذا وجد السيارة فإننا نفرض على صاحبها أن يدفع العشرة آلاف. ففي الابتداء لك الخيار أن تدخل وأن تبحث، لكن لا يلزم الطرف الثاني أن يدفع لك شيئاً ولا أن يتم الصفقة إلا إذا وجدت ما ركّب الشرط عليه، فهذا عقد الجعالة. كذلك عقد الاستهلاك بالضمان: فلو أن رجلاً معه شيء فيه ضرر، فقلت له: يا فلان! إن أتلفت هذا الشيء الذي فيه ضرر أعطيك عوضاً عنه مائة ريال، فعندئذ إن شاء هو اتلف وإن شاء لم يتلف، فهو بالخيار، وأنت لا تلزم بشيء في بداية العقد؛ لكن لو أنه أتلف ألزمت بدفع ما تكفلت به، فلو أنه أتلفه وتمت صفة الإتلاف في العين التي اشترطت إتلافها، لزمك أن تدفع المائة لقاءها، فهذا يسمونه الاستهلاك بالضمان. كذلك أيضاً في العتق بعوض: فلو أنه قال له: إذا أعتقت عبدك فلك عليَّ عشرة أو مائة، فهو مخير إن شاء أعتق وإن شاء لم يعتق؛ لكنه لو أعتق فإنه يُلزم الطرف الثاني بإعطاء العشرة والمائة، وهذا ما يسمى بالعتق بالبدل. فهذه العقود في ابتدائها ليست بلازمة في أول الحال؛ لكنها تئول إلى اللزوم في ثاني الحال. و السؤال إذا كانت العقود على هذه الثلاثة الأقسام ما يلزم حالاً ومآلاً، وما لا يلزم حالاً ولا مآلاً، وما يلزم في ثاني الحال ولا يلزم في أول الحال. فأين محل الخيار؟ أو في أي نوع من هذه العقود يدخل الخيار؟ و الجواب العقود التي لا تلزم حالاً ولا مآلاً الخيار فيها مؤبّد لكلا الطرفين، مثلاً الشركة لو جاءك رجل وقال: لو أنني اشتركت مع زيد بمائة ألف، فدفع هو مائة ألف وأنا مائة ألف واشتركنا وتمت التجارة والصفقة، ثم أردت أن أفسخ الآن، هل من حقي هذا؟ فتقول: من حقك أن تفسخ في أي وقت، فأنت بالخيار: إن شئت فلك أن تبقي الصفقة وتبقي عقد الشركة، وإن شئت أن تلغيه في أي وقت فلك ذلك أيضاً، إلا في حالات مستثناة مثل: وجود الضرر على الطرف الثاني، فهذه فيها تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب الشركة والقراض. والآن في بعض الشركات تشترك مع رجل ويقول لك: تدفع مائة ألف وأدفع أنا مائة ألف ونصير شركاء في هذه الشركة، ولا يجوز لك أن تنسحب من الشركة قبل سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات، فما الحكم؟ نقول: هذا الشرط باطل؛ لأنه يسقط الخيار الأبدي المجعول من الشرع، وما أدى إلى باطل فهو باطل، فليس من حقه أن يلزمه في الشركة ولا في القراض ولا في نحوها من العقود التي لا تلزم حالاً ولا مآلاً؛ لأنه يسقط خيار الشرع، فالشرع جعلها على الخيار وهذا يريد أن يجعلها على اللزوم، ويضر بأخيه المسلم فيما وسع الله عليه. فهذا النوع الأول يكون الخيار فيه أبدياً ولا إشكال فيه من حيث إن المتعاقدين أو أحدهما لو أراد أن يفسخ فله أن يفسخ، حتى ولو كان الطرف الثاني غير راضٍ. وأما النوع الثاني: وهو الذي يلزم في الحال والمآل فقد ذكرنا أنه ينقسم إلى قسمين: منه ما يدخله الخيار كالبيع والإجارة والصرف والسلم والصلح بعوض ونحوه، ومنه ما لا يدخله خيار كالنكاح والرجعة والخلع بعوض ونحوه. وأمّا النوع الثالث: وهو الذي لا يلزم في الابتداء ويلزم في المآل؛ فإن الخيار فيه في الابتداء للمتعاقدين، فإذا صار إلى اللزوم فإنه حينئذٍ يسقط الخيار بوجود اللزوم فيه؛ لأن الشرع ألزم المسلم بالعقد، فلما قال: سأعطيك عشرة آلاف إن أحضرت سيارتي أو أحضرت عبدي أو دابتي، فإنه يلزم بذلك بعد الوجود، ولا خيار له في الإسقاط الأسئلة خيار المجلس في البيع عن طريق الهاتف السؤال بالنسبة للبيع عن طريق الهاتف، هل للمشتري في هذه الحالة خيار مجلس؟ وكيف يكون، أثابكم الله؟ الجواب في خيار المجلس يكون المتعاقدان في مكان واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، فإذا تفرقا فإنه ينقطع الخيار بافتراق الأبدان؛ لكن إذا تعاقد معه عن طريق الهاتف وكان المكان مختلفاً يرد السؤال: هل العبرة بانقطاع المكالمة؟ هذا يقول به بعض العلماء المعاصرين؛ يقول: إن الخيار يكون لهما حتى يقطع الاتصال. لكن المشكلة فيه أن القطع يكون من طرف أحدهما دون الآخر. فقال: هذا لا يضر، وهو كما لو قام أحدهما دون الآخر. وقال أيضاً: إنه يمكن للطرف الثاني أن يلقي بالسماعة ولو كان الخط ليس له، فإن إلقاءه للسماعة يمكنه من الدلالة على المضي وإتمام الصفقة. وكنت أتوقف في هذه المسألة ولا أزال أجد في نفسي منها شيئاً، ومهما كان فالنظر فيها محتمل: يحتمل أن يكون فيها الخيار بقطع المكالمة -كما ذكرنا- وله وجهه وعلته التي ذكرناها، ويحتمل أن يكون من جنس ما ليس فيه الخيار حتى يتواجها ويبتا الصفقة، فهذا أمر محتمل. والله تعالى أعلم حكم بيع الدين بأقل منه السؤال لي دين عند آخر قدره عشرة آلاف، فقال لي شخص: خذ تسعة ودعني آخذ العشرة من المدين متى استطاع على دفعها، فما الحكم، أثابكم الله؟ الجواب هذا هو الربا، فإذا قال لك: لك على فلان عشرة آلاف، خذ مني تسعة آلاف وأنا آخذ منه العشرة، فهو الربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه وكاتبه وشاهده، وهو الربا الذي حرمه الله ورسوله؛ لأنه دفع لك تسعة آلاف نقداً مقابل العشرة آلاف بالفاصل وهو فاصل المطالبة. وهكذا لو كان لك راتب على جهة وقدره ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وأحلت على جهة تصرف لك ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فجاءك شخص وقال: أصرف لك اليوم بثلاثة آلاف إلا ريالاً أو إلا خمسة أو إلا عشرة، فهو الربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه وكاتبه وشاهده. إذا أردت أن تحال على دين فالدين أن تحال بنفس المبلغ، فهذا جائز ولا بأس به، ومن أحيل على مليء فليتبع، والأصل فيه الحوالة. أما أن يزاد وينقص في الدين الموجود، ويكون الشخص له وجه على آخر بزيادة أو نقص فإنه الربا -كما ذكرنا- ولا يجوز فعله لا من الأفراد ولا من الجماعات. والله تعالى أعلم حكم إسقاط الخيار في المضاربة السؤال في المضاربة لو قال له: أعمل لك بمالك بشرط: ألا تطلب منه شيئاً قبل مرور سنة، هل هذا الشرط صحيح، أثابكم الله؟ الجواب هذا الشرط لاغٍ، والمضاربة لا تتأقت، فعليه أن يقول له: خذ مائة ألف وتاجر فيها، فيذهب ويتاجر بالمائة ألف، وليس من حقه أن يقول: بعد سنة أو سنتين أو ثلاث، فالقراض مفتوح الأجل، والعامل يقوم بالمضاربة بالمال مدة مضاربته، ثم يدفع المال ربحاً أو خسارة على حسب ما اتفقا عليه. والله تعالى أعلم الفرق بين الجعالة والإجارة السؤال في الجعالة: لو اجتهد شخص في البحث عن المفقود وطلبه ولم يجده، فهل له أن يطلب مقابل جهده، أثابكم الله؟ الجواب هناك فرق بين الجعالة وبين الإجارة، وهذا الفرق يتلخص في أن الجعالة لا تستحق إلا إذا أتم الشرط كاملاً، فلو قال لك: إذا أحضرت سيارتي فلك كذا؛ فإنك لا تستحق الجعل إلا بعد أن تحضر السيارة، قال تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، فإذا تحقق الشرط الذي من أجله وجدت الجعالة ألزم الشخص المالك بدفع ما اتفق عليه مع العامل. أما في الإجارة: فإنها تتجزأ بأجزاء العمل، فلو أن عاملاً استأجرته شهراً، ثم في منتصف الشهر طرأ أمر لا يستطيع معه أن يتم الشهر، فحينئذٍ يستحق نصف القيمة المتفق عليها، وأما هل يقيم غيره مقامه؟ فهذه مسألة ستأتي إن شاء الله في الإجارة، وهو أنه إذا تم العقد، ولم يستطع طرف أن يمضي الإجارة لعذر شرعي أو عذر حسي، وسيأتي التفصيل في الأحوال التي لا يستطيع فيها أن يتم العقد -لكن أياً ما كان فالإجارة تتجزأ بأجزاء العمل. ومن هنا: لو جئت تحفر بئراً فقلت لرجل: احفر لي كل متر بعشرة، فإنه إذا حفر لك مائة متر استحق ألف ريال؛ لكن لو قال لك: سأحفر لك بئر ماء هنا، فقلت له: إذا استخرجت لي بئر ماء هنا فلك عليَّ مائة ألف أو خمسون ألفاً، فحينئذٍ لو حفر مائة متر ولم يجد ماءً فإنه لا يستحق شيئاً، فهذا هو الفرق بين الجعالة وبين الإجارة. فالإجارة تتجزأ بأجزاء العمل، والجعالة لا تتجزأ بأجزاء العمل ولا يستحق العامل فيها المال، أو لا يستحق الجعل إلا إذا أتم ما اشترط عليه، كإرجاع المسروق أو الشارد أو الإمساك بالعبد الآبق، ونحو ذلك مما تقع عليه الشروط في الجعالة. والله تعالى أعلم أحوال السقط وحكم الدم الذي يخرج بعده السؤال السقط إذا خرج قبل ثلاثة أشهر، هل يكون الدم دم نفاس، أم دم حيض؟ ومتى تصلي المرأة، أثابكم الله؟ الجواب السقط لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يكون فيه صورة الخلقة، فالدم الذي يخرج من بعده يأخذ حكم دم النفاس، على أصح قولي العلماء. الحالة الثانية: وإما أن تضع قطعة لحم وليست فيها صورة الخلقة، فحينئذٍ يكون الدم دم فساد وعلة، ويأخذ حكم الاستحاضة. فإذاً يفرق في هذا السقط ما بين أن يكون فيه صورة الخلقة، وما بين أن يكون مضغة أو قطعة لحم أو علقة أو نحو ذلك، فهذا ليس دمه بدم نفاس ولا يأخذ حكم النفاس. والله تعالى أعلم حكم وضع الجوائز مع السلع المباعة السؤال ما حكم إعطاء جوائز عينيه مقابل الشراء بمبلغ معين؟ وكذلك ما حكم توزيع الهدايا ترغيباً في كسب الزبائن أثابكم الله؟ الجواب نبه العلماء رحمهم الله في قاعدة: (الضرر يُزال) على أنه ينبغي في السوق ألَّا يتسبب البائع في أذية إخوانه، وألَّا يضر بمن ينافسه في السوق؛ والسبب في هذا: أنه إذا قُطع الباعة عن المغريات اتجه الناس لتفضيل التاجر من خلال أمانته وضبطه وصدقه، وأصبحت الشهرة من خلال المعاملة الشريفة النزيهة. لكن إذا دخلت المغريات الدنيوية أصبحت الشهرة بالمال، ولربما يكون من أكذب الناس، ولربما يكون أكثر غشاً؛ لكنه لقاء المغريات يُقْبِل عليه الناس ويُعْرَف محله ويشتهر، مع أنه لا يستحق هذا كله. فهذه القاعدة: (الضرر يُزال) تجعل أسواق المسلمين متكافئة، فلا يَفْضُل فيها إلا من عُرف بنزاهته، فالآن لو أنه لا توضع جوائز لأصبح كلٌ يبذل البيع لقاء معاملته مع الناس من حسن السمعة في الأمانة والثقة والدقة في المواعيد، والانضباط فيها، وعدم الغش، وسلامة المبيعات. ولو نظرنا قَبْل ثلاثين سنةً حينما لم تكن الجوائز موجودة لوجدنا أن التاجر الذي يشتهر بين الناس والذي يعرف بين الناس؛ هو من كان أميناً، ولا يعرف إلا إذا كان صادقاً، ولا يعرف إلا إذا كان نظيف المعاملة نظيف اليد في أخذه وعطائه، ولا يمكن أن يتعامل معه الناس إلا إذا عُرف بالنزاهة؛ لأنه ليس هناك ثقل دعاية، وليس هناك ثقل إغراء، وإنما هناك المعاملة، فيدخل إلى السوق لينافس إخوانه منافسةً شريفة، ليس فيها مغريات ولا دعاية؛ ولكنها قائمة على حق، ويستحق أن يأخذ هذه السمعة وهذا الصيت لقاء النزاهة والأمانة التي تَخَلَّق بها. ولا يمكن أن يشتهر هذا النوع من التجار إلا بعد خبرة وبعد طول زمان، فتصبح الأسواق قد أخذت حقها، والتجار أخذ كلٌّ حقَّهُ، ومن هنا منع العلماء أن يبيع الرجل ويُرْخِص في السلعة لكي يضر بالسوق؛ لأنه إذا جعل السعر عنده نازلاً جَذَب الناس دون إخوانه، فكأنه يريد الإضرار بالباعة الآخرين، وعليه حُمِل فِعْلُ عمر رضي الله عنه وأرضاه مع حاطب بن أبي بلتعة حينما مر عليه وقد أرخص في سلعته فقال له: (إما أن ترفع، وإما أن ترتفع عن سوقنا)، أي: إما أن ترفع السعر فتساوي إخوانك ولا تجذب الناس تحت إغراء مادي، وإما أن تقوم عن سوقنا. الشاهد: أن هذا كله مبني على دفع الضرر. فإذا فُتح باب الجائزة وباب المغريات اتجهت الناس للسمعة، وأصبح التاجر لو كان غير منضبط في تجارته يستطيع أن يصل إلى السمعة ويستطيع أن يبيع ويشتري لقاء المادة، وحينئذٍ لا يوجد فرق بين أسواق المسلمين وغيرهم. إذاً: الأسواق الشريفة في الإسلام تقوم على كسب الثقة بالمعاملة، وليس تحت دعاية ولا إغراء مادي. وأما بالنسبة لوضع الجوائز، فالعلماء رحمهم الله قالوا: إذا قُصد بها الإضرار، كأن يجذب الزبائن إلى محله أكثر من غيره فإنه آثم شرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار)، ولأن الجوائز ليست ربحاً له، بل فيها ضرر عليه فقد تكلفه العشرة آلاف والعشرين، بل وقد تكلفه مئات الألوف، فهذا الضرر يرضى به على نفسه من أجل أن يجذب الناس إليه دون إخوانه، فلا إشكال في وجود الضرر من هذه الناحية، وهو آثم شرعاً، ولا يجوز له أن يفعل ذلك للإضرار بإخوانه. أما لو أن ترخيص السلع أو وَضْعَ الحوافز مثل التخفيضات كانت مدروسة كما يقع الآن، حيث ترتب عن طريق الغرف التجارية ونحوها، ويعطى كل محل فترة من الزمان يخفض سلعته، ويكون كل محل له طريقته وله ضوابطه؛ فهذا أمر يندفع فيه الضرر؛ لأني سأصل إلى حقي كما وصل إليه غيري، وأخفض كما خفض غيري، فإذا حصل فيه التكافؤ بين المحلات على هذا الوجه، فهذا لا بأس به في التخفيض. أما لو قال لك: اشترِ مني وأعطيك جائزة، فهذا يدخله الغرر؛ لأنه باعك معلوماً ومجهولاً، فأنت لا تدري هل تحصل على الجائزة أو لا تحصل، فباعك معلوماً وهو الذي تريد أن تشتريه -مثلاً- بألف ريال، ومجهولاً وهو ما يسمى بالجائزة. وهكذا لو غيب الجائزة في المبيع، كأن يضعها في علبة، فلو قال لك: في داخل هذه العلبة حظ أو داخل هذه العلبة جائزة، فمعناه أنك اشتريت معلوماً وهو علبة الحليب مثلاً ومجهولاً وهو الذي بداخلها، ولا يُدْرَى ما هي هذه الجائزة، بل إن هذا النوع من الجوائز يفضي إلى مفاسد عظيمة، ومن أعظمها: إتلاف الأموال، فلقد رأينا بأعيننا ونقل لنا الثقات أنه إذا وضعت الجوائز على اللبن تجد الرجل يشتري علبة اللبن وهو لا يريدها ولا يشربها. بل لقد رأيت بعيني من سكبها ونصحته قلت: يا أخي! اتقِ الله! هل فَسَدَتْ؟ هل انتهت صلاحيتها؟ قال: لا. أنا أريد الجائزة الموجودة فيها؛ لأنه حينما توضع الجوائز بمئات الألوف فإنه لا يريد اللبن وإنما هو يبحث عن الجائزة، فمعنى ذلك أنها تؤدي إلى إفساد الأموال، وتؤدي إلى الإضرار بها، وتخرج عن المقصود شرعاً من وجود الرفق بالناس بوجود هذه المصالح. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يهدينا إلى سواء السبيل. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (295) صـــــ(1) إلى صــ(9) شرح زاد المستقنع - باب الخيار [6] مذهب الحنابلة رحمهم الله من أوسع المذاهب في باب الخيار، ولم يتكلم الفقهاء في مسائل الخيار بالتفصيل والاستيعاب كفقهاء الحنابلة، خاصة وأنهم يقولون بأنواع لا يقول بها غيرهم. ومن هذه الأنواع: خيار التخبير بالثمن، فما هو هذا الخيار؟ وما هي أحواله وصوره؟ ومتى يقع؟ وما هي البيوع التي يثبت فيها وكيف يثبت؟ هذا ما وضحه الشيخ في هذه المادة تعريف خيار التخبير بالثمن وصوره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [السادس: خيار في البيع بتخبير الثمن متى بان أقل أو أكثر]: ذكر المصنف رحمه الله هذا النوع من الخيار وهو الذي يسمى بخيار التخبير. والتخبير: تفعيل من الخبر، والخبر لذاته يحتمل الصدق والكذب. والمراد بهذا الخيار: أن يخبرك البائع بقيمة الشيء المبيع أنه اشتراه بكذا، ثم بعد ذلك يتبين أنه أخطأ أو كذب عليك، فإن تبين صدقه فلا إشكال، وهذا النوع من البيوع في الأصل إنما يقع عند الإخبار بالقيمة. وبناءً على ذلك: فإن من أراد أن يشتري سلعة ما، فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يقع البيع بالسوم، دون النظر إلى أصل المال الذي اشترى به أو قدر القيمة التي اشترى بها البائع، فلو قال له: بكم تبيعني هذه السيارة؟ قال: بعشرة آلاف، فقال: اشتريت، فحينئذٍ لا إشكال، ولا يبحث في هذا النوع من الخيار؛ لأنه لم يتركب ثمن الصفقة الثانية على الإخبار بالصفقة الأولى. الحالة الثانية: أن يخبر البائع المشتري بالقيمة التي اشترى بها السلعة، والأصل أن المسلم يجب عليه أن يصدق فيما يقول مطلقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فأمرنا الله سبحانه وتعالى أن نتقيه وجعل من التقوى أن نكون من الصادقين، فإذا أخبر المسلم بشيء أياً كان فالواجب عليه من حيث الأصل أن يبين الأمر على حقيقته دون زيادة أو نقص. وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا في البيع؛ لأنه يترتب عليه حقوق، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي بين فيه أن بركة البيع مقرونة بوجود هذا الأمر العظيم وهو الصدق فقال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) فبين صلى الله عليه وسلم أن البركة في البيع مقرونة بالصدق، وأن الواجب أن يكون المسلم صادقاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق) أي: الزموه، ومن هنا فالأصل الشرعي أن يصدق البائع. فهذه الحالة الثانية، وهي أن يقول البائع. هذه السيارة رأس مالي فيها عشرة آلاف ريال مثلاً، فإذا أخبرك برأس المال، فإن الإخبار برأس المال تترتب عليه أمور مهمة منها: أن المشتري ربما يتفق مع البائع على ربح مبنيا ًعلى رأس المال كما في بيع المرابحة، فيقول له: بكم اشتريت؟ فيقول: بعشرة آلاف، فيقول: أربحك العشر، أي: أنني اشتريها منك بأحد عشر، أو أربحك الخمس، وهذا لا شك أنها زيادة مبنية على الإخبار برأس المال، فيشتريها باثني عشر، ولربما أنقص من رأس المال فقال له: رأس مالي في هذه السيارة عشرة آلاف أسامحك في خُمسها، فأبيعها بثمانية آلاف، فزادت رغبة المشتري في السلعة؛ لأنه يرى أن البائع قد ضحى بكثير وأن السلعة فيها تستحق أكثر مما دفع، فاشترى. أو قال له: هذه السيارة رأس مالي فيها عشرة آلاف هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ أو هذه الأرض اشتريتها بمائتي ألف هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ فيقول: قبلت، فيدفع له مائة ألف، أو هذه العمارة اشتريتها بمليون، هل تدخل معي شريكاً بالنصف أو الربع؟ وهكذا. والعلماء يبحثون هذا النوع من الخيار؛ لأن المشتري اشترى بناءً على خبر معين من البائع، وركب على هذا الخبر قيمة الصفقة، وترتب على هذا الخبر الرغبة في الصفقة، فهناك حقوق للمشتري من الإنصاف والعدل أن ترد له إذا ظلم فيها. وبناءً على هذا: فإنه إذا أخبر البائع المشتري بالقيمة الأولى، فلا يخلو من ضربين: إما أن يخبرك وتبين أنه صادق. وإما أن يخبرك ويتبين أنه أخطأ: إما عمداً وهو الكاذب والغشاش. وإما خطأً على سبيل يعذر فيه، بأن كان يظن شيئاً وتبين خلافه، أو كان يظن أنها الصفقة الأخيرة وتبين أنها الصفقة قبل الأخيرة. إلى آخره. ففي الضرب الأول من الحالة الثانية: وهو أن يتبين صدق البائع فيما أخبر فلا إشكال، فلو قال لك: اشتريت هذه العمارة بعشرة آلاف، فقلت: أربحك نصفها فأشتريها بخمسة عشر، فلا إشكال إذا تبين أنه اشتراها بعشرة آلاف. وهكذا لو أنه لم يتبين شيء، فالعلماء لا يبحثون في هذا، وإنما يبحثون فيما إذا تبين الخطأ، فأنت -مثلاً- اشتريت منه العمارة بعشرة آلاف، أو اشتريت منه السيارة بخمسة آلاف، ثم وجدت البائع الأول فقال لك: قد بعتها بأقل مما أخبرك به، فحينئذٍ يكون المشتري قد ظلم في ترغيبه في السلعة، وظلم في القيمة نفسها حيث رتب عليها ربحاً أو نسبة معينة بناءً على القيمة، فإذا ثبت أنه قد كذب أو أخطأ فحينئذٍ يكون للمشتري الخيار. فاصطلح العلماء على تسمية هذا النوع من الخيار خيار تخبير الثمن متى يقع خيار التخبير بالثمن ثم قال المصنف: [متى بان] أي: اتضح أنه اشترى [بأقل أو أكثر]، وتبين أن هذا الثمن ليس بصحيح. فإذاً: لو سأل سائل متى يقع الخيار؟ ف الجواب يقع الخيار إذا تبين الخطأ سواء كان مقصوداً كما في حالة الكذب -والعياذ بالله- أو غير مقصود كما في حالة الخطأ، ففي هذه الحالة يبحث العلماء هذا النوع من الخيار. وهناك مسألة تتبع هذه المسألة وهي: متى يكون من حقك أن تضيف على رأس المال الأصلي أو تسقط منه؟ فأنت قد تشتري الصفقة بمائة ألف، ثم تبين أن هذه الصفقة بها عيب، فأسقط القاضي لك بسبب هذا العيب كأرش عشرين ألفاً، فأنت في الحقيقة اشتريت بمائة، ولكنك برد هذا الأرش إنما دفعت ثمانين، فهل تخبر بالمائة أو تخبر بالثمانين؟ إذاً: هذه مسائل شرعية يبحثها الفقهاء، ومن عادتهم أنهم يرتبون المسائل المتجانسة والمتقاربة والتي تندرج تحت أصل واحد أو يجمعها قاسم مشترك. فكل هذه المباحث والمسائل التي ستأتينا، إنما هي حول الإخبار بالثمن، وما هو الواجب على المسلم إذا أراد أن ينصف المشتري في إخباره بالثمن، وما الذي تحسبه وما الذي تسقطه؟ فالسيارة -مثلاً- إذا اشتريتها ربما حملتها إليك، أو الطعام إذا اشتريته تحملت تكاليف نقله إليك، فهل تحسب هذه التكاليف مع رأس المال أو لا تحسب؟ فهذه كلها مسائل تحتاج إلى نظر وبحث. فشروط خيار التخبير: أولاً: أن يخبر البائع المشتري برأس المال: فلا يقع هذا الخيار إذا بت لك البيع وقال لك: هذه العمارة أبيعها لك بمائة ألف، وحينئذٍ فإذا تبين أنه اشتراها بعشرة أو بخمسة أو بمائة، فليس من حقك أن تعترض عليه؛ لأنه لم يخبرك برأس المال، ولم يرتب أرباحه أو استحقاقه على رأس المال، إنما باعك بيع المسلم لأخيه على البت دون ذكر لرأس المال، فإذا اشتريت السلعة بقيمة ورضيت هذه القيمة لقاء السلعة ودفعتها برضاك واختيارك فإنه تلزمك هذه القيمة. قول المصنف: (متى بان) أي: إذا ثبت أنه قد اشترى بأقل، والإثبات إما بإقرار البائع، كأن يأتي ويقول للقاضي: نعم أنا اشتريتها بثمانين وأخطأت حينما قلت له: بمائة، والإقرار سيد الأدلة كما يقول العلماء؛ لأنه شهادة من الإنسان على نفسه، والأصل أن الإنسان لا يشهد على نفسه بالضرر. وإما أن يثبت بشاهدين عدلين، كما إذا باعك رجل عمارة بمائة ألف، وقال لك: إنه اشتراها بثمانين ألفاً، فأربحته فيها عشرين، ثم تبين أنه اشتراها بخمسين ألفاً، فأقمت شاهدين عدلين على أنه اشتراها بخمسين ألفاً، فحينئذٍ يثبت القاضي الخيار لك. فتبين أن الإثبات إما إقرار وإما بشاهدين عدلين، وقد يتوفر شاهد واحد فتتم البينة بيمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين في الحقوق المالية. مثال ذلك: لو اشتريت من رجل عمارة أخبرك أنه اشتراها بمائة ألف، فأربحته العشر، ودفعت له مائة وعشرة، ثم تبين لك أنه اشتراها بثمانين، فجئت عند القاضي وقلت: إن فلاناً أخبرني أنه اشتراها بمائة ألف، فسأله القاضي قال: نعم أخبرته أنها بمائة ألف، قال: وما الذي تدعي؟ قال المشتري: بل اشتراها بثمانين، فسأله القاضي: هل اشتريتها بثمانين؟ فأنكر وقال: بل اشتريتها بمائة، فقال لك القاضي: أثبت، فأتيت بالبائع الأول الذي باعه وشهد أنه قد باع إليه بثمانين، حينئذٍ تستحق إذا حلفت مع هذا الشاهد يميناً فإن الحقوق المالية تثبت بالشاهد مع اليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد مع اليمين. إذاً: قضية (متى بان) تحتاج إلى إثبات إما بإقرار البائع وهذا في حالة الورع، كشخص يبيعك شيئاً، ثم يتبين أنه أخطأ فجاء وقال لك: نعم. أنا أعترف أنني قد أخطأت في القيمة التي ذكرتها لك. أو بشاهدين عدلين، أو بشاهد ويمين، أو امرأتان تشهدان بأنه باع بهذه القيمة ويمين، أو أربع نسوة يشهدن بهذه القيمة التي ذكرت. بناءً على هذا: فمتى بان أنه اشترى بأقل أو أكثر: بأقل كما ذكرنا في المائة والثمانين، أو أكثر، كأن يكون في حال الخطأ، إذا أخطأ البائع وقال: إنه اشتراها بثمانين، فلما رجع إلى حسابه وجد أنه اشتراها بمائة، كما إذا قال لك: هذه العمارة أبيعها لك بمائة ألف، رأس مالي فيها ثمانون، قلت له: اشتريتها منك على أني أربحك عشرين، وهي ربع الثمانين، ثم تبين أنه أخطأ في تقديره وحسابه، وهذا أيضاً على وجه يعذر فيه، وهذا مما يثبت الخيار له البيوع التي يثبت فيها خيار التخبير بالثمن يقول رحمه الله: [ويثبت في التولية]: أي: هذا النوع من الخيار يثبت في التولية. والتولية: يقال: ولاه الشيء إذا أسند إليه أمره، والمراد بالتولية، أن يقول له: هذه العمارة أو هذه السيارة اشتريتها بكذا والأمر إليك، والعامة اليوم يقولون: رأس مالي كذا والنظر لك، أي: أنت الذي تبت في الأمر، فولى البائع المشتري النظر، فإذا أخبره برأس المال وولاه النظر، فحينئذٍ يكون هذا البيع تولية. قال رحمه الله: [والشركة]: المصنف هنا يريد أن يثبت محل الخيار، وهذا النوع من الخيار في الأصل لا يقع إلا إذا أخبرك برأس المال، ورأس المال يخبر به في بيع التولية، وفي بيع الشركة، وبيع الشركة: كأن يقول لك: اشتريت أرضاً بمائة ألف، هل تدخل معي شريكاً بالنصف؟ أو اشتريتها بمائتين شاركني في النصف شاركني في الربع وقس على هذا، فيذكر لك رأس المال، ويدخلك شريكاً فيه. قال رحمه الله: [والمرابحة]: المرابحة مفاعلة من الربح، والربح أصله النماء والزيادة، وقوله: (المرابحة) هذا النوع من البيوع حقيقته أن تشتري الصفقة وبعد أن تثبت ملكيتك على الصفة تعرضها للبيع، فتقول: رأس مالي فيها مائة، كم تربحني؟ فهذا بيع المرابحة الذي تكلم عليه العلماء وسموه بهذا الاسم وبينوا أحكامه وفصلوا ما يتعلق به من المسائل. أما ما يسمى اليوم ببيع المرابحة في المعاملة الموجودة والشائعة في بعض المؤسسات، من كونه يأتي إلى الشركة أو إلى المؤسسة أو إلى المصرف ويقول له: اشتر لي سيارة من نوع كذا، أو السيارة من فلان، وقسطها عليَّ، وفي بعض الأحيان يذهب العميل ويحضر فواتير السلعة التي يرغب في شرائها، ثم يدفعها إلى البنك، فيقوم البنك بدراستها ثم يشتريها ويبيعها بالأجل على الذي يرغبها من العملاء، فهذا النوع من البيوع لا يعتبر مرابحة وليس في حكم المرابحة أصلاً؛ لأن المرابحة التي تكلم العلماء عليها، تكون في سلعة مملوكة وتحت يد البائع من حيث الأصل، أما هذا النوع من البيوع في العصر الحديث أو الموجود في زماننا هذا، لم يشتر البنك أو المصرف إلا بعد دلالة العميل، فالبنك لا يريد لنفسه، وإنما يريد أن يأخذ زيادة على غرم المال الذي دفعه، فبدل أن يعطي العميل مائة ألف على أن يردها مائة وعشرين، أدخل السلعة حيلة على الزيادة والنماء، ولذلك يعتبر من الربا. وجه ذلك: أن الشريعة لا تلتفت إلى صورة العقد المفضي إلى الربا، ودليل ذلك بيع العينة، فإنك لو جئت إلى بيع العينة: وهي أن تشتري سيارة بمائة ألف، وهذه السيارة التي اشتريتها بمائة ألف اشتريتها مقسطة على عشرة أشهر -مثلاً- كل شهر تدفع فيه عشرة آلاف، فإذا اشتريت السيارة بمائة ألف، وقال الذي باعك: أنا أشتريها منك نقداً بثمانين، آل الأمر إلى أنه أعطاك الثمانين نقداً بالمائة إلى أجل. فلو جئت تتأمل بيع العينة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت صورة البيعين صحيحة، أعني أنه حينما تكون السيارة إلى نهاية السنة تجد أن قيمتها في السوق مائة ألف، فحينما تنظر إلى قيمتها في السوق مائة ألف، فالشريعة لا إشكال أنها تصحح عقداً إلى نهاية السنة على هذه الصورة بمائة ألف. وأيضاً لو جئت تسأل عن هذه السيارة بالنقد وجدتها بثمانين، فكلا البيعين ليس فيه شبهة من حيث الصورة والشكل، ولذلك فالعلماء لا يعتبرون هذا النوع من البيوع -الذي هو بيع العينة- رباً محضا، ً وإنما يعتبرونه ذريعة إلى الربا، وبيع الذريعة صورته شرعية ولكن حقيقته ومآله إلى المحرم، فأنت إذا تأملت تعيين المشتري للصفقة واختياره لها، بل وأخذه حتى لفواتيرها وذهابه إلى المصرف كأنه يقول للمصرف: أرد لك هذه المائة ألف بزيادة، غير أن المصرف حتى يضمن أن المال ذهب في مكانه أعطاه لصاحب السلعة، بدل أن يعطيه بيده أعطاه إلى صاحب السلعة. وأعجب من هذا وأغرب أن يكون هناك اتفاق بين المصرف والمؤسسة أنه إذا رجع الزبون أنه ترد له سلعته، فإذا رجع وغير رأيه ردوا السلعة إليه. فإذاً: لا إشكال أن هذا النوع أولاً ليس بمرابحة حقيقة؛ لأن المرابحة يملك فيها السلعة ويحوزها وحينئذٍ تكون يده يد ملكية، فإذا جاء يشتري إلى أجل فالبيع إلى أجل متمحض وليس فيه أي شبهة؛ لكن في بيع الصورة المحرمة التي ذكرناها لم يشتر البنك ولم يشتر المصرف إلا بإيعاز من العميل، وبدل أن يأخذ العميل المال الذي هو المائة ألف نقداً ويردها مائة وعشرة، لأنه الربا المحض، أدخلا الصفقة احتيالاً على هذا المحرم. ومن هنا كان ابن عباس رضي الله عنه يرى أن تحريم بيع الطعام قبل قبضه بشبهة الربا؛ لأنه إذا اشترى الطعام بمائة ألف حاضرة، ودفع المائة ألف، ولم يقبضه ولم يأخذه ثم باعه في نفس المكان إلى شخص آخر، كأنه يدفع المائة ويأخذ مائة وعشرة، وهذا كله من العلماء إلغاء للصورة ورجوع إلى الحقيقة؛ فلما كانت الصورة صورة بيع، ولكن في الحقيقة أن البنك لم يأخذ السلعة له ولم يردها له، وإنما أخذها بإيعاز من المشتري وطلب منه، ولا إشكال أن هذا من باب دفع المال بالزيادة، إلا أنه بدل أن يعطيه للمشتري وللعميل، قام بإعطاء الطرف الثاني وهو صاحب السلعة المرغوب في شرائها. قال رحمه الله: [والمواضعة]: المواضعة مفاعلة من الوضع، والوضع الطرح، ولذلك يسمى هذا النوع من البيع (بيع الحطيطة)، يقال: حط من الثمن إذا انتقص منه، والمواضعة عكس المرابحة كأن يقول لك: اشتريتها بمائة ألف أضع عنك الربع، بمعنى أنني أبيعها لك بخمسة وسبعين، أو اشتريتها بمائة أضع عنك خمسها، أي: أبيعها لك بثمانين، وقس على هذا. قال رحمه الله: [ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال]: أي: من اللازم في هذه البيوعات كلها معرفة المشتري لرأس المال؛ لأنه لا يستطيع أن يطالب بحقه الذي ظلم فيه في هذا البيع إلا إذا علم أن البائع قد اشترى بأقل، فإذا ثبت عنده أو أثبت عند القاضي أن البائع اشترى بأقل، حق له الخيار، وحينئذٍ يثبت له أن يطالب بالصفة التي سيبينها المصنف رحمه الله صور يثبت فيها خيار التخبير بالثمن قال رحمه الله: [وإن اشترى بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، ولم يبين ذلك في تخبيره بالثمن، فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد]: قوله رحمه الله: [وإن اشترى بثمن مؤجل]: أي: بأن اشترى البائع السلعة بثمن إلى أجل، وجئت تشتري منه فأخبرك بالثمن، ولم يقل لك: مؤجلاً. وذلك لأن القيمة المعجلة ليست كالقيمة المؤجلة، فمثلاً: أنت جئت تريد أن تشتري منه العمارة، قال لك: هذه العمارة اشتريتها بمائتي ألف، وقيمتها في الحقيقة مائة ألف، لكنه اشتراها بمائتي ألف مقسطة، ومن المعلوم أن بيع التقسيط أغلى من بيع النقد، فلما قال: اشتريتها بمائتي ألف وسكت فإن سكوته يقتضي أنه اشترى بالنقد؛ لأن الأصل في البيوعات أن تكون نقداً، فإذا قال لك: اشتريتها بمائتي ألف، وأبيعها بمائة ألف، الذي هو بيع المواضعة، أضع لك نصف القيمة، فحينئذٍ يكون قد ظلمك، وذلك يوهمك أنه قد حط عنك مائة ألف، وهو في الحقيقة لم يحط عنك هذا المبلغ وإنما حط عنك نصفه، وهو خمسون ألفاً، وعلى هذا فإذا قال لك: اشتريتها بمائتي ألف أو بأربعمائة ألف وهو اشتراها بثمنٍ مؤجل فإنه يكون من حقك الخيار؛ لأنه ختلك بذكر القيمة مطلقة، وهي منصرفة إلى النقد، وحقيقة البيع الذي ابتاع به أنه إلى أجل. وقوله: [أو ممن لا تقبل شهادته له]: كأن اشترى العمارة ممن لا تصح شهادته له؛ لأن هناك مستثنيات من الشهادة لا يقبل فيها الشاهد ولو كان عدلاً، وهذا مبني على التهمة، ومن هذه الشهادات شهادة الأصل للفرع والفرع للأصل، فلو قال لك: اشتريتها بمائة ألف، وكان قد اشتراها من أبيه، أو اشتراها من ابنه، فحينئذٍ لا يوثق بهذا الخبر ولا يوثق بشهادة الابن لأبيه ولا بشهادة الأب لابنه. والسبب في هذا: أن شهادة الابن لأبيه وشهادة الأب لابنه فيها إجماع على عدم القبول عند المتأخرين من العلماء رحمهم الله، لكنَّ أهل العلم لما أجمعوا على عدم قبول شهادة الابن لأبيه والأب لابنه اختلفوا في سبب منع هذه الشهادة، فبعض أهل العلم يقول: هذه الشهادة في أصل الشرع غير مقبولة، وعلل ذلك ودلل له بدليل من السنة ودليل من النظر، أما دليله من السنة فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين-: (إنما فاطمة بضعة مني) فقوله: (بضعة) أي: قطعة وبضعة الشيء قطعة منه، وإذا كانت فاطمة رضي الله عنها قطعة من أبيها، فمعناه أن الابن والولد قطعة من والده، فإذا كان الولد قطعة من والده، فإذا شهد له فكأنما يشهد لنفسه، والعكس إذا شهد الوالد لولده كأنه يشهد لنفسه، ومن هنا لم تقبل شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده. ثم أيضاً هناك دليل ثانٍ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم) وهو حديث صحيح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (وإن أولادكم من كسبكم) جعل فيه الولد من كسب والده وكأنه راجع إليه، فإذا شهد له كان بمثابة الشاهد لنفسه. أيضاً هناك دليل من النظر: وهو أن الولد والوالد كل منهما تغلبه عاطفة القرابة، والشهادة إنما قبلت من صاحبها لغلبة الظن بالصدق، وإذا غلب على الظن خلاف الصدق، واتهم الشاهد، كان موجباً للرد، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه غير واحد من العلماء: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين)، و (الضنين): المتهم، كقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] أي: متهم. فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين) دل على أن الشهادة في الرد مبناة على التهم، فإذا شهد الوالد لولده والولد لوالده، فإنه هنا تهمة قوية، ولذلك قالوا: إن هذه الشهادة من حيث الأصل لا تقبل. وبعض العلماء يقول: شهادة الوالد لولده والولد لوالده في الأصل كانت مقبولة، ولكن نظراً لاختلاف الزمان وتغير الزمان تغيرت الفتوى، فكان السلف يقبلونها ثم ردت، وهذا يروى عن الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، إمام السنة في زمانه رحمه الله، يقول: إن السلف كانوا يقبلون شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، وقصة علي رضي الله عنه كانت أصلاً عندهم، وهي ترد هذا الذي ذكره الإمام الزهري رحمه الله، وتقوي القول الأول، خاصة وأن السنة تقوي أن الولد من والده. وسواء قلنا: إنها مردودة بالشرع وهو الصحيح، أو قلنا: إنها مردودة بالإجماع وهو المرجوح، فالمهم أنها لا تقبل لا شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده. لكن لو شهد الولد على والده، أو شهد الوالد على ولده، فحينئذٍ تكون الشهادة مقبولة؛ لأن هذا لا يكون إلا عن حمية للدين وصدق، خاصة إذا عرف الولد بالصدق والأمانة والعدالة، وكذلك الوالد، فإن المسلم الصادق لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن كمال الإيمان أن يكون الإنسان قائماً بالقسط، فيشهد ولو على أقرب الناس إليه. فبناءً على هذا: شهادة الولد لوالده، والوالد لولده فيها تهمة، فلو أنه أخبرك بالثمن واشترى ممن لا تقبل شهادته له، فحينئذٍ يكون لك الخيار. والسبب أننا لا نستطيع أن نتوصل إلى حقيقة القيمة، لوجود الشبهة في صدقه فيما قال وفيما أخبر به، ولذلك يعتبر من موجبات الخيار على الوجه الذي ذكره المصنف رحمه الله. قال رحمه الله: [أو بأكثر من ثمنه حيلة]: أي: أو اشترى بأكثر من ثمنه حيلة. رحمة الله على العلماء، إن من لذة الفقه أنك قد تقرأ المسائل هكذا فتشعر بالسآمة والملل، لكن إذا أردت أن تبحث عن العلل والأسباب وجدت أنهم يرتبون هذه العلل ترتيباً دقيقاً، فهم يبحثون عن شيء يوجب الخيار، وتحصل به التهمة، ويبحثون عن إنصاف المشتري من البائع، وأيضاً إنصاف البائع من المشتري؛ لأن البائع ما جاءك إلا للعدل، ولا بنيت هذه الشريعة إلا على العدل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] فالله عز وجل حكم بهذه الشريعة للعدل. فالمسألة عندنا هنا يكون فيها صدق في الظاهر وحيلة في الباطن، ولما ذكر المصنف رحمه الله القاعدة: (أن يشتري بأكثر حيلة)، ذكر ضابطاً، وهذا له صور وله أمثلة، لكن من أشهرها أن يأتي رجل إلى شخص يحبه كأخيه وقريبه، أو ابن عمه، أو ابن خاله، ويقول له: أشتري منك عمارتك هذه بمائة ألف، والعمارة في الحقيقة تستحق ثمانين ألفاً، وهو يضع في ذهنه أنه سيبيعها مرابحة ولكنه يحتال على المرابحة فيخبر بصدقٍ حقيقتهُ الخداع والغش، فيأتي إلى هذا القريب ويقول له: ما رأيك يا فلان! لو تبيعني عمارتك بمائة ألف، والعمارة قيمتها ثمانون ألفاً، وبطبيعة الحال قد يعلم أن القريب يريد أن يبيع أو لا يريد أن يبيع، لكن القريب بمجرد أن يعلم هذا السعر المغري سيوافق، فاشترى منه العمارة بمائة ألف، هذه العمارة وضعها في الحسبان أنه سيبيعها مرابحة، فجاءه المشتري وقال له: بكم اشتريت هذه العمارة؟ قال: رأس مالي فيها مائة ألف، فهو صادق ولم يكذب؛ لكنه في الحقيقة ختل المشتري وخدعه، وفي الحقيقة كان يبني على ما يرجوه من الزيادة والنماء على طريقة كسب مودة القريب، وأيضاً كسب الربح من الغريب، فهو ينفع القريب بالزيادة التي سيعطيها، وأيضاً ينتفع من الغريب بما يخبره وهو صادق في الظاهر، ولكنه غشاش أو كذاب في الحقيقة؛ لأنه لا يريد أن يخبره أن قيمة السلعة ثمانون ألفاً، ولكنه زاد العشرين من أجل أن يكسب نماء المرابحة، ويثبت هذا عند القاضي بالقرائن. وهذه الصورة مشكلة، فإذا أقر على نفسه فلا إشكال؛ لأن هذا يوجب الخيار، فلو جاء عند القاضي وتاب إلى الله عز وجل، وقال: نعم أنا اشتريت من أخي هذه العمارة، أو اشتريتها من ابن عمي وأعطيته مائة ألف، وأنا أريد أن أبيعها على فلان مرابحة بمائة وخمسين، حينئذٍ إذا ثبت عند القاضي هذا أثبت به الخيار، لكن لو أنه أنكر، وامتنع أن يثبت أنه قصد ختل المشتري فحينئذٍ يصعب على المشتري أن يثبت ذلك؛ لكن يثبت بالقرائن، فيسأل أهل الخبرة، فإذا سأل أهل الخبرة ووجد أن قيمة هذه العمارة في الحقيقة خمسون ألفاً، ووجد أنه اشتراها من قريبه بسبعين ألفاً، أو بثمانين أو بمائة، عند ذلك نعلم أن هناك محاباة وأن هناك قصداً بإدخال النفع إلى القريب، فمن حق القاضي أن يثبت الخيار بشهادة أهل الخبرة في مثل هذا. قال رحمه الله: [أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن]: وهذه كلها صور عجيبة جداً تبين كيف كان العلماء رحمهم الله يعيشون حال الناس ويدخلون إلى أسواقهم، بحيث يدققون في كيفية خداع البائع للمشتري، فهذه الصورة تستغرب كيف استطاع البائع أن يختل المشتري ويخدعه بذكر قسط الثمن الذي فيه غرر في بيع المرابحة. صورة المسألة: أن يشتري ثلاثة أشياء والمسألة هذه لا تقع إلا في أشياء متعددة، كأن يشتري سيارتين، أو عمارتين، أو قطعتين من الأرض، ويبيع إحدى القطعتين ويخبر المشتري على أنها نسبة من أصل البيع، فيجعل المرابحة على أصل الثمن. فمثلاً: اشترى ثلاث سيارات: السيارة الأولى قيمتها أربعون، والسيارة الثانية قيمتها عشرون، والسيارة الثالثة قيمتها ثلاثون، أصبحت القيمة تسعين ألفاً، فيقول: رأس مالي في هذه السيارات الثلاث تسعون ألفاً، ويبيع إحدى السيارات التي هي -مثلاً- بعشرين، بربح، فإذا جاء المشتري وضع في حسبانه أن الباقي يعادل الثلثين، وأن السيارة التي بيعت بيعت على أنها بثلاثين، وحظها من أصل القيمة ثلاثون، فباعها بالربح ثم أخذ أيضاً فضل الربح فيما بقي. صورة ثانية: اشترى ثلاث قطع من الأراضي، فلو فرضنا أنه اشتراها بستين ألفاً، وكانت قيمة القطعة الأولى: أربعين ألفاً، والقطعة الثانية: عشرة، والقطعة الثالثة: عشرة ثم يبيع الأغلى والأنفس والتي قيمتها أربعون، وتبقى له قطعتان قيمتهما عشرون ألفاً، فيأتي ويقول: هذه الصفقة قيمتها ستون ألفاً بعت منها قطعة، كم تربحني في القطعتين؟ فيتوهم المشتري أن القطعتين الباقيتين قيمتهما الأساسية أربعون ألفاً نمثل بال يتبع
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 10 ( الأعضاء 0 والزوار 10) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |