|
الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() التربية على النزاهة العلمية: مواقف من سيرة خليفة المسلمين عمر وابنه عبد الله محفوظ أحمد السلهتي في عالمٍ كثُرت فيه المجاملات، وضعف فيه النقد البنّاء، داخل البيوت، تبرز العلاقة التربوية بين سيدنا عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنموذجًا فريدًا، يجمع بين البرّ الصادق، والتربية على الاستقلالية والنزاهة العلمية. لم تكن علاقة عبد الله بأبيه محكومةً بالتقديس الأعمى، ولا بالتبعية المطلقة، بل قامت على احترام مبنيّ على وعي، ونقدٍ نابع من فهم، وولاءٍ لا يُلغي المبدأ. يستعرض هذا المقال مواقفَ مختارةً من سيرة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، تُظهر كيف نشأ عبد الله في بيئة تربّي على الصدق لا المجاملة، وتُعلي من قيمة الحق ومصداقية البحث، ولو خالف رأي الوالد. وهي مواقفُ تسهم في الردِّ غير المباشر على بعض الطعون التي أثارها بعض المستشرقين في محاولةٍ للتشكيك في مصداقية رواية عبد الله بن عمر عن والده في قصة رؤيا عمر كلمات الأذان في منامه، كما فعلت باحثةٌ نمساويةٌ في بعض دراساتها الحديثية التي نُشرت قبل سنوات باللغة الإنجليزية. وإن تتبّع هذه المواقف يثبت أن عبد الله بن عمر لم يكن مروّجًا لرؤى أبيه، ولا مختلقًا لأحداثٍ تمجّده، بل كان شاهدَ عدلٍ، وعالمًا ربانيًّا نشأ في بيتٍ أُسِّس على التربية الصالحة، القائمة على النقد البنّاء، والتوجيه الرشيد، والتزكية بالحق. وجديرٌ بالذكر أنني، انسجامًا مع هدف هذا المقال، لا أتناول هذه المواقف من زاويتها الفقهيَّة أو السياسيَّة، بل أركِّز على أبعادها التربوية ودلالاتها في بناء النزاهة العلمية. أولًا: قصة النخلة: أخرج البخاري في «صحيحه» (61) ومسلم في «صحيحه» (2811) واللفظ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها. وإنها مثل المسلم. فحدثوني ما هي؟» فوقع الناس في شجر البوادي. قال عبد الله: «ووقع في نفسي أنها النخلة. فاستحييتُ». ثم قالوا: «حدثنا ما هي يا رسول الله!» قال: فقال: «هي النخلة». قال فذكرتُ ذلك لعمر. قال: «لأن تكون قلتَ -هي النخلة- أحبُّ إليّ من كذا وكذا». قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في «فتح الباري» (1 /147): «ووجه تمني عمر ما طبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد من النبي ﷺ حظوةً، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم. وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر؛ لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها». وهذه القصة تكشف عن تربية عمر رضي الله عنه لابنه على احترام الاجتهاد، والتعبير عن الرأي، وعدم كبت ما يدور في النفس من أفكار صحيحة. بل إن تشجيع عمر لابنه بعد الموقف يكشف عن دعم خفي لبناء ثقته بنفسه، ولغرس الجرأة الأدبية فيه، وهو ما سيظهر أثره لاحقًا في مواقف أكثر حساسية. ثانيًا: قصة حج التمتّع: أخرج الترمذي في «سننه» (824) عن سالم بن عبد الله أنه سمع رجلًا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عبد الله بن عمر: «هي حلال». فقال الشامي: «إن أباك قد نهى عنها»، فقال عبد الله بن عمر: «أرأيتَ إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأمر أبي يُتَّبَعُ أم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» فقال الرجل: «بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم». فقال: «لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم». فهذا الموقف من سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يعبّر عن شجاعة علمية وتربية على الاستقلال والإنصاف؛ فلم يتردّد في مخالفة اجتهاد أبيه حين علم أن السنة النبوية جاءت بخلافه. لم يكن موقفه نقدًا لمكانة والده، وإنما ترجيحًا للحق، وإعلاءً لمنزلة النصّ الشرعي على كلِّ اعتبار، حتى لو كان المخالف له هو والده. ولا يخفى أن منع عمر الناس من التمتع كان له وجه سياسي، كما أشار إليه شُرَّاح الحديث. يقول الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى في «شرح عمدة الفقه» (4/360-361): «وإنما وجه ما فعلوه أن عمر رأى الناس قد أخذوا بالمتعة، فلم يكونوا يزورون الكعبة إلا مرةً في السَّنَة في أشهر الحج، ويجعلون تلك السفرة للحج والعمرة، فَكَرِهَ أن يبقى البيت مهجورًا عامة السَّنَة، وأحبَّ أن يعتمر في سائر شهور السنة ليبقى البيت معمورًا مزورًا كلَّ وقتٍ بعمرة مفردة ينشأ لها سفر مفرد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، حيث اعتمر قبل الحجة ثلاث عمر مفردات. وعلم أن أتم الحج والعمرة أن ينشئ لهما سفرًا من الوطن كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ير لتحصيل هذا الفضل والكمال لرغبته طريقًا إلا أن ينهاهم عن الاعتمار مع الحج وإن كان جائزًا، فقد ينهى السلطان بعض رعيته عن أشياء من المباحات والمستحبات لتحصيل ما هو أفضل منها من غير أن يصير الحلال حرامًا». ولا ريبَ أنَّ ابن عمر كان على درايةٍ بذلك، ومع ذلك لم يدفعه ذلك إلى الدفاع عن أبيه، بل صدع بالحق وأقرّه. فإن عمر لم ينهَ عن التمتع لذاته، وإنما نهى عنه على وجه السياسة، بينما أفتى ابنه بحكمٍ شرعيٍّ. ثالثًا: قصة منع النساء من المساجد: أخرج مسلم في «صحيحه» (442) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل». فقال ابن لعبد الله بن عمر -وهو بلال-: «لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلًا». قال: فزبره ابن عمر، وقال: «أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقول: لا ندعهن!». قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في «المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج» (4/162): «فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه، وفيه تعزير الوالد ولده وإن كان كبيرًا». وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في «فتح الباري» (2/349): «وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرًا إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد عند أحمد: «فما كَلَّمَه عبدُ الله حتى مات»، وهذا إن كان محفوظًا يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير». وإن هذه الحدة في الرد تُظهر كيف تربى عبد الله على الوقوف عند حدود النصّ، ورفض تجاوزه تحت أي ذريعة، حتى لو كانت من أقرب الناس إليه. فإن كان لا يقبل التأويل من ولده حين يخالف حديثًا صريحًا، فكيف يُتّهم باختلاق قصةٍ تعظيمًا لوالده؟! رابعًا: قصة الطلاق: أخرج البخاري في «صحيحه» (5258) ومسلم في «صححيه» (1471) واللفظ له: عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض. فذكر ذلك عمرُ للنبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا». فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تُراجع الزوجة حتى تنقضي حيضتها، وامتثل عبد الله دون اعتراضٍ أو تأخيرٍ. فهذه القصة أيضًا تكشف عن روح الصراحة بين عمر وابنه، والتزام عبد الله بتوجيه الشرع، دون عناد أو تعصب لرأيه. كما تُظهر أن عمر لم يكن يخفي خطأ ابنه، ولم يطلب التستر عليه، بل رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليُقوّم، وهذا نوع راقٍ من التربية على تحمل المسؤولية وتصحيح الخطأ. خامسًا: قصة الشورى: حين طُعن سيدنا عمر رضي الله عنه، قالوا: «أوص يا أمير المؤمنين! استخلف»، قال: «ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر، الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن»، وقال: «يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيءٌ». (انظر القصة بطولها في «صحيح البخاري» برقم 3700). فلم يعارض عبد الله، ولم يُظهر تذمرًا، بل شارك برأيه في حدود ما أُذن له. وفي هذا الموقف نرى كيف ربّى عمرُ ابنه على القبول بالقدر المناسب من المسؤولية، من غير أن يسعى للسلطة، كما نرى في عبد الله امتثالًا واضحًا وانضباطًا تربويًّا نادرًا، لا يُمكن أن ينشأ إلا في بيت تُمجّد فيه المبادئ، لا الألقاب. وعليه، فإن هذه المواقف التربوية بين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما ترسم لنا صورة متكاملة لعلاقة قامت على الصدق، لا على المجاملة، وعلى النقد البنّاء، لا على التقديس، وعلى البرّ المتين، لا على التبعية. ومن ثمّ، فإن هذه الصورة تُسقط بشكل تلقائي أي شبهة تدّعي أن عبد الله كان يختلق أو يزوّر الروايات تعظيمًا لأبيه. إن شخصيةً كهذه – ثبتت نزاهتها في مواقف عائلية، وعلمية، وسياسية – لا يُمكن أن تُتّهم باختلاق رؤيا نُسبت إلى أبيه في قصة الأذان، كما زعمت تلك المستشرقة النمساوية. فالرجل الذي نشأ على توقير النص، والالتزام بالسنّة، ومخالفة أقرب الناس إليه إن خالفوها، لا يمكن أن يكون ممن يتلاعب بالأحاديث أو ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. وهل كان الخليفة عمر بحاجةٍ إلى رؤيا ليُثبت مكانته في الإسلام؟ أليس الابن أولى الناس بالاطلاع على رؤيا أبيه ثم روايتها؟ فما الإشكال إذًا في أن يروي ابن عمر رؤيا أبيه في قصة الأذان؟ وهكذا، فإن الرد على تلك الشبهة لا يحتاج إلى كثير جدل، بل يكفي أن يُعرض سلوك ابن عمر كما هو، في مواقف تفضح الادّعاء، وتُثبت أن تربية عمر صنعت من ابنه عبد الله أنموذجًا في النزاهة العلمية والاستقامة الشخصية. ولا يخفى على من له إلمام بسيرة الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان من أشد الناس التزامًا واقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في كل شؤون الحياة، حتى في الأمور البسيطة منها. والحقّ أن مثل هذه الدراسات الحديثية، بل والدراسات الإسلامية عامةً من قِبل بعض المستشرقين الغربيين، كثيرًا ما تقابل بالاستغراب والرفض من قِبل العلماء المسلمين، لما تتضمنه من أخطاء علمية، وأحكام متعسفة، ونظرات مشوّهة. وهي في الوقت ذاته تنبيهٌ مهمٌّ لشباب المسلمين بضرورة تلقي العلم عن أهله من العلماء الربَّانيين الذين عايشوا الدين وفهموا نصوصه في سياقها الصحيح، فلا يُغترّوا بهذه الدراسات الغربية، مهما حملتْ من عناوين جذابة أو ادّعت الموضوعية، فإن فيها كثيرًا من الحقد والسموم والأهواء.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |