|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#2
|
||||
|
||||
![]() ومن العجيب أن المشركين قد ساروا في حربهم الإعلامية ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحدث أساليب الدعاية السوداء، والحرب النفسية، وكأنما ظنُّوا أن عدم نزول ما حذَّرهم الله به دليلٌ على كذب ما جاءهم به، فكان صلى الله عليه وسلم أنَّى توجَّه، وجَدَ خلفه أحدُ مشركَيْن؛ عمِّه أبا لهبٍ يكذبه ويحذِّر منه ويرميه بالحجارة، أو مشركٍ آخرَ يسأله ساخرًا: ﴿ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 48]، فيصبر ويتصبَّر ويُجيبه بما يُوحيه إليه الله؛ ولذلك تكرر نزول هذه الآية ست مرات في ست سور مكية هن سورة يونس بالآية 48، وسورة الأنبياء بالآية 38، وسورة النمل بالآية 71، وسورة سبأ بالآية 29، وسورة يس بالآية 48، وسورة الملك بالآية 25، ومع كل آية كان ينزل جوابها الذي يناسب ظروفها، وغاية السائل منها. لقد كانت عُنْجُهِيَّةُ البداوة والكبرياء الجوفاء، والعصبية المزاجية، والحسد الأهوج قد لبَّس على عقول مشركي مكة بما منعهم حسنَ الاستماع، وسلامةَ الاستيعاب، وكان من الحكمة أن يُنبَّهوا لأخطاء اختياراتهم وسفاهاتهم وخطرها عليهم، باستقرائها واستنباطها وتتبُّع آثارها، بروِيَّة وهدوء وتدرُّج، بدلًا من مواجهتهم بها، تقريرًا لها وإدانة بها، وهم يتحدَّوْن مستنفَرين يردِّدُون: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 48]؛ لذلك قال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ [يونس: 50] لهم: يا محمدُ سائلًا: ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا ﴾ [يونس: 50]، هل تصورتم حالكم إن نزل بكم عذابُ الله فجأة بالليل وأنتم نائمون في بيوتكم، أو بالنهار في صَحْوِكم وأنتم تلعبون أو تكسِبون؟ وهو كما قال تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [الأعراف: 4]، وقال عز وجل: ﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 97 – 99]، إنها أسئلة موجَّهة للمشركين خاصة، وأحرى بكل مؤمن ألَّا تعزُبَ عن ذهنه وهو يسعى في ليله ونهاره، وأن يحذَرَ أن يفاجَأه الموتُ وهو على فاحشة، أو مُطلَق ذنب، أو طلب له أو تمنٍّ له، أو ندم على عدم فعله، فتنتقض توبته ويأتي ربه عاصيًا، وما أروع ما قرأته لأبي حامد الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) إذ ذكر خيبة الرجل وهو يُحتضر، فيتذكر متعة محرَّمة فاتته في حياته، فيندم على عدم اقترافها، ويموت على ذلك، بدل حمده الله على ما عصمه منها! ثم عقَّب عز وجل على حال المشركين وهم يستعجلون العقوبة؛ تفظيعًا لاختياراتهم، وتحذيرًا لهم منها؛ بقوله تعالى: ﴿ مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [يونس: 50]، أيُّ شيء يستعجلونه غير العذاب؟ إن العقلاء يسألون الخير ويعملون له وقد يستعجلونه، ولكن المشركين يستعجلون الشر لأنفسهم، فما أفظع ما يسألون! ﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ﴾ [يونس: 51]، الشر الذي استعجلتموه، ﴿ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ [يونس: 51]، والهمزة في أول هذه الآية للاستفهام الإنكاري تهويلًا لسفاهة عقولهم، وخِفَّة أحلامهم، وتأخر إدراكهم لنتائج أعمالهم، وحرف "ثم" بضم الثاء حرف عطف في قراءة الجمهور يدل على الترتيب والتراخي؛ أي: أإذا ما حلَّ بكم ما استعجلتموه من العذاب، آمنتم، وقد فاتتكم فرصة الانتفاع بالإيمان؟ ﴿ آلْآنَ ﴾ [يونس: 51]، والهمزة للاستفهام الاستنكاري، والآن ظرف متعلق بمحذوف يُفهم من سياق الكلام، أي: هل الآن تؤمنون وقد نزل بكم العذاب؟ ﴿ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ [يونس: 51]، وقد كنتم تستكبرون وتتحدَّون وتستعجلون العذاب؛ استهانة به واستبعادًا له، وحينئذٍ يكون حالهم كحال فرعون عندما آمن بعد أن أدركه الغرق؛ في قوله تعالى: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91]. إنه الجهل والغرور والتسرُّع في اتخاذ الأحكام والمواقف نَزَقًا وخِفَّةَ عقولٍ، شيمةُ مشركي قريش عند تلقِّيهم الوحي، وهذه الآيات الكريمة تبيِّن لهم عاقبة المسار الذي ينزلقون إليه، المسار المؤدي إلى يوم الحشر والمحاسبة والجزاء؛ إذ يرَون في الآخرة ما استعجلوه في الدنيا، تحدِّيًا وسفاهةً، فيندمون ولات ساعة مَندمٍ، ويُقال لهم: هذا هو العذاب الذي كنتم به تستعجلون في الدنيا، ﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [يونس: 52]، أي: الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، ﴿ ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ ﴾ [يونس: 52]، ذوقوا عذاب الخلد الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا هازئين ساخرين، ﴿ هَلْ تُجْزَوْنَ ﴾ [يونس: 52]: هل ما تنالونه من الجزاء في النار، ﴿ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 52]، إلا بما كنتم تواظبون على اكتسابه وعمله من الآثام؟ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ [الصافات: 20 – 24]، وقوله عز وجل: ﴿ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النمل: 90]، جزاءً وفاقًا لا ظلم فيه؛ لأن الله تعالى بلَّغهم رسالة الإسلام كاملة برسول صادق أمين، فلم يُذعنوا له ولم يقبلوا رسالته، وإنما تحدَّوه سفاهةً، وآذَوه عدوانًا وظلمًا، فكان مآلَهم العذابُ الدائم في النار. وبعد أن بيَّن الوحيُ الكريم للمشركين مآل إصرارهم على الشرك، عاد حثًّا لهم على الإيمان متابعة لقوله تعالى وعطفًا عليه: ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [يونس: 48]؛ فقال عز وجل: ﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ [يونس: 53]؛ أي: يسألونك عن صحة ما أنبأتهم به من البعث والحساب والجزاء، جنةً ونارًا، والفعل ﴿ يَسْتَنْبِئُونَكَ ﴾ [يونس: 53]، من أصل "نبأ"، قياسه الإتيان من مكان إلى مكان، فيُقال لمن ينتقل من مكان إلى مكان: نابئ، وسُمِّيَ الخبر يُنقَل من جهة إلى جهة، أو من فرد إلى فرد، أو يُنشَر في صحيفة أو قناة إعلامية: نبأً، جمع أنباء، زِيدت في فعله الثلاثي حروف الطلب - الألف والسين والتاء – فصِيغ فِعْلُ: استنبأ؛ أي: استخبر وطلب نبأً وخبرًا، كما في المؤسسات الأمنية المعاصرة التي سُمِّيَت استخبارات أمنية، واستخبارات عسكرية، واستخبارات سياسية، وكما كان يفعله المشركون في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ﴾ [يونس: 53]؛ يسألونك عن صحة ما أخبرتهم به، ﴿ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ [يونس: 53]، والهمزة للاستفهام، و﴿ حَقٌّ ﴾ خبر مقدم للمبتدأ ﴿ هُوَ ﴾ [يونس: 53]، وتقديره: "أهو حق"؛ أي: هل ما أنبأتَنا به من نبأ البعث والنشور، والحساب والجزاء، والجنة والنار حقٌّ يقع، فنلقاه ونُعانِيه؟ ﴿ قُلْ ﴾ [يونس: 53]، يا محمد لهم غير مُغْضَب من قولهم، أو ملتفتٍ إلى لَحْن أقوالهم: ﴿ إِي ﴾ [يونس: 53]، نعم، وكلمة ﴿ إِي ﴾ [يونس: 53]، بكسر الهمزة وسكون الياء الخفيفة حرف جواب وتصديق بمعنى نعم، بشرط أن تتصل بقَسَم، ولذلك تُوصَل دائمًا بواو القسم، فيُقال: إي والله، ولا يُقال "إي" وحدها، كما في هذه الآية الكريمة إذ اتصلت مؤكدة بواو القسم، وفي قوله صلى الله عليه وسلم امتثالًا لأمر ربه: ﴿ إِي وَرَبِّي ﴾ [يونس: 53]؛ أي: نعم وأُقسم بالله، ﴿ إِنَّهُ لَحَقٌّ ﴾ [يونس: 53]، إنَّ ما أُخبِرتم به لَحَقٌّ، وحرف "إن" للتوكيد والنصب، واسمها الضمير المتصل المبني على الضم في محل الفتح، واللام للتوكيد، و"حق" خبر إن مرفوع، والآية مؤكدة بتركيبها جملةً إسمية، وحرف "إن" ولام القسم، وقد عزَّز الحق تعالى جوابَ رسول الله بالقسم سدًّا لجميع ذرائع الشك والتردد لدى المشركين؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [سبأ: 3]، وقوله عز وجل: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7]، على رغم أنه صلى الله عليه وسلم منذ نشأ معروفٌ فيهم بالصدق والأمانة، حتى إنهم لقَّبوه بالأمين، وحتى كان بعضهم يسأله عما بُعِث به، فيُجيبه فيُصدِّقه ويؤمن به، وأحيانًا يستحلفه بعض المتعصبين للشرك، فإذا حَلَفَ صدَّقه وآمن، وما ذلك إلا لأن الصدق كان الغالب على أخلاق عرب الجاهلية في زمن البعثة؛ لِما نشؤوا عليه من مروءة ورجولة وإباء، يُعَدُّ بها الكذب ضعفًا ومنقصة في المرء، كما في رواية أحمد والشيخين وأصحاب السنن الثلاثة - أبي داود والترمذي والنسائي - واللفظ للبخاري عن أنس قال: ((بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السجدة، إذ دخل رجلٌ على جمل، فأناخه في المسجد ثم عَقَلَهُ، ثم قال: أيكم محمدٌ؟ قلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال: ابنُ عبدالمطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتُك، فقال: إني سائلك فمُشدِّدٌ عليك في المسألة، فلا تَجِدْ عليَّ في نفسك، فقال صلى الله عليه وسلم: سَلْ عما بدا لك، فقال الرجل: أسألك بربك ورب من قبلك آللهُ أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال الرجل: أَنشُدك بالله آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال الرجل: أَنشُدك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السَّنَة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال الرجل: أنشُدك بالله آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم، قال الرجل: آمنتُ بما جئتَ به، وأنا رسول مَنْ ورائي من قومي، وأنا ضِمامُ بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر)). ثم عقَّب الحق تعالى مبيِّنًا قدرته المطلقة على ما وعده وتوعَّد به؛ فقال عز وجل: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53]، ولفظ "معجزين" من الفعل: (عَجَزَ)، والْعَيْنُ وَالْجِيمُ وَالزَّاءُ - كما قال ابن فارس في معجمه - أصلان صحيحان، أولها يدل على الضعف؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53]، والثاني يدل على مُؤخَّر الشَّيْءِ، ومنه العَجُزُ؛ وهو مُؤخِرُ الرجل والمرأة، ومن المعنى الأول يُقال: عجز الرجل عن الكلام أو الوقوف أو نحوه؛ أي: لا يستطيعه، وتُضاف إليه همزة التعدية: "أعجز" فيُقال: أعجزه المرض عن القيام، أو الفقر عن الإنفاق، أو الغباء عن الفهم، فإذا كنت قادرًا قلت: لا يُعجزني القيام، أو لا يعجزني الفقر، ولا يعجزني الفَهم أو الإدراك؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [يونس: 53]؛ أي: لستم معجزين أن يُؤتَى بكم، أو معجزين عن محاسبتكم ومجازاتكم، أو مُفْلِتين مما توعدناكم به، بعثًا ونشورًا، وحسابًا وعقابًا؛ كما قال تعالى بتفصيل أكثر: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [العنكبوت: 22]، وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج: 73]، والآية بذلك ردٌّ على ما يتخيله المشركون، أو يتوهمونه من عدم وجود يوم البعث حسابًا وجزاء، أو ما يعتقدونه من الضلالات التي ألقاها الشيطان في قلوبهم وعقولهم؛ كما في ردِّه تعالى عليهم بقوله عز وجل: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [العنكبوت: 4]، وقوله سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21]؛ لذلك أكَّد تعالى قدرته المطلقة عليهم وعجزَهم التامَّ عن الإفلات من العقاب بصورة واضحة، نقلها إليهم من مجال الغيب والمصير المحتوم عن يوم القيامة، وما يكونون عليه من الحسرة والندامة إن لم يؤمنوا؛ فقال عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ﴾ [يونس: 54]؛ أي: لو كان لكل ذي نفس ظلمت بالشرك والكفر والعصيان، ﴿ مَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [يونس: 54]، كل ما في الأرض من كنوز وثروات وغيرها، ﴿ لَافْتَدَتْ بِهِ ﴾ [يونس: 54]؛ أي: لقدَّمَتْهُ فديةً لِما استحقته من العذاب، فلم يُقبَل منها، ﴿ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ [يونس: 54]، كتموا ندامتهم على ما ارتكبوه من الشرك استعدادًا لإنكاره والمجادلة عنه بالباطل، لما رأوا عذاب جهنم؛ كما فصَّل القرآن ذلك في سورة الأنعام بقوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 22 – 24]، إلا أن إنكارهم الشركَ لا يدفع عنهم ما يستحقونه من القضاء: ﴿ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [يونس: 54]، بالعدل فيما أقدموا عليه من الشرك، وما ارتكبوه فيما بينهم من المظالم، ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [يونس: 54]، في الحكم عليهم أو الحكم فيما بينهم؛ لأن العدل يومئذٍ سيد الأحكام، ولأن الله أعذر إليهم في الدنيا، فأرسل إليهم رسوله، وقدَّم لهم الأدلة، ووضَّح لهم السبيل، وأراهم الآيات، ولم تَبْقَ لهم حُجَّة بعد شهادة الرسول عليهم يوم الحشر؛ كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [الإسراء: 71]، وقال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 17]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ))[7]، وقال: ((يقتص الخلق بعضهم من بعض، حتى الجَمَّاءُ من القَرْنَاء، وحتى الذَّرَّةُ من الذَّرَّة))[8]. ثم عقَّب سبحانه على عدالة حكمه بين الخلائق ودِقَّةِ فَصْلِهِ بينهم، وقدرته الشاملة المطلقة عليهم بإعلان ثلاث حقائق إيمانية عامة، دائمة وشاملة، تَسَعُ السماوات والأرض وما فيهن، ولا يَسَعُ مخلوقًا أن يخرج من حكمها أو يجادل فيها، ولا يُقبَل إيمان بدونها؛ فقال عز وجل عن أولها: ﴿ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 55]، وهو تقرير لواقع حقيقي يُذكِّر به الغافلين، ويحذِّر به المتهاونين والشاكِّين، ويهدِّد به المتمردين من كفار قريش زمن البعثة النبوية، وفي كل وقت وحين من الدنيا والآخرة. ثم قال عن ثانيتها: ﴿ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُم لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 55]، وهو تقرير ناجزٌ لكل وعد وَعَدَه سبحانه أو توعَّده عز وجل لا يتخلَّف؛ كما أكَّده سبحانه بقوله: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]، وقوله سبحانه له المنُّ والفضل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد: 31]، وقوله سبحانه عن الصادقين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 107 – 109]. ثم قال عن ثالثتها: ﴿ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يونس: 56]، هُوَ سبحانه يخلق ما يريد إيجاده من الجن والإنس وغيرهم، وَيُمِيتُ من يريد إماتته وإفناءه أو نقله إلى الآخرة، وإليه تُرجعون بالبعث والنشور، والحساب والجزاء، جنةً أو نارًا، يخلق عز وجل كذلك القلوب الحية فتسمو بصاحبها عملًا صالحًا ونفسًا طيبة، والقلوب الصَّدِئَةَ الميتة فلا يكاد يكون لصاحبها حياة بين الأحياء، أو خبر طيب بين الأموات، أو بشارةُ خيرٍ ليوم الحساب؛ ﴿ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم: 39]. [1] صحيح، الألباني. [2] الحُمَّرة: طائر صغير، بالضمة على الحاء والشدة والفتحة على الميم. [3] تعرش:ترتفع وتحوم وتُظلِّل بجناحيها على مَن تحتها. [4] رواه أبو داود بإسناد صحيح. [5] الرُّوع بضم الراء هو القلب، وبفتحها هو الفَزَعُ. [6] إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله رجال الشيخين غير الْمُغيرة اليشكري، فمن رجال مسلم. [7] مسلم والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وأحمد، وابن أبي الدنيا. [8] أخرجه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم، الألباني.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |