الصالون الأدبي - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4948 - عددالزوار : 2051480 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4524 - عددالزوار : 1319403 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 591 - عددالزوار : 334083 )           »          اكتشف الأسباب الخفية وراء انتفاخ البطن! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 33 )           »          الكافيين: فوائده، أضراره، والكمية الآمنة للاستهلاك يوميًا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          التعايش مع اضطراب ثنائي القطب: دليلك لحياة متوازنة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          7 أطعمة تقوي العظام! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          نصائح بعد خرم الأذن: دليلك الشامل للتعافي بسرعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 29 )           »          ما هي فوائد التبرع بالدم؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          متى يكون فقدان الوزن خطير؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28-11-2024, 07:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (21)









كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أكَّدْنا في المقالِ السَّابقِ على أنّ منهجَ محمود شاكر في قراءةِ الشِّعرِ كان قائمًا على التَّذَوُّقِ، وأنّه معنًى ضِمْنِيٌّ يرجع إلى نَفْسِ القارئِ وذاتِه، وليس مسألةً شكليّةً.

ولكن على القارئِ أن ينتبه إلى أنّ النّاحيةَ الشَّكليّةَ لِلشِّعرِ العربيِّ مسألةٌ في غايةِ الأهمِّيَّةِ، ولن يستطيعَ قارئُ هذا الشِّعرِ بُلوغَ غايتِه؛ التي هي تَذَوُّقُهُ واستخراجُ كمائنِه المُضمَرةِ ودفائنِه الغَامِضَةِ، دون أن يكونَ على درايةٍ تامَّةٍ بهذه النّاحيةِ الشَّكليّة.

قال د. سعد الصلوح في "البلاغة العربيّة والأسلوبيّات الإنسانيّة آفاق جديدة" (ص: ???): (وربما كان النَّصُّ الشِّعْرِيُّ عامَّةً، والعَرَبِيُّ خاصَّةً، والعَرَبِيُّ العَمُودِيُّ على نحوٍ أَخَصّ، أسعدَ حظًّا مِن حيث اشتمالُه -بَادِيَ النَّظَرِ- على علاماتٍ شكليّةٍ، تُوفِّرُ له إطارًا مَحسُوسًا، وتَتَحقَّقُ لِلنَّصِّ بهما سِمَةُ الاستمراريّةِ الظّاهرةِ لِلْعَيانِ؛ ونَعنِي بهما قيامَه على نَوْعٍ مِن الإيقاعِ والتَّقْفِيَةِ بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ مِن الحُرِّيَّةِ، بيد أنّ هذه العلاماتِ الشَّكليّةَ ليست في ذاتِها ضمانًا كافيًا لِتَحَقُّقِ الاستمراريّةِ لِلنَّصّ) (انتهى).

وتَأمَّلْ هذا الضَّابِطَ الدَّقِيقَ مِن د. سعد؛ فقد ذكر أنّ هذا الإطارَ الشَّكْلِيَّ يُحَقِّقُ لِلنَّصِّ الاستمراريّةَ الظَّاهِرةَ فقط، أمّا استمراريّةُ المَضمُونِ والمَعنَى فتحتاجُ إلى تَذَوُّقٍ خاصٍّ، وهذا الإطارُ الشَّكْلِيُّ لِلنَّصِّ هو أحدُ المَعاييرِ الرَّئِيسَةِ في خاصيّةِ التَّمَاسُكِ النَّصِّيّ.

وظاهِرةُ التَّمَاسُكِ النَّصِّيِّ هذه ليست بِدْعًا مِن القَوْلِ مِن النّاحيةِ التَّطْبِيقِيَّ ةِ؛ فإنّك لو تَتَبَّعْتَ كلامَ المُتقدِّمينَ لَوجَدتَ الوَعْيَ الكاملَ لديهم بهذه الظَّاهِرةِ، حتَّى لو لَم يَضعُوا قواعدَها النَّظَرِيَّة.

فقد قال عبد القاهر الجرجاني -ت: ??? هـ = ???? م- في "دلائل الإعجاز" (ص: ?? - ??)، تحقيق وتعليق الأستاذ محمود شاكر: (وهل تَجِدُ أحدًا يقول: هذه اللَّفْظَةُ فَصِيحَةٌ، إلا وهو يَعتبِرُ مكانَها مِن النَّظْمِ، وحُسْنَ مُلائَمةِ معناها لِمَعنَى جاراتِها، وفَضْلَ مُؤانَستِها لِأخَواتِها. وهل قالوا: لَفْظَةٌ مُتَمَكّنَةٌ ومَقبُولَةٌ، وفي خلافِه: قَلِقَةٌ ونَابِيَةٌ ومُستَكرَهةٌ، إلا وغَرضُهم أن يُعبِّرُوا بِالتَّمَكُّنِ عن حُسْنِ الاتِّفَاقِ بين هذه وتلك مِن جهةِ معناهُما، وبالقلقِ والنُّبُوِّ عن سُوءِ التَّلاؤُمِ، وأنّ الأُولَى لَم تَلِقْ بالثّانيةِ في مَعنَاها، وأنّ السّابقةَ لَم تَصْلُحْ أن تَكُونَ لفقًا لِلتّالِيَةِ في مُؤَدَّاها) (انتهى).


فعبد القاهر الجرجاني ينتقل بنا مِن تركيبِ اللَّفْظَةِ الواحدةِ والجُملةِ الواحدةِ إلى نظامِ النَّصِّ الكاملِ، والذي تَكَوَّنَ مِن صياغةِ جُمَلٍ تَفاعَلَتْ مع بعضِها فأعطَتْ نَصًّا أقوى في تَماسُكِه، وأشملَ في معناه، وأبهى في صُورتِه مِن رَسْمِ الجُملةِ الواحدة.

ولا يَخفَى على واعٍ شِدَّةُ تَأَثُّرِ محمود شاكر بمنهجِ عبد القاهر الجرجاني في التَّذَوُّقِ، ومِن هنا تَعرِفُ كيف تَحَوَّلَ التَّذَوُّقُ دَمًا في عُرُوقِه، وعَصَبًا في رَأْسِه.

ونُكْمِلُ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.

واللهُ المُستَعان.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 04-12-2024 الساعة 03:47 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-01-2025, 11:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (25)






كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فَإنِّي مُضْطَرٌّ إلى الْتِمَاسِ مَعْذِرَةِ القَارِئِ المُتَعَجِّلِ، الذي انقاد سَمْعُهُ إلى كلماتٍ، واعتاد بَصَرُهُ على عباراتٍ، لا تتجاوز السَّطْرَينِ أو الثَّلاثةَ، يقول صاحبُها: لقد قضى محمود شاكر عشرَ سنواتٍ مِن العُزْلَةِ، بدأ فيها بإعادةِ قراءةِ كُلِّ ما وقع تحت يدِه مِن الشِّعْرِ العَربيِّ... إلى آخِر تلك الكلماتِ.

وفي الحقيقةِ -عزيزيَ القارئَ- إن أنا فعلتُ ذلك، فَردَّدتُ هذه العباراتِ كالبَبْغاءِ، فقد وافقتُك إلى عادتِك المُسْتَحْكِمَةِ، وأجبتُك إلى عَجَلتِك المُلِحَّةِ، ولكن في الوقتِ ذاتِه جَنَيتُ على العُقابِ، وسَلَبتُ حُرِّيَّتَهُ، فَرَسَفَ في قُيُودٍ مِن الإهمالِ، وانْخَسَفَتْ بيننا وبينه هُوَّةٌ سَحِيقَةُ القَرَارِ، كَهُوَّةٍ بين حَبِيبَيْنِ تَمَادَى بينهما الجَفَاءُ، واشْتَدَّ في بِعَادِهِمَا الكَرْبُ والبَلَاءُ.

وإنَّمَا أمانةُ العِلْمِ تَقْضِي بضَرُورةِ استكشافِ منهجِ العُقابِ في قراءةِ هذا الشِّعْرِ؛ والعُقابُ نَفْسُهُ هو الذي أرشدك إلى مَنْهَجِهِ، فأراحك، وسهَّل لك الطَّريقَ، إذ قد عرَّف منهجَه في كثيرٍ مِن كُتُبِهِ ومقالاتِه، كما بينَّا ذلك مِرَارًا، ناصحًا إيّاك باستقصاءِ الجُهْدِ، مع الأناةِ والصَّبْرِ، وعدمِ الاستكراهِ والعَجَلَةِ، فمِن ذلك قَولُه في مُقدِّمةِ كتابِه: "رسالة في الطَّريق إلى ثقافتنا" (ص: 15، 16): (فمَنْهجِي في "تَذوُّقِ الكلامِ"، مَعنِيٌّ كُلَّ العنايةِ باستنباطِ هذه الدَّفائنِ، وباستدراجِها مِن مَكامِنِها، ومعالجةِ نَظْمِ الكلامِ ولَفْظِهِ معالجةً تُتِيحُ لي أن أَنْفُضَ الظَّلامَ عن مَصُونِها، وأُمِيطَ اللِّثَامَ عن أَخْفَى أسرارِها وأَغْمَضِ سَرائِرِها.

وهذا أمرٌ لا يُستطَاعُ ولا يَكُونُ له ثمرةٌ إلا بالأناةِ والصَّبْرِ، وإلا باستقصاءِ الجُهْدِ في التَّثَبُّتِ مِن معاني ألفاظِ اللُّغةِ، ومِن مَجَارِي دلالاتِها الظَّاهرةِ والخَفِيَّةِ، بلا استكراهٍ ولا عَجَلَةٍ، وبلا ذَهابٍ مع الخَاطرِ الأوَّلِ، وبلا تَوَهُّمٍ مُسْتَبِدٍّ تُخْضِعُ له نَظْمَ الكلامِ ولَفْظَه) (انتهى).

ولا شَكَّ في أنَّ هذه العادةَ التي استَحكَمَت في المُتَلَقِّينَ سببُها الرَّئِيسُ هم كثيرٌ مِن الأدباءِ والنُّقَّادِ والمُفكِّرينَ، الذين نَراهُم -قديمًا وحديثًا- يَحومُونَ حول الأدبِ، ولا يَتَوَغَّلُونَ فيه، ويَطُوفُونَ حول النُّصُوصِ، ولا يَملِكُونَ مهارةَ تحليلِها، واستخراجِ أسرارِها، واستدراجِها من مَكامِنِها.

ومِن ذلك أنَّك تَجِدُهُم يَسْتَنْفِدُونَ جُهْدَهُمْ في الكلامِ عن المُتَنَبِّي نَفْسِهِ، دون أن يتناولوا دِيوانَه بالدِّراسةِ والتَّحلِيلِ واستخراجِ مَكنُونِه والكَشْفِ عن حقيقتِه.

وقد قال النَّاقِدُ الأديبُ الشَّاعِرُ الدُّكتور أحمد هيكل (1922 – 2006) -وزيرُ الثَّقافةِ الأسبقُ- في هذا المَضمُونِ: (لا يَكفِي العملَ في حَقْلِ الدِّراسةِ الأدبيَّةِ الجانبُ النَّظَرِيُّ والجانبُ التَّأريخِيُّ، وإن كان هذا مَطلُوبًا جدًّا، فَالْأَبْقَى منه والْأَخْلَدُ ورُبَّمَا الْأَفْيَدُ لِلدَّارِسينَ ولِجَمْهَرَةِ القُرَّاءِ هو الدِّرَاسَةُ التَّطْبِيقِيَّةُ لِلنُّصُوصِ، التي تُقَرِّبُ النُّصُوصَ مِن وِجْدَانِ المُتَلَقِّينَ، وتَجعَلُها مَيسُورةً، وتَجعَلُ ما يُقَالُ عن الأدبِ نَظَرِيًّا أو تَأْرِيخِيًّا أو نَقْدِيًّا مُوَثَّقًا بهذه النُّصُوصِ المَدرُوسَةِ دِرَاسَةً مَنْهَجِيَّةً) (انتهى).

ولأحمد هيكل كِتَابٌ قَيِّمٌ في هذا البابِ، اسمُه "قصائد أندلسيَّة"، وتَضَمَّنَ الكِتَابُ دِرَاسَةً نقديَّةً تطبيقيَّةً لِنُصُوصٍ مِن الشِّعْرِ الْأَنْدَلُسِيِّ، لِثَلاثَةٍ مِن شُعَراءِ الأندلسِ الكِبَارِ؛ هم:

1- ابنُ زَيْدُونَ (ت: 463)، الشَّاعِرُ الذي عاش في عَصْرِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ.

2- ابنُ خَفَاجَةَ (ت: 533)، شَاعِرُ الطَّبِيعَةِ، الذي عاش فَتْرَةً مِن حياتِه في أيَّامِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، ثُمَّ فَتْرَةً في أيَّامِ المُرَابِطِينَ.

3- ابنُ حَمْدِيسَ الصِّقِلِّيُّ (ت: 527)، ابنُ صِقِلِّيَّةَ، حينما كانت إِسْلَامِيَّةً.

فَاحْرِصْ على اقْتِنَائِه، وجِدَّ في شِرَائِه.


والعُقابُ لَم يَكْتَفِ بإرشادِنا إلى مَنهجِه، بل أَخْبَرَنَا بالمَصادرِ الأصليَّةِ التي استَقَى منها مَنهجَه، وكان مِن أهمِّها: دَلائِلُ الإعجازِ لِعبدِ القَاهرِ الجُرْجَانِيِّ، فقد قال -كما ذَكَرْنَا في المَقالِ السَّابقِ- في مُقدِّمةِ عملِه على كتابِ "دلائل الإعجاز" (ص: 3): (فمنذُ دهرٍ بعيدٍ، حين شَققتُ طريقيَ إلى تَذَوُّقِ الكلامِ المكتوبِ، منظومِه ومنثورِه، كان مِن أوائلِ الكتبِ التي عكَفتُ على تذَوُّقِهَا كتابُ "دلائل الإعجاز"، لِلشَّيخِ الإمامِ "أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجُرْجَانِيّ"، الأديبِ النَّحْويّ، والفقيهِ الشَّافعيّ...) (انتهى).

لِذَا فَلا بُدَّ لنا مِن إكمالِ هذه الوَقَفَاتِ مع كتابِ "دلائل الإعجاز"، وكي تَكُونَ تمهيدًا لِتَنَاوُلِه بِالدِّرَاسَةِ والتَّحْلِيلِ عند الكلامِ عن مُؤَلَّفَاتِ محمود شاكر وتحقيقاتِه.

واللهُ المُوَفِّقُ والمُسْتَعَانُ.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14-01-2025, 10:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (26)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد سَعَى العُقَابُ في التَّعْرِيفِ بِمَنْهَجِهِ في التَّذَوُّقِ، والتَّأْرِيخِ له، وتَقْرِيبِهِ إلى عُقُولِ النَّاشِئَةِ وجَمْهَرَةِ المُتَعَلِّمِينَ والمُثَقَّفِينَ، وكان هذا دَأْبَهُ في كَثِيرٍ مِمَّا كان يَنْشُرُهُ مِن مَقَالَاتٍ في المَجَلَّاتِ والصُّحُفِ السَّيَّارةِ التي يَقْرَأُهَا جُمْهُورٌ مُتَفَاوِتُ الثَّقَافَةِ، مُخْتَلِفُ المَشَارِبِ، مُتَعَدِّدُ التَّخَصُّصِ.

ومِمَّا ذَكَرَهُ في هذا المَجَالِ، في مَقَالَةٍ نَشَرَهَا في مَجَلَّةِ "الثَّقَافَةِ" (السَّنة السَّادسة، العدد 63 ديسمبر سنة 1978، 4 – 17)، عُنْوَانُهَا: "المُتَنَبِّي لَيْتَنِي ما عَرَفْتُهُ (3)" قَوْلُهُ: (تَارِيخُ "التَّذَوُّقِ" عِنْدِي: أنتَ مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ، وأنا مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ، وآلافٌ مُؤَلَّفَةٌ مِن المُثَقَّفِينَ وغَيْرِهِمْ -قديمًا وحديثًا- مُتَذَوِّقُونَ لِلشِّعْرِ، أُوه، نَسِيتُ، وحتَّى لا أُعَدَّ مُتَجَنِّيًا أو مُقَصِّرًا، والدُّكتور طه حسين أيضًا مُتَذَوِّقٌ لِلشِّعْرِ؛ و"التَّذَوُّقُ" عند جميعِنا قائمٌ في النَّفْسِ، ولا يَجْمَعُ بيننا في الحقيقةِ إلا هذا اللَّفْظُ "التَّذَوُّق".

أمَّا وسائلُ "التَّذَوُّقِ" وأسبابُه وطَرائقُه وأساليبُه، فمُختلِفةٌ بيننا اختلافًا يكاد يَبلُغُ مِن الكثرةِ عددَ المُتَذَوِّقِين، ولا يستطيعُ أحدُنا أن يُلزِمَ الآخَرَ بما يَجِدُهُ قائمًا في نَفْسِهِ مِن وسائلِ "التَّذَوُّقِ" وأسبابِه وطَرائقِه وأساليبِه، هذا مستحيلٌ -إن شاء الله-، وكُلُّ ما يُمكِنُ أن يَكُونَ، أن يَقَعَ مِن جميعِنا، أو مِن بعضِنا، اتِّفَاقٌ على مَظْهَرٍ أو أكثرَ مِن مَظَاهِرِ "التَّذَوُّقِ"، وعلى غَيْرِ تَوَاطُؤٍ مِنَّا أو مِن بعضِنا؛ أمَّا الاتِّفَاقُ على طبيعةِ "التَّذَوُّقِ" وعلى وسائلِه ودرجاتِه وأبعادِه، اتِّفَاقًا قاطعًا لِكُلِّ شُبْهَةِ اختلافٍ أو تَبَايُنٍ أو تَضَادٍّ، فهذا ما لا يَكُونُ البَتَّة.

وهذا تفسيرٌ آخَرُ يَزِيدُ ما قُلْتُهُ قديمًا وُضُوحًا، إذ قُلتُ في المَقالتَينِ السَّالفتَينِ: "إنَّ التَّذَوُّقَ معنًى عامٌّ مُشتركُ الدَّلالةِ بين النَّاسِ جميعًا، وهو يَقِلُّ ويَكْثُرُ، ويَعْلُو ويَسْفُلُ، ويَصْقُلُ ويَصْدَأُ، ويَجُودُ ويَفْسُدُ، ولكنَّه حاسَّةٌ لا غِنَى عنها لِلإنسان"، وقُلتُ أيضًا: "إنَّ التَّذَوُّقَ لفظٌ مُبهَمٌ مُجمَلُ الدَّلالةِ، ولِكُلِّ حَيٍّ عاقلٍ مُدْرِكٍ منه نَصِيبٌ يَقِلُّ ويَكْثُرُ، ويَحْضُرُ في شيءٍ ويَتَخَلَّفُ في غَيْرِهِ، وتَصْقُلُهُ الأيَّامُ والدُّرْبَةُ، وتَرْهَنُهُ جَوْدَةُ المعرفةِ والصَّبْرُ على الفَهْمِ والمُجَاهَدَةُ في حُسْنِ الإِدْرَاك".

وقد فَرَغْتُ في المقالةِ السَّالفةِ مِن الدَّلالةِ على أنَّ لفظَ "التَّذَوُّقِ"، مَصْدَرٌ دَالٌّ على حَدَثٍ (أيْ فِعْلٍ) مُبْهَمٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنٍ، ولا مُتَمَيِّزٍ، قَابِلٍ لِلتَّعَدُّدِ والاختلافِ والتَّنَوُّعِ، أيْ أنَّه، كما قُلتُ، كسائرِ أخواتِه مِن الأحداثِ المُبْهَمَةِ، هي ذاتُ نَمَاءٍ سَابِغٍ مُتَوَهِّجٍ، وذاتُ غِنًى مُفْعَمٍ، وذاتُ ثَرَاءٍ مَكْنُوزٍ، وأنَّها أيضًا ذاتُ خَطَرٍ مَرْهُوبٍ، لِمَا فيها مِن قُوَّةٍ غَامِضَةٍ تَجْعَلُهَا قَادِرَةً قُدْرَةً مُطْلَقَةً على تَضْلِيلِ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم.

وقد نشأتُ أنا في زمنٍ كانت فيه هذه اللَّفظةُ "التَّذَوُّقُ" شائعةً كثيرةَ الاستعمالِ في الصُّحُفِ والمَجَلَّاتِ، فتَلَقَّنْتُها تَلَقُّنًا وأنا في أَوَّلِ الصِّبَا وخَفَّتْ على اللِّسَانِ ونَشَبَتْ فيه كسائرِ ما نَتَلَقَّنُهُ مع الصِّغَر، فكان إبهامُها وقَبولُها لِلتَّعَدُّدِ والتَّنَوُّعِ بِنَمائِها وغِناها وثَرائِها يُثِيرُ في النَّفْسِ لَذَّةً ونَشْوَةً واهتزازًا ونحن نُحَاوِلُ أن "نَتَذَوَّقَ" الشِّعْرَ والنَّثْرَ، ثُمَّ سَائِرَ الفُنُونِ الدُّنْيَا) (انتهى).

ونُكْمِلُ كلامَ العُقَابِ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.

واللهُ المُسْتَعَانُ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 22-01-2025, 12:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربيّةِ: الأستاذ محمود محمد شاكر) (27)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُكْمِلُ العُقَابُ حِكَايَتَهُ مع التَّذَوُّقِ في مَقَالَتِهِ التي نَشَرَتْهَا مَجَلَّةُ "الثَّقَافَةِ"؛ فَيَقُولُ: (ولَكِنَّ التَّفْكِيرَ في حقيقةِ "التَّذَوُّقِ" ما هو، لَم يَكُنْ دَاخِلًا في منطقةِ الوَعْيِ، ولا غَائِبًا أيضًا عن منطقةِ الوَعْي.
اسْتِطْرَادٌ: أرجو أنْ لا تَتَذَكَّرَ أنَّ هناك شيئًا حَادِثًا شَبِيهًا بهذا في مسألةِ "غَيْبَةِ الوَعْيِ" و"عَوْدَةِ الوَعْيِ" -هما كتابانِ لِلأستاذِ توفيقِ الحكيمِ-؛ لِأنَّنا هنا نَتكلَّمُ في فَنِّ الأدبِ والشِّعْرِ، لا في فَنِّ التَّمثيلِ والتَّهريجِ، وأيضًا لِأنَّ اللهَ عافاني مِن أنْ أُسْلِكَ نَفْسِيَ في عِقْدِ "الأساتذةِ الكِبَارِ"، فلذلك لَم أَتَعَلَّمْ هذه الفُنُونَ لا صغيرًا ولا كبيرًا، فليس بيني وبينها عَمَلٌ، وكذلك لفظُ "الوَعْيِ" هنا، ليس بينه وبين هذا اللَّفظِ عندهم عَمَلٌ؛ لا تَنْسَ ذلك أيُّها العزيزُ.
فَمُنْذُ الآنَ، سَأَقُصُّ عليك القِصَّةَ كاملةً "قِصَّةَ التَّذَوُّقِ"، لِأنِّي رأيتُك قد جُرْتَ عليَّ فيها جَوْرًا ما كان ينبغي أنْ يَكُونَ، جَوْرٌ هو أَشَدُّ مِن جَوْرِيَ الذي زعمتَه على صاحبِك الدُّكتور؛ سَأُبَيِّنُ لك تاريخَ "التَّذَوُّقِ" عِنْدِي، وبعضَ مَعانِيهِ عِنْدِي أيضًا، ومَنْهَجِيَ الذي مَلَكْتُهُ وطَبَّقْتُهُ في جميعِ ما كَتَبْتُ، ومِن خلالِ ذلك تَعْلَمُ -إنْ شاء اللهُ- إنِّي لَم أَظْلِمْ الدُّكتور طه حَبَّةَ خَرْدَلٍ في كُلِّ ما كَتَبْتُهُ عنه أو وَصَفْتُهُ به، بَلْ لَعَلِّي أَسَأْتُ أَبْلَغَ الإساءةِ حين تَغَاضَيْتُ عن كثيرٍ مِمَّا كان ينبغي أنْ أَقُولَهُ فيه قديمًا وحديثًا.
لَعَلَّكَ تَذْكُرُ أنِّي قد تَحَدَّثْتُ في مُقدِّمةِ كتابيَ "المُتنبِّي: 1/ 11-15"، وقُلْتُ: "إنِّي حَفِظْتُ "المُعَلَّقَاتِ العَشْرَ الجَاهِلِيَّةَ" صغيرًا، وإنَّ مَعْرِفَتِي بها لَم تَزِدْ قَطُّ على أنْ تَكُونَ زيادةً في ثروةِ مَعْرِفَتِي بِالْعَرَبِيَّةِ وبِشُعَرَائِهَا وشِعْرِهَا، وإنَّ قراءتيَ بعضَ أُصُولِ كُتُبِ الأدبِ والشِّعْرِ على الشَّيْخِ سيِّد بن علي المَرْصَفِي، شَيْخِي وشَيْخِ الدُّكتور طه مِن قَبْلِي، نَقَلَتْنِي مِن هذا الطَّوْرِ إلى طَوْرٍ آخَرَ، أَوْغَلَ بي في الحَفَاوَةِ بِالشِّعْرِ الجاهليِّ، وفي الحِرْصِ على قراءتِه وتَتَبُّعِ قَوَاصِيهِ ونَوَادِرِه، وإنَّ قراءتيَ على الشَّيْخِ أَوْقَفَتْنِي على شَيْءٍ مُهِمٍّ جِدًا، شَغَلَنِي، واسْتَوْلَى على لُبِّي وعلى نَفْسِي، فَعُدْتُ أَدْرَاجِي أَقْرَأُ دواوينَ الشُّعَرَاءِ الجاهليِّينَ، دِيوَانًا دِيوَانًا، شَاعِرًا شَاعِرًا، ومَن لَم أَجِدْ له منهم دِيوَانًا جَمَعْتُ لِنَفْسِي ما بَقِيَ مِن شِعْرِهِ وقَرَأْتُ شِعْرَهُ مُجْتَمِعًا؛ وهذا المَسْلَكُ في ترتيبِ القراءةِ جعلني أَجِدُ في الشِّعْرِ الجاهليِّ شيئًا لَم أَكُنْ أَجِدُهُ مِن قَبْلُ وأنا أَقْرَأُ الشِّعْرَ الجاهليَّ مُتَفَرِّقًا على غَيْرِ نِظَامٍ، مُبَعْثَرًا بين الشُّعَرَاءِ المُختَلِفِينَ؛ أو وأنا أَحْفَظُ هذه "المُعَلَّقَاتِ العَشْرَ الجَاهِلِيَّةَ"، وأُدَارِسُهَا وأَتَتَبَّعُ مَعَانِيَ ألفاظِها، مع اختلافِ مَعانِيها وأغراضِها" (المتنبي 1/ 14)" (انتهى).
ونُكْمِلُ الحِكَايةَ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
فَاللَّهُمَّ يَسِّرْ وأَعِنْ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-03-2025, 11:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصالون الأدبي (مع عقاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر (31)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُواصِلُ الأستاذ محمود شاكر حكايةَ رحلتِه مع "التَّذَوُّقِ" بلفظِه المُونِق، وأسلوبِه المُشْرِق؛ فيقول: (فارَقتُ الجامعةَ سنة 1928، وانطوى الماضي كُلُّه بما فيه، وبمَن فيه أيضًا، ذهبتُ بعيدًا وحيدًا لا رفيقَ لي غير "قضيَّة الشِّعر الجاهليّ"، كما شرحتُها لك آنفًا، والتي لَم تلبث أن أنشأتْ لنفسها صاحبةً لا تفارقها، هي إعادة النَّظر في شأن "إعجاز القرآن".
كان لفظُ "التَّذَوُّقِ" فاشيًا في الألسنةِ والأقلامِ، لا يكاد أحدُنا يَشُكُّ في أنَّه معنًى مفهومٌ واضحٌ مفروغٌ منه، ومع الأيَّامِ الطُّوَالِ المُوحِشَةِ، وشيئًا فشيئًا، بدأ ما كنتُ أجدُه في نفسي عند قراءةِ الشِّعرِ الجاهليِّ وغيرِ الشِّعرِ الجاهليِّ، والذي سمَّيتُه لك آنفًا "ما وراءَ التَّذَوُّقِ"، والذي كان ما أقولُه عنه غيرَ مُبِينٍ ولا واضحٍ، والذي أنكَرَه عليَّ أساتذتي مِن قَبْلُ، ورفَضَه الدُّكتور طه رفضًا كاملًا، أخذ هذا يَدفَعُني إلى سُلُوكِ طريقٍ آخَر، يعتمد على جَسِّ الكلماتِ والألفاظِ والتَّراكيبِ جَسًّا مُتَتابِعًا بالتَّأمُّل، ثُمَّ عليَّ الرُّجُوعُ إلى أُصُولِهَا في المَعاجمِ مع التَّدقيقِ في مَكْنُونِ معانيها المُختلِفة، ثُمَّ في دلالاتِها وظِلالِ دلالاتِها عند كُلِّ شاعرٍ أو كاتبٍ، ثُمَّ دخلتُ في مُقارَناتٍ كثيرةٍ بين المُتشابِهاتِ والمُتبايِناتِ، وشيءٍ كثيرٍ بعد ذلك كان يَفرضُ نَفْسَهُ على طريقي فرضًا.
يومئذٍ بدأ لفظُ "التَّذَوُّقِ"، بمفهومِه الذي عهدتُه، بدأ يتزعزعُ مِن حيثُ نشب مِن نفسي ومِن لساني، ورأيتُه لفظًا مُبهَمًا مُجْمَلَ الدَّلالةِ، لفظٌ غامضٌ مُظلِمٌ، مُضَلِّلٌ بِتَعَدُّدِ صُوَرِهِ واختلافِها وتَنَوُّعِهَا، ولكنِّي لَم أستطع أن أطرقَ بعيدًا، لأنَّ الذي أجدُه في نَفْسِي ممَّا سمَّيتُه "ما وراءَ التَّذَوُّقِ"، كان لا يَزالُ صاحبَ سُلْطانٍ عليَّ مُطَاعٍ، فكان يَقْبِضُنِي عن الطَّيْشِ والمُجازَفةِ بطرحِه، فبينهما صِلَةٌ خَفِيَّةٌ أُحِسُّهَا، وإن كنتُ غيرَ قادرٍ على تَبَيُّنِهَا.
وهذا الذي استولى عليَّ وخامَرَني في شأنِ "التَّذَوُّقِ"، رَمَاني بغتةً في حَوْمَةِ الارتيابِ وفُوجِئتُ بلفظٍ آخَرَ هو لفظُ "البلاغةِ" الذي يدور عليه القَولُ في "إعجازِ القُرآنِ"، والذي يُوصَفُ به الكلامُ فيُقالُ: "كلامٌ بليغٌ"، فإذا هو أيضًا عندي الآن لفظٌ مُبهَمٌ شديدُ الإبهامِ، ونَفَرَتْ جَهَنَّمُ بين شِدْقَيْهَا تريد أن تَبْتلِعَني.
ضاقَت عليَّ الأرضُ بما رَحُبَتْ، بَيْدَ أنِّي كُلَّمَا أعدتُ النَّظَرَ وجدتُ "الذَّوْقَ" حقيقةً كامنةً في نَفْسِي، ووجدتُ "البلاغةَ" أيضًا حقيقةً ظاهرةً تفرضُ سُلْطانَها على نَفْسِي، ولكنِّي كُلَّمَا حاولتُ أن أعرفَ لهما بيانًا أو حدًّا بلغ فيَّ الإعياءُ كُلَّ مَبْلَغٍ) (انتهى).
وتستمر الحكايةُ في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
واللهُ -سبحانه- المُوَفِّقُ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 19-03-2025, 04:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (33)




كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُواصِلُ العُقابُ حكايتَه مع الشِّعْرِ الجاهليِّ في مقالتِه التي نشرتْها مَجَلَّةُ "الثَّقافةِ"؛ فيَقولُ: "ولَم أُجَاوِزْ حَدَّ تطبيقِ منهجي هذا في القليلِ الذي كتبتُه، مِمّا نشرتُه وعمّا سوف أنشرُه بعد قليلٍ -إن شاء الله-، ولكنّه تطبيقٌ لا أكثر ولا أقلّ.
وما دُمْنَا في حَيِّزِ التَّاريخِ فسأقِفُك على كلامَين: أحدهما: يصفُ الشِّعْرَ الجاهليَّ في أوَّلِ أمري حين قرأتُ كما حدَّثْتُك. والآخَر: يصفُ الشِّعْرَ الجاهليَّ بعد ذلك بزمانٍ طويلٍ، لمّا كتبتُ مُقدِّمةَ كتابيَ المُتَنبِّي (1/ 14) في سنة 1977م، وصفتُ قديمَ إحساسي بالشِّعْرِ الجاهليِّ في سنة 1927م وما قبلها، فقلتُ:
1- "وجدتُ يومئذٍ في الشِّعْرِ الجاهليِّ ترجيعًا خفيًّا غامضًا كأنّه حفيفُ نَسِيمٍ تسمعُ حِسَّهُ وهو يتخلَّلُ أعوادَ نَبْتٍ غَمِيمٍ مُتكاثِفٍ، أو رنينُ صوتٍ شجيٍّ ينتهي إليك مِن بعيدٍ في سُكونِ ليلٍ داجٍ وأنت محفوفٌ بفضاءٍ مُتباعِدِ الأطرافِ، وكان هذا التَّرجيحُ الذي آنَستُه مشتركًا بين شُعراءِ الجاهليَّةِ الذين قرأتُ شِعْرَهُم، ثُمَّ يمتازُ شاعرٌ مِن شاعرٍ بجرسٍ ونغمةٍ وشمائلَ تتهادى فيها ألفاظُه، ثُمَّ يختلفُ شِعْرُ كُلِّ شاعرٍ منهم في قصيدةٍ مِن شِعْرِه، وبدَندَنةٍ تعلو وتخف تبعًا لِحركةِ وِجدانِه مع كُلِّ غرضٍ مِن أغراضِه في هذا الشِّعْر".
هكذا كنتُ أجدُ الشِّعْرَ الجاهليَّ قبل أن أنتهيَ إلى المرحلةِ التي وجدتُ عندها منهجًا أستطيعُ أن أُعِيدَ عليه قراءةَ هذا الشِّعْرِ، وإن كنتُ قد كتبتُه بعد انقضاءِ خمسينَ سنةً، ولكنِّي في سنة 1961م وصفتُ هذا الشِّعْرَ نَفْسَهُ في مُقدِّمةِ كتابِ صديقٍ لي -رحمه الله- (كتب الأستاذ شاكر هذه المُقدِّمةَ لِكتابِ "الظّاهرةِ القُرآنيّةِ" لِمالك بن نبي سنة 1958)، فقلتُ:
2- ولقد شغلني "إعجازُ القُرآنِ" كما شغل العصرَ الحديثَ، ولكن شغلني أيضًا هذا "الشِّعْرُ الجاهليُّ" وشغلني أصحابُه، فأدّاني طولُ الاختبارِ والامتحانِ والمُدارَسةِ إلى هذا المذهبِ الذي ذهبتُ إليه، حتى صار عندي دليلًا كافيًا على صِحَّتِه وثُبوتِه؛ فأصحابُه الذين ذهبوا ودرجوا وتبدَّدَت في الثَّرى أعيانُهم، رأيتُهم في هذا الشِّعْرِ أحياءً يَغدُونَ ويَروحُونَ، رأيتُ شابَّهُم ينزو به جهلُه وشيخَهُم تَدلِفُ به حكمتُه، ورأيتُ راضِيَهم يستنيرُ وجهُه حتى يُشرقَ وغاضِبَهم تَرْبَدُّ سَحْنَتُهُ حتى تُظلِمَ، ورأيتُ الرَّجُلَ وصديقَه، والرَّجُلَ وصاحِبَتَه، والرَّجُلَ الطَّرِيدَ ليس معه أحدٌ، ورأيتُ الفارسَ على جَوادِه، والعاديَ على رِجلَيه، ورأيتُ الجماعاتِ في مبداهم ومحضرِهم، فسمعتُ غزلَ عُشّاقِهم، ودلالَ فتياتِهم، ولاحت لي نيرانُهم وهم يَصطَلُونَ، وسمعتُ أنينَ باكيهم وهم لِلْفِرَاقِ مُزمِعُونَ؛ كُلُّ ذلك رأيتُه وسمعتُه مِن خلالِ ألفاظِ هذا الشِّعْرِ، حتى سمعتُ في لفظِ الشِّعْرِ همسَ الهامِس، وبُحَّةَ المُستكِين، وزَفْرةَ الواجِد، وصرخةَ الفَزِع، وحتى مثلوا بشِعرِهم نُصْبَ عيني، كأنِّي لَم أفقدهم طرفةَ عين، ولَم أفقد منازلَهم ومعاهدَهم، ولَم تغب عنِّي مذاهبُهم في الأرضِ، ولا شيءٌ ممّا أحسُّوا ووجدوا، ولا ممّا سمعوا وأدركوا، ولا ممّا قاسوا وعانوا، ولا خفي عنِّي شيءٌ ممّا يكون به الحيُّ حيًّا على هذه الأرضِ التي بقيت في التّاريخِ معروفةً باسم: جزيرة العرب" (انتهى).
وتَستمِرُّ الحكايةُ في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
واللهُ المستعان.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 06-05-2025, 07:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (35)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيَتجدَّدُ اللِّقاءُ بالقُرّاءِ الأعِزّاءِ، ويواصلُ العُقابُ حكايتَه مع التَّذوقِ قائلًا: "وكلامي -خفتُ- يوشكُ أن يوهمَ أنّ "التَّذوقَ" عملٌ آخَرُ مستقلٌّ مِن أعمال هذه القدوة، مقصورٌ على استبانة دفائن الكلام الدالّة على آثار العواطف والنَّوازع والطَّبائع النّاشبة فيه، وعلى التقاط الملامح العالقة التي يمكن بالملاطفة أن تحسرَ اللثامَ عن بعض معارف ضمير مُنشئِها وصورتِه وهيئتِه.
وخفتُ أيضًا أن يظنَّ ظانٌّ أنّ هذا عملٌ آخَرُ هو غير عملها في استبانة صور المعاني القائمة التي كانت في نفس مُنشئِها، والتي هي في الحقيقة ما نُسمِّيه "البلاغة".
وخفتُ أيضًا أن يَتوهَّمَ مُتوهِّمٌ أنّ أحدَ العملَين ممكن أن يتم بمعزل عن العمل الآخَر.
ليس كُلُّ ذلك صحيحًا أو ممكنًا؛ لأنَّ صاحبَ "الإبانةِ" و"الاستبانةِ" واحدٌ غير قابل للتجزئة، وهو "القدرة على البيان"، ولأنّ طلبَ "الاستبانةِ" لجميع ما تطلبه في "الكلامِ" المُتلقَّى مِن خارجٍ مُتداخلٍ مُمتزجٍ في حيِّزٍ واحدٍ هو نفسُ "الكلامِ" المُتلقَّى مِن خارج، ولأنّ جميعَ ذلك حدثٌ واحدٌ متلازمٌ أيضًا في زمنٍ واحدٍ مُختطفٍ مُتلاحقٍ لا يمكن تثبيتُه أو تقسيمُه.
وإذًا فهو على التَّحقيقِ عملٌ واحدٌ خاطفٌ لا يتجزَّأ، وإنَّما نحن الذين نتولّى الفصلَ بين شيءٍ منه وشيءٍ بعد تمام العمل الواحد جميعه، على قدر ما عندنا مِن الرَّغبة وتوجيه العناية إلى إبراز شيءٍ منه دون شيء.
وأظنُّه صار قريبًا ممكنًا أن نتخطَّى كلامًا كثيرًا ونُفضي إلى نتيجةٍ مُوجزةٍ، هي أنَّ "التَّذوقَ" يقعُ وقوعًا واحدًا، في زمنٍ واحدٍ، على كُلِّ "كلامٍ"، بليغًا كان أو غيرَ بليغٍ، ثُمَّ يفصل عن "الكلامِ" ومعه خليطٌ "واحدٌ" ممزوجٌ متشابكٌ غيرُ مُتَميِّزٍ بعضُه مِن بعضٍ، وفي هذا الخليطِ أهمُّ عُنصرَين" (انتهى).
وإلى لقاءٍ قادمٍ -إن شاء الله-.
واللهُ المستعان.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 18-05-2025, 10:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصَّالون الأدبي (مع عُقَابِ العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (36)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيُواصلُ محمود شاكر حكايتَه مع التَّذوق في مقالتِه التي نشرتها مَجَلَّةُ "الثَّقافةِ"؛ فيَقولُ: "العنصر الأول: ما استخرجه "التَّذوق" مِن العلائق الباطنة الخفيَّة الناشبة في أنفس الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، وهذا في جملته يجعلنا قادرين على أن نستخلصَ منه ما يحدد بعض الصفات المميزة التي تدل على طبيعة منشئ الكلام، أي على بعض ما يتميز به من الطبائع والشمائل، أو ما شئتَ مِن هذا الباب.
والعنصر الثاني: ما استخرجه "التَّذوق" مِن العلائق الظاهرة بين أنفس الأحرف والكلمات والجمل والتراكيب والمعاني، وهذا في جملته يجعلنا قادرين على أن نستخلصَ منه ما يحدد بعض الصفات المميزة التي تدل على طبيعة الكلام نفسه، أي: على ما يتميز به من "السذاجة" و"البلاغة"، أو ما شئتَ مِن هذا الباب.
والإحساسُ بهذين العُنصرَين الخليطَين إحساسٌ سريعٌ، خاطفٌ، ناقدٌ، لطيفٌ، دقيقٌ، دفينٌ، قائمٌ في النَّفْس لأول وهلةٍ عند سماع كل كلامٍ أو قراءته، مِن العسير عليَّ أن أتقصَّاه هنا أو أُعبِّرَ عنه تعبيرًا واضحًا في كلماتٍ قلائل، ولكن كل أحدٍ قادرٌ على تبينه بالأناةِ والتَّوقف، وبالتَّأمل والدُّرْبة، فيما أظن، ولكنَّه على كُلِّ حالٍ إحساسٌ خفيٌّ مكنونٌ مُقنَّعٌ بقناعٍ مِن الكتمان، يحتاج إلى ما يهتك عنه هذا القناعَ حتى يسفرَ ويستبينَ وينجلي، ثم يبوح بما عنده.
ولكن ليس أمرُ "التَّذوق" في الحقيقة محفوفًا بمثل هذه القسوة والصَّرامة التي ألجأتني إليها طبيعةُ حديثي عنه، وطبيعةُ اللُّغةِ التي تجعلنا "اضطرارًا" أن نجسد ما لا يتجسد؛ فما مِن إنسانٍ حيٍّ عاقلٍ مُدركٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ، جاهلٍ أو عالمٍ، قَلَّ عِلمُه أو كثر، إلا و"التَّذوق" حاضرٌ في دخيلته حضورًا ما؛ لأنَّه "إنسانٌ" قد أودع اللهُ في بنائِه هذه الأعجوبةَ النَّفيسةَ الغاليةَ التي صار بها إنسانًا، وهي "القدرة على البيان"، فهو إِذَنْ على هذا "التَّذوق"؛ لأنَّه ما مِن شيءٍ يسمعه أو يبصره أو يحسه أو يذوقه، أو يتوهمه أيضًا، إلَّا وهو محتاجٌ فيه إلى "القدرة على البيان" بعملَيها في "الإبانة" و"الاستبانة"، أي "التَّذوق"، لأنّه غيرُ قادرٍ على إدراكِ أيِّ معنًى أو تَصَوُّرِه إلا عن طريق هذه القدرة وأدائها لعملَيها أداءً ما، فالتَّذوق إِذَنْ ضرورةٌ لكل حيٍّ مِنَّا منذ يُولَدُ إلى أن ينقطعَ أجلُه على هذه الأرض" (انتهى).
ونلتقي في المَقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
فَاللَّهُمَّ يَسِّرْ وأَعِنْ.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 24-05-2025, 10:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (37)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فيقول العُقابُ في ختامِ حكايتِه مع التَّذوق في مقالتِه التي نشرتْها مَجَلَّةُ "الثَّقافةِ": "وهذا الإلفُ الطَّويلُ لِقيامِ "التَّذوقِ" فيه وأدائِه لِعملَيه، منذ يُولَدُ إلى أن يكبرَ ويعقلَ يُؤهِّلُه، بلا وعي منه حاضر فريد واضح الإرادة، أن يكتسبَ قدرةً على سرعة استخلاص قدرٍ لا بأس به مِن هذا الخليط الذي امتزج فيه العنصران جميعًا، وعندئذٍ، ولأول وهلةٍ، ينفصل شيءٌ بعد شيءٍ مِن هذا الخليط وكأنَّه انفصل من تلقاء نفسه، ويبرز للمرء واضحًا جليًّا، ولا يُحِسُّ البتَّة أنَّه بذل في تَبيُّنِه جهدًا أو تعمَّد بذله، وهذا هو "التَّذوق" السَّاذج الذي لَم يتم عن منهجٍ مرسومٍ أو قصدٍ أو عنايةٍ.
ولكن يبقى في الخليط الممزوج مِن العُنصرَين بعد ذلك شيءٌ "كثيرٌ"، يحتاج إلى منهجٍ وقصدٍ وعنايةٍ، أي يحتاج إلى إرادةٍ واضحةٍ، وإلى تَنَبُّهٍ وبصرٍ، وإلى حرصٍ على تمييز شيءٍ مِن شيءٍ، وإلى عنايةٍ متوجهةٍ إلى غرضٍ واحدٍ أو أغراضٍ متنوعةٍ، وهذا غير ممكن أن يتم من تلقاء نفسه على وجهٍ صحيحٍ، ولا أن يتم كُلُّهُ دفعةً واحدةً، ويحتاج أيضًا إلى ترديد الكلام وترجيعه، وإلى إعادة النظر فيه مرَّةً بعد مرَّةٍ بعد مرَّةٍ، وإلى التقاط شيءٍ من هذا الخليط، وإلى فصلِ بعضٍ مِن بعضٍ، وإلى ضَمِّ شكلٍ إلى شكلٍ، وإلى ملاحظةِ الفُروقِ بين المُتشابهَين أحيانًا، أو تحديدِ ضربٍ مِن التشابه بين غير المُتشابهَين ظاهر أحيانًا أخرى، وأشياءَ أخرى كثيرةٍ لا يضبطها إلا المنهجُ والقصدُ والعناية.
وهذا الذي وصفتُ هو "التَّذوق" بعُنصرَيه: التَّذوق الواقع على طبيعة الكلام نفسه، أي: على ما يتميز به من "السَّذاجة" أو "البلاغة" أو ما شئتَ مِن هذا الباب، والذي كان مُبهَمًا كل الإبهام؛ فجاء عبدُ القاهرِ الجُرجانيُّ فألَّف كتابَين: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، لِيُزيلَ الإبهامَ عن لفظ "البلاغة"، أي عن أحد عُنصرَي "التَّذوق"، وهو نفسه "التَّذوق" الواقع على طبيعة منشئ الكلام، أي: على بعض ما يتميز به مِن الطَّبائع والشَّمائل أو ما شئتَ مِن هذا الباب؛ وهذا العنصر الثَّاني هو الذي حاولتُ جاهدًا أن ألتمسَ لنفسي طريقًا إلى إزالة إبهامه، فإنْ أنا قد وفقتُ فيه إلى بعضِ الصَّوابِ فبفضلِ اللهِ وتسديدِه، وإنْ أكُ قد أخطأتُ الطَّريقَ وأسأتُ فأسأل المغفرةَ واسعَ المغفرةِ سبحانه" (انتهى).
وإلى لقاءٍ قادمٍ -إن شاء الله-.
واللهُ المُستَعان.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 02-06-2025, 03:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصالون الأدبي

الصالون الأدبي (مع عُقَاب العربية.. الأستاذ محمود محمد شاكر) (38)



كتبه/ ساري مراجع الصنقري
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنواصلُ سيرةَ حِصْنٍ مِن حُصونِ العُروبةِ والإسلامِ، الذي بأمثالِه يمكن لِبلادِنا أن تعيشَ نهضةً علميَّةً كبيرةً، ويكونَ لها مستقبلٌ مُشرِقٌ يعيدُ تاريخَها، ويُحقِّقُ آمالَها.
قال محمود شاكر في مقالِه "المُتَنبِّي ليتني ما عرَفتُه (1)" -الذي نُشر في "مَجلَّةِ الثَّقافة" (السَّنة الخامسة، العدد 60، سبتمبر، 1978م، ص: 4-19)-: "أخي الدكتور عبد العزيز الدسوقي (1925-2015م) -وكان رئيس تحرير مجلة الثقافة-: ... وبعدُ، فكاذبٌ أنا إن قلتُ لك أنّ ثناءك عليَّ لَم يهزني، فأنا كأنت وكهو وكهي، كُلُّنا ممّا يَغُرُّهُ الثَّناءُ، أو تأخذه عنده أريحيَّةٌ وابتهاجٌ أو تَغمُرُه فيه نشوةٌ ولذَّةٌ.
ولكن غروري وأريحيَّتي وابتهاجي ونشوتي ولذَّتي، سرعان ما تنقلب عليَّ غمًّا لا أجد مُتنفَّسًا يُفرِّج عنِّي؛ لأنِّي أعلم مِن حقيقة نفسي ما يجعلني دون كُلِّ ثناء وإن قلّ، أعلمه عيانًا حيث لا يملك المُثنِي عليَّ أن يراه عيانًا كما أراه، ولَيْتَ شِعْرِي، أكان شيخُ المَعرَّةِ صادقًا حيث يقول عن نفسه:
إذا أَثْنَى عليَّ الـمَرءُ يـومًا بـخـيرٍ ليس فـيَّ فذاك هاجِ
وحقِّي أن أُساءَ بما افتراه فلُؤمٌ في غريزتيَ ابتهاجِي
وعسى أن يكون الشيخ قد صدَق عن نفسه بعضَ الصِّدق، لقد عَدَّ ثناءَ المُثنِي عليه بما ليس فيه افتراءً، ثم أقرَّ مع ذلك أنَّه يبتهج لما افتراه وكان حقه أن يستاء، لولا لؤم الغريزة.
فمعنى هذا إِذًا: أنَّ الشيخ كان إذا جاءه ثناءٌ عليه بما هو فيه، فإنَّه يبتهج له، ولا يعد ابتهاجه هذا لؤمًا في غريزته، أمَّا أنا فأعد ابتهاجي بالثناء عليَّ بما هو فيَّ وبما ليس فيَّ، لؤمًا في الغريزة، لأنِّي أعلم أنَّ الذي فيَّ من الخير مغمورٌ في بحرٍ طامٍ من النَّقيصة والعيب.
ومع ذلك، فأنا أشكر لك ثناءك، لأنَّ الشكر واجب لا مصرف عنه، وترك الشكر لُؤمٌ آخَرُ في الغريزة.
أشكره لك لأنَّك بثنائك عليَّ، ذكَّرْتَني عيبي وتقصيري ونقيصتي لِأستغفر اللهَ وأتوب إليه. هذه هي الْأُولَى" (انتهى).
أمَّا الثَّانيةُ فسنذكرُها في المقالِ القادمِ -إن شاء الله-.
واللهُ المُوفِّق.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 132.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 126.30 كيلو بايت... تم توفير 5.92 كيلو بايت...بمعدل (4.48%)]