|
هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ قوله تعالى:﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 50]. في هذه الآية نعمتان يُذكِّر الله بهما بني إسرائيل؛ ليشكروه، وهما: فَرْقُ البحر لهم، وإنجاؤهم من الهلاك، وتخليصهم من آل فرعون بإغراقهم، وهم ينظرون إليهم. قوله: ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 49]؛أي: واذكروا حين فرقنا بكم البحر؛ أي: فلَقْناه، وفصَلْنا بعضه عن بعض، وجعلنا بينهما طريقًا عبرتموه إلى شاطئ البر. والباء في قوله:﴿ بِكُمُ ﴾ للملابسة؛ أي: جعلنا فَرْقَه ملابسًا لدخولكم، ويجوز كونها للسببية؛ أي: لأجلكم. والمراد بـ "البحر" بحر القلزم، المسمى اليوم بـ "البحر الأحمر". ﴿ فَأَنْجَيْنَاكُمْ ﴾؛ أي: أنقذناكم وخلَّصناكم من الغرق ومن فرعون وقومه. ﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾؛ أي: وأغرقنا فرعون وجنده وأنصاره. ﴿ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾؛ أي: حال كونكم تنظرون إليهم وهم يغرقون؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم، وأبلغ في إهانة عدوِّكم، وتنظرون إلى عظيم قدرة الله في فرق البحر لكم وبإغراق عدوِّكم. كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ﴾ [طه: 77]، وقال تعالى: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ﴾ [الشعراء: 63 - 66]. وذلك أنه لما خرج بنو إسرائيل من مصر صحبةَ موسى عليه السلام بأمر الله له فرارًا من فرعون وتعذيبه، واتجهوا نحو البحر، تَبِعَهم فرعونُ بجنوده، فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: ﴿ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ﴾ [الشعراء: 63]، فضرَبَه، ﴿ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63]؛ أي: فكان كل فرقٍ من البحر كالجبل العظيم، وصار ما بينها طريقًا يبسًا، فسلَكَه موسى ومن معه، ولما تكاملوا خارجين من البحر دخل فرعون وقومُه، فلما تكاملوا داخلين أمَرَ الله عز وجل البحر فانطبق عليهم فغَرِقوا جميعًا. وفي هذا آيةٌ ودلالة عظيمة على عظيم قدرة الله تعالى، ومعجزة لموسى عليه السلام، وكرامة له ولبني إسرائيل، وكان ذلك يوم عاشوراء، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأي اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟))، قالوا: هذا يومٌ صالح، هذا يومٌ نجَّى الله عز وجل فيه موسى وقومَه، فصامه موسى عليه السلام فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحَقُّ بموسى منكم))، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر الناسَ بصيامه"[1]. [1] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130)، وأبو داود في الصوم (2444) وابن ماجه في الصيام (1734).
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ... ﴾ [البقرة: 57] قوله تعالى: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 57]. هذه الآية كقوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 160]. وفي هذا تذكير بني إسرائيل بنعمة الله تعالى عليهم، حينما تاهوا في البَرِّيَّة والتِّيهِ في تظليله عليهم بالغمام، وإنزاله عليهم المنَّ والسَّلوى، وأمره لهم بالأكل من طيبات ما رزقهم امتنانًا عليهم، بعد أنْ ذكَّرهم بما وقع عليهم من النقم، وظلمِهم لأنفسهم وكفرهم وعدم شكرهم. قوله: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ﴾ معطوف على قوله: ﴿ بَعَثْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 56]. و﴿ عَلَيْكُمُ ﴾ بالخطاب في الموضعين، وفي آية الأعراف ﴿ عَلَيْهِمُ ﴾ [الأعراف: 160] بضمير الغيبة. و﴿ الْغَمَامَ ﴾جمع غمامة، وهو: السحاب الأبيض البارد، سمِّي بذلك لأنه يغم السماء؛ أي: يواريها ويسترها؛ أي: جعلنا الغمام ظلًّا عليكم يقيكم حرَّ الشمس، ويلطف الجو بالبرودة، وذلك حين تاهوا، وبقُوا في التيه بين الشام ومصر أربعين سنة، ولا ماء عندهم ولا ظلَّ ولا مأوى، فرحمهم الله فظلَّل عليهم ﴿ الْغَمَامَ ﴾. و"الظل" نعمة من نعم الله عز وجل كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا ﴾ [النحل: 81]. ﴿ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ ﴾، ﴿ الْمَنَّ ﴾ شيء يُشبِهُ العسل ينزل عليهم بين طلوع الفجر وطلوع الشمس يأكلون منه يومهم. عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان المنُّ ينزل عليهم على الأشجار، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا"[1]. وسمي ﴿ الْمَنَّ ﴾؛ لأن الله مَنَّ به عليهم، حيث يأتيهم بدون تعب ولا مشقة؛ ولهذا قيل: إنه كل ما منَّ الله به عليهم من الطعام والشراب بلا عملٍ منهم ولا كد. وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الكَمْأةُ مِن المَنِّ، وماؤها شفاءٌ للعين))[2]. ﴿ وَالسَّلْوَى ﴾طائر ناعم صغير يسمى "السُّمَّانَى"، من أحسن ما يكون من الطيور وألذه لحمًا. ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾؛ أي: وقلنا لهم: كلوا، والأمر للإباحة والامتنان، و"مِن" لبيان الجنس، و"ما" موصولة؛ أي: كلوا مما يستلذ ويستطاب من الذي أعطيناكم، ومن ذلك "المن" و"السلوى" وغيرهما. وفي هذا بيان أن الرازق هو الله وحده، وفيه امتنان من الله عز وجل بتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى. والأمر لهم بالأكل من طيبات ما رزقهم ليشكروه، كما قال تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ [سبأ: 15]. وفيه دلالة على جواز التمتع بما أباح الله من الظلال الوارفة والطيبات من الرزق؛ إظهارًا لنعمة الله تعالى، وشكرًا له عليها. ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾؛ أي: وما نقصونا شيئًا بمخالفتهم وعنادهم وكفرهم نعمة الله وعدم شكرها، وفيما اختاروا لأنفسهم من الكفر وعبادة العجل؛ لأن الله عز وجل لا تضره معصيةُ العاصين، كما لا تنفعه طاعةُ الطائعين، كما قال عز وجل في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد منكم، ما نقَصَ ذلك من ملكي شيئًا، إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخِل البحر.... الحديث))[3]. وفي قوله: ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾ وما بعده انتقالٌ من الخطاب إلى الغيبة؛ لقصد الاتعاظ بحالهم، وفيه إشارة إلى تماديهم في غيِّهم وكفرهم وضلالهم، وعدم إقرارهم بظلمهم لأنفسهم. ﴿ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾؛ أي: ولكن كانوا يظلمون أنفسهم، وقُدِّم المفعول ﴿ أَنْفُسَهُمْ ﴾ على الفعل ﴿ يَظْلِمُونَ ﴾ لإفادة الحصر؛ أي: لا يَظلِمون بكفرهم وعدم شكرهم إلا أنفسَهم؛ لأن ضرر ذلك عائدٌ عليها، حيث عرَّضوها للعقوبات الدنيوية ولعذاب النار، وحرَموها رحمةَ الله وثوابه، كما قال تعالى عن سبأ: ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [سبأ: 19]، وقال تعالى في المنافقين: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 9]. فحالهم فيما اختاروا لأنفسهم كما قال الشاعر: ما يبلُغُ الأعداءُ مِن جاهلٍ *** ما يبلُغُ الجاهلُ مِن نفسِه[4] وكما قيل: "يفعل الجاهل بنفسه، ما لا يفعل العدوُّ بعدوه"[5]، "وعلى نفسها جنت براقش"[6]. الفوائد والأحكام: 1) تذكير بني إسرائيل بأعظم نعمةٍ أنعم الله بها عليهم، وهي إعطاء موسى الكتاب والفرقان؛ لأجل أن يهتدوا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 53]. 2) إثبات رسالة موسى عليه السلام وإنزال التوراة عليه. 3) عظم مكان التوراة؛ لإطلاق اسم "الكتاب" عليها؛ أي: الكتاب المعهود والمعروف عند بني إسرائيل، ولأن الله وصفها بالفرقان. 4) ربط المسببات بأسبابها؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 53]. 5) تذكير بني إسرائيل بنصح موسى عليه السلام لهم بظلمهم لأنفسهم، باتخاذهم العجلَ معبودًا من دون الله، وأمره لهم بالتوبة إلى بارئهم بقتل بعضهم بعضًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 54]. 6) تودُّد موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل في خطابه لهم؛ عسى أن ينجع ذلك فيهم بقوله: ﴿ يَا قَوْمِ ﴾. 7) وهكذا ينبغي للداعي إلى الله أن يسلك طريق التودد والتحبُّب إلى من يدعوهم؛ تأليفًا لقلوبهم. 8) أن أعظم ظلم للنفس حملُها على الشرك بالله؛ لما في ذلك من تعريضها للخلود في النار. 9) وجوب التوبة إلى الله تعالى على الفور؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾، كما قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]. 10) تذكر بني إسرائيل بأن الذي يستحق العبادة هو الله الخالق البارئ وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾. 11) شدة ما وضعه الله على بني إسرائيل من الآصار والأغلال، حيث جعل توبتهم من عبادة العجل أن يقتل بعضهم بعضًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 54]. 12) أن الأمَّة كنفس واحدة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾؛ لأن المعنى ليقتل بعضكم بعضًا، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]. 13) أن الخير كلَّ الخير في التوبة والرجوع إلى الله؛ لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ﴾ [البقرة: 54]. 14) امتنان الله عز وجل على بني إسرائيل بتوفيقهم للتوبة وقبولها منهم، وتذكيرهم بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 54]. 15) إثبات اسمين من أسماء الله عز وجل وهما "التواب و"الرحيم"، وصفتي التوبة والرحمة الواسعتين له سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]. 16) في توبته عز وجل على العبد ورحمته له جمعٌ بين التخلية والتحلية، وبين زوال المرهوب وحصول المطلوب. 17) سَعة فضل الله عز وجل وعفوه ورحمته، وأنه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره؛ مما يوجب التعلق بالله عز وجل، والتعرُّضَ لنفحات توبته ورحمته. 18) شدة عناد بني إسرائيل، وجرأتهم على الله تعالى، وعلى رسوله موسى عليه السلام في سؤالهم رؤية الله، ومعاجلتهم بالعقوبة بأخذ الصاعقة لهم وهم ينظرون؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 55]. 19) وفي هذا تذكير لسلفهم وتحذيرٌ لهم ولغيرهم من هذا المسلك. 20) أن ألم العقوبة إذا كان الإنسان ينظر إليها أشدُّ وأعظم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾. 21) نعمة الله تعالى على بني إسرائيل في بعثهم من بعد موتهم، وفي ذلك إتاحة الفرصة لهم لعلهم يشكرون، وتذكيرُ الخلف منهم بذلك؛ لأن النعمة على السلف نعمة على الخلف؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 56]. 22) قدرة الله تعالى التامة على إحياء الموتى حيث أحياهم بعد موتهم. 23) إثبات الحكمة لله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 56]. 24) تذكير بني إسرائيل في عهده صلى الله عليه وسلم بنعمة الله تعالى على آبائهم وأسلافهم في التيه بالتظليل عليهم بالغمام، وإنزال المنِّ والسلوى عليهم، والامتنان عليهم بالأمر بالأكل من طيبات ما رزقهم الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 57]. 25) أن نعمة الظل من أعظم نعم الله على العباد؛ لهذا امتنَّ الله بها على بني إسرائيل فقال: ﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ﴾. 26) أن لحم الطيور من أفضل اللحوم؛ ولهذا امتنَّ الله به على بني إسرائيل، وهو طعام أهل الجنة، كما قال تعالى: ﴿ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ [الواقعة: 21]. 27) في امتنان الله عز وجل بقوله: ﴿ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 57] دلالة على أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه أن يتمتع بما أباح الله له؛ شكرًا لله تعالى، وأن يظهر أثر نعمة الله عليه، كما قال تعالى في الآية: ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ﴾ [البقرة: 58]. 28) كما أن فيه دلالةً على أن المباح هو الطيِّب، دون الخبيث ذاتًا أو كسبًا، وأن الرزاق هو الله وحده دون سواه. 29) ظلم بني إسرائيل بكفرهم نعمةَ الله عليهم من الظل والمنِّ والسلوى وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 57]؛ أي: لما كفروا نعمة الله عليهم. 30) أن مَنْ كفر بالله ونعمه لا يضر اللهَ، بل لا يضر ولا يظلم إلا نفسَه؛ لأن الله عز وجل لا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي. 31) أن كفر نعم الله تعالى ظلمٌ للنفس بتعريضها لعقاب الله وعذابه. [1] أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 114)، وأخرجه الطبري في "جامع البيان" (8/ 702)- من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما. [2] أخرجه البخاري في التفسير (4478)، ومسلم في الأشربة (2049) والترمذي في الطب (2067) وابن ماجه في الطب (3454). [3] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2577)، والترمذي في صفة القيامة (2495)، وابن ماجه في الزهد (4257) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. [4] البيت ينسب لصالح بن عبدالقدوس. انظر: "العقد الفريد" 2/ 272. [5] انظر: "المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي" 5/ 479. [6] انظر: "الأمثال" للهاشمي 1/ 170، "محاضرات الأدباء" 2/ 703.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ.. ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]. يذكِّر الله عز وجل بني إسرائيل بتعنت أسلافهم، وعدم صبرهم، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، وما عوقبوا به من ضرب الذِّلة والمسكنة عليهم، ورجوعهم بغضب من الله؛ بسبب كفرهم بآيات الله، وقتلِهم النبيِّين، وعصيانهم واعتدائهم. قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى ﴾؛ أي: واذكروا حين قلتم: يا موسى ﴿ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾؛ أي: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد؛ يَعْنون بذلك ما مَنَّ الله به عليهم من المنِّ و"السلوى"، وهما نوعان من ألذِّ وأطيب الطعام. وإنما قالوا: "واحد"؛ لأنه يتكرر كل يوم، فبدَلَ أن يشكروا الله على ما مَنَّ به عليهم من هذا الطعام، الذي هو من أفضل الأطعمة وألذِّها وأنفعها، ضجروا وملُّوا، وقالوا على وجه الاحتقار لذلك: ﴿ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾، وهذا بلا شك من كفران النعم، وقد قال الله عز وجل لهم: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وهذا لهم ولغيرهم. ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا ﴾؛ أي: يخرج لنا أطعمة أخرى مما هو معروف. وفي قولهم: ﴿ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾بصيغة الأمر لموسى؛ دلالة على عظم ما في قلوبهم من التعاظم والاستكبار، كما أن في مقالتهم هذه دون أن يقولوا: "فادع لنا ربنا"، أو "فادع الله لنا" جفاءً منهم وسوءَ أدب في الخطاب، وكأنهم يَسْخرون بموسى وبربه، أو كأنَّ ربَّ موسى ليس ربًّا لهم - عياذًا بالله - وهذا كقولهم: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، وقولهم: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [المائدة: 112]. ﴿ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ﴾"من": تبعيضية، و"ما": موصولة؛ أي: من بعض الذي تنبته الأرض. ﴿ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾: ﴿ مِنْ ﴾: بيانية، و﴿ بَقْلِهَا ﴾: النبات الذي ليس له ساق كالكراث، ﴿ وَقِثَّائِهَا ﴾: صغار البطيخ "الخيار" ﴿ وَفُومِهَا ﴾: ثومها، وهو الثوم المعروف، فيقال: ثوم بالثاء، ويقال: "فوم" بالفاء. وقال طائفة من المفسرين: "الفوم": الحنطة. ﴿ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾ هما العدس والبصل المعروفان، وهذه الأطعمة مما عرفوه في مصر قبل ذلك، وكلها دون ما أنزل الله عليهم من "المن والسلوى". ﴿ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ﴾الهمزة للاستفهام، وهو للإنكار والتوبيخ والتقريع والتعجب؛ أي: قال لهم موسى عليه السلام موبخًا لهم ومنكرًا عليهم ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى ﴾، والاستبدال أخذ شيء وجعل شيء مكانه. أي: أتختارون الذي هو أقل قيمة وأوضع قدرًا، وهو ما طلبوا إخراجه لهم من الأطعمة. ﴿ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾؛ أي: بالذي هو خير مما ذكرتم من حيث طعمه ولذته ونفعه وغير ذلك، وهو "المن" و"السلوى" الذي أنزله الله عليهم، فجمعوا بين كفر نعمة الله وما منَّ به عليهم مما هو أفضل الطعام، وبين سؤالهم ما هو أدنى منه قيمة وأقل قدرًا، مما يدل على تعنتهم وسفههم، ودنو هِمَمِهِم، وقد قيل: يُقضـى على المرء في أيام محنتِه *** حتى يَرى حسنًا ما ليس بالحسَنِ[1] ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا ﴾؛ أي: انزلوا مصرًا، والأمر للإباحة، وفيه ما يشعر بالتوبيخ لهم؛ أي: إن كان هذا همكم واختياركم ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا ﴾، بقرينة قوله: ﴿ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾؛ أي: انزلوا أيَّ مصر من الأمصار؛ أي: أيَّ بلد من البلدان، وليس المراد مصر البلد المعروف؛ ولهذا صُرف، و"مصر" البلد المعروف ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، قال تعالى: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ﴾ [يونس: 87]. وقيل: المراد بمصر البلد المعروف؛ أي: انزلوا مصر التي خرجتم منها، وهذا ليس بإمكانهم، وإنما هو من باب التوبيخ أو التهديد لهم على اختيارهم ما كانوا عليه من العيش الحقير الذليل في مصر على الذي هو خير، والمعنى على هذا: إن لم تقدُروا نعمة الله قدرها فـ﴿ اهْبِطُوا مِصْرًا ﴾. ﴿ فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ الفاء: للتعقيب؛ و"ما": موصولة؛ أي: فإن لكم الذي سألتموه من هذه الأطعمة؛ لأنها موجودة في كل مصر. والمعنى: انزلوا أيَّ مصرٍ من الأمصار تجدوا الذي سألتموه، فليس ذلك مما يحتاج إلى دعاء، ولا مما يستحق الدعاء؛ لكثرته في الأمصار ودناءته. قال ابن كثير[2]: "ولهذا لما كان سؤالهم من باب الأشر والبطر، لم يجابوا عليه". ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾؛ أي: وضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وبني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعله؛ لأن الذي ضرَب عليهم الذلة والمسكنة معلومٌ، وهو الله عز وجل، تعليمًا للأدب مع الله؛ كما في قول الجن: ﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [الجن: 10]. أي: وفرضت عليهم الذلة وألزموها، وهي الذل والهوان والصغار قدرًا وشرعًا، ونُزعت من قلوبهم العزة والأنفة والشجاعة، فلا يواجِهون عدوًّا، كما قال تعالى: ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112]، وقال تعالى: ﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ [الحشر: 14]، وقال تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]. هذه هي حالهم وحقيقة أمرهم، وهم اليوم أذلُّ وأجبن منهم بالأمس، ولكن كما قيل: خلا لك الجوُّ فبِيضِـي واصفِرِي *** ونقِّرِي ما شئت أن تنقِّرِي[3] و﴿ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾؛ أي: وضربت عليهم المسكنة، كما قال تعالى في آل عمران: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ﴾ [آل عمران: 112]؛ أي: وضربت عليهم المسكنة، وهي الفقر، بل وأشد ذلك وهو فقر القلوب؛ ولهذا صار البخل والشح والحرص والطمع سجيةً لهم حتى ولو كانوا أكثر الناس مالًا، وها هم اليوم يكادون يديرون دفة جميع الأموال في العالم مع ملازمة هذه الصفات الذميمة لهم، فهم أفقر الناس قلوبًا، وأقلهم بذلًا وعطاء، وأعظمهم شحًّا وبخلًا، وأمنعهم ذات يد، كما قال تعالى: ﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ [المائدة: 64]. قال ابن كثير[4]: "يقول تعالى: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾؛ أي: وضعت عليهم وألزموا بها شرعًا وقدرًا؛ أي: لا يزالون مستذلين، من وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء متمسكنون". ﴿ وَبَاؤُوا ﴾؛ أي: رجعوا وانصرفوا، وأكثر ما يستعمل "باء" بالرجوع غير الحميد وبالخيبة والخسران ونحو ذلك. ﴿ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾الباء للمصاحبة؛ أي: رجعوا مصاحبين غضب الله؛ أي: مستحقين ومستوجبين غضب الله، كما قال تعالى في وصفهم: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 60]. وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الأعراف: 152]، وقال تعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]. والغضب من الله يستوجب نقمته وعقوبته، كما قال عز وجل: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ [الزخرف: 55]. ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾، وفي سورة آل عمران: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 112]. ﴿ ذَلِكَ ﴾الإشارة لأقرب مذكور، وهو قوله: ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: ذلك الذي جازيناهم به من ضرب الذلة عليهم والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله. ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ الباء للسببية؛ أي: بسبب أنهم. ﴿ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾؛ أي: كانوا يجحدون آياتِ الله الكونية والشرعية، ويكذِّبون بها، فلا يستدلون بآياته الكونية على كمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ووجوب عبادته وحده دون سواه، ولا يؤمنون بآياته الشرعية ويعملون بما جاء فيها. ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ﴾الواو: عاطفة، والجملة معطوفة على ما قبلها، قرأ بعضهم: "النبيئين" مأخوذ من النبأ وهو الخبر، وقرأ آخرون: "النبيين" مأخوذ من النبأ، أو من النبوة وهي المكان المرتفع؛ لأن الأنبياء عليهم السلام مخبَرون من الله، ومخبِرون لأقوامهم، كما أنهم ذوو مكانة عالية عند الله وعند المؤمنين. ﴿ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾؛ أي: قتلا بغير سبب يوجب قتلهم، بل بالباطل، والظلم المحض. ﴿ ذَلِكَ ﴾الإشارة لأقرب مذكور، وهو قوله: ﴿ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [البقرة: 61]؛ أي: إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم النبيين بغير حق. ﴿ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾الباء للسببية، أي: يسبب عصيانهم بترك ما أوجبه الله عليهم، وارتكاب ما نهاهم الله عنه، وبسبب اعتدائهم ومجاوزتهم الحدَّ في حق الله بتجاوز ما أمر به، وفي حقوق عباده بالتعدي عليهم وأذيتهم ومنع حقوقهم صاروا إلى ما صاروا إليه من الكفر بآيات الله، وقتل النبيين بغير حق، كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، وقال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، وقال تعالى: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الأنعام: 110]، فكفرهم بآيات الله سببه العصيان، وقتلهم النبيين بغير حق سببه الاعتداء. يتبع
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى... ﴾ قوله تعالى: ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73] ﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾: القائل هو الله عز وجل؛ أي: فقلنا لهم بما أوحيناه إلى نبينا موسى: ﴿ اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ﴾. والضمير في قوله: ﴿ اضْرِبُوهُ ﴾ يعود إلى القتيل المذكور في قوله: ﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 72]، والضمير في قوله: ﴿ بِبَعْضِهَا ﴾ يعود إلى ما عاد إليه الضمير في قوله: ﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾ [البقرة: 71]، وهي البقرة المأمور بذبحها في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ﴾ [البقرة: 67]. أي: اضربوا هذا القتيلَ ببعض هذه البقرة؛ أي: بجزء منها، أو بعضو منها، فضربوه ببعضها فأحياه الله، وأخرَج ما كانوا يكتمون، فأخبَر بقاتله. ﴿ كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى ﴾ الكاف: للتشبيه، والإشارة إلى محذوف للإيجاز؛ أي: فضربوه ببعضها فأحياه الله؛ أي: مثل إحياء الله تعالى هذا القتيلَ يُحيي الله عز وجل الموتى، كما قال عز وجل: ﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴾ [يس: 53]. ﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾؛ أي: وكذلك يظهر الله لكم آياتِه الكونية والشرعية، الدالة على عظمته عز وجل، فإحياء القتيل بضربه بجزء من البقرة آيةٌ من آيات الله الكونية. وأمرُ الله عز وجل لموسى بأمرهم بذبح بقرة، وضرب القتيل ببعضها، وحياته بذلك وإخباره بقاتله - إظهارٌ وبيان لصدق ما جاءهم به موسى من هذه الآيات، ومعجزة وكرامة له. وقد ذكر الله عز وجل ما خلَقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع من هذه السورة: في قوله: ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾ [البقرة: 56]، وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ [البقرة: 243]، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها في قوله تعالى: ﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [البقرة: 259]، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ [البقرة: 260]. ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي: لأجل أن تعقلوا عن الله عز وجل آياتِه وتتفهموها، وتتأملوا فيها وتتدبروها، وتنتفعوا بما منَحَكم الله من عقول. وفي الإخبار بهذه القصة عَلَمٌ من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة على نبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وعلى قدرة الله تعالى التامة على إحياء الموتى، وإثبات المعاد، وتحذير من التشدد في الدين وعواقبه الوخيمة، ومقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعًا وقدرًا، فإن القاتل قصدُه ميراث المقتول، ودفع القتل عن نفسه، ففضَحَه الله وهتكه، وحرَمَه ميراث المقتول[1]. المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن » [1] انظر "بدائع التفسير" (1/ 319).
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 51، 52]. في هاتين الآيتين تذكيرٌ لبني إسرائيل بوعده عز وجل لموسى عليه السلام أربعين ليلة؛ لينزل عليه التوراةَ المتضمِّنة للنعمة العظيمة عليهم، والهدى والنور لهم. وكان هذا بعد تخليصهم من فرعونَ وإنجائهم من الغرق، ومن ثم مخالفتهم أمرَ موسى عليه السلام، وعبادتهم العِجلَ بعد ذَهابه لميقات ربه، ثم عفوه عز وجل عنهم؛ لأجل أن يشكروا الله. والمنَّة على الآباء والعفو عنهم نعمةٌ عليهم وعلى الأبناء يجب على الجميع شكرُها. قوله: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾: قرأ أبو عمرو: "وعدنا" بدون ألف بعد الواو، وقرأ الباقون ﴿ وَاعَدْنَا ﴾ بألف بعد الواو، والمعنى واحد. أي: واذكروا حين واعدْنا موسى بنَ عمران عليه السلام أربعين ليلة؛ أي: حين واعد اللهُ موسى أربعين ليلة؛ لمناجاة ربِّه، وإنزال التوراة عليه، واعَدَه أولًا ثلاثين ليلة، ثم أتمَّها بعشر، فتمَّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلة؛ وذلك لحكمة يعلمها الله عز وجل، كما قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ [الأعراف: 142]. ﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ﴾:"العجل" مفعول أول لـ"اتخذ"، والمفعول الثاني محذوف؛ لظهوره وعلمِهم به، واستهجان وشناعة ذكره، تقديره: إلهًا أو معبودًا. وفي هذا إنكار عليهم، وتوبيخ لهم؛ أي: ثم جعلتم وصيرتم العجل إلهًا لكم من بعد ذهاب موسى لميقات ربِّه؛ أي: بعد أن غاب عنكم. و"العِجل" في الأصل: ولد البقرة، والمراد به في الآية: تمثال من ذهب على هيئة العجل، نحَتَه وصنَعه السامريُّ في غيبة موسى عليه السلام، وقال لبني إسرائيل: ﴿ هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ [طه: 88]؛ أي: إن موسى ضلَّ أن يهتديَ إلى إلهكم وإلهه، وهو هذا العجل، قال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 148]. وفي قوله: ﴿ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ تشنيعٌ عليهم؛ إذ كان الواجب عليهم انتظار ما يأتيهم به موسى من الشرع من عند ربه. وفيه دلالة على سرعة نكوصهم عما عهد به إليهم، وتبديلهم ما ترَكَهم عليه، وانتهازهم لأول وهلة فرصة غيابه عنهم - وما بالعهد من قِدَم - دون مبرر يدعو لذلك، كبُعدٍ وتناءٍ، أو طول غيبة وانتظار، أو غير ذلك، كما قيل: وما أدري أَغَيَّرَهم تناءٍ *** وطولُ العهد أم مالٌ أصابوا[1] وقد قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾الجملة حالية؛ أي: والحال أنكم ظالمون بعبادتكم العجلَ والإشراك بالله؛ لأن الشرك بالله أعظم الظلم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]. أي: وأنتم ظالمون لأنفسكم؛ لتعريضها لعذاب الله عز وجل، والخلود في النار، غير معذورين؛ لأن موسى عليه السلام قد حذَّركم من مخالفه أمره، ونهاكم عن الشرك، وذكَّركم نعم الله عليكم؛ لتشكروه، كما قال تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 138 - 142]. [1] البيت للحارث بن كلدة. انظر: "الكتاب" لسيبويه 1 /88.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 52]. قوله: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ ﴾؛ أي: ثم تجاوَزْنا عنكم فلم نعاقِبكم. ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾: فيه إشارة إلى أن العفو إنما حصل حينما تابوا وقتَلوا أنفسهم، ولما حصل منهم من اتخاذ العجل، وفيه إشارة إلى عظم ذلك؛ أي: من بعد ذلك الذنبِ العظيم. كما أن فيه دلالةً على سَعة حِلم الله عز وجل وعفوه، وعظيم نعمته عليهم، حيث عفا عنهم، وتجاوَزَ عن عقوبتهم، وأنه لا يتعاظمه عز وجل ذنبٌ أن يغفره ويعفو عنه، حتى الشرك بالله. ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾؛أي: لأجل أن تشكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم على ما أولاكم من النِّعم، وما دفع عنكم من النِّقم. والشكر بالقلب: يكون بالإقرار والاعتراف باطنًا أن ذلك من الله وحده، والشكر باللسان: يكون بالتحدث بالنعمة والثناء عليه عز وجل وحمده، والشكر بالجوارح: يكون باستعمالها في طاعة الله تعالى، وحفظها عن معصيته. الفوائد والأحكام: 1) تأكيد وجوب ذكر نعمة الله عز وجل وشكره على بني إسرائيل، ومن ذلك تفضيلُهم على عالَمِي زمانهم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 47]. 2) تحذير الله عز وجل لبني إسرائيل يومَ القيامة العظيمَ وعذابَه وأهواله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا ﴾ [البقرة: 48]. 3) لا نجاة من أهوال يوم القيامة إلا بتقوى الله تعالى، فلا نفس تغني عن نفس شيئًا أو تشفع لها، ولا فدية تؤخذ منها مقابل الخلاص، ولا أحد ينصرها، مما يوجب التعلُّقَ بالله وحده؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 48]. 4) عظم يوم القيامة وشدة أهواله، ووجوب الاستعداد له بتقوى الله بالعمل الصالح. 5) لا تعارض بين إثبات الشفاعة وبين قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [البقرة: 48]؛ لأن المراد بالشفاعة المنفيَّةِ في الآية شفاعةُ الكافرين التي لا يتوفر فيها إذن الله للشافع، ولا رضاه عن المشفوع له. 6) تذكير بني إسرائيل بنعمة الله تعالى العظيمة عليهم بإنجائهم من فرعون وتعذيبه لهم، وتذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 49]. 7) عظم ما لاقاه بنو إسرائيل من العذاب من فرعون وقومه، وشدة ظلمهم لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ [البقرة: 49] إلى قوله: ﴿ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 49]. 8) تذكير بني إسرائيل بفَرْقِ البحر بهم وإنجائهم من الغرق، وإغراق آل فرعون وهم ينظرون إليهم ليشفي صدورهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 50]، وهذا من أعظم نعم الله تعالى عليهم. 9) قدرة الله تعالى التامة، وآيته العظيمة في فلق البحر، وإنجاء موسى وقومه، وإغراق فرعون وقومه بجنس الماء الذي كان يفتخر به. 10) تذكير بني إسرائيل بوعد الله تعالى لموسى أربعين ليلة لميقات ربه؛ لمناجاته وإنزال التوراة عليه، وانتهازهم فرصة غيابه ونقض عهده، وتغيير ما تركهم عليه بعبادتهم العجل ظلمًا منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51]. 11) جهل بني إسرائيل المطلق، وحمقهم المتناهي، حيث صنعوا من الذهب تمثالًا على صورة العجل ثم عبَدوه. 12) أن أظلم الظلم عبادةُ غير الله والإشراك به؛ لأنه صرفٌ للعبادة عن مستحقها وهو الله وحده، إلى غير مستحقها أيًّا كان، وهو ظلم للنفس أيضًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾. 13) سَعة حلم الله عز وجل وعفوه، بعفوه عن بني إسرائيل، بعد أن عبَدوا العجل؛ ليشكروه وتذكيرهم بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 52].
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 53 - 57]. قوله تعالى:﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 53]. في هذه الآية تذكيرٌ لبني إسرائيل بأعظم نعمة أنعَمَ الله بها عليهم، وهي إتيان موسى الكتابَ والفرقان والشريعةَ التي بها صلاحُ أمور دينهم ودنياهم، بعد إهلاك فرعون وقومه، كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [القصص: 43]. قوله: ﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾؛ أي: واذكروا حين ﴿ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾؛ أي: أعطينا موسى الكتاب. و"أل" في ﴿ الْكِتَابَ ﴾ للعهد الذهني؛ أي: الكتاب المعهود عند بني إسرائيل وهو التوراة، أعظم كتب بني إسرائيل، وأعظم كتب الله بعد القرآن الكريم، كتَبَها الله عز وجل بيده، وأنزلها بألواح، جملةً واحدة، كما قال تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 145]. وفي الحديث: ((أنت موسى الذي كلَّمه الله، وكتب له الألواح بيده؟!))[1]. ﴿ وَالْفُرْقَانَ ﴾"الفرقان" صفة لـ﴿ الْكِتَابَ ﴾ الذي هو التوراة، فعطفُه عليه من عطف الصفة على الموصوف؛ أي: الذي فيه الفرقان؛ أي: ما يفرِّق بين الحق والباطل، والهدى والضلالِ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأنبياء: 48]. كما سمِّي القرآن بـ "الفرقان"؛ قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ﴾ [الفرقان: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 4]، وقال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]. ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾؛ أي: لأجل أن تهتدوا بهذا الكتاب والفرقان إلى الحق، وهذا هو محلُّ المنة والنعمة عليهم أن الله عز وجل أنزل الكتاب لأجلِ هدايتهم. [1] أخرجه مسلم في القدر (2652)، وأبو داود في السنة (4701)، وابن ماجه في المقدمة (80)- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]. وهذه نعمةٌ أخرى يذكِّر الله بها بني إسرائيل، وهي توبته عليهم بعد أن ظلَموا أنفسهم باتخاذهم العِجلَ، بعد أن ذكَّرهم قبل ذلك بعفوه وتجاوزه عنهم. قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ﴾؛ أي: واذكروا حين قال موسى لقومه منبهًا وناصحًا لهم. وذلك أنه وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجلَ ما وقع، كما قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149]، فقال لهم موسى: ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ الآية [البقرة: 54]. ﴿ يَا قَوْمِ ﴾: ناداهم بهذا اللفظ - كما هي عادة الأنبياء عليهم السلام - تودُّدًا وتحببًا إليهم، وإظهارًا لنصحه لهم، وشفقته عليهم. وقومُ الإنسان هم أصحابه وجماعته، يدخل فيهم الذكور والإناث. ﴿ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ﴾: الباء للسببية؛ أي: بسبب اتخاذكم العجل إلهًا ومعبودًا من دون الله، وأكدت الجملة بـ"إنَّ"؛ لأن الشرك أعظم الظلم، كما قال لقمان لابنه فيما حكى الله عنه: ﴿ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]. فهو ظلم عظيم من حيث وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها إلى غير مستحقها، وهو ظلمٌ للنفس من حيث بخسُها ونقصها حقَّها، وتعريضها لعذاب الله والخلود في النار، وهي وديعة عند الإنسان ينبغي أن يحملها على ما فيه سلامتُها ونجاتها. ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾: الفاء للترتيب والتعقيب، والأمر للوجوب، فالتوبة واجبة على الفور؛ أي: فارجعوا إلى بارئكم الذي برَأَكم وخلقكم؛ أي: ارجعوا من معصيته والشرك به إلى طاعته وتوحيده، كما قال تعالى: ﴿ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الصافات: 125، 126]. و"البارئ" أخص من "الخالق"؛ ولهذا أتْبع به الخالق في قوله تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ﴾ [الحشر: 24]، ومنه سميت الخليقة "البريَّة". وفي قوله: ﴿ إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾ تذكير لهم بعظمته عز وجل، وبنعمة برئه وخلقه لهم وربوبيته، فكيف يعبُدون غيره؟! ﴿ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾: الفاء تفسيرية، فالجملة تفسير وبيان للتوبة المطلوبة منهم؛ أي: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾ بأن تقتُلوا أنفسكم؛ أي: بأن يقتل بعضكم بعضًا، وقيل: بأن يقتُل من لم يعبُد العجل مَن عبَده. وليس المراد بقوله: ﴿ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ أن يقتل الشخص نفسَه، فهذا لم يأمر الله به في مِلة من المِلَل، بل حرَّم قتل الإنسان لنفسه، وجعل ذلك من كبائر الذنوب، وتوعَّد عليه بالعذاب الأليم. لكن يؤخذ من الآية ﴿ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ أن الأمَّة كنفس واحدة، كما قال تعالى: ﴿ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [النور: 61]؛ أي: ليسلِّم بعضكم على بعض، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم كمَثَلِ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر))[1]. وفي جعل توبتهم من عبادة العجل بأن يقتُلوا أنفسهم بيانٌ لما وضعه الله على بني إسرائيل من الآصار والأغلال، بسبب تعنتهم وعنادهم، مما لم يجعله على غيرهم من الأمم. ﴿ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ﴾: الإشارة إلى التوبة إلى بارئهم بقتل أنفسهم، ﴿ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾؛ أي: خير لكم من عدم التوبة بقتل أنفسكم، وخير لكم خيرية مطلقة في دينكم ودنياكم وأخراكم. وهذا لا يدل على عدم وجوب التوبة، بل التوبة واجبة على جميع الناس. ﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي: فوفَّقكم للتوبة بقتل أنفسكم كما أمَرَكم، وقَبِل توبتَكم، فعفا عنهم لما اتخذوا العجل، ودعاهم إلى التوبة وقَبِل منهم؛ لأنه لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، ولو كان ذلك الشركَ الذي هو أعظم الذنوب. قيل: لما تابوا وأخذ بعضهم يقتل بعضًا، خاف موسى أن ينتهوا؛ فابتهَلَ إلى الله، فتاب عليهم ورفع ذلك عنهم. ﴿ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾هذه الجملة تعليل لما قبلها؛ أي: فقَبِل توبتَكم؛ لأنه ﴿ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾، وهذا خبر وثناء على الله وصفاته. و﴿ التَّوَّابُ ﴾ و﴿ الرَّحِيمُ ﴾: اسمان من أسماء الله عز وجل، ﴿ التَّوَّابُ ﴾ الذي من شأنه توفيق عباده للتوبة وقبولها منهم، وهو على وزن "فَعَّال" صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، يدل على كثره توبته على العبد، وكثرة من يتوب عليهم من عباده. ﴿ الرَّحِيمُ ﴾ ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كلَّ شيء، رحمة ذاتية ثابتة له عز وجل، ورحمة فعلية يوصلها من شاء من خلقه، كما قال عز وجل: ﴿ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [العنكبوت: 21]. وباقتران التوبة والرحمة في حقِّه عز وجل يزداد كماله إلى كمال، وباجتماع التوبة والرحمة لعباده زوال المرهوب، وحصول المطلوب. [1] أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2586) - من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى:﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً... ﴾ قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 55، 56]. في هاتين الآيتين يُذكِّر الله بني إسرائيل بشدة تعنُّتِهم، وجرأتهم على الله عز وجل، وعلى رسوله موسى عليه السلام بقولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وعقوبتهم بأخذ الصاعقة لهم وهم ينظُرون، ثم بعث الله لهم بعد موتهم؛ لعلهم يشكرون نعمة الله عليهم. قوله: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾؛ أي: واذكروا حين قلتم: يا موسى ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ﴾؛ أي: لن نصدِّقك، ولن ننقاد لما جئت به، والخطاب لبني إسرائيل في عهده صلى الله عليه وسلم، والمراد أسلافهم. ﴿ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾"حتى" للغاية؛ أي: إلى غاية أن نرى الله جهرة. و﴿ جَهْرَةً ﴾ مفعول مطلق؛ أي: إلى غاية أن نبصر الله جهرة؛ أي: جهارًا وعلانية، وعيانًا بأعيننا. وهذا منهم غاية الجرأة على الله تعالى، وعلى رسوله موسى عليه السلام، يدل على شدة عنادهم وشكِّهم وارتيابهم، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾ [النساء: 153]. وفرق بين هذا وبين قول موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143]، فإنه إنما قاله عليه السلام شوقًا إلى الله عز وجل، وليتلذذ بالنظر إلى ربِّه، كما جاء في الحديث: ((وأسألك النظرَ إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك))[1]. ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ﴾؛ أي: بالموت الذي صعقتم به، كما قال تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [الزمر: 68]؛ أي: فمات من في السماوات ومن في الأرض. أو بأخذكم وإماتتكم بالصاعقة، وهي النار التي تنزل من السحاب، أو الصوت الشديد الذي صُعقوا به، أو الرجفة أو غير ذلك. وقد أُهلكت عاد بالريح، وثمود بالصيحة، وسمى القرآن الكريم ذلك صاعقةً كما قال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]. وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم بسبب تعنُّتهم وجرأتهم وسؤالهم ما لا يمكن؛ لأن رؤية الله - في الدنيا - ليست ممكنة؛ ولهذا لما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربَّك؟ قال: ((نور أنى أراه؟))، وفي رواية: ((رأيت نورًا))[2]. ﴿ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾: الجملة حالية؛ أي: حال كونكم تنظرون إليها، وإلى العذاب، وينظر بعضكم إلى بعض وأنتم تتساقطون وتُصعَقون؛ وذلك ليكون ألم العقوبة ووقعها عليهم أشدَّ وأنكى، وفي ذلك إشارة إلى معاجلتهم بالعقوبة في حين إساءتهم وجرأتهم على الله تعالى بهذا القول. وذلك أنه لما رجع موسى من ميقات ربِّه، بعد ما أنزل الله عليه التوراة، وجاءهم بها، قالوا: ليست من الله ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾، فأخذتهم الصاعقة. وقيل: إن موسى لما اختار من قومه سبعين رجلًا لميقات ربه، وذهب بهم، وجعل يكلم الله ويكلمه الله، قالوا: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾، فأخذتهم الصاعقة، قال تعالى: ﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ﴾ [الأعراف: 155]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ﴾ [الأعراف: 155]. ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ﴾؛ أي: ثم أحييناكم من بعد موتكم، وفي هذا دلالةٌ على عظم قدرة الله عز وجل في إحياء الموتى، ومعجزة لموسى عليه السلام، ونعمة كبيرة من الله عز وجل على بني إسرائيل فيها إعطاؤهم فرصة؛ ليرتدعوا ويثوبوا إلى رشدهم ويشكروا؛ ولهذا قال: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾؛ أي: لأجْل أن تشكروا الله على نعمه عليكم، فتؤمنوا بالله وبما جاءتكم به الرسل بقلوبكم وألسنتكم، وتنقادوا لذلك بجوارحكم. وفي الآية إثبات الحكمة لله عز وجل، فيما خلَق وقدَّر وشرع، والتأكيد على وجوب شكر نِعَمِ الله عز وجل. [1] أخرجه النسائي في السهو (1305) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه. [2] أخرجه مسلم في الإيمان (178)، والترمذي في التفسير (3282) - من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() كتاب «عون الرحمن في تفسير القرآن» الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا.. ﴾ قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 58 - 61]. قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [البقرة: 58، 59]. وقال في سورة الأعراف: ﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ﴾ [الأعراف: 161، 162]. يذكِّر الله عز وجل بني إسرائيل بمنته ونعمته بأمر أسلافهم بدخول بيت المقدس، والأكل منها حيث شاؤوا رغدًا، ودخول الباب سجدًا وقول حِطَّة، ووعده لهم بمغفرة خطاياهم وزيادة المحسنين منهم. وبما حصل من تبديل الذين ظلَموا منهم قولًا غير الذي قيل لهم، وعقوبة الله لهم بإنزاله على الذين ظلموا رجزًا من السماء بما كانوا يفسقون، وبما كانوا يظلمون. وفي هذا موعظة للخلف منهم أن يقعوا فيما وقع فيه سلفهم. قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾؛ أي: واذكروا حين قلنا لبني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام: ﴿ ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾؛ أي: ادخلوها للسكن والعيش فيها، بدليل قوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ﴾ [الأعراف: 161]، وهذا من نعمته عز وجل عليهم، والأمر في قوله: "ادْخُلُوا" للوجوب، وهو أمر شرعيٌّ؛ لقوله ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾ الآية [البقرة: 58]، وكونيٌّ؛ لأن الله فتحها لهم ودخلوها. والمراد بالقرية بيتُ المقدس؛ لقول موسى فيما حكى الله عنه: ﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 21]. والقرية مأخوذة من القرى، وهو الجمع؛ لاجتماع الناس وسكنهم فيها، ومنه سمي "القرو" مجمع الماء، فالقرية: البلد الذي يجتمع ويسكن فيه الناس صغيرًا كان أو كبيرًا، وقد سمى الله عز وجل مكة قرية وهي من أكبر البلدان آنذاك، فقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13]. كما سمى ما حولها من البلدان الصغيرة بالقرى، فقال تعالى: ﴿ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [الشورى: 7]. ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ﴾، وفي الأعراف: ﴿ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ﴾ [الأعراف: 161]، والأمر في قوله: ﴿ فَكُلُوا ﴾ للإباحة والامتنان، ﴿ حَيْثُ شِئْتُمْ ﴾؛ أي: في أي مكان من هذه القريةِ؛ في وسطها أو في أطرافها أو في أي جهة منها، ﴿ رَغَدًا ﴾؛ أي: أكلًا رغدًا هنيئًا واسعًا، من غير مكدِّر ولا معارض ولا ممانع. ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾وفي آية الأعراف: ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ﴾ [الأعراف: 161]. ﴿ وَادْخُلُوا الْبَابَ ﴾ أي: باب القرية؛ أي: باب بيت المقدس، أو أحد أبوابه؛ لأن القرى يوضع لها أبواب تُفتَح في النهار وحال الأمن، وتُغلَق في الليل وحال الخوف، ﴿ سُجَّدًا ﴾؛ أي: حال كونكم سجدًا؛ أي: ساجدين؛ أي: إذا دخلتم فاسجدوا شكرًا لله على ما أنعم به عليكم من الفتح والنصر. قال الطبري[1]: "وأصل السجود: الانحناء لمن سُجِدَ له معظَّمًا بذلك، فكل منحنٍ لشيء تعظيمًا له وخشوعًا، فهو له ساجد". ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾؛ أي: قولوا هذه الكلمة ﴿ حِطَّةٌ ﴾. و﴿ حِطَّةٌ ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: سؤالنا حطة، أو دعاؤنا حطة، أو حاجتنا حطة. والمعنى: ربَّنا احطط عنا ذنوبنا وخطايانا واغفر لنا، فأُمِروا إذا دخلوا القرية وفتحها الله لهم أن يسجدوا لله شكرًا على ذلك، وأن يسألوه مغفرة ذنوبهم؛ أي: أن يدخلوها خاضعين لله عز وجل بالفعل والقول. ولهذا لما فتح الله عز وجل على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم مكةَ، دخلها خاضعًا لله عز وجل، وصلى ثماني ركعات في جوف الكعبة، وكذا صلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ثماني ركعات لما دخل إيوان كسرى. ولما أتم الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم النصرَ والفتح لدِينِه، أمَرَه بالتسبيح بحمده واستغفاره، فقال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3]. ﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾: قرأ ابن عامر بالتأنيث: "تُغْفَر" بتاء مضمومة وفاء مفتوحة، وقرأ نافع وأبو جعفر بالتذكير "يُغْفَر" بياء مضمومة وفاء مفتوحة، وقرأ الباقون: ﴿ نَغْفِرْ ﴾ بنون مفتوحة وفاء مكسورة. وقوله: ﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ﴾ جواب الأمر في قوله: ﴿ وَقُولُوا حِطَّةٌ ﴾؛ أي: نمحو ونتجاوز عن خطاياكم ونسترها. والخطايا: جمع خطيئة، تُجمَع على خطايا وعلى خطيئات كما في سورة الأعراف ﴿ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ﴾ [الأعراف: 161]، والخطايا والخطيئات هي: الذنوب والآثام. ﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾الواو: استئنافية، وفي آية الأعراف: ﴿ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 161] بلا واو؛ أي: سنعطي المحسنين الذين أحسَنوا في عبادة الله، بإخلاص العمل لله، واتباع شرعه، وأحسَنوا إلى عباد الله بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة وكف الأذى عنهم؛ أي: سنزيدهم على مغفرة الخطايا والذنوب بمضاعفة الأجور لهم، وفي هذا ترغيب في الإحسان بنوعيه، كما قال الله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]. [1] في "جامع البيان" (1/ 75).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |